أمصدر ذلك أن الإنسان أعجز من أن يرقى إلى الإله؟ أم مصدر ذلك أن الإله لا يريد، عن عجز أو عن عمد، أن يهبط إلى الإنسان؟ أم مصدر ذلك قصور في الإنسان وفي الإله نفسه عن أن يلتقيا؟ وإذن ففيم التهمة وفيم التبعة وفيم العقاب؟
هذه هي المشكلات الكبرى التي فرضت على فرانز كفكا منذ امتحن في إيمانه فجحد دين آبائه، ولم يستطع أن يهتدي إلى دين غيره يرد إليه هذا الإيمان، وهي فيما أعتقد نفس المشكلة التي فرضت على أبي العلاء، لا فرق بين الرجلين إلا هذه القرون العشرة التي أتاحت للمعاصرين ضروبا من العلم وفنونا من الفلسفة وألوانا من الحرية لم تتح لشيخ المعرة.
ومع ذلك فقراءة اللزوميات، وقراءة الفصول والغايات في تعمق واستقصاء، تنتهي بك إلى نفس الموقف الذي تنتهي بك إليه قراءة «القضية» و«القصر» و«أمريكا»؛ فشيخ المعرة يرى كما يرى فتى مدينة براج أن للعالم خالقا حكيما، لا يشك أحد منهما في ذلك، ولكنهما لا يفقهان حكمة هذا الخالق ولا يعرفان إلى فقهها سبيلا.
وهما من أجل ذلك يمتنعان عن الشر أو عما يريان أنه الشر ما استطاعا، ويقبلان على الخير أو على ما يريان أنه الخير ما استطاعا؛ يكفان أذاهما عن الناس ويتجنبان السعي إلى مخالطتهم والاضطراب معهم فيما يضطربون فيه، ويحرمان على أنفسهم الزواج والنسل، ويشقيان بقلبين يريدان الإيمان ويحاولان الوصول إليه ما أطاقا المحاولة، وبعقلين يعترفان بما فرض عليهما من الضعف والعجز والقصور، لا يستسلمان إلى اليأس المطلق، ولكنهما لا يطمئنان إلى الأمل، وإنما يعيشان في هذه الدار عيشة معلقة بين الرجاء والقنوط.
وهما ينظران إلى العالم من حولهما يريدان أن يفهماه ويستكشفا دقائقه وعلله، فلا يبلغان من ذلك شيئا، لا يرضيهما موقف العالم المتواضع الذي يستكشف قوانين الكون فيسجلها، وينتفع بها وينفع بها الناس، ولكنهما يريدان أن يعرفا علة هذه القوانين، وبينهما وبين معرفة هذه العلة آماد بعيدة لا يستطيعان لها عبورا، وهما من أجل ذلك ينكران العلة الغائية، ولا يطمئنان إلى ما تعود الناس أن يطمئنوا إليه من أن العالم لم يخلق عبثا، ومن أن لكل ما يحدث في هذا العالم غاية بينة أو غامضة، وليس معنى ذلك أنهما يجحدان حكمة الخالق وما يمكن أن يكون لها من غايات، ولكن معناه أنهما لا يعرفان هذه الحكمة، ولا يستطيعان أن يعرفاها، ولا يقبلان هذه العلل الغائية التي يقبلها الناس، وإنما يجيزان أشياء كثيرة لا يراها الناس جائزة ولا ممكنة؛ لأنها تخالف ما تواضعوا عليه من العلل والغايات.
فأبو العلاء يرى أنه من الممكن أن يشم الإنسان بغير أنفه، ويرى بغير عينيه، ويذوق بغير لسانه، ويمشي على غير قدميه؛ ذلك كله ممكن لأن الذي خلق الإنسان على هذا النحو الذي نعرفه، وصوره في هذه الصورة التي نألفها، يستطيع أن يخلقه على نحو آخر، ويصوره في صورة أخرى، ويمنحه مزاجا آخر، ويركب حسه في حيث يشاء من أعضائه.
وفرانز كفكا يحدثنا في قصة المسخ عن هذا الفتى الذي أفاق من نومه ذات صباح فلم ير نفسه كما رآها قبل أن ينام، وإنما رأى صورته قد مسخت إلى حشرة قذرة كأبشع ما تكون الحشرات، وهو على ذلك محتفظ بشيء من عقله وقلبه، يفكر ويشعر ويحس، ويميز بين الخير والشر، ويقدر اللذة والألم، ويعرف الرضا والسخط، وهو يرى مكانه بعد المسخ من أهله ومن الناس، يقدر قسوة أبيه، وحنان أمه، وعطف أخته، ثم ما يزال يلاحظ ازدياد القسوة في نفس أبيه، وفتور الحنان في قلب أمه، وتناقص العطف في قلب أخته، وقد سعى السأم إليهم جميعا من هذه الحياة المرة البائسة المخزية، حتى تتمنى الأخت لو تخلصت الأسرة من هذا العبء الثقيل، ويقرها أبوها في صراحة، ولا تجرؤ الأم على أن تقول نعم أو لا.
ويبلغ منه هذا كله حتى ينتهي به إلى موت سخيف حقير، وما الذي يمنع أن يمسخ الإنسان إلى حشرة قذرة، أو إلى حيوان جميل؟ فالذي ركب العقل في هذه الصورة الإنسانية التي نراها، يستطيع أن يركب العقل فيما شاء من الصور الجميلة والقبيحة، الحية وغير الحية.
ومن يدري! لعل الإنسان كما هو أن يكون حشرة بشعة، بغيضة بالقياس إلى كائنات أخرى في هذا العالم لا نعرفها، أو في عالم آخر لا نعرفه، بل من يدري! لعل الإنسان بالقياس إلى نفسه العاقلة التي تفكر وتقدر وتحصي وتستقصي، وتطمح إلى الحق والخير والجمال، لعل الإنسان بالقياس إلى نفسه العاقلة هذه أن يكون حشرة بشعة بغيضة، حين يرضي حاجاته الطبيعية على اختلافها وتباينها؛ ففي الإنسان كثير من طباع الحشرات، وفيه في الوقت نفسه شيء آخر يرفعه عن هذه الطبيعة الدنيئة.
ولو قد خلص الإنسان لإحدى هاتين الطبيعتين من دون الأخرى لما أحس شقاء ولا بؤسا، ولما ذاق طعم الخطيئة، ولما احتاج إلى أن يبرئ نفسه من هذه التهمة التي لا يعرفها أمام هذا القاضي الذي لا يصل إليه، لو خلص الإنسان لطبيعة الحشرة وحدها، لما فرق بين الخير والشر، ولا بين الإساءة والإحسان، ولو خلص لطبيعة العقل المجرد لما احتاج إلى أن يفرق بين الخير والشر؛ لأنه في حاله تلك لا يعرف إلا الخير، ولا يطمح إلا إليه.
Page inconnue