أظنك قد عرفت هذا الفيلسوف، فهو «أغست كونت» مؤسس الفلسفة الوضعية، وواضع علم الاجتماع، وصاحب السلطان العظيم على العقل الفرنسي، ثم الأوروبي ثم الأمريكي، عصرا طويلا من القرن التاسع عشر، وأظنك قد عرفت هذه المرأة التي زاحمت الفلسفة في قلب «أغست كونت» فكادت تغلبها عليه، أو غلبتها عليه بالفعل، ثم أصبحت إلهة للفيلسوف يعبدها كما يعبد النصارى المسيح، وكما كان الوثنيون من اليونان يعبدون أتينا أو أرتميس، ثم أصبحت إلهة لجماعة من تلاميذ الفيلسوف المتفرقين في أطراف الأرض، ثم أقيم لها معبد لا يزال يحج إليه إلى الآن في باييس، وأقيمت لها معابد متفرقة في أمريكا الجنوبية، حيث لا يزال للفيلسوف أتباع يشايعونه في القسم المتطرف من فلسفته.
هذه المرأة هي «كلوتلد دي ڤو»، وأظنك تطمئن الآن وقد سمعت هذين الاسمين، إلى أني لا أخترع ولا أتبع الخيال، ولا أضع قصة! وإنما أكتب فصلا من فصول التاريخ، وليس من الضروري أن يلجأ الكاتب إلى الخيال والاختراع؛ ليستطيع أن يمتع قراءه، وأن يؤثر في نفوسهم ويثير فيها هذه العواطف الحادة المختلفة التي تعبث بها حين تحس لذة أو ألما، وحين تجد حبا أو بغضا، وحين تشعر بحزن أو سرور، فقد تكون الحقائق الواقعة أبرع وأروع من أحسن القصص الخيالية وأبدعها، ولكني في حاجة إلى أن أقدم إليك شخص هذين العاشقين قبل أن أحدثك عن عشقهما، وأقص عليك ما كان بينهما من غرام.
نشأ أغست كونت مع القرن التاسع عشر، ولم يكد يتوسط العقد الثاني من عمره حتى ظهر تفوقه في العلوم الرياضية، ولم تكد تتقدم به السن قليلا حتى عرف له هذا التفوق، وإذا هو حجة في هذه العلوم ، وإذا هو لا يقف عندها ولا يقتصر عليها، وإنما يفكر في الصلة بينها وبين بقية أنواع المعرفة الإنسانية من جهة، ويفكر من جهة أخرى في الحياة الأوروبية المضطربة بعد الثورة والإمبراطورية، فيحاول أن يضع ترتيبا جديدا للعلوم، ويوفق إلى ما يريد، ويحاول أن يجد نظاما جديدا تقوم عليه الحياة الأوروبية، فيوفق أيضا، ويصبح لهذين النوعين من التوفيق صاحب الفلسفة الوضعية ومؤسس علم الاجتماع.
ولكن فلسفته الوضعية هذه، كانت حديثة ثائرة لا تستأثر بالقلوب استئثارا مطلقا، ولا تقطع على أهلها سبيل الحياة، فمسحت لعاشقها «أغست كونت» أن يعيش كما يعيش الناس، وأن يحب كما يحبون، فعاش وأحب، ولكن أي عيشة وأي حب؟ تركت الفلسفة قلبه حرا، وشغلت عقله كله، فاختار في الحب بحسه وقلبه، ولم يختر بعقله، فيا بئس ما اختار! اختار امرأة جشمته الأهوال، وعلمته كيف يحتمل الآلام، وكيف يتجرع الإنسان مرارة الغيظ، كانت هلوكا فاجرة، وخيل إلى «أغست كونت» أنها نقية طاهرة، فأحبها وأظهرت له الحب، وخطبها فقبلت الخطبة، وتزوجها فقبلت الزواج، وما هو إلا وقت قصير حتى تبين من أمرها ما كره، فخاصمها وقاومته، وأنذرها فازدرته، وحاول أن يعاقبها فثارت به، وصبر الرجل وصابر حتى جن، وإذا هو يلقي نفسه في النهر وإذا الشرطة تستنقذه وتدفعه إلى المستشفى، فيقيم مع المجانين حينا ثم يفيق فيستأنف الفلسفة، ويستأنف التعليم، ويستأنف الحب والعذاب، ويجن مرة أخرى، ويفيق وتنقطع الصلة بينه وبين امرأته في غير طلاق؛ لأن القوانين الفرنسية لم تكن تبيح الطلاق يومئذ، فنشاطه إذن موقوف على الفلسفة والتعليم.
