والأمريكيون البيض من أهل الولايات المتحدة قد هاجر آباؤهم من أوروبا فرارا بحريتهم من العسف والخسف والهوان؛ فالاضطهاد في الدين والرأي هو الذي دفع كثيرا من الأوروبيين إلى أن يهجروا وطنهم القديم إلى العالم الجديد؛ ليعيشوا فيه عيشة قوامها العزة والحرية والاحتفاظ بكرامة الإنسان؛ فانظر إليهم كيف يحرزون هذه الخصال لأنفسهم ثم يضنون بها على غيرهم من الناس، وما أنكر وما ينكر أن الأمريكيين قد ألغوا الرق الفردي وجاهدوا في سبيل إلغائه، وبلغوا من ذلك مع أوروبا ما حاولوا.
ولكن من المضحك حقا، والشر يضحك في كثير من الأحيان، وأبغض الشر ما يضحك، من المضحك حقا أن يلغى بيع الإنسان وشراؤه ثم يتاح لفريق من الناس أن يسوموا فريقا آخر من الناس خطة ليست أقل شرا ولا نكرا من تعريضهم للبيع والشراء.
فالأمريكي الأبيض لا يستطيع أن يشتري الأمريكي الأسود أو يبيعه، ولكنه يستطيع أن يعرضه للجوع والبؤس والمرض، ويفرض عليه حياة تضطره إلى اقتراف الجرائم المنكرة، ويضربه متى شاء، ويقتله إن شاء أيضا.
وأغرب من هذا كله أن في الأمريكيين البيض من أهل الولايات المتحدة طموحا إلى الخير وسموا إلى المثل العليا لا يتكلفون ذلك ولا يتصنعونه، وإنما تدفعهم إليه نفوسهم الساذجة، فهم يدعون إلى الخير والبر والإحسان وإلى السلم والعافية وإلى التعاون والتضامن، وهم لا يترددون في أن يجاهدوا في سبيل ذلك بنفوسهم وأموالهم، ولكنهم بعد هذا كله ينامون ملء جفونهم ولا يؤرق نومهم الهانئ الهادئ علمهم بأن بضعة عشر مليونا من السود الذين يشاركونهم في الإنسانية والوطن والذين يسامون بينهم سوء العذاب. والأمريكيون البيض هم الذين أذاعوا في الناس أسطورة الحريات الأربع ولكنهم لم يستطيعوا أو لم يريدوا إلى الآن أن يكفلوا بعض هذه الحريات الأربع لهؤلاء الملايين الذين يشاركونهم في الإنسانية والوطن واللغة والدين.
وإنه لمن المضحك حقا أن يحاول الأمريكيون تأمين الناس في الشرق والغرب من العوز والخوف والظلم والعدوان، ثم لا يحاولون تأمين هؤلاء الملايين الذين يقيمون بينهم من هذه الآفات التي يصبونها عليهم صبا حين يسفر النهار وحين يظلم الليل.
وخصلة أخرى ليست أقل روعة مما قدمنا يصورها هذا الكتاب أبرع تصوير وأروعه، وهي طموح هذا الصبي، وقدرته على أن يحتفظ بهذا الطموح، وقدرته على أن يزيد هذا الطموح، وقدرته على أن يبلغ ما كان يطمح إليه من التفوق والامتياز، لا بالقياس إلى أمثاله السود وحدهم بل بالقياس إلى هؤلاء البيض الذين حاولوا استرقاقه فلم يستطيعوا.
على أن ما أتيح لريتشارد رايت من قهر ما قهر من المصاعب وتذليل ما ذلل من العقاب، والتخلص من هذه الجرائم والآثام التي كانت تدعوه دعاء ملحا، لم يتح ولا يمكن أن يتاح لكثير من السود ولا لكثير من البيض إن أحاطت بهم ظروف كالتي تحيط بملايين السود الأمريكيين.
ومن هنا تظهر الصلة القوية الرائعة بين الكتابين اللذين أحللهما في هذا الحديث، وأكاد أثق بأن الكتاب الذي فرغت من تحليله يشبه أن يكون مدخلا أو مقدمة للكتاب الآخر الذي أريد أن آخذ في تحليله.
فالكتاب الأول يصور لنا غلاما قهر ظروف الحياة التي تحيط بالسود في أمريكا، والكتاب الثاني يصور لنا غلاما قهرته هذه الظروف. فهي واحدة بالقياس إلى الغلامين، ولكن أحدهما وهو ريتشارد رايت قد تداركته رحمة الله؛ فأتاحت له النبوغ الذي استنقذه من الشر استنقاذا، على حين أن الغلام الآخر وهو بيجر توماس لم تدركه رحمة الله، وإنما خلت بينه وبين طبيعة الحياة المنكرة التي فرضت على السود الأمريكيين فالتهمه الشر التهاما.
ولست أدري أخطرت هذه الصلة لريتشارد رايت حين كتب هذين الكتابين أم لا، ولكني أعلم بعد التجربة أن هذه الصلة موجودة محققة ليس في وجودها شك؛ فقد رأيت من قرأ الكتاب الثاني فضاق به ونبا عنه، وكاد يلحقه بالقصص البوليسية، فلما قرأ الكتاب الأول فهم الكتاب الثاني على وجهه ورده إلى مكانته الممتازة من الأدب الأمريكي الرفيع.
Page inconnue