128

والإنسان في هذا العالم مدفوع إلى مثل ما دفع إليه العالم، من هذا العبث الذي لا ينتهي إلى غاية، ولا يحقق غرضا، وليس بينه وبين غيره من الكائنات التي يأتلف منها العالم فرق إلا أن له شعورا وعقلا؛ فهو يحس الجهد العنيف الذي يبذله، ويجد النصب الناصب الذي يلقاه، ويأسى للعناء البغيض الذي يشقى به، ويحاول أن يفهم جهده ونصبه وعناءه، فلا يصل إلى شيء، أو يصل إلى ما يخيل إليه أنه حل للمشكلة، وتفسير للغز، ولكنه إذا تعمق ما يصل إليه من حل وتفسير لم يجد وراءه شيئا؛ فهو مصعد في الجبل دائما وأمامه صخرته تلك، وهو مصوب في الجبل دائما وأمامه صخرته تلك، وهو ينفق الدهر كله في تصعيد وتصويب تتابع أجياله على ذلك، رافعة للصخرة إلى القمة، منحدرة معها إلى القاع.

ومهما يفعل الإنسان فلن يستطيع أن يغير من هذا العبث شيئا، ولكنه مع ذلك حر في حدود هذا العبث، يستطيع أن يلائم بينه وبين نفسه، وأن يختار من أطوار الحياة والتفكير والعمل ما يريد، وأن يحقق ما يختار مما تساعده الظروف على تحقيقه.

يستطيع أن يؤثر لونا من الحياة على لون، وضربا من التفكير على ضرب، وفنا من التصرف على فن، ولكنه لا يستطيع أن يجعل للوجود غاية أو غرضا، ولا يستطيع أن يغير أنه دفع إلى الحياة غير مختار، وسيدفع إلى الموت غير مختار، فحريته محدودة بهذين النوعين من الجبر ، فليصطنع الحكمة إن شاء، وليصطنع الحمق إن أحب، فلن يخرج من هذه الحلقة المفرغة بحال من الأحوال.

ويمضي ألبير كامو في الملاءمة بين مذهبه هذا اليائس، وبين الحياة التي يحياها الناس على اختلافها وتباين منازلهم فيها وحظوظهم منها، ثم هو لا يكتفي بهذا الكتاب، ولكنه ينتقل بمذهبه هذا إلى القصص، وإلى التمثيل؛ فقصة الغريب، ومسرحية كاليجولا، وسوء التفاهم، ليست في حقيقة الأمر إلا محاولات للملاءمة بين هذا العبث الأساسي، وبين حرية الإنسان.

والكتاب الذي أتحدث عنه يعرض هذه المشكلة عرضا واضحا جليا، وهو من أجل ذلك يثير الرغبة كل الرغبة في البحث والجدل والاستقصاء.

ويجب أن أقول: إن العنوان الذي اتخذته لهذا الحديث، ليس هو العنوان الدقيق لهذا الكتاب؛ فعنوان الكتاب هو «الطاعون». وقد كرهت أن أجعل هذا اللفظ البشع عنوانا لهذا الحديث، وكنت أريد أن أتحدث إلى القارئ عن هذا الكتاب ، إثر عودتي من فرنسا، في أول الخريف الماضي، ولكني وجدت مصر موبوءة بالكوليرا، ووجدت حديث الوباء فيها شائعا مستفيضا، كما كان الوباء نفسه شائعا مستفيضا؛ فكرهت أن أتحدث عن الوباء، وأجلت الحديث إلى فرصة أخرى، ثم أنسيته، ثم شغلت عن تذكره حتى كان شهر مارس.

فإذا حديثان يلقيان إلى الجمهور المثقف باللغة الفرنسية عن هذا الكتاب، يلقيهما حبران جليلان من أحبار المسيحية الكاثوليكية، أحدهما: الأب زوندل، وقد ألقى حديثه في دار السلام، والآخر: الأب بونتيه، وقد ألقى حديثه في نادي الشبيبة.

وقد استمعت لهذين الحديثين، فذكرت ما كنت قد أنسيت، ورأيت أن أتحدث إلى قراء هذه المجلة عن هذا الكتاب، على نحو ما كنت أريد أن أتحدث إليهم عنه في الخريف، وليس غريبا أن يثير هذا الكتاب اهتمام المسيحيين، واهتمام أحبارهم خاصة، بل من الطبيعي أن يثير أحبار الديانات كلها؛ لأنه يضع موضع البحث مصير الإنسان من جهة، ويضع موضع البحث موقف العقل من الدين، أو موقف العقل من الإله من جهة أخرى.

وهو يضع هذه المشكلة وضعا صريحا في هذا الكتاب؛ لأنه ينطق حبرا من أحبار الكاثوليكية برأيه في الصلة بين الإنسان وخالقه، ثم ينطق فريقا من الذين لا يؤمنون بما ينقض آراء هذا الحبر المسيحي، ففي الكتاب شيء من التحدي لم يوجد في الكتب الأخرى التي عرض فيها ألبير كامو مذهبه هذا في الوجود.

ولاحظ قبل كل شيء أني قد قرأت هذا الكتاب أثناء الصيف الماضي، وأقبلت على قراءته مشغوفا بها، مشوقا إليها أشد الشوق؛ لأني أحب الكاتب وأعجب بفنه، ولكني لم أكد أمضي في قراءة الكتاب، حتى أدركني شيء من خيبة الأمل، ثم أخذت أضيق به وأمضي في قراءته كارها للمضي فيها.

Page inconnue