على أن هذا كله لا يستكمل المشهد الديني الفلسطيني في القرن الأول الميلادي. فإلى جانب الوثنية السورية التقليدية والفرق اليهودية، كان هنالك جيوب متفرقة من عبادات الأسرار، لعل أهمها شيعة جبل الكرمل التي كان لها مركز ديني مهم على ذلك الجبل، وكان أشبه بالمعهد الديني الذي يلتحق به الفتيان من أجل تلقي العلوم الدينية قبل التنسيب. وقد شاع صيت هذا المركز في العالم القديم وقصده عدد من الحكماء من أجل تلقي العلوم الروحانية، ومنهم فيثاغورث الذي تروي سيرة حياته عن اعتكافه مدة طويلة في جبل الكرمل، أكثر الجبال قداسة.
2
وعبادات الأسرار تؤمن ببعث الروح لا الجسد عن طريق الاتحاد بالإله المخلص، ولكن هذا البعث ليس عاما وإنما مقتصرا على من عبر إلى حلقة المريدين الضيقة ومارس طقوس الاستسرار.
وكان في فلسطين جماعات غنوصية متفرقة تنتمي إما إلى طريقة سمعان ماجوس أو إلى طريقة يوحنا المعمدان (راجع بحثنا السابق: يوحنا المعمدان وتاريخ طقس المعمودية). والغنوصية هي نظام ديني يقوم على مبدأ ثنائية الروح والجسد؛ حيث ينتمي الجسد إلى عالم المادة والظلام وتنتمي الروح إلى عالم الأنوار العلوي الذي منه هبطت وحلت في سجن المادة. وسوف تبقى الروح حبيسة هذا العالم المليء بالشر والألم، ورهينة دورة الميلاد والموت تنتقل من جسد إلى آخر، إلى أن تتعرف على أصلها من خلال فعالية العرفان الذي يقودها إلى الخلاص، عندما تنضو عنها رداءها المادي وتبدأ رحلة العودة إلى ديارها. وهنا يتحول القبر من بوابة إلى دورة تناسخ جديدة إلى بوابة نحو العالم النوراني العلي والحياة في الأبدية. فعلى عكس الزردشتية وغيرها من النظم الدينية اللاحقة التي تبشر ببعث أجساد الموتى في اليوم الأخير، فإن الخلاص الذي تبشر به الغنوصية هو خلاص الأرواح من الجسد ومن العالم في آن معا. أما الأجساد فتسقط ولا تقوم أبدا.
ولعل باستطاعتنا تلمس عقيدة بعث الأرواح في هذه الغنوصية الفلسطينية، من خلال تعاليم يوحنا المعمدان التي حفظتها لنا إلى اليوم طائفة الصابئة المندائيين. نقرأ في الكتاب المندائي المعروف بعنوان «تعاليم ومواعظ يحيى بن زكريا» ما يلي: «تكلم المسيح مخاطبا يحيى في أورشليم: يا يحيى، أستحلفك بالحي العظيم وبملاك الأحد الوقور، وبالدرب الذي سلكه المختارون الصالحون، حدثني ماذا تشبه سفينة صوارئيل؟ أخبرني عن النفس كيف تغادر الجسد وبماذا تكون متلفعة؟ وماذا تشبه وهي داخل الجسد الفاني؟ ...
لما توقف عيسى عن الكلام قال يحيى بصوت عال: ... النفس محتجبة، تدخل خفية إلى الجسد الفاني، وعندما يحين الأجل تنسل خفية متلفعة برداء النور وتصعد سفينة صورائيل. تظهر ثلاثة أشعة من الضوء تلحق بها ثم تجتازها. الأول يجتازها تاركا إياها عند المساء، والثاني يتركها عند الفجر، أما الثالث فيغادرها تاركا لها راية بيضاء.
تغضب النار، تتحرك النسمة منسلة من القدم إلى الركبة، وتقترب من الخاصرة، وتصل إلى القلب قابضة عليه، ثم تصعد حتى تأتي اللسان وتلتف عليه، فتغيم عينا الإنسان وتشحب سيماؤه وشفتاه. فيناديها صورائيل قائلا: انفصلي أيتها النسمة، لماذا ترقبين الجسد؟ فتجيب: يا صورائيل، أخرجني من جسدي، امنحني لباسي وحررني. يقول لها: هات أعمالك، فإن الأجر هو الذي سيمنحك رداءك. فتجيب: لا أعرف يا صورائيل أن أجلي قد حان، إنهم أرسلوك إلي. فإن كانت أعمالي حسنة أحضر ملابسي وألبسني إياها.
تخرج النسمة. يحمل الجسد أربعة رجال يرتدون ملابس النور، يسيرون نحو المدفن، يضعونه في حفرة ضيقة وبهدوء يوارونه الثرى. بحزن مكتوم ينسحبون الواحد بعد الآخر تاركين الجسد المغيب في اللحد. بعد ذلك يحضرون قدحا من الماء وبعضا من الخبز، وينسون الجسد.»
3
ونقرأ في التسبيح الثامن والثلاثين من الكتاب المقدس المندائي «كنزا ربا» ما يلي: «باسم الحي العظيم. أسمع صوت نفس ما وهي تخرج من جسد الحرمان، أسمعها وهي تقول: عارية أتيت إلى هذا العالم، فارغة منه أخرجوني مثل عصفور لم يرافقه شيء. ثم التفتت إلى الهيكل الذي منه خرجت قائلة: ماذا أفعل بك يا جسدي الباقي في هذا العالم؟ يا جمال جسدي الذي سيأكلك في القبر الدود، ماذا أفعل بك؟ يا قميص الورود، ماذا أفعل بك يا جسدي وأنت من طين جبلت؟ من كتلة طين جبلت أيها الجسد، واحتملت اضطهاد جميع الأشرار، فماذا أفعل بك؟ وبينما النفس تحدث جسدها، طار إليها رسول الحي. رسول الحي طار إليها وكلمها مشفقا عليها: هلمي أيتها اللؤلؤة التي من كنز الحي أخذت. هلمي أيتها الزكية التي عطرت هيكل الطين ذاك. هلمي أيتها المنيرة التي أضاءت بيتها المظلم. هلمي انزعي رداءك الطيني رداء الدم واللحم، والبسي رداء النور والضياء. البسي ثوب العطر والأريج، وضعي إكليلك البهيج، ثم اصعدي وأقيمي بين الأثيريين. مبارك الحي. ومبارك اسم الحي في بلد النور.»
Page inconnue