الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
خفايا إنجيل مرقس
إنجيل مرقس السري
يسوع والنساء
ألغاز ميلاد يسوع
مشكلة بيت لحم والناصرة
هل ولد يسوع في 25 ديسمبر؟
يسوع في الفكر اليهودي
هل كان يسوع متزوجا؟
معمودية يسوع
من هو إله يسوع؟
تعاليم يسوع السرية
مرقيون والكنيسة البديلة
هل وجد يسوع فعلا؟
الإطار التاريخي للإنجيل
لغز إخوة يسوع
مشكلة الرسل الاثني عشر
أين اختفى الرسل؟
شخصية يسوع وطباعه
هل أفلح يسوع خلال حياته؟
هل تنبأ بموته وقيامته؟
في البدء كان الكلمة
مشكلة إنجيل يوحنا
طقوس الاستسرار
التحقيب الزمني لكرازة يسوع
هل دخل يسوع أورشليم كملك؟
الأيام الستة الأخيرة
هل تناول يسوع عشاء الفصح؟
ليلة القبض على يسوع
محاكمة يسوع
لماذا أدين يسوع؟
إلهي لماذا تركتني؟
لغز القبر الفارغ
لغز قيامة يسوع
نظرية المؤامرة
بولس النبي
أضواء على لاهوت بولس
بيبلوغرافيا
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
خفايا إنجيل مرقس
إنجيل مرقس السري
يسوع والنساء
ألغاز ميلاد يسوع
مشكلة بيت لحم والناصرة
هل ولد يسوع في 25 ديسمبر؟
يسوع في الفكر اليهودي
هل كان يسوع متزوجا؟
معمودية يسوع
من هو إله يسوع؟
تعاليم يسوع السرية
مرقيون والكنيسة البديلة
هل وجد يسوع فعلا؟
الإطار التاريخي للإنجيل
لغز إخوة يسوع
مشكلة الرسل الاثني عشر
أين اختفى الرسل؟
شخصية يسوع وطباعه
هل أفلح يسوع خلال حياته؟
هل تنبأ بموته وقيامته؟
في البدء كان الكلمة
مشكلة إنجيل يوحنا
طقوس الاستسرار
التحقيب الزمني لكرازة يسوع
هل دخل يسوع أورشليم كملك؟
الأيام الستة الأخيرة
هل تناول يسوع عشاء الفصح؟
ليلة القبض على يسوع
محاكمة يسوع
لماذا أدين يسوع؟
إلهي لماذا تركتني؟
لغز القبر الفارغ
لغز قيامة يسوع
نظرية المؤامرة
بولس النبي
أضواء على لاهوت بولس
بيبلوغرافيا
ألغاز الإنجيل
ألغاز الإنجيل
تأليف
فراس السواح
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
في عام 1970م بدأت الأفكار العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تتشكل في ذهني، وعندما بذلت المحاولات الأولى لكتابتها، شعرت بحاجة إلى مراجع أكثر من المراجع القليلة التي في حوزتي، فرحت أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مراجع باللغة الإنجليزية فلم أجد ضالتي، فتأكدت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفت عن الكتابة.
وفي عام 1971م قمت برحلة طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رحت خلالها أشتري ما يلزمني من مراجع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدت شرعت في الكتابة وأنجزت الكتاب في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رحت أستعين بأصدقائي المقيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مراجع، وكانت مهمة شاقة وطويلة تستنفد المال والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملا بطوليا، إن لم يكن مهمة مستحيلة.
بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسست شبكة الإنترنت التي لعبت دورا مهما في وضع الثقافة في متناول الجميع، ووفرت للباحثين ما يلزمهم من مراجع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحت هم تأمين المراجع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصلته بالثقافة العالمية من خلال كبسة زر على حاسوبه الشخصي.
لقد صار حاسوبي اليوم قطعة من يدي لا أقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردت لطبعة الأعمال الكاملة لمؤلفاتي التي صدرت في 20 مجلدا، أن توضع على الشبكة تحت تصرف عامة القراء والباحثين، واخترت «مؤسسة هنداوي» لحمل هذه المهمة؛ لأنها مؤسسة رائدة في النشر الإلكتروني، سواء من جهة جودة الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوعة التي تثري الثقافة العربية.
