وكان مولد ابن ميمون في قرطبة 1135-1204، وصناعته الطب والتجارة، وقضى أيام نضجه وبحثه بين مصر وفلسطين في أشد أوقات الخلاف بين القرائين والربانيين على تأويل نصوص التوراة والتلمود، فأوشك أن ينصرف بجملته إلى شروح الفقه والعبادة، ولكنه قرأ علوم الكلام وبحوث التوحيد الإسلامية واطلع على فلسفة اليونان باللغة العربية، فألف كتابه دلالة الحائرين، وتناول فيه مسائل الفلسفة ببعض التفصيل، ولا سيما مسألة الذات والصفات ومسألة المعاني والنصوص.
فقال عما جاء في سفر التكوين: «إننا نصنع إنسانا على صورتنا وشبهنا»: «إن الناس قد ظنوا لفظ صورة في اللسان العبري يدل على شكل الشيء وتخطيطه، فيؤدي ذلك إلى التجسيم المحض، ورأوا أنهم إن فارقوا هذا الاعتقاد كذبوا النص، وأما صورة فتقع على الصورة الطبيعية، أعني على المعنى الذي يجوهر الشيء بما هو ، وهو حقيقته من حيث هو ذلك الوجود المعنوي الذي عنه يكون الإدراك الإنساني، فيكون المراد من الصورة الصورة النوعية التي هي الإدراك العقلي لا الشكل والتخطيط.» ففسر الصورة في سفر التكوين بالصورة المقصودة في مذهب أرسطو، وهذا وأمثاله قد أثار عليه المحافظين فسموا كتابه بضلالة الحائرين.
وقال عن الألواح وكلام الله الذي كتب عليها بأصبع الله: «إنها موجودة وجودا طبيعيا لا صناعيا، إن كلام الله هو علمه الذي يدركه النبيون، وليس كلاما كالذي يصدر عن الإنسان أو كالذي نفهمه من لفظ الكلام.» وقال عن صفات الله كلها: «إنها وضعت بحسب الأفعال الموجودة في العالم، أما إذا اعتبرنا ذاته مجردا عن كل فعل فلا يكون له اسم مشتق بوجه، بل اسم واحد مرتجل للدلالة على ذاته.»
وليس أسلم عنده من وصف الله بالسوالب، أي بنفي كل صفة من صفات النقص عنه جل وعلا، فقد «تبرهن أن الله عز وجل واجب الوجود لا تركيب فيه، ولسنا ندرك إلا أنيته لا ماهيته، فيستحيل أن تكون له صفة إيجابية لأنه لا أنية له خارجة عن ماهيته فتدل الصفة على إحداها، فإما أن تكون ماهيته مركبة فتدل الصفة على جزئيها، وإما أن تكون لها أعراض فتدل الصفة أيضا عليها، فلا صفة إيجاب بوجه من الوجوه ... فسبحان من إذا لاحظت العقول ذاته عاد إدراكها تقصيرا، وإذا لاحظت صدور أفعاله عن إرادته عاد علمها جهلا، وإذا رامت بالألسن تعظيمه بأوصاف عادت كل بلاغة عيا وتقصيرا ...»
وهو يقول: «إن الله صورة العالم وسبب وجوده لأن وجود الباري هو سبب لكل موجود وهو يمد بقاءه بالمعنى الذي يكنى عنه بالفيض، فلو قدر عدم الباري لقدر عدم الوجود كله وبطلت ماهية الأسباب البعيدة منه والمسببات الأخيرة وما بينها، فهو له إذن بمنزلة الصورة للشيء الذي له صورة والذي بها هو ما هو، وبالصورة تثبت حقيقته وماهيته، فكذلك نسبة الإله للعالم: وبهذه الجهة قيل فيه: إنه الصورة الأخيرة وإنه صورة الصور، أي إنه سبب وجود كل صورة في العالم وقوامها مستند أخيرا إليه وبه قوامها.»
وهو يقول بحدوث العالم ولكنه يرى أن إثبات الحدوث بالبرهان عسير: «وغاية قدرة المحقق عندي من المتشرعين أن يبطل أدلة الفلاسفة على القدم، وما أجل هذا إذا قدر عليه.»
وعلى هذا الاعتبار يقول: «أما أنا فأقول: إن العالم لا يخلو من أن يكون قديما أو محدثا، فإن كان محدثا فله محدث بلا شك ... وإن كان العالم قديما فيلزم ضرورة أن ثم موجودا غير أجسام العالم كلها ليس هو جسما ولا قوة في جسم، وهو واحد دائم سرمدي لا علة له ولا يمكن تغييره، فهو الإله ...»
أما الملائكة فهو يرى أنهم موجودون بدليل النص، وأن وجودهم لا يمنعه العقل؛ لأنه يسلم وجود العقول المفارقة أي العقول المجردة عن الأجسام.
وجائز أن يوجد الله شيئا من لا شيء، «وإنا كما جهلنا حكمته التي أوجبت أن تكون الأفلاك تسعة لا أكثر ولا أقل، وعدد الكواكب ما هي عليه لا أكثر ولا أقل ولا أكبر ولا أصغر، كذلك نجهل حكمته في كونه أوجد الكل بعد أن لم يكن ...» •••
وقد سبق ابن ميمون في الأندلس فيلسوف يهودي بحث في الحكمة الإلهية وقال بضرورة الوساطة بين الله والعالم وأسند هذه الوساطة إلى المشيئة الإلهية، ولكنه لم يتوسع كما توسع ابن ميمون في تأويل النصوص والتوفيق بين الفلسفة واللاهوت، وأهم مساهمة له في الفلسفة عامة هي قوله بامتناع التناقض بين الروح والمادة، لوحدة العلة والمعلول في الطبيعة، وإلا انتفى تأثير العقل في الجسد أو تأثير الروح في المادة.
Page inconnue