Allah, l'Univers et l'Homme : Regards sur l'histoire des idées religieuses
الله والكون والإنسان: نظرات في تاريخ الافكار الدينية
Genres
حتى أواخر العصر الحجري الحديث وقسم لا بأس به من عصر النحاس؛ فمن العصر النيوليتي (العصر الحجري الحديث) الذي ابتدأ في الألف التاسع قبل الميلاد، وذلك عندما اكتشف الإنسان الزراعة وبنى القرى الأولى في بلاد الشام، تأتينا أوضح الشواهد على مبدأ القوة السارية وشارتها المقدسة التي اتخذت هنا شكل رأس الثور البري؛ ففي موقع تل المريبط على نهر الفرات، اكتشف المنقبون بيوتا تختلف في نمطها المعماري عن بيوت السكن العادية؛ فقد احتوت على مصاطب طينية عرضت فوقها وبترتيب مقصود جماجم ثيران برية، وغرست إلى جانبها عظام كتف الثور وقرونه. وهذه الترتيبات المقصودة التي لا تفصح عن قيمة نفعية أو استعمالية، تدل على أن رأس الثور قد صار شارة مقدسة ورمزا للقوة السارية في الطبيعة، وأن هذه البنى المعمارية كانت مقامات دينية تقام فيها طقوس دينية تهدف إلى إقامة صلة مع القوة.
كما قدم لنا هذا الموقع أيضا النماذج الأولى من الدمى العشتارية في العصر النيوليتي؛ حيث تابع الفنان اعتماد أسلوب الباليوليت في تضخيم مواطن الخصوبة في الهيئة الأنثوية، ولكنه أضاف وظيفة جديدة للذراعين اللتين صارتا تسندان الثديين في إشارة إلى تقديمهما للإرضاع. وفي موقع شتال حيوك بسهل قونية جنوب الأناضول الذي يعتبر امتدادا للثقافة النيوليتية السورية، تم اكتشاف قرية نيوليتية كبيرة ازدهرت بعد تل المريبط بألفي سنة، وفيها عدد كبير من المقامات الدينية الكبيرة الأقرب في بنيتها إلى المعابد، وفيها تابع الإنسان اعتماد رأس الثور كشارة مقدسة، ولكنه استبدل رأس ثور منحوت من مادة الجص مع المبالغة في حجم وطول القرون بالجمجمة الطبيعية، وقام بتثبيت رأس الثور على الجدار إما مفردا أو في مجموعة. وقد تم التعبير عن الطبيعة الأنثوية للقوة بوضع شكل أنثوي نمطي فوق رأس الثور، أو بوضع صف من الأثداء الأنثوية تحته. ولربما أراد إنسان ذلك العصر من تلك الإشارات الأنثوية التعبير عن نظرته إلى القوة على أنها ذات طبيعة سالبة وأخرى موجبة. (س):
هل اقتصرت الشارة المقدسة على رأس الثور والهيئة الأنثوية المرمزة؟ (ج):
نحن نتحدث عن عصر لم تكن فيه الأيديولوجيات الدينية قد ظهرت بعد، كما أن الفكر الديني للإنسان وقتها كان مرنا إلى حد بعيد، وبإمكانه التعبير عن الفكرة نفسها بطرق متعددة؛ ولذلك فقد تعددت وتنوعت شاراته المقدسة؛ فخلال العصر النيوليتي في مصر كانت الشارة المقدسة عبارة عن هيئة الفأس الحجرية التي تتألف من مقبض خشبي ورأس حجري حاد يثبت على المقبض بواسطة أربطة جلدية. وقد استمر هذا الرمز إلى عصر الكتابة حيث صار رمزا كتابيا في الهيروغليفية المصرية يدل على الألوهة المجردة ويلفظ نتر
Netre ، وهي كلمة تتضمن معنى القوة أو الشدة. وخلال عصر النحاس في سورية نشأت ثقافة معروفة لدى الآثاريين بثقافة تل حلف، اكتشفت أهم آثارها في الموقع المعروف بهذا الاسم، ومنها نعرف أن شارة القداسة كانت على شكل هيئة الفأس المزدوج الذي كان له مقبض خشبي ورأسان حادان متناظران يعطيان شكلا شبيها بشكل الفراشة، وقد انتقل هذا الرمز إلى ثقافة كريت وجزر بحر إيجه المعروفة تاريخيا باسم الثقافة المينوية. وعندما دخلت هذه الثقافة في العصور التاريخية وصارت مقدمة للثقافة اليونانية، تحولت الفأس المزدوجة من شارة للقداسة إلى رمز للإلهة الكبرى للثقافة المينوية المدعوة «رحيا»، التي تصورها الرسوم الجدارية في وضعية الوقوف، وهي تحمل بيدها الفأس المزدوجة وأمامها المتعبدون ينحنون في خشوع. ومن الجدير بالذكر هنا أن ما حصل لشارة الفأس المزدوجة في الثقافة المينوية حصل أيضا لشارة رأس الثور في ثقافة الشرق القديم عندما دخلت في العصور التاريخية، حيث تحولت قرون الثور أيضا من شارة للقداسة إلى رمز للألوهة المشخصة، وراح الفنانون في منحوتاتهم يميزون كبار الآلهة والإلهات بغطاء رأس يحمل قرني ثور.
