فابن حزم مسلم متعمق للإسلام، يؤمن به إيمانا صادقا متينا، يرتفع به إلى شيء يوشك أن يكون نسكا، وهو قد وقف حياته أو أكثر حياته على تعمق العلوم الإسلامية والعربية؛ فهو متقن لرواية الحديث، محسن للفقه، متخصص في الكلام متفوق في الجدل، عالم بشئون الفرق الإسلامية، مهاجم لأكثرها مدافع عن أقلها، منافح عن الإسلام، ناقد لما ورث المسيحيون واليهود من المسيحية واليهودية، عارض لكل مسألة من مسائل الدين بالدرس والنقد والتحليل، مظهر رأيه فيها، مؤيد له بما يرى أنه الحجة القاطعة والبرهان الساطع الذي لا يمكن الشك فيه، فهو بذلك رجل من رجال الدين، ومن رجال الدين الذين وقفوا أنفسهم وحياتهم على درسه واستقصائه، والذود عنه والقيام من دونه.
وهو صاحب مذهب بعينه في الدين ليست عليه كثرة المسلمين؛ فهو ظاهري يؤثر النص ويكره التأويل، ولا يحب التأول ولا يميل إلى التأويل، وهو من أجل ذلك لا يخاصم في الكلام وحده وإنما يخاصم في الفقه أيضا، وهو من أجل ذلك متقن للغة أشد الإتقان، متعمق لكل ما يتصل بها من علم أشد التعمق؛ فهو لغوي، وهو نسابة، وهو راوية للشعر والأدب والأخبار، ثم هو قبل هذا كله من أسرة قد تولت الوزارة واتصلت بالقصور وعملت في الدواوين ودبرت أمور السياسة، وقد شارك في بعض ما نهضت به الأسرة من الأعباء، ولكنه صرف نفسه عن السياسة، أو صرفته الظروف عن السياسة إلى العلم، فأحاط بكل ما كانت تتكون منه الثقافة الإسلامية العربية في ذلك الوقت، ثم لم يكتف بأن يكون عالما ممتازا، بل أراد أن يكون معلما ممتازا أيضا، ومؤلفا ممتازا كذلك، هذا هو ابن حزم.
أما ستندال فقد نشأ في عصر الثورة الفرنسية، وشارك في الخطوب السياسية والعسكرية التي امتلأ بها عصر نابليون وقاتل في غير موقعة من مواقع هذا القائد العظيم، وشهد الأحداث الكبرى التي اضطربت لها فرنسا ثم اضطربت لها أوروبا ثم اضطرب لها العالم كله في آخر القرن الثامن عشر وفي النصف الأول للقرن التاسع عشر، وهو بحكم نشأته وبيئته والعصر الذي عاش فيه، مسيحي اللون حر الضمير واسع الثقافة إلى أبعد حد ممكن، ولكنه لم يكن وزيرا ولم يحاول أن يكون وزيرا، ولم يكن معلما ولم يحاول أن يكون معلما، وإنما عاش لنفسه أولا، ومنح قلبا ذكيا وعقلا خصبا وضميرا حيا ونبوغا فنيا ممتازا، فلم يجد بدا من أن يصور حياته وحياة الناس من حوله وحياة العصر الذي عاش فيه.
فالاختلاف بين هذين الرجلين بعيد إلى أقصى غايات البعد، ولكنهما على ذلك يلتقيان في بعض الأمر، فكلاهما أوروبي المولد والنشأة؛ ولد ابن حزم ونشأ وعاش في إسبانيا، وولد ستندال وعاش في فرنسا وغيرها من البلاد الأوروبية.
وقد ذكرت آنفا أن ابن حزم عربي مسلم، وما أردت بعروبته هذا المعنى الضيق الذي يتصل بالجنس والنسب؛ فقد يقال إن ابن حزم لم يكن عربيا صليبة، وإنما أردت هذه العروبة التي تتصل بالثقافة والسياسة والدين واللغة والنشأة، وهذه الخصائل التي هي أهم ألف مرة ومرة من الجنسية والعنصرية.
فقد كان الرجلان إذن أوروبيين، ولكن أحدهما عربي الحياة والآخر فرنسي الحياة، وأحدهما من أبناء القرن الحادي عشر والآخر من أبناء القرن التاسع عشر، وقد كان الرجلان يلتقيان في شيء آخر؛ فكلاهما عاش في عصر فتنة واضطراب. عاش ابن حزم في عصر انهيار الدولة الأموية في الأندلس وانتثار النظام السياسي في هذا الجزء من أوروبا، وقل إن شئت في هذا الجزء من العالم الإسلامي القديم، وقد شهد ابن حزم انتقال السلطان من بني أمية إلى حجابهم، ثم انهيار الأمر حول هؤلاء الحجاب، وقيام ملوك الطوائف، وتدخل البربر في شئون العرب الإسبانيين، ثم هو لم يشهد ذلك من برجه العاجي، وإنما شهده شهود المشارك فيه، المصطلي بناره، المتحمل لآثاره، فذاق السجن ونفي من الأرض وتقاذفته مدن الأندلس، بل تقاذفته مدن العالم الإسلامي الغربي؛ فهو قد عبر إلى إفريقية، وهو قد عبر إلى الباليار، وهو قد لقي في هذا كله ألوانا من المحن وضروبا من الخطوب.
وعاش ستندال في عصر الثورة وفي عصر الحروب التي أثارها نابليون أو أثيرت عليه، وشارك في هذه الحروب فانتصر حين انتصر نابليون وانهزم حين انهزم نابليون، واضطرته هذه الحروب إلى التقلب في أقطار أوروبا، فذهب إلى ألمانيا والنمسا والروسيا وأقام في إيطاليا فأطال الإقامة وعاد آخر الأمر إلى فرنسا.
وليس المهم بالقياس إلى هذين الرجلين أنهما عاشا في عصر فتنة واضطراب وتأثرا بهما في حياتهما المادية، وإنما المهم أن كليهما قد منح حسا دقيقا وشعورا رقيقا، وعاطفة ثائرة، ومزاجا حادا وذوقا رفيعا، فتأثر بهذه الفتنة وتأثر بهذا الاضطراب، وعاش عيشة سخط وشذوذ وقلق لا عيشة رضا واطمئنان وحرص على ملاءمة الجيل الذي كان يعيش فيه.
كان ابن حزم شاذا في إسبانيا المسلمة المضطربة، وكان ستندال شاذا في فرنسا المسيحية الثائرة، وكان كلاهما ساخطا على ما يرى، منكرا لما يشهد، عاكفا على نفسه يتسلى بعلمه وأدبه عما يجري حوله من الخطوب.
في هذا كله كان الرجلان يختلفان ويتفقان، ومن هنا فرغ ابن حزم لعلوم اللغة والدين، وفرغ ستندال للقصص والإنشاء الأدبي الخالص، ومن النافع أن نقف عند هذين الكاتبين وقفة قصيرة؛ فقد يكون من المفيد أن نرى كيف عني الأديب المسلم القديم والأديب المسيحي الحديث بهذا الأمر الخطير الذي هو الحب.
Page inconnue