يقتفي متى أثر لوقا في جميع تفاصيل روايته، ولكنه يضيف إليها عنصرين؛ الأول تدخل زوجة بيلاطس لصالح يسوع: «وبينما هو جالس للقضاء أرسلت إليه امرأته تقول: لا تتدخل في قضية هذا البار لأني تألمت أشد الألم من أجله في الحلم.» والثاني قيام بيلاطس بغسل يديه أمام الجميع كناية عن براءته من دم يسوع: «قال لهم: وأي شر عمل؟ فكانوا يزدادون صراخا قائلين: ليصلب. فلما رأى بيلاطس أنه لم يستفد شيئا بل تفاقم الشغب، أخذ ماء وغسل يديه قدام الجميع قائلا: إني بريء من دم هذا البار. أنتم وشأنكم فيه. فأجاب الشعب بأجمعه: دمه علينا وعلى أولادنا.»
ولو أن جملة «دمه علينا وعلى أولادنا.» وردت في إنجيل يوحنا، لقلنا مع الباحثين اليهود بأنها تنسجم مع الكراهية التي يعلنها مؤلف إنجيل يوحنا لليهود، ولكن ورودها عند متى الذي يعتبر الأكثر عبرانية بين الإنجيليين، هو دلالة على أصالتها.
وهنا يقول الباحثون اليهود في العهد الجديد إن مؤلفي الأناجيل، لا سيما متى، قد بالغوا في إظهار بيلاطس بمظهر البريء من دم يسوع وحملوا اليهود وحدهم مسئولية إعدام يسوع، ممالأة لروما بعد الحروب اليهودية التي دمر فيها الرومان أورشليم وقتلوا مئات الآلاف من أهل مقاطعتها عام 70م. ولكن المسيحيين كانوا زمن تدوين الأناجيل، أي فيما بين عام 70 وعام 110م، عبارة عن جماعات سرية مضطهدة من قبل السلطات الرومانية، وبقوا على هذه الحال لأكثر من قرنين قادمين. وبالتالي لم يكن لديهم سبب لممالأة روما، وإنما العكس هو الصحيح. ولا أدل على ذلك من أن سفر الرؤيا في العهد الجديد قد أشار إلى روما تحت لقب بابل الكبرى، وأم بغايا الدنيا وأدناسها، وتنبأ بخرابها كمقدمة لحلول مملكة الرب (سفر الرؤيا: 16-18). وهناك اتجاه في البحث الحديث في تاريخ المسيحية، يقول بأن المسيحيين في روما لم يتهموا باطلا من قبل نيرون بتسبيب الحريق الهائل الذي التهم معظم أجزاء المدينة، وإنما فعلوا ذلك بدافع ما ورد في سفر الرؤيا، واعتقادهم بأن زوال مدينة روما هو مقدمة لانتصار البشارة.
لوقا «ثم قام الحضور بأجمعهم فمضوا به إلى بيلاطس، وأخذوا يتهمونه قائلين: إننا وجدنا هذا يفسد الأمة ويمنع أن تعطى الجزية لقيصر، ويزعم أنه مسيح ملك. فسأله بيلاطس: أأنت ملك اليهود؟ فأجاب: أنت تقول ذلك. فقال بيلاطس للأحبار والجموع: إني لا أجد علة في هذا الرجل. فكانوا يشددون قائلين: إنه يثير الشعب وهو يعلم في كل اليهودية من الجليل إلى هنا. فلما سمع بيلاطس ذكر الجليل سأل: هل الرجل جليلي؟ فلما عرف أنه من ولاية هيرودوس بعث به إليه وهو يومئذ نازل في أورشليم.
فلما رأى هيرودوس يسوع فرح جدا لأنه كان يريد من زمن بعيد أن يراه لما سمع عنه، ويرجو أن يرى آية يأتي بها. فسأله عن مسائل عديدة فلم يجبه عن شيء. ووقف الأحبار والكتبة يشتكون عليه باشتداد. فازدراه هيرودوس مع عسكره وسخر منه فألبسه ثوبا براقا ورده إلى بيلاطس. فصار هيرودوس وبيلاطس صديقين في ذلك اليوم وكانا قبلا متعاديين.