جزيل الشكر ل «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعت أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومة مؤلفاتي الاثنين والعشرين ومخطوط كتاب لم يطبع بعد، لنبحث في إجراءات إصدارها في طبعة جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنت وأنا أتأملها كمن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عاما تفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتاب الجديد «الله والكون والإنسان »، ومشروع تكامل تدريجيا دون خطة مسبقة في ثلاث وعشرين مغامرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببت أن أشرك به قرائي. وفي كل مغامرة كنت كمن يرتاد أرضا بكرا غير مطروقة ويكتشف مجاهلها، وتقودني نهاية كل مغامرة إلى بداية أخرى على طريقة سندباد الليالي العربية. ها هو طرف كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمله، إنه في غلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام 1988، التي عاد ناشرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام 1976، الذي صممه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتت حتى بدت وكأنها بلون واحد لعدم عناية الناشر بتجديد بلاكاتها المتآكلة من تعدد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يخطر لي أن هذا الكتاب قد رسم مسار حياتي ووضعني على سكة ذات اتجاه واحد؛ فقد ولد نتيجة ولع شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكباب على دراسة ما أنتجته هذه الثقافة من معتقدات وأساطير وآداب، في زمن لم تكن فيه هذه الأمور موضع اهتمام عام، ولكني لم أكن أخطط لأن أغدو متخصصا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاو عاكف بجد على هوايته. إلا أن النجاح المدوي للكتاب - الذي نفدت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تتابعت طبعاته في بيروت - أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يتوقعون مني عملا آخر ويتلهفون إليه.
إن النجاح الكبير الذي يلقاه الكتاب الأول للمؤلف يضعه في ورطة ويفرض عليه التزامات لا فكاك منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاح أكبر، أو يسقط ويئول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسه في الكتاب الثاني. وقد كنت واعيا لهذه الورطة، ومدركا لأبعادها، فلم أتعجل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعت مسيرتي المعرفية التي صارت وقفا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعاما بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يتكامل في ذهني وأعد له كل عدة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبته في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام 1986؛ أي بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحا مدويا آخر فاق النجاح الأول، فقد نفدت طبعته الأولى، 2000 نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات.
كان العمل الدءوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصص، فتفرغت للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئا آخر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجت خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام 2012 للعمل محاضرا فيها، وعهدت إلي بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزت كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضل أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقة الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مرشحة دوما لاستقبال أعضاء جدد ما زالوا الآن في طي الغيب.
وعلى الرغم من أنني كنت أخاطب العقل العربي، فإني فعلت ذلك بأدوات البحث الغربي ومناهجه، ولم أكن حريصا على إضافة الجديد إلى مساحة البحث في الثقافة العربية، قدر حرصي على الإضافة إلى مساحة البحث على المستوى العالمي، وهذا ما ساعدني على اختراق حلقة البحث الأكاديمي الغربي المغلقة، فدعاني الباحث الأميركي الكبير «توماس تومبسون» المتخصص في تاريخ فلسطين القديم والدراسات التوراتية إلى المشاركة في كتاب من تحريره صدر عام 2003 عن دار
T & T Clark
في بريطانيا تحت عنوان:
Jerusalem in History and Tradition
ونشرت فيه فصلا بعنوان:
Jerusalem During the Age of Judah Kingdom
كنت قد تعرفت على «تومبسون» في ندوة دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عام 2001، شاركت فيها إلى جانب عدد من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطت بيننا صداقة متينة استمرت بعد ذلك من خلال المراسلات، إلى أن جمعتنا مرة ثانية ندوة دولية أخرى انعقدت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، وكانت لنا حوارات طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائل عديدة أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «كيث وايتلام» قد دعا كلينا إلى المشاركة في كتاب من تحريره بعنوان:
The Politics of Israel’s Past
فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستينا اللتين ستنشران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام 2013 عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسة لي عن نشوء الديانة اليهودية بعنوان:
The Faithful Remnent and the Invention of Religious Identity
خصصت آخرها لمناقشة أفكار «تومبسون»، ول «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان:
What We Do And Do Not Know About Pre-Hellenistic Al-Quds
والثانية خصصها للرد علي بعنوان:
The Literary Trope of Return - A Reply to Firas Sawah
أي: العودة من السبي كمجاز أدبي - رد على فراس السواح.
الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يولد ويعيش مدة ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يتحول إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القراء في عمر مؤلفاتي حتى الآن، ولم يختف أحدها من رفوف باعة الكتب، أما تحول بعضها إلى كلاسيكيات فأمر في حكم الغيب.
فإلى قرائي في كل مكان، أهدي هذه الأعمال غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح
بكين، كانون الثاني (يناير) 2016
فاتحة
هنالك سمة تجمع الإنجيل إلى بقية الكتب المقدسة للديانات الكبرى، هي سمة الإشكالية، وهذه الإشكالية تنجم عن عدة عوامل؛ فالكتاب المقدس نص قديم تفصلنا عنه عشرات القرون، وهو نتاج ثقافة منقطعة عنا، وعقلية مغايرة لعقليتنا الحديثة، وطرائق في التعبير لم تكن قد استقلت بعد عن التركة الميثولوجية للعصور القديمة. والكتب المقدسة وصلت إلينا مدونة بلغات قديمة أو حتى بائدة في بعض الأحيان، وهذا يعني أننا نقرأ ترجمات قد لا تكون بدورها نقلا عن نصوص أصلية، ونتعامل مع مفردات لغوية قد لا نكون في كثير من الأحيان متأكدين من مدلولاتها. ويتفرع عن هذه المشكلة اللغوية مشكلة أخرى تتعلق بالأسلوب؛ فمؤلفو هذه النصوص غالبا ما كانوا ينتجونها تحت وطأة حالة من الإلهام النابع من اللاشعور الفردي أو الجمعي، يشعرون معها بالتواصل مع العوالم القدسية، أي أنهم كانوا يبدعون نصا انفعاليا لا نصا عقليا، وبأسلوب الشاعر المليء بالخيالات والصور ، لا بأسلوب الباحث أو الفيلسوف، موجهين خطابهم إلى العاطفة الإنسانية لا إلى التفكير المنطقي؛ فالدين بعد كل شيء حالة انفعالية لا حالة عقلية، والمتدين يستسلم لهذه الحالة الانفعالية أولا، ثم ينتقل إلى عقلنتها بعد ذلك إذا شاء.
إن هالة القداسة التي تحيط بالنص الديني تجعل من المتدين متلقيا سلبيا له، لا ينتبه إلى إشكالياته ولا يحفل بغوامضه. إن ما يطلبه منه هو أن يكون مرشدا أخلاقيا، ودليلا إلى حياة نفسية وعقلية سوية ومتوازنة. وعندما يفلح النص في أداء هذه المهمة (وهذا ما يفعله عادة) تخفت الحاجة إلى عقلنته والتفكر في إشكالياته التي تترك للاختصاصيين الذين ما زالوا في أمرها يختلفون. ولكن العقل الذي يطلب التصديق بعد الإيمان، ينتقل بأصحابه من حالة التلقي السلبي للنص إلى حالة التفاعل الإيجابي معه، ومن غض الطرف عن مشكلاته إلى التفكر فيها، لأن إيمان القلب دون تصديق العقل يبقى إيمانا هشا وناقصا. فالإنسان مزيج متكافئ من قلب ومن عقل، والحياة السوية تتأتى عندما لا يبغي أحدهما على الآخر.
هذا الكتاب موجه إلى طالبي المعرفة البحتة المنزهة عن الغرض، وإلى المؤمنين من أهل العقل لا إلى أهل الحرف والنقل. وإذا كنت قد تعرضت فيه لكل ما وجدته إشكاليا وغامضا في النص الإنجيلي، ومن موقع باحث موضوعي يتعاطف في الوقت نفسه مع حالة الإيمان، إلا أنني لا أدعي القول الفصل فيما قدمت. وعلى حد القول المأثور عن نبي الإسلام: «من اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، ومن اجتهد وأصاب فله أجران.» وليس الخطأ في اعتقادي إلا تدريبا على الصواب.