في سنة 1840 كان فيلسوفنا ممتحنا في مدرسة الهندسة
polytechnique ، وكان بين الشبان الذين تقدموا إليه في هذا الامتحان غلام في الخامسة عشرة من عمره، هو «مكسيمليان ماري». رآه الأستاذ الفيلسوف وسأله، فأحبه وأعجب به، ورأى أن الخير في ألا يقبله هذا العام، فأجله سنة ثم قبله بعد ذلك، واتصلت بين الأستاذ وتلميذه محبة لم تلبث أن بلغت أقصاها، وإذا الفتى يميل إلى أستاذه وفلسفته وإلى الحرية خاصة، وإذا هو يستقيل من المدرسة ويتبع الأستاذ ويتتلمذ له ويعيش من التعليم في المدارس الحرة على كره من أبيه، وفي سنة 1844 يتزوج هذا الفتى ويعيش مع امرأته في بيت الأسرة، حيث يزوره الأستاذ من حين إلى حين، وهناك يلقى أخته «كلوتيلد» فلا يكاد يسمعها ويتحدث إليها، حتى تبتدئ بينه وبينها قصة الغرام.
وكانت «كلوتيلد» هذه في الرابعة والعشرين من عمرها، ولكن حياتها كانت ممتلئة بالخطوب، كان أبوها رجلا من الطبقة الوسطى، عمل في جيش الإمبراطورية وارتقى في آخر عهد الإمبراطور إلى رتبة الكابتن، ثم سقطت الإمبراطورية فأحيل إلى الاستيداع، وعاش من مرتبه العسكري الضئيل، وكانت أم الفتاة من أسرة شريفة من أهل اللورين، فنشأت «كلوتيلد» نشأة فيها بؤس وضيق، ولكن فيها احتفاظا شديدا بتقاليد الطبقة الوسطى، ولم تكد تتجاوز الخامسة عشرة حتى زوجت من رجل يحمل اسما من أسماء الأشراف، ولكن حظه من الشرف كان قليلا، وهو «دي ڤو». اقترن بالفتاة وعين جابيا للضرائب، وقضى مع امرأته أعواما لا هو بالسعيد ولا هو بالذي يمنح امرأته قسطا من السعادة، ثم أصبح الناس ذات يوم، وإذا هو قد ذهب إلى سفر مجهول، وما هي إلا أن يبحث عنه ويفتش عن أمره، حتى يظهر أنه قد بدد أموال الدولة، وشيئا كثيرا من أموال الناس في اللعب، ثم هرب من فرنسا، إلى حيث لم يعرف من أمره شيء.
فظلت هذه المرأة الشابة معلقة، لا هي بالمتزوجة، ولا هي بالمطلقة، محزونة، بائسة، لا أمل لها في الحياة، عادت إلى أسرتها تعيش بينها، وعكفت على نفسها تعيد وتبدي ما يجول فيها من خواطر الألم والحزن، ثم أخذت تكتب ما تحس وتقيد ما تجد، وإذا هي كاتبة لها حظ من أدب ونصيب من خيال، وكان جمالها معتدلا لا إسراف فيه، وكانت المحنة قد أفادتها رصانة ورزانة، وأفاضت على شخصها شيئا من الحب يعطف النفوس عليها، وأجرت في حديثها شيئا من العذوبة الحلوة الهادئة، يحببها إلى القلوب.