فدعا بيلاطس الأحبار والعظماء والشعب وقال لهم: قد قدمتم إلي هذا الرجل على أنه يفسد الشعب. وها أنا قد فحصت عن الأمر قدامكم ولم أجد في هذا علة مما تشتكون به عليه، ولا هيرودوس أيضا لأني أرسلته إليه. فهو إذن لم يقترف ما يستوجب الموت. فسأطلقه بعدما أجلده. وكان لا بد من أن يطلق لهم في كل عيد رجلا. فصاحوا بأجمعهم: اقتل هذا وأطلق لنا براباس. وكان ذاك قد وضع في السجن لفتنة حدثت في المدينة وقتل، فناداهم أيضا وهو يريد أن يطلق يسوع، فصرخوا قائلين: اصلبه، اصلبه. فقال لهم ثالثة: فأي شر عمل؟ إني لم أجد عليه ما يستحق الموت. فسأطلقه بعدما أجلده. فألحوا عليه بأعلى أصواتهم طالبين أن يصلب واشتد ضجيجهم. فقضى بيلاطس بإجابة طلبهم، فأطلق لهم الذي وضع في السجن لأجل فتنة وقتل، ذلك الذي طلبوه، وأسلم يسوع لمشيئتهم.» (لوقا، 23: 1-24)
يقتفي لوقا هنا أثر رواية مرقس بحذافيرها، ولكنه انتبه إلى ما لم ينتبه له مرقس ومتى من لا شرعية محاكمة بيلاطس ليسوع باعتباره مواطنا جليليا، فجعل بيلاطس يحيل يسوع إلى ملك الجليل هيرود أنتيباس الذي كان في أورشليم للمشاركة بعيد الفصح. لقد كان هيرود يعرف كل شيء عن يسوع وتعاليمه من خلال التقارير التي كانت ترفع إليه عن نشاطاته. وقد فكر مرة باعتقاله واستجوابه (لوقا، 13: 31-32) لما رآه من تجمع الناس حوله وتداولهم لمعجزاته، ولكنه لم يفعل بعد أن تأكد من أنه لا يشكل خطرا على سلطته. من هنا لم يكن لدى هيرود ما يستجوب يسوع عنه، بل كان تواقا لرؤية بعض معجزاته التي سمع عنها. ولكن يسوع رفض التحدث إليه. وعلى الرغم من أن متهمي يسوع قد رافقوه إلى مقر هيرود وكرروا شكاياتهم عليه، إلا أنه لم يستجوبه بشكل فعلي ورده إلى بيلاطس معتقدا ببراءته من التهم وبأنه مجرد صاحب أوهام وخيالات يستوجب السخرية والهزء أكثر مما يستوجب الإدانة والعقاب.
يوحنا
في قصر بيلاطس كما في بيت رئيس الكهنة، لم يسأل يسوع عما إذا كان المسيح أو ابن الله. أما بخصوص ادعاء الملوكية فقد لخص يسوع في جوابه الشهير: «ليست مملكتي من هذا العالم» طبيعة رسالته البعيدة عن الهم السياسي والقومي لليهود: «فخرج إليهم بيلاطس وقال: بماذا تتهمون هذا الرجل؟ فأجابوه: لو لم يكن مجرما لما أسلمناه إليك. فقال لهم بيلاطس: خذوه أنتم فحاكموه كما تقضي شريعتكم. فأجابه اليهود: لا يحق لنا أن نقتل أحدا، فعاد بيلاطس إلى دار الولاية ثم دعا يسوع، وقال له: أأنت ملك اليهود؟ أجاب يسوع: أتقول هذا من عندك أم قاله لك آخرون؟ فقال بيلاطس: أفأنا يهودي؟ إن أمتك والأحبار أسلموك إلي، فماذا فعلت؟ أجاب يسوع: ليست مملكتي من هذا العالم. ولو كانت مملكتي من هذا العالم لدافع عني رجالي لكيلا أسلم إلى اليهود. ولكن مملكتي ليست من ها هنا. فقال له بيلاطس: أفأنت ملك إذن؟ أجاب يسوع: أنت تقول إني ملك. لهذا ولدت وأتيت إلى العالم لأشهد للحق، فمن كان من أبناء الحق يصغي إلى صوتي، فقال له بيلاطس: ما هو الحق؟ وبعدما قال ذلك خرج ثانيا إلى اليهود وقال لهم: لم أجد سببا لتجريمه. وقد جرت العادة عندكم أن أطلق لكم سجينا في الفصح. أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟ فعادوا إلى الصياح: لا تطلق هذا بل براباس. وكان براباس لصا.
فأمر بيلاطس بأن يؤخذ يسوع ويجلد. ثم ضفر الجنود إكليلا من الشوك ووضعوه على رأسه، وألبسوه رداء أرجوانيا وأخذوا يدنون فيقولون وهم يلطمونه: السلام يا ملك اليهود. ثم خرج بيلاطس وقال لهم: سأخرجه إليكم لتعلموا أني لم أجد سببا لتجريمه. فخرج يسوع وعليه إكليل الشوك والرداء الأرجواني. فقال لهم بيلاطس: خذوه أنتم فاصلبوه فإني لم أجد سببا لتجريمه. فأجابه اليهود: إن لنا شريعة وهذه الشريعة تقضي عليه بالموت لزعمه أنه ابن الله. فلما سمع بيلاطس هذا الكلام اشتد خوفه، فدخل دار الولاية وقال ليسوع: من أين أنت؟ فلم يجب يسوع بشيء. فقال له بيلاطس: ألا تكلمني؟ أفلست تعلم أن لى سلطانا أن أطلقك وسلطانا أن أصلبك؟ فأجابه يسوع : لم يكن لك علي سلطان البتة إذا لم تكن قد أعطيت من فوق. فالذي أسلمني إليك له خطية أعظم من خطيتك. فحاول بيلاطس عندئذ أن يخلي سبيله، ولكن اليهود صاحوا: إن أخليت سبيله فلست محبا لقيصر لأن من يدعي الملك يعد خارجا على قيصر. فلما سمع بيلاطس هذا الكلام أمر بإخراج يسوع وجلس على كرسي القضاء في موضع يقال له البلاط وبالعبرانية جباثة. وكان ذلك اليوم يوم تهيئة للفصح والساعة نحو السادسة (= الثانية عشرة ظهرا). فقال لليهود: هوذا ملككم. فصاحوا: اقتله، اصلبه. قال لهم بيلاطس: أأصلب ملككم؟ فأجاب الأحبار: لا ملك علينا إلا قيصر. فأسلمه إليهم ليصلب.» (يوحنا، 18: 28-40، و19: 1-16)
Page inconnue