ورابعا:
إن وسيلة الانتهاء إلى هذه الغاية موجودة لمن يختار.
أما سبب الشقاء فهو الجهل الذي جعلنا نتعلق بالأوهام وننسى لباب الأمور، أو نتعلق بالعرض ونعرض عن الجوهر الأصيل.
والعرض هو كل ما يزول ويتغير، وهو من شر وفساد، وكل ما نحسه هو عرض تشمله لعنة الزوال. فما من شيء ثم «يكون» بل كل شيء يصير ولا يكف عن التغير، أو كما قال: «إن الناس يؤمنون بالثنائية، فيؤمنون بأن الشيء إما كائن وإما غير كائن، ولكن الناظر إلى الأمور بعين الصدق يعلم أن الرأيين طرفان متطرفان، وأن الحقيقة وسط بين الطرفين.»
وعلى هذا النحو ينكر البوذا وحدة «الشخصية الإنسانية» لأنها لا تتجاوز أن تكون تلاحقا مستمرا للأحاسيس يبدو لنا كأنه حزمة مضمونة في كيان واحد، ومفسروه في العصر الحديث يمثلون لذلك بشريط الصور المتحركة الذي يلوح لنا شيئا واحدا وهو خطفة بعد خطفة من الألوان والظلال.
وإذا كان الشقاء في التطرف بالحس إلى النقيضين، فالخلاص من الشقاء لا يتأتى بغير الاعتدال بين كل طرفين، وبهذا نميط عنا غشاوة الخداع الذي يتراءى على ظاهر الأشياء للنفاذ إلى ما وراءها من سر الوجود.
فلا استغراق في إرضاء الحس ولا استغراق في قمعه وتجريده، بل توسط بين الغايتين في أمور الحياة الثمانية، وهي الفهم والعزم والكلام والسلوك والمعيشة والعمل والتأمل والفرح.
فالفهم طرفاه التصديق بكل ما يقال وإنكار كل ما يقال، والوسط بينهما التمييز بين الباقي والزائل والظاهر والباطن والثابت والذي ليس له ثبوت.
والعزم طرفاه التهافت والإهمال، والوسط بينهما إرادة الحكمة متى تبين السبيل إليها بالفهم الصحيح.
والكلام منه المهجور ومنه المطروق، والوسط بينهما قول الصدق وصون اللسان عن العيب والنميمة والمحال.
Page inconnue