فلما لقيها الفيلسوف في بعض زيارته لأخيها، نظر إليها فلم تكد تبلغ نفسه، ونظرت هي إليه فأنكرته وأكبرته. أنكرت شكله الدميم، وصورته القبيحة، وخلقه المضطرب المرتبك، وأنكرت صوته الغليظ، وحديثه المتكلف، ولكنها أعجبت بذكائه، وأكبرت عقله وفلسفته، وسكتت عنه وسكت عنها، واتصلت الزيارات، واتصل اللقاء، وأخذت نظرات الفيلسوف تستقر على الفتاة، وأخذت أذن الفتاة تطمئن إلى حديث الفيلسوف، ولكن أحدا منهما لم يشعر بأن صاحبه قد وقع من نفسه موقعا خاصا.
كان الفيلسوف يزور الأسرة ثلاث مرات في الأسبوع، وكان يجد لذة ودعة في الزيارة، كان يلقى ثلاثا من النساء: أم تلميذه وكانت مشغوفة بالتصوير، تحاول دائما أن تصور الفيلسوف، وزوج تلميذه وكانت موسيقية تطربه بالتوقيع على البيانو، وكلوتيلد أخت تلميذه وكانت أديبة تحدثه عن الأدب وعن قصتها التي أنشأتها وسمتها «لوسي» ورمزت فيها لحياتها الخاصة، وربما أنشدته شيئا من شعرها، ولم يكن الفيلسوف يحب الأدب ولا يحفل بالشعر، ولكنه كان يجد لذة في أدب «كلوتيلد»، ويذوق الجمال في شعرها وإن لم يكن هذا الشعر جميلا، وإن لم يكن مستقيم الوزن أحيانا، وكان الفيلسوف يتحدث إلى «كلوتيلد» عن فلسفته الوضعية، وعن مجلداته الخمسة التي ظهرت تذيع هذه الفلسفة في الناس، وعن أنصاره وخصومه، وعن دروسه في الفلك ، وكانت الفتاة تعجب بهذا كله، وإن لم تكن بطبعها مشغوفة بالفلسفة، وكان الفيلسوف يلتمس إرضاءها والتقرب إليها على غير شعور منه، فيذكر لها براعة النساء في الأدب والفلسفة، وكان هذا الحديث يروقها ويتملق كبرياءها، وكانت الفتاة تكبر في نفسها حين ترى الفيلسوف قد رآها لثقته أهلا، وذات يوم سقطت على الفيلسوف من السماء سعادة لم يكن يقدرها ولا ينتظرها ولا يحسب لها حسابا. زاره تلميذه ومعه أخته، وكان الفيلسوف في جماعة من العلماء، وكان الحديث علميا عميقا، فابتهج الفيلسوف وأعجبت الفتاة، وجلست تسمع في إكبار وتثاؤب خفيف لحديث العلماء، ثم همت تريد أن تنصرف فجمع الفيلسوف شجاعته كلها في يديه واستأذن الفتاة في أن يزورها في بيتها الخاص، فأذنت، هنالك بدأت الخصومة بين إلهة الفلسفة وإلهة الجمال، هنالك اضطرب «أغست كونت» بين العقل والقلب، وبين التفكير والحب. هنالك أخذ الفيلسوف يسأل نفسه: ما قيمة هذا العلم الخالص الجاف؟ وما قيمة هذا التفكير العميق العقيم؟ ومتى كان الرجل رجلا بعقله دون قلبه؟ ومتى كان الإنسان إنسانا بالتفكير دون الحب؟ إن الإنسان لا يستطيع أن يفكر في كل وقت، ولكنه يستطيع أن يحب دائما، وإذن فقد تكون آلهة الفلسفة مسرفة في الطغيان، وقد يكون من الممكن أن يتخذ «أغست كونت» رأسه معبدا لأتينا وقلبه معبدا لكلوتيلد.
Page inconnue