لقد دون سفر الحكمة قبل الميلاد بنحو قرنين، ولكنه يبدو وكأنه وصف دقيق لشخصية يسوع وحياته ومماته. فهل سنكون قادرين في يوم من الأيام على استعادة الوجه التاريخي ليسوع من تحت ركام النبوءات التوراتية؟
إلهي لماذا تركتني؟
البريء على الصليب
إن الروايات التي وصلت إلينا عما حدث في موقع الصلب المدعو بالجلجثة ليست على ما نشتهي من التوافق. فبعد مضي أكثر من أربعين سنة على الحادثة، لم يكن من السهل الوصول إلى معلومات موثوقة ومتطابقة. ولهذا فقد انفرد كل إنجيلي بإيراد تفاصيل لا نجدها لدى الآخر، واستخدم كل منهم خياله الخاص في تفضيل هذه المعلومة عن تلك، أو في ابتكار عنصر لردم هذه الفجوة في القصة أو تلك. كما عمدوا إلى استذكار النبوءات التوراتية وحشدها من أجل إضفاء الجلالة على المشهد. فبعد أن جلد بيلاطس يسوع وأسلمه للصلب، نقرأ في الروايات الأربع ما يلي: (1) رواية مرقس «فمضى به العسكر إلى الدار التي هي دار الولاية، وجمعوا كل السرية وألبسوه رداء أرجوانيا وضفروا إكليلا من الشوك ووضعوه عليه، وأخذوا يحيونه قائلين: السلام يا ملك اليهود. وكانوا يضربونه على رأسه بقصبة ويبصقون عليه ثم يسجدون له جاثين على ركبهم. وبعدما استهزءوا به نزعوا عنه الأرجوان وألبسوه ثيابه ثم خرجوا به ليصلبوه. فسخروا لحمل صليبه رجلا مجتازا كان آتيا من الحقل وهو سمعان القيرواني أبو إسكندر وروفس، وساروا به إلى المكان المعروف بالجلجثة، أي موضع الجمجمة. وأعطوه خمرا ممزوجة بمر ليشرب فلم يقبل. ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ماذا يأخذ كل واحد. وكانت الساعة الثالثة حين صلبوه (= الساعة التاسعة صباحا بتوقيتنا الحالي). وكتب في علة الحكم عليه: ملك اليهود. وصلبوا معه لصين أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، فتم الكتاب القائل: وأحصي مع أثمة. وكان المارة يشتمونه ويهزون رءوسهم ويقولون: أيا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلص نفسك وانزل عن الصليب. وكان الأحبار والكتبة يسخرون مثلهم فيقول بعضهم لبعض: خلص غيره وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها. فلينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب لنرى ونؤمن. وكان اللصان المصلوبان معه هما أيضا يعيرانه.» «ولما بلغت الساعة السادسة (= الثانية عشرة ظهرا) انتشر ظلام على الأرض كلها حتى الساعة التاسعة (= الثالثة بعد الظهر). وصرخ يسوع في الساعة التاسعة بصوت عظيم قائلا: إلوي، إلوي. لما شبقتني؟ الذي تفسيره: إلهي، إلهي. لماذا تركتني؟ فقال قوم من الحاضرين لما سمعوا: هوذا ينادي إيليا. فأسرع واحد منهم إلى إسفنجة وبللها بالخل وجعلها على قصبة وقربها ليشرب، وهو يقول: دعونا ننظر هل يأتي إيليا فينزله؟ فصرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح. فانشق حجاب الهيكل إلى شطرين من أعلى إلى أسفل. ولما رأى قائد المائة الواقف مقابله أنه صرخ هكذا وأسلم الروح قال: حقا كان هذا الإنسان ابن الله. وكانت أيضا نساء ينظرن من بعيد بينهن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وسالومة. وهن اللواتي تبعنه وخدمنه حين كان في الجليل، وغيرهن كثيرات صعدن معه إلى أورشليم.» «ولما كان المساء قد أقبل وهو وقت التهيئة، أي عشية السبت، جاء يوسف الرامي (= الذي من الرامة، وهي قرية على بعد خمسة أميال إلى الشمال من أورشليم)، وهو عضو وجيه في المجلس، وكان من الذين ينتظرون ملكوت الله، فتجاسر ودخل على بيلاطس وطلب جسد يسوع. فتعجب بيلاطس أنه مات كذا سريعا، فدعا قائد المائة وسأله: أوقد مات؟ فلما تحقق الخبر من القائد وهب الجسد ليوسف. فاشترى يوسف كتانا فأنزله وكفنه بالكتان، ووضعه في قبر كان منحوتا في الصخر ثم دحرج حجرا على باب القبر. وكانت مريم المجدلية ومريم أو يوسي تنظران أين وضع» (مرقس، 15: 16-47).
نلاحظ من قراءة نص مرقس أن المؤلف قد استند إلى عدد من النبوءات التوراتية في بناء بعض عناصر قصته : (1)
فقد أعطوه خمرة ممزوجة بمر ليشرب فلم يقبل. ثم رفعوا إلى فمه إسفنجة مبللة بالخل. وذلك تحقيقا لما ورد في المزمور 69: 20-21 «يجعلون في طعامي علقما وفي عطشي يسقونني خلا.» (2)
وصلبوا معه لصين، واحد عن يمينه وآخر عن شماله، تحقيقا لما ورد في سفر إشعيا 53: 13 «من أجل أنه سكب نفسه للموت وأحصي مع أثمة. وهو حمل خطيئة كثيرين وشفع في المذنبين.» (3)
ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ماذا يأخذ كل واحد. وذلك تحقيقا لما ورد في المزمور 22: 16-18 «جماعة من الأشرار اكتنفتني ... يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون.» (4)
وكان المارة يشتمونه ويهزون رءوسهم، والأحبار والكتبة يسخرون مثلهم قائلين: «خلص غيره ولا يقدر أن يخلص نفسه. فلينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب لنرى ونؤمن.» وذلك تحقيقا لما ورد في المزمور 22: 7-8 «كل الذين يرونني يستهزءون بي، يفغرون الشفاه وينغصون الرأس قائلين: اتكل على الرب فلينجه، لينقذه لأنه سر به.» وما ورد في سفر الحكمة: «إن كان الصديق ابن الله فهو ينصره وينقذه من أيدي مقاوميه. فلنمتحنه بالشتم والعذاب حتى نعلم حلمه ونختبر صبره. ولنقض عليه بأقبح ميتة فإنه سيفتقد كما يزعم» (2: 18-20). (5)
وصرخ يسوع في الساعة التاسعة بصوت عظيم قائلا: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ وذلك تحقيقا لما ورد في المزمور 22: 1-2 «إلهي، إلهي، لماذا تركتني، بعيدا عن خلاصي عن كلام زفيري» (1-2). (2) رواية متى
Page inconnue