لقد دون أول الأناجيل وهو إنجيل مرقس نحو عام 70م، أي بعد أربعين سنة على وفاة يسوع وسبعين سنة على ميلاده؛ ودون آخرها وهو إنجيل يوحنا بين عام 100 وعام 110م، أي بعد مضي نحو سبعين سنة على وفاة يسوع ونحو قرن كامل على ميلاده. هذا يعني أن مؤلفي الأناجيل كانوا في حالة انقطاع تام عن الأحداث التي يروونها، وأن كلا منهم قد تقصى وقائعه على طريقته الخاصة، واختار منها ما يتلاءم مع طبيعته الشخصية وثقافته وطبيعة المستمعين الذين يتوجه إليهم برسالته. وبالنظر إلى أن اللاهوت المسيحي كان ينمو ويتطور خلال هذه الفترة الفاصلة بين الحدث وزمن تدوينه، فإن المفاهيم اللاهوتية المستحدثة كان لا بد لها من أن تفرض نفسها على تفسير ذلك الحدث. وفي ظل غياب السلطة الدينية المركزية وعدم استقرار اللاهوت المسيحي في ذلك الوقت المبكر، فقد كان على كل مؤلف إنجيلي، سواء فيما يتعلق باختياره لأحداث روايته من بين عدة تنويعات وصلت إليه، أم في تفسيره لهذه الأحداث، أن يصدر عن موقف شخصي ورؤية خاصة به. وبما أن أولئك المؤلفين كانوا حملة رسالة دينية، لا مؤرخين يتقصون الحقائق وفق مناهجنا الحديثة في البحث، فإن الاختلاف بينهم هو أمر متوقع على ما نستطيع ملاحظته ابتداء من الأخبار المتعلقة بأسرة يسوع وميلاده. (1) الأسرة
يلفت نظرنا في الأناجيل شح المعلومات المتعلقة بأسرة يسوع. فنحن لا نعرف شيئا عن أسرة مريم وحياتها قبل بشارتها من قبل الملاك بالحمل العذري، ولا نعرف شيئا عن يوسف الذي قدم له متى ولوقا سلسلتي نسب لا تفيدانا بشيء بسبب تعارضهما. كما أن الوالدين يغيبان تقريبا عن أحداث الإنجيل بعد قصة الميلاد. فإنجيل مرقس الذي تجاهل قصة الميلاد لا يأتي على ذكر مريم بالاسم إلا مرة واحدة عندما قال أهل الناصرة عن يسوع: «أليس هذا النجار ابن مريم» (مرقس، 6: 3). أما يوسف فقد تجاهله مرقس تماما ولم يأت على ذكره لا من قريب ولا من بعيد. وفي إنجيل متى أشار المؤلف إلى مريم بالاسم مرة واحدة، وأشار إلى يوسف بصفته النجار دون ذكر اسمه، عندما أعاد صياغة قول أهل الناصرة الوارد عند مرقس أعلاه بخصوص يسوع ليغدو على الشكل التالي: «أليس هذا ابن النجار؟ أليست أمه تدعى مريم» (متى، 13: 55). وفي إنجيل لوقا يرد ذكر يوسف ومريم بعد قصة الميلاد مرة واحدة فقط ولكن دون ذكر اسميهما، وذلك في قصته عن زيارة أسرة يسوع إلى أورشليم عندما كان في سن الثانية عشر، وكيف افتقده أبواه ليجداه في الهيكل يناقش الشيوخ (لوقا، 4: 16-22). وبعد ذلك تغيب مريم تماما، أما يوسف فيرد ذكره مرة واحدة عندما قال أهل الناصرة عن يسوع: «أليس هذا ابن يوسف» (لوقا، 4: 23).
وفي إنجيل يوحنا وهو الإنجيل الثاني بعد مرقس الذي تجاهل قصة الميلاد، يرد ذكر يوسف بالاسم مرتين في معرض الإشارة إلى يسوع على أنه ابن يوسف ولكن دون أي معلومات أخرى عن هذه الشخصية الغامضة. (يوحنا، 1: 45 و6: 48). أما مريم فلم يرد ذكرها بالاسم، وإنما بصيغة «أم يسوع» وذلك في موضعين فقط. فقد ورد ذكرها في مطلع الإنجيل في قصة تحويل يسوع الماء إلى خمر في بلدة قانا الجليل: «وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك، ودعي يسوع وتلاميذه إلى العرس، ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر. فقال لها يسوع: ما لي ولك يا امرأة؟ لم تأت ساعتي بعد. فقالت أم يسوع للخدم: مهما قال لكم فافعلوه» (يوحنا، 2: 1-5).