وهنالك شارة قداسة أخرى لا بد من التوقف عندها قليلا، وهي النصب الحجري؛ فقد أعطتنا تنقيبات موقع أريحا النيوليتي أول شاهد على ما يدعى في تاريخ الدين بعبادة الأنصاب الحجرية عند الساميين، وهذا الشاهد عبارة عن مقام ديني متواضع من الألف الثامن قبل الميلاد حفرت في أحد جدرانه كوة عمودية على شكل محراب وجدت في أسفله قاعدة حجرية كانت تحمل نصبا حجريا مقدسا. وقد قيض لهذه الشارة أن تكون الأطول عمرا بين الشارات الأخرى في العصور التاريخية، عندما صارت رمزا لآلهة الكنعانيين السوريين (الساميين الغربيين)؛ فالكنعانيون تابعوا في عصر الآلهة نصب الحجر المقدس في محاريب معابدهم، وكرهوا نحت تماثيل لآلهتهم. ولدينا أمثلة على ذلك منذ عصر إيبلا في أواسط الألف الثالث قبل الميلاد مرورا بمملكة ماري على نهر الفرات، والمدن الفينيقية على الساحل السوري وفي المستوطنات الفينيقية البعيدة عن الوطن الأم، ومعبد الشمس في مدينة حمص المشهور بحجره المخروطي الأسود. ومن الطريف أن نذكر هنا أن المعبد الوحيد الذي اكتشف في فلسطين مكرسا للإله التوراتي يهوه قبل العصر الروماني، كان يحتوي في محرابه على نصب حجري. (س):
وكان للعرب قبل الإسلام أحجارهم المقدسة أيضا. أليس كذلك؟ (ج):
كل العبادات الصحراوية كانت تدور حول النصب الحجرية. وهنالك عالم آثار بارز كرس حياته المهنية لدراسة هذه العبادات يدعى عوزي آفنر، شملت تنقيباته صحراء النقب في جنوب فلسطين وشبه جزيرة سيناء، حيث عثر على مقامات دينية صحراوية وأحجار مقدسة على مدى الفترة الممتدة من الألف العاشر قبل الميلاد إلى بداية العصر الإسلامي. وقد قرأت لهذا الباحث اللامع دراسات في المجلات المتخصصة عندما شرعت بتأليف كتاب عن عبادة الأحجار عند الساميين عام 2011م، ثم راسلته على الإنترنت فزودني بمزيد من دراساته وتبادلنا الأفكار على مدى ذلك العام. ثم توقف مشروعي بسبب الأحداث السورية وسفري إلى الصين.
التنقيبات في جزيرة العرب ما زالت في بدايتها؛ ولذلك لا نستطيع اقتفاء أثر العبادات الصحراوية فيها إلا اعتمادا على ما أورده الإخباريون العرب، لا سيما ابن الكلبي في مؤلفه الشهير «كتاب الأصنام»، ومنه نعرف بأن العرب لم يعرفوا الأصنام قبل القرن الثالث الميلادي، وأن عباداتهم كانت تدور حول الأنصاب الحجرية حتى بعد دخول الأصنام إلى مقاماتهم الدينية. وقد بقي من تلك الأنصاب حجر واحد حتى الآن وهو الحجر الأسود المقدس في الكعبة. (س):
الحجر عند الساميين - كما أفهم مما أوردته - كان مثل أي شارة مقدسة أخرى، رمزا مرئيا للألوهة الخافية التي كرهوا تصويرها في هيئة بشرية، فإلى أي ألوهة رمز حجر الكعبة؟ وما سر القداسة التي لازمته على الرغم من تغير المعتقدات؟ (ج):
Page inconnue