ولا يبعد أنه كان من أصحاب الطبائع التي تغيب عن الوعي أو تسمع في حالة وعيها أصواتا خفية من هاتف ظاهر أو محجوب، كما روي عن سقراط وأمثاله من الموهوبين والملهمين. •••
ورواية الخليقة في مذهب زرادشت أن هرمز خلق الدنيا في ستة أدوار، فبدأ بخلق السماء، ثم خلق الماء، ثم خلق الأرض، ثم خلق النبات، ثم خلق الحيوان، ثم خلق الإنسان.
وأصل الإنسان رجل يسمى «كيومرت» قتل في فتنة الخير والشر فنبت من دمه ذكر يسمى ميشة وأنثى تسمى ميشانة، فتزوجا وتناسلا وساغ من أجل ذلك عند المجوس زواج الأخوين.
ويفرق المجوس بين الخلائق جريا على مذهبهم في اشتراك الخلق بين خالق الطيبات وخالق الخبائث، أو بين إله النور وإله الظلام، فالأحياء النافعة من خلق أورمزد كالثور والكلب والطير البريء، والأحياء الضارة من خلق أهرمن كالحية وما شابهها من الحشرات والهوام.
والناس محاسبون على ما يعملون، فكل ما صنعوه من خير أو شر فهو مكتوب في سجل محفوظ، وتوزن أعمالهم بعد موتهم فمن رجحت عنده أعمال الخير صعد إلى السماء، ومن رجحت عنده أعمال الشر هبط إلى الهاوية، ومن تعادلت عنده الكفتان ذهب إلى مكان لا عذاب فيه ولا نعيم، إلى أن تقوم القيامة ويتطهر العام كله بالنار المقدسة فيرتفعون جميعا إلى حضرة هرمز في نعيم مقيم.
وتوزن الأعمال عند قنطرة تسمى قنطرة «شنفاد» تتوافى إليها أرواح الأبرار والأشرار على السواء بعد خروجها من أجسادها، فيلقاها هناك «رشنوه ملك العدل وميتر رب النور وينصبان لها الميزان ويسألانها عما لديها من الأعذار والشفاعات» ثم يفتحان لها باب النعيم أو باب الجحيم.
ونعيم المجوس من جنس الحسنات التي تجزى بذلك النعيم؛ لأن المجوس لا يستحبون الزهد في الحياة ولا يصدفون عن المتاع المباح، فمن عاش في الدنيا عيشة راضية وكسب رزقه بالعمل الصالح وأنشأ أبناءه نشأة حسنة فجزاؤه في النعيم رغد العيش وجمال السمت وطيب المقام بين الأقرباء والأصفياء، ويسقى من لبن بقرة مقدسة درها غداء الخلود، ومن كسب رزقه من السحت والحرام فجزاؤه في الجحيم عيشة ضنك وألم كألم الجوع والعري والذل والاغتراب عن الأحباب. •••
وهذه الخلاصة ترسم لنا اتجاه مذهب «زرادشت» ولكنها لا ترسم لنا شعب المجوسية التي يشتبك بها هذا المذهب في مواضع ويفترق عنها في مواضع أخرى، وقد أجمل الشهرستاني بيان هذه المذاهب في كتابه الملل والنحل فقال في فصل مطول عن المجوس وأصحاب الاثنين والمانوية وسائر فرقهم المجوسية: «... كانت الفرق في زمان إبراهيم الخليل راجعة إلى صنفين: أحدهما الصابئة والثانية الحنفاء، فالصابئة كانت تقول: إنا نحتاج في معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأوامره وأحكامه إلى متوسط، لكن ذلك المتوسط يجب أن يكون روحانيا لا جسمانيا وذلك لزكاء الروحانيات وطهارتها وقربها من رب الأرباب، والجسماني بشر مثلنا يأكل مما نأكل ويشرب مما نشرب يماثلنا في المادة والصورة. قالوا:
ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون
والحنفاء كانت تقول: إنا نحتاج في المعرفة والطاعة إلى متوسط من جنس البشر تكون درجته في الطهارة والعصمة والتأييد والحكمة فوق الروحانيات، يماثلنا من حيث البشرية ويمايزنا من حيث الروحانية، فيتلقى الوحي بطرف الروحانية ويلقي إلى نوع الإنسان بطرف البشرية، وذلك قوله تعالى:
Page inconnue