في هذا الحوار الذي قدمه لنا يوحنا، لدينا دليل على الدفء المفقود بين يسوع وأمه، وذلك في قوله لها: «مالي ولك يا امرأة». وهذا ما نلاحظه أيضا في مشاهد لاحقة: «فبينما هو يكلم الجموع إذا أمه وإخوته خارجا طالبين أن يكلموه، فقال له واحد: هو ذا أمك وإخوتك واقفون خارجا يطلبون أن يكلموك. فقال له: من هي أمي ومن هم إخوتي؟ ثم مد يده نحو تلاميذه وقال: ها أمي وها إخوتي، لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي» (متى، 12: 46-50). ولعل في هذا التعليق من قبل يسوع إشارة خفية إلى أن أسرته لم تكن قد آمنت به بعد. ويؤكد لنا هذا ما أورده إنجيل مرقس من أن أسرة يسوع جاءت للقبض عليه لأنهم اعتبروه فاقد الرشد: «ولما سمع أقرباؤه خرجوا ليمسكوه لأنهم قالوا إنه مختل» (مرقس، 3: 21). وبعد بضع فقرات من الإصحاح نفسه يقول لنا مرقس: «فحينئذ جاء إخوته وأمه ووقفوا خارجا يطلبونه ... إلخ. مما ورد عند متى في المقتبس السابق» (مرقس، 3: 31-35). ونحن لا نستطيع هنا إلا أن نربط بين الخبر الأول وهذا الخبر الثاني. فأسرة يسوع قد خرجت أولا للقبض عليه، وعندما عرفوا مكانه جاءوا ووقفوا خارج البيت يطلبونه. كما نلاحظ الدفء المفقود بين يسوع وأسرته في مشهد آخر صدر فيه عن يسوع تعليق مشابه لتعليقه الآنف الذكر: «وفيما هو يتكلم بهذا، رفعت امرأة صوتها من الجمع وقالت له: طوبى للبطن الذي حملك وللثديين اللذين رضعتهما. أما هو فقال: بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه» (لوقا، 11: 27-28).
بعد عرس قانا لا تظهر مريم في إنجيل يوحنا إلا في مشهد الصلب: «وكانت واقفات عند صليب يسوع: أمه، وأخت أمه مريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية» (يوحنا، 19: 25). فأين كانت مريم خلال مدة السنتين اللتين استغرقتهما حياة يسوع التبشيرية في إنجيل يوحنا؟ ولماذا لم تكن بين النسوة اللواتي تبعن يسوع من الجليل ورافقنه في حله وترحاله؟
في بقية أسفار العهد الجديد البالغ عددها سبعة وعشرين سفرا، لا يرد ذكر يوسف النجار، بينما يرد ذكر مريم مرة واحدة في سفر أعمال الرسل؛ حيث يقول لنا المؤلف في الإصحاح الأول بأن التلاميذ في أورشليم بعد صعود يسوع: «كانوا يواظبون على الصلاة مع النساء ومريم أم يسوع ومع إخوته» (الأعمال، 1: 14). وبعد ذلك يصمت مؤلف سفر الأعمال عن مريم صمتا تاما، الأمر الذي يدل على أن هذا الخبر العابر هو إضافة لاحقة على النص الأصلي لسفر الأعمال؛ لأن مؤلف سفر الأعمال هذا هو لوقا نفسه الذي تجاهل في إنجيله وجود مريم إلى جانب يسوع خلال حياته التبشيرية، فهي لم تكن بين النسوة اللواتي تبعنه، ولم تكن موجودة عند القبض عليه ولا عند محاكمته ولا في مشهد الصلب، كما لم يرد ذكرها بين الذين شهدوا ظهورات يسوع بعد قيامته. وبالتالي فإنه من المستبعد أن يكون لوقا هو الذي جاء بمريم فجأة إلى مسرح الحدث، ثم جعلها تختفي بالطريقة التي ظهرت بها. (2) النسب
هذا المأزق المتعلق بنقص المعلومات عن حياة يسوع قبل ظهوره العلني بعد تعمده بماء الأردن على يد يوحنا المعمدان وهو في نحو الثلاثين من عمره، هو الذي دفع متى ولوقا إلى ابتكار سلسلة نسب ليسوع تربطه بالملك داود، وإيرادهما لقصة ميلاد لا تحتاج إلى الوثائق لأنها تستخدم لغة ميثولوجية من أجل التعبير عن حقائق إيمانية وليس عن حقائق تاريخية.
