70

بابل

والحضارة البابلية من أقدم الحضارات المروية في التواريخ.

ويزعم المتشيعون للحضارة الشمرية التي ازدهرت في أرض بابل قبل انتقال الساميين إليها أنها أقدم الحضارات البشرية على الإطلاق، ولكنها على الأرجح نزعة من نزعات العنصرية التي تجعل بعض الكتاب الأوربيين يتجاوزون كل حضارة سامية إلى حضارة سابقة لها منسوبة إلى عنصر آخر من العناصر البشرية، ولهذا يبالغون في قدم الحضارة الشمرية وتقدير زمانها السابق لجميع الحضارات.

إلا أن الحضارة البابلية قديمة لا شك في عراقتها على تباين الروايات.

وهي على قدمها لم يكتب لها أن تؤدي رسالة ممتازة في تاريخ الوحدانية، فكل ما أضافته إلى هذا التاريخ يمكن أن يستغنى عنه ولا تنقص منه بعد ذلك فكرة جوهرية من أفكار التوحيد والتقديس؛ لأن الوحدانية تحتاج إلى «تركز وتوحيد» لا يستتبان طويلا في أحوال كأحوال الدولة البابلية؛ إذ كانت لها كهانات متعددة على حسب الحواضر والأسر المتتابعة، وكانت الحواضر بمعزل عن البادية التي تترامى حولها وتنفرد بعقائدها وأساطيرها، أما الأسر المالكة فقد كانت شمرية ثم أصبحت سامية تنتمي إلى أرومات شتى في الجزيرة العربية من الجنوب إلى الشمال، وكانت أرض بابل في وسط العمران الآسيوي مفتحة الأبواب على الدوام لما تقتبسه من عقائد الفرس والهنود والمصريين والعبريين، وغير هؤلاء من أصحاب الديانات المجهولين في التاريخ.

فلم تتوحد فيها العقيدة حول مركز دائم مطرد الاتساع والامتداد بعيد من طوارئ التغيير والتعديل، وكانت من ثم ذات نصيب في الشريعة وقوانين الاجتماع أوفى من نصيبها في تطور العقيدة الوحدانية على التخصيص.

ويستطاع الجزم بأن الرسالة البابلية في الدين لم تتجاوز رسالة الديانة الشمسية السلفية.

فالغزوات التي تروى عن الأرباب الأقدمين هي غزوات أبطال من الأسلاف الذين برزوا بملامح الآلهة بعد أن غابت عن الأذهان ملامحهم الإنسانية، ثم تلبست سيرتهم بظواهر الكون العليا فسكنوا في مساكن الأفلاك، وحملت الأفلاك أسماءهم ولا تزال تحمل بقية منها إلى اليوم.

فمردوخ إله الحرب هو كوكب المريخ، وقد تغلب على تيمات ربة الأغوار المظلمة، فأخذ زوجها وخلائفها الأحد عشر وسلسلهم أسارى في مملكته السماوية، فهم المنازل الاثنا عشر التي بقيت في علم الفلك إلى اليوم.

وقد اتفق الساميون والشمريون على الأرباب الكبرى كإله النور الذي يسميه الساميون شمس ويسميه الشمريون «آنو»، أو كالزهرة ربة الحب التي يسميها الساميون عشتار ويسميها الشمريون ننسيانة، ولكن الأرباب البابلية أوفر عديدا من أن ينتظمها اتفاق بين قومين مختلفين؛ لأنهم ارتفعوا بعددها إلى أربعة آلاف وقرنوا بها أندادا لها من الشياطين والعفاريت تبلغ هذا العدد أو تزيد.

Page inconnue