فراس السواح
آذار/مارس 2012م
خفايا إنجيل مرقس
لم يترك يسوع أثرا مكتوبا بل تعاليم شفوية وسيرة حياة، وكانت الجماعات المسيحية الأولى تتناقل أقواله وأعماله كما وصلت إليها عن طريق تلامذته المباشرين ممن رافقوه عبر مسيرته التبشيرية القصيرة. وعندما مات معظم أفراد الجيل الذي عاصر يسوع حاملين معهم ذكرياتهم وانطباعاتهم المباشرة، بدت الحاجة ماسة إلى تدوين سيرة يسوع وتعاليمه. وهكذا ظهرت على التتابع الأناجيل الأربعة التي عزيت إما إلى شخصيات من العصر الرسولي مثل مرقس ولوقا، أو إلى تلاميذ مباشرين ليسوع مثل متى ويوحنا. وجميع هذه الأناجيل دونت باليونانية القديمة لغة الثقافة في ذلك العصر.
هنالك إجماع اليوم بين الباحثين في كتاب «العهد الجديد» على أن إنجيل مرقس هو أقدم الأناجيل وأنه دون نحو عام 70م، أي بعد وفاة يسوع بنحو أربعين سنة؛ يليه إنجيلا متى ولوقا اللذان دونا بين عام 80 وعام 90م، وأخيرا إنجيل يوحنا الذي دون فيما بين عام 100 و110م.
تدعى الأناجيل الثلاثة الأولى (مرقس ومتى ولوقا) بالأناجيل المتشابهة؛ لأنها تعكس وجهة نظر موحدة تقريبا بخصوص حياة يسوع ورسالته، كما تدعى بالإزائية (
Sinoptics ) لأن القصة تسير فيها عبر مفاصل رئيسية متقابلة، بحيث تستطيع المقارنة بينها عن طريق وضعها إزاء بعضها في أعمدة ثلاثة. أما رواية إنجيل يوحنا فتختلف عن هذه الروايات الثلاث سواء في أحداثها أم في المضمون اللاهوتي لهذه الأحداث.
وقد لاحظ الباحثون أن المادة التي قدمها مرقس تشكل قاسما مشتركا بين متى ولوقا عالجاها على هذه الدرجة أو تلك من التفصيل والإطالة. فقد اتضح من دراسة هذه النصوص الثلاثة أن 59٪ من الكلمات التي استخدمها متى في بناء جمله مأخوذة من لغة مرقس. وكذلك الأمر عند لوقا حيث تبلغ النسبة 55٪ فيما يتعلق بالمادة السردية، ولكنها ترتفع إلى 69٪ فيما يتعلق بأقوال يسوع. وعندما يختلف متى عن لوقا فإن الاثنين يختلفان مع بعضهما البعض، ولم يحدث أنهما اتفقا ضد مرقس. كما ويعتقد الباحثون أن متى ولوقا عندما يختلفان مع مرقس فإنهما يعتمدان في ذلك على مرجع آخر مفترض أشاروا إليه بالحرف
Q ، وهو اختصار للكلمة الألمانية
Quella ، التي تعني المصدر. ويبدو أن هذا المرجع كان عبارة عن مجموعة أقوال حكموية منسوبة ليسوع تشبه مجموعة الأقوال الواردة في إنجيل توما المنحول، الذي اكتشف بين وثائق نجع حمادي بمصر العليا عام 1948م، والذي اقتصر على إيراد 114 قولا ليسوع من غير ربطها بمناسباتها أو التطرق إلى مجريات سيرة يسوع.
وقد عمد بعض الباحثين مؤخرا إلى استخلاص مادة هذا المصدر من الأقوال الواردة عند متى ولوقا والتي لم ترد عند مرقس، واعتبروه بمثابة الإنجيل المفقود، الذي كان بين أيدي أتباع يسوع قبل ظهور الأناجيل السردية التي رسمت سيرة حياة يسوع.
1
هذه الأصالة التي تتمتع بها رواية مرقس خلقت ميلا لدى العديد من الباحثين لاعتمادها كمصدر أكثر مصداقية وقربا إلى واقع الحال عندما تختلف الأناجيل فيما بينها. وسوف أركز فيما يلي على الاختلافات في خاتمة الأناجيل الأربعة بعناصرها الثلاثة، وهي: (1) قيامة يسوع. (2) ظهوراته لتلاميذه. (3) صعوده إلى السماء.