يستهل متى إنجيله بمقدمة عن نسب يسوع من ناحية يوسف النجار، فيعرض لنا سلسلة تبتدي بإبراهيم الأب الأول للشعب العبراني، وفي الوسط تمر بالملك داود، ثم تنتهي بيوسف: «كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم: إبراهيم ولد إسحاق، وإسحاق ولد يعقوب، ويعقوب ولد يهوذا وإخوته ... إلخ ... وأليعازر ولد متان، ومتان ولد يعقوب، ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح» (متى، 1: 1-26). أما لوقا فلم يستهل إنجيله بسلسلة نسب يسوع وإنما أطلعنا عليها بعد ابتداء يسوع بكرازته، وذلك في الإصحاح الثالث حيث نقرأ: «ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة. وهو على ما كان يظن: ابن يوسف، بن هالي، بن متثات بن لاوي بن ملكي ... إلخ ... بن شيت بن آدم، ابن الله» (لوقا، 3: 23-24). وبمقارنة بداية سلسلة لوقا المعكوسة مع نهاية سلسلة متى نجد أن يوسف النجار عند لوقا هو: ابن عالي بن متثات بن لاوي. أما عند متى فهو: ابن يعقوب بن متان بن عازر. أي إن متى ولوقا لم يتفقا من حيث البداية على اسم الجد المباشر ليسوع، ولا على أسماء أصوله الأقربين، ثم يتابع لوقا بعد ذلك سلسلته في خط مختلف تماما عن متى، حتى لكأننا أمام سلسلتي نسب لشخصيتين مختلفتين تماما، وذلك وصولا إلى الملك داود حيث تعود السلستان إلى الاتفاق وتصلان إلى إبراهيم؛ لأن كلا المؤلفين يعتمدان هنا سلسلة الأنساب التوراتية الواردة في سفر التكوين. وعند إبراهيم تنتهي سلسلة متى بينما يتابع لوقا منفردا وصولا إلى آدم: «ابن إبراهيم، بن تارح، بن ناحور ... إلخ ... ابن شيت بن آدم، ابن الله». وبذلك فإن سلسلة لوقا تقوض نفسها بنفسها لأنها ابتدأت بالقول: «وهو على ما كان يظن ابن يوسف بن هالي»، وانتهت بالقول: «بن شيت بن آدم ابن الله؟» وذلك مثلما تقوض سلسلة متى نفسها أيضا عندما انتهت بالقول: «ومتان ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع»، ولم تقل: «ومتان ولد يوسف، ويوسف ولد يسوع». فالسلسلتان لا معنى لهما لأنهما لا تعترفان بأبوة يوسف ليسوع، وهذا يستدعي منطقيا عدم وجود رابطة نسب بين يسوع والملك داود الجد الأعلى ليوسف، وبالتالي فلا معنى للقب ابن داود الذي يطلقه كل من متى ولوقا على يسوع.
فإذا جئنا إلى رواية الحبل العذري والميلاد عند متى ولوقا، نجدهما على ما تبينه المقارنة التالية يتابعان ما بدآه من اختلاف في النسب. (3) الحبل العذري
رواية متى «أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا. لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وجدت حبلى من الروح القدس. فيوسف رجلها إذ كان بارا ولم يشأ أن يشهرها أراد تخليتها سرا. ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور، إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا: يا يوسف بن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي تحمله هو من الروح القدس، فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم، وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا. فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما أمره الملاك وأخذ امرأته، ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر» (متى، 1: 18-25).
Page inconnue