وقد أرجع الباحثون تاريخ هذا القبر إلى أواسط القرن الأول الميلادي.
في دراسته لهذا النقش يقول الباحث مورتون سميث في كتابه «يسوع الساحر»، بأن الاسم الأول هو تيمنا باسم الإمبراطور تيبيريوس الذي خدم هذا الجندي في عهده، والاسم الثاني «أبدي»، أو «عبدي» في الأصل الفينيقي، هو اختصار للتعبير السامي «عبد شمس» أو شيء من هذا القبيل، والاسم الثالث هو الترجمة اللاتينية للاسم السامي «فهد». ثم يختم تعليقه بالقول: إن شاهدة القبر هذه ربما كانت الدليل المادي الوحيد المتوفر لدينا عن أسرة يسوع.
3
لقد وجد اليهود في شاهدة هذا القبر فرصة ذهبية لإعادة فتح ملف يسوع باعتباره ابنا غير شرعي لمريم، وساهم العديد من مؤلفيهم في التعليق على النص المنقوش، في محاولة لتوكيد صحة ادعاءات التلمود القديمة بخصوص النسب الحقيقي ليسوع. وكان آخر هؤلاء آثاري يهودي يمارس التنقيب في المواقع الفلسطينية يدعى جيمس تابور، وضع كتابا نشر عام 2006م تحت عنوان «سلالة يسوع» وترجم إلى العربية عام 2008م تحت العنوان نفسه . ولعل ظهوره باللغة العربية هو ما دعاني إلى بسط أفكار مؤلفه في هذا الحيز الضيق،
4
والتساؤل عن الفائدة من ترجمة هذا الكتاب الذي يهزأ بعقائد المسلمين والمسيحيين بخصوص طهرانية السيدة مريم، لا سيما وأن مترجمه هو الدكتور سهيل زكار الباحث التاريخي المعروف الذي قدم لنا ترجمات مهمة أغنت مكتبتنا العربية.
يقول المؤلف: إن بانتيرا جاء من مدينة فينيقية على الساحل السوري لا تبعد كثيرا عن موطن يسوع في الجليل. ونحن نعرف أن كتيبة الرماة التي يذكرها النقش قد وصلت إلى دلماشيا في كرواتيا إبان العام السادس الميلادي قادمة من فلسطين، ثم نقلت إلى منطقة الراين/ناهي في العام التاسع للميلاد. قد يبدو من المستبعد للوهلة الأولى أن نتصور أن هذا النقش من بين آلاف النقوش المماثلة هو شاهد على قبر والد يسوع، ولكن لا ينبغي لنا صرف النظر عن الأدلة الواضحة. فلقد كان صاحب هذا النقش جنديا رومانيا من أهل سوريا/فلسطين، ومن المنطقة الواقعة إلى الشمال من الجليل، وكان معاصرا لمريم أو يسوع. وبناء عليه فنحن نمتلك الاسم الصحيح، والمهنة الصحيحة، والمكان الصحيح، والوقت الصحيح. وقد اقترح بعض الناس الذين تناولوا هذا الموضوع بأن الجندي كان قد اغتصب مريم خلال غمرة الاضطرابات السياسية التي حدثت في فلسطين إبان تلك الفترة، وأن يوسف النجار خطيب مريم قد قدر هذه الظروف وكان على استعداد لتبني الطفل كأنه ابنه. ولكن هنالك بديل ممكن وهو أن مريم قد حملت من خلال علاقة حرة مع الجندي الروماني لا سيما وأنها كانت مخطوبة لرجل عجوز يكبرها سنا، وأن بانتيرا كان شابا في سنها تقريبا. ومن المحتمل أن يكون قد غادر المنطقة عندما انتقلت قطعته العسكرية عنها بشكل فجائي، ودون أن يعرف شيئا عن حمل مريم. وعلى الرغم من أن مؤلفي إنجيل متى وإنجيل لوقا في قصتيهما عن الميلاد قد قالا لنا بأن مريم حملت بعد خطبتها، إلا أننا ينبغي ألا نأخذ ما قدماه على أنه الكلمة الأخيرة، فمن المحتمل أن مريم قد حملت أولا وبعد ذلك قامت أسرتها بترتيبات زواجها من يوسف الذي قبل بالوضع وهو عارف بمسألة الحمل غير الشرعي.
ثم يستشهد المؤلف بعد ذلك بمقاطع من التلمود اليهودي، فيورد لنا إشارات متعددة وردت فيه تدعو يسوع بابن بانتيرا دون مزيد من الإيضاح، الأمر الذي يدل في رأيه على أن هذا اللقب كان شائعا في منطقة الجليل وأن يسوع قد عرف به. ثم ينتقل إلى القول بأن المؤلفين المسيحيين قد نظروا بشكل جاد إلى هذه التسمية التي كانوا يعرفونها، وعمدوا من جانبهم إلى تفسيرها. فقد قال إبيفانوس من القرن الثاني الميلادي في كتابه «ضد الهرطقات»: إن والد يوسف النجار كان معروفا باسم يعقوب بانتيرا. وقال يوحنا الدمشقي من القرن الثامن الميلادي في كتابه «الإيمان القويم»: إن الجد الأعلى لمريم كان اسمه بانتيرا. وهذه المحاولات لإضفاء الشرعية على اسم بانتيرا تظهر بوضوح أن هذا الاسم لم يكن ابتكارا يهوديا هدفه التشهير بيسوع.
ثم إن المؤلف يسوق عددا من الشواهد الإنجيلية التي يفسرها على هواه لدعم أطروحاته. فمؤلف إنجيل مرقس الذي لم يورد قصة الميلاد العذري وتجاهل وجود يوسف النجار جملة وتفصيلا، يضع على لسان أهل الناصرة قولهم بعد أن تعجبوا من حكمة يسوع: «أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخو يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا» (مرقس، 6: 3). وهو يرى في دعوة يسوع بابن مريم إشارة إلى وجود أب غير شرعي، لأن اليهود كانوا يشيرون إلى الأبناء بأسماء آبائهم لا بأسماء أمهاتهم. ولهذا فقد عمد مؤلف إنجيل متى الذي ظهر بعد إنجيل مرقس إلى إعادة صياغة كلام مرقس عندما قال: «أليس هذا هو ابن النجار؟ أليست أمه تدعى مريم» (متى، 13: 55)، وذلك في محاولة منه للالتفاف حول الفضيحة التي كانت معروفة تماما لدى سكان قرية الناصرة في عقود زمانية ماضية. وفي العادة نادرا ما تموت الإشاعات، ومن الصعب أن تختفي تماما.
ويرى في إنجيل يوحنا أشياء أكثر دقة وتحديدا. فعندما احتدم النقاش بين يسوع وناقديه اليهود قالوا له: «إننا لم نولد من زنا» (يوحنا، 8: 41). وكأنهم غمزوا من قناته وأرادوا القول: «مثلك أنت». وفي موضع آخر هناك إشارة مبطنة ثانية، عندما قال اليهود بعد أن سمعوا وعظ يسوع: «أليس هذا هو يسوع بن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه» (يوحنا، 6: 42). فلماذا ذكروا اسم يوسف أولا ثم أضافوا بشكل فائض عن الحاجة: «الذي نحن عارفون بأبيه وأمه»؟
Page inconnue