لقد صار من المسلم به اليوم أن الآيات الاثنتي عشرة الأخيرة من إنجيل مرقس الذي بين أيدينا، والتي تقص عن ظهورات يسوع بعد القيامة لتلاميذه وارتفاعه بعد ذلك إلى السماء، هي جزء أضافه الناسخون اللاحقون، لأن أقدم نسخة توفرت لنا من هذا الإنجيل لا تتعرض لهذه الأحداث. وقد تم اكتشاف هذه النسخة في دير سانتا كاثرينا بصحراء سيناء في مجلد واحد مع بقية الأناجيل الأربعة نحو عام 1860م، ولكنها لم تنشر إلا بعد ذلك ببضعة عقود. قبل هذا الاكتشاف كان معروفا لدى الخاصة أن أقدم نسخة يحتفظ بها الفاتيكان لإنجيل مرقس تفتقد في خاتمتها أيضا لأحداث الظهورات والصعود، وكان التفسير الشائع لهذه الظاهرة هو ضياع الورقة الأخيرة من النص والتي كانت تحتوي على بقية خاتمة الإنجيل. ولكن اكتشاف نسخة دير سانتا كاثرينا قد دحض هذا التفسير، لأن خاتمتها تنتهي أيضا دون التعرض لهذه الأحداث، وعلى الورقة الأخيرة نفسها باشر الناسخ بتدوين إنجيل لوقا مبتدئا بعبارة «الإنجيل بحسب لوقا». وهذا يعني أننا أمام نسخة كاملة غير منقوصة لإنجيل مرقس في شكله الأقدم والأقرب إلى الأصل.
2
وإليكم نص الخاتمة كما ورد في نسخة سانتا كاثرينا، وهو يتطابق مع نص الخاتمة التي بين أيدينا ولكن من دون الآيات الاثنتي عشرة الأخيرة: «وبعدما مضى السبت اشترت مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب، وسالومة حنوطا ليأتين ويدهنه. وباكرا جدا في أول الأسبوع أتين إلى القبر إذ طلعت الشمس، وكن يقلن فيما بينهن: من يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟ فتطلعن ورأين أن الحجر قد دحرج لأنه كان عظيما جدا. ولما دخلن القبر رأين شابا جالسا عن اليمين لابسا حلة بيضاء فاندهشن. فقال لهن لا تندهشن، أنتن تطلبن يسوع الناصري المصلوب. قد قام، ليس هو ها هنا. هو ذا الموضع الذي وضعوه فيه. ولكن اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل، هناك ترونه كما قال لكم. فخرجن سريعا وهربن من القبر؛ لأن الرعدة والحيرة أخذتاهن، ولم يقلن شيئا لأحد لأنهن كن خائفات.» (مرقس، 15: 1-8)
إذا قرأنا هذه الخاتمة بعين غير متأثرة بخاتمات الأناجيل الأخرى لخرجنا بالملاحظات التالية: (1)
لم يقل كاتب الإنجيل إن الشاب الذي وجد داخل القبر هو ملاك. وهذا يترك الاحتمال قائما في أن يكون أي شاب يرتدي حلة بيضاء. وربما كان أحد فتيان يوسف الرامي، الرجل الثري الذي كان تابعا سريا ليسوع والذي طالب بجثمانه من الوالي بيلاطس ثم أودعه في قبر فارغ ضمن بستانه القريب من موضع الصلب. ولعل من المفيد أن نذكر هنا أن أعضاء طائفة الأسينيين اليهودية في ذلك الوقت كانوا يرتدون الثياب البيضاء. (2)
كان رد فعل النساء تجاه رؤية الشاب هو الدهشة وليس الخوف، وهذا ما يرجح أنهن لم يرين ملاكا وإنما شابا عاديا. (3)
استخدم الكاتب في تفسير عدم وجود يسوع في القبر تعبير: «لقد قام هو ليس ها هنا»، ولم يتبع ذلك بأي توضيح يتعلق بطبيعة هذه القيامة. (4)
إن فحوى الرسالة التي أراد يسوع من النسوة نقلها لتلاميذه هي أنه سوف «يسبقهم» إلى الجليل وهناك يرونه. وليس في هذا التعبير أي مضمون إعجازي أو إشارة إلى ظهور خارق. (5)
هذه النتائج التي أوصلتنا إليها الدراسة المدققة للخاتمة الأصلية لإنجيل مرقس، أقدم الأناجيل وأقربها إلى الحدث التاريخي، سوف تتدعم بالدراسة الموضوعية لخاتمات الأناجيل الثلاثة الأخرى. فالأخبار عن ظهورات يسوع الخارقة في هذه الأناجيل متباينة، أما صعوده إلى السماء فلا يرد إلا في خاتمة إنجيل لوقا، بينما تخلو خاتمتا متى ويوحنا من أي إشارة إلى هذا الصعود. وحتى في خاتمة لوقا فإن صياغة الكاتب للحادثة تدل على أنه يقر ببند اعتقادي صار مترسخا، أكثر من كونه يصف حادثة موضوعية. ولنبدأ بخاتمة متى وهي الأقصر بين الخاتمات الثلاث. (1) خاتمة متى
عندما قام يوسف الرامي (نسبة إلى مدينة الرامة) بدفن جثمان يسوع مساء يوم الجمعة في قبر جديد كان قد نحته في الصخر ثم دحرج عليه حجرا كبيرا، كانت اثنتان من النسوة اللواتي تبعن يسوع، يدعوهن الكاتب بمريم المجدلية ومريم الأخرى، تراقبان ما يجري. وعندما انصرف يوسف انصرفتا أيضا للاستراحة في يوم السبت. وفي الليل أرسل الوالي بيلاطس حراسا ليضبطوا القبر بناء على التماس من رؤساء الكهنة، لأنهم قالوا لئلا يأتي تلاميذه ويسرقوه ويقولوا للشعب إنه قام من بين الأموات: «وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر. وإذا زلزلة عظيمة حدثت لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه، وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج؛ فمن خوفه ارتعد الحراس وصاروا كأموات. فأجاب ملاك الرب وقال للمرأتين: لا تخافا أنتما، فإني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب، ليس هو ها هنا لأنه قام كما قال. هلما انظرا الموضع الذي كان الرب مضطجعا فيه، واذهبا سريعا وقولا لتلاميذه إنه قد قام من الأموات. ها هو يسبقكم إلى الجليل، هناك ترونه. فخرجتا من القبر بخوف وفرح عظيم راكضتين لتخبرا التلاميذ. وفيما هما منطلقتان لتخبرا التلاميذ إذا يسوع لاقاهما وقال: سلام لكما. فتقدمتا وأمسكتا بقدميه وسجدتا له. فقال لهما يسوع: لا تخافا، اذهبا قولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل وهناك يرونني. وفيما هما ذاهبتان إذا قوم من الحراس جاءوا إلى المدينة وأخبروا رؤساء الكهنة بكل ما كان ... وأما الأحد عشر تلميذا فانطلقوا إلى الجليل إلى الجبل حيث أمرهم يسوع. ولما رأوه سجدوا له ولكن بعضهم شكوا. فتقدم يسوع وكلمهم قائلا: دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (متى، 28: 1-20).
نلاحظ من قراءة هذا النص ما يلي: (1)
عندما وصلت المرأتان إلى القبر لم يكن الحجر قد دحرج عن مدخل القبر كما هو الحال في رواية مرقس. (2)
تحول الشاب الذي يرتدي الأبيض ويجلس داخل القبر عند مرقس، إلى ملاك يهبط من السماء بزلزلة عظيمة فيدحرج الحجر ويجلس عليه دون أن يدخل إلى القبر. (3)
يستخدم الكاتب كلمات مرقس نفسها في الخطاب الذي وجهه الملاك للمرأتين بخصوص ذهاب التلاميذ لرؤية يسوع في الجليل. (4)
تختلف رواية متى عن رواية مرقس في عدد وهوية النسوة اللواتي أتين إلى القبر وشهدن الحادثة. فمرقس يتحدث عن ثلاث نسوة، هن: مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب وسالومة، أما متى فيتحدث عن امرأتين فقط، الأولى مريم المجدلية، والثانية يدعوها بمريم الأخرى دون مزيد من الإيضاح بخصوص هويتها. (5)
يتحدث متى عن ظهورين فقط ليسوع؛ الظهور الأول كان للمرأتين وهما في طريقهما لإبلاغ التلاميذ، والثاني للتلاميذ الأحد عشر في الجليل. (6)
بعد رؤية يسوع في الجليل شك بعض التلاميذ في أنهم يرون المعلم نفسه. وهذا يدل على أن التلاميذ لم يكونوا يتوقعون بعث يسوع ولا هم سمعوا منه أي نبوءة بهذا الخصوص. (7)
والأهم من هذا كله أن متى لم يشر صراحة أو تلميحا إلى صعود يسوع إلى السماء، وأنهى إنجيله بقول يسوع: «وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر.» (2) خاتمة يوحنا
فإذا انتقلنا إلى إنجيل يوحنا نجد أن كاتب الإنجيل ينهي خاتمته الطويلة بتوجه يسوع إلى مكان مجهول دون أي إشارة إلى صعوده إلى السماء. وهذا ملخصها:
في أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكرا والظلام لم يتبدد بعد، فرأت الحجر وقد أزيل عن القبر فهرعت إلى سمعان بطرس وتلميذ آخر مغفل الاسم كان يسوع يحبه، وقالت لهما: أخذوا السيد من القبر ولسنا نعرف أين وضعوه. فخرج الاثنان مسرعين إلى القبر، فدخل بطرس أولا ورأى الأكفان موضوعة والمنديل الذي كان على رأسه في موضع على حدة. ثم دخل الآخر ورأى وآمن، لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من بين الأموات. بعد ذلك عادا إلى موضعهما، أما مريم فمكثت عند القبر خارجا. وفيما هي تبكي انحنت فرأت داخل القبر ملاكين في ثياب بيض جالسين حيث كان جثمان يسوع. فقالا لها: ما يبكيك أيتها المرأة؟ فقالت: أخذوا سيدي ولا أدري أين وضعوه. ثم التفتت وراءها فرأت يسوع واقفا ولكنها لم تعرفه وحسبته البستاني، فقالت له: يا سيد إذا كنت أنت قد أخذته فقل لي أين وضعته لآخذه. فناداها يسوع: مريم! فعرفته، وقالت له: يا معلم. فقال لها: اذهبي إلى الإخوة وقولي لهم إني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم. فرجعت وأخبرت التلاميذ أنها رأت يسوع وأنه أخبرها هذا الكلام. وفي المساء إذ كان التلاميذ في غرفة غلقت أبوابها خوفا من اليهود، ظهر يسوع في وسطهم وقال لهم: سلام لكم. ثم أراهم مواضع مسامير الصليب في يديه وموضع طعنة الحربة في جنبه. ثم قال لهم: سلام لكم. كما أرسلني الآب أرسلكم. وبعد ثمانية أيام اجتمع التلاميذ في البيت والأبواب موصدة. وكان معهم توما الذي كان غائبا في المرة السابقة وأظهر شكه قائلا إنه لا يصدق توما الذي كان غائبا في المرة السابقة وأظهر شكه قائلا إنه لا يصدق حتى يضع إصبعه في أثر المسامير على يديه وأثر الحربة في جنبه. فقام يسوع في وسطهم وقال: سلام لكم. ثم قال لتوما: هات إصبعك إلى هنا فانظر يدي وهات يدك فضعها في جنبي ولا تكن منكرا، بل مؤمنا. بعد ذلك تراءى يسوع لستة من تلاميذه في الجليل وهم راجعون من الصيد في بحيرة طبريا، فجلس معهم إلى مائدة الطعام وأخذ الخبز والسمك وناولهم وأكل معهم. ثم قام ومشى قائلا لبطرس: اتبعني، فالتفت بطرس ورأى التلميذ الذي كان يسوع يحبه يسير خلفهما، فقال ليسوع: وهذا ما مصيره؟ فأجابه يسوع: لو شئت أن يبقى إلى أن أعود فماذا يعنيك؟ أما أنت فاتبعني. فذاع هذا القول عند الإخوة: إن ذلك التلميذ لا يموت. ولكن لم يقل يسوع إنه لا يموت بل لو شئت أن يبقى حتى أعود فماذا يعنيك (يوحنا: 20).
تقودنا قراءة هذه الخاتمة إلى الملاحظات التالية: (1)
مريم المجدلية وحدها جاءت إلى القبر وكانت الشاهد الأول على قيامة يسوع. أما في رواية مرقس فثلاث نساء، وفي رواية متى اثنتان. (2)
يتحول الملاك الواحد عند متى إلى ملاكين عند يوحنا. وهنا تقتصر مهمتهما على سؤال المجدلية عن الغاية من دخولها. أما الحجر فكان مدحرجا كما كان عند مرقس. (3)
يظهر يسوع أربع مرات بعد قيامته، مرة للمجدلية ومرتين للتلاميذ في أورشليم، ومرة رابعة للتلاميذ أيضا في أورشليم. وذلك في مقابل ظهورين فقط عند متى واحد في أورشليم وآخر في الجليل. (4)
لم تتعرف المجدلية على يسوع في ظهوره الأول إلا بعد أن كلمها، واعتقدت أنه بستاني يوسف الرامي، بينما تعرفت عليه هي والمرأة الأخرى لفورهما عند متى وسجدتا له. (5)
يضيف يوحنا في روايته عنصر إظهار يسوع لآثار جراحه وقيام التلميذ توما بتحسس هذه الجراح. (6)
لا يصعد يسوع إلى السماء في نهاية خاتمة يوحنا، ولكنه يذهب برفقة بطرس إلى مكان لا يحدده كاتب النص. وبما أنه أراد للتلميذ الذي كان يحبه ألا يرافقه بل أن ينتظر عودته، فإن هذه العودة تبدو قريبة وليست في نهاية الزمان. (3) خاتمة لوقا
وحده إنجيل لوقا ينص صراحة على صعود يسوع إلى السماء. وإليكم ملخصا لخاتمته التي تفوق بطولها وتفاصيلها خاتمة يوحنا:
وكان النسوة اللواتي جئن مع يسوع من الجليل، وبينهن مريم المجدلية وحنة (أو يونا) ومريم أم يعقوب، يتبعن يوسف إلى موضع القبر، ونظرن كيف وضع جسده. فرجعن وأعددن حنوطا وأطيابا، وفي السبت استرحن حسب الوصية. ثم في أول الأسبوع أول الفجر أتين إلى القبر حاملات الحنوط الذي أعددنه ومعهن أناس. فوجدن الحجر مدحرجا عن القبر، فدخلن ولكنهن لم يجدن جسد يسوع. وتراءى لهن رجلان عليهما ثياب براقة فخفن، ولكن الرجلين قالا لهن: لماذا تبحثن عن الحي بين الأموات؟ إنه ليس ها هنا بل قام. فرجعت النساء الثلاث مع البقية وأخبرن الأحد عشر والآخرين بما رأين، فبدا للتلاميذ قولهن ضربا من الهذيان. غير أن بطرس أسرع إلى القبر فلم ير هناك سوى اللفائف التي كانت على جسد يسوع. واتفق أن اثنين من التلاميذ (أحدهما اسمه كليوباس) كانا ذاهبين في ذلك اليوم إلى قرية بجوار أورشليم وهما يتحاوران بشأن ما جرى في الصباح. فدنا منهما يسوع وراح يمشي معهما وهما لم يعرفاه، وسألهما عن موضوع مطارحتهما، فأخبراه بقصة يسوع وصلبه ودفنه وذهاب النسوة إلى القبر وما حدث لهن هناك، وحيرتهما إزاء ذلك كله. فقال لهما: أيها الغبيان والبطيئا القلوب في جميع ما تكلم به الأنبياء، أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل في مجده؟ وعندما وصلوا إلى القرية تمسكا به ليدخل معهما. وعندما جلس معهما إلى المائدة أخذ الخبز وباركه ثم كسره وناولهما، وفي الحال انفتحت أعينهما وعرفاه ولكنه توارى عنهما. فعادا إلى أورشليم فوجدا الأحد عشر وأصحابهم مجتمعين، وكانوا يقولون لقد قام يسوع وتراءى لسمعان بطرس، فرويا لهم ما حدث لهما في الطريق. وفيما هم يتكلمون ظهر يسوع في الوسط منهم، وقال: سلام لكم. فدهشوا وخافوا وظنوا أنهم رأوا روحا، فقال لهم: ما بالكم مضطربين؟ انظروا يدي ورجلي، إني أنا هو. جسوني وانظروا فإن الروح ليس له عظم ولحم كما ترون لي