كان أدبنا الجاهلي متضامنا إذن، فأما أدبنا الإسلامي فقد كان تضامنا كله؛ كان تضامنا حين كان الشعراء المسلمون والمشركون يتقارضون قصائدهم دفاعا عن الإسلام أو دفاعا عن حياة قريش قبل أن تسلم قريش، وكان تضامنا حين نشأت الأحزاب السياسية بعد موت النبي، وحين انحاز كل شاعر إلى حزب من الأحزاب يدافع عنه باليد واللسان.
حتى هؤلاء الفحول الذين ظن الناس أنهم فرغوا للشعر وتجاوزوا عن السياسة، لم يستطيعوا أن يفرغوا للشعر ولا أن يتجاوزوا عن السياسة، وإنما انحاز الأخطل إلى بني أمية، وانحاز الفرزدق إلى العثمانية، وعارض الحجاج وغيره من ولاة العراق، وانحاز جرير إلى الزبيريين ثم باع شعره لبني أمية.
وفرغ بعض الشعراء للفن الخالص، فأدركهم الخمول على ما أتيح لهم من الجودة الرائعة، ولعل ذا الرمة أن يكون مثلا صادقا لهؤلاء الشعراء الذين أرادوا أن يعتزلوا فلم يصيبوا من الاعتزال إلا الإخفاق والخمول، وإنا لنبذل ما نستطيع من الجهد لنرد إلى ذي الرمة وأشباهه شيئا من الإنصاف، فلا نكاد نظفر من ذلك بشيء على بعد العهد وتباين الظروف.
وقد ظل أدبنا متضامنا مشاركا في الحياة الواقعة حتى بعد انقضاء العصر الأموي وتغلب الاستبداد الفارسي على القصر في بغداد، والناس يظنون أن تغلب الفرس على العرب بعد الثورة العباسية قد اضطر الأدب إلى شيء من العزلة، وليس هذا بملائم للحق؛ فإني أجد الشعراء في العصر العباسي يختصمون كما كانوا يختصمون في العصر الأموي حول مذهب الشيعة ومذهب الجماعة ومذهب الخوارج.
وليس الكتاب والفلاسفة والفقهاء بأقل تضامنا ومشاركة في الحياة الواقعة من الشعراء، وقد كان تغلب الترك في القرن الثالث على دار الخلافة وعلى السلطان كله خليقا أن يبعد الأدب عن السياسة، ولكنه لم يصنع شيئا؛ فقد كان الترك أقل مشاركة من الفرس في الفن، وأقل منهم احتفالا بهذا الذوق المترف والنحو الرفيع من الأدب، وأشد منهم غلظة في مواجهة المشكلات ومعالجة الخطوب، ولكنهم على هذا كله لم يمنعوا البحتري وأبا تمام وابن المعتز وابن الرومي من أن يشاركوا بشعرهم في السياسة العامة من جهة وفي السياسة الخاصة الطارئة من جهة أخرى.
ومن ذا الذي يستطيع أن يقول إن سينية البحتري وبائية أبي تمام قد صدرتا عن شاعرين معتزلين؟! ومن ذا الذي يستطيع أن يقول إن رسائل الجاحظ قد صدرت عن أديب معتزل لا يشارك في الحياة الواقعة؟! ومن ذا الذي ينكر أن ابن الرومي قد حرض على الزنج واستحث أهل بغداد لنصر الموفق؟! ومن ذا الذي لم يقرأ جدال ابن المعتز لأبناء عمومته من الطالبيين؟! والمتنبي أكان معتزلا للحياة الواقعة أم كان مشاركا فيها؟! أليس من المحقق أن افتتان الأجيال بشعر المتنبي إنما هو نتيجة طبيعية لما كان من تضامن المتنبي في أكثر حياته مع العرب في خصومتهم للفرس والترك، ومع القرامطة في سخطهم على النظام الاجتماعي ومحاولتهم تغيير هذا النظام؟!
وأبو العلاء الذي امتاز بالعزلة وانفرد بهذه الوحدة التي فرضها على نفسه في محبسيه أو في محابسه، والذي ظن أنه قد حقق من هذه العزلة ما أراد مع أنه لم يحقق منها شيئا، أكان أدبه معتزلا أم متضامنا؟ أيستطيع أحد أن ينكر أن أبا العلاء لم يخفق في شيء كما أخفق في محاولته للعزلة؟ أما أنه نجح في عزلته المادية فشيء جائز؛ لأنه لزم داره ولم يخرج منها إلا مضطرا، وأما أنه أخفق في عزلته المعنوية فشيء ليس فيه شك ولا يمكن أن يكون موضوعا للنزاع؛ فلم تخل دار أبي العلاء من الطارئين عليه والملمين به يوما من الأيام، أثناء نصف القرن الذي لزم فيه داره.
ولم ينظم أبو العلاء بيتا من الشعر، ولم يكتب فصلا من النثر إلا كان فيما نظم وما كتب متصلا بالحياة الواقعة أوثق الاتصال وأشده؛ فهذا الشاعر الفيلسوف الذي أنفق حياته طالبا للعزلة، هو الذي أنتج في الأدب العربي أدبا أقل ما يوصف به أنه أدب اجتماعي متضامن بأوسع معاني هذه العبارة وأدقها.
وقد أخفق أبو العلاء في كثير من الأشياء بحكم الظروف التي أحاطت به، ولكنه لم يخفق في شيء كما أخفق في محاولة الابتعاد عن الناس، وأبو العلاء يستطيع أن يقول إنه إنسي الولادة وحشي الغريزة؛ فغريزته هذه الوحشية هي التي ميزته من غيره ودفعت الناس دفعا إلى أن يتهالكوا عليه، واضطرته هو إلى أن يتهالك عليهم أشد التهالك وينكر ذلك على نفسه أشد الإنكار، ويصور هذا في شعره تصويرا بشعا رائعا في هذا البيت:
كلاب تعاوت أو تغاوت لجيفة
Page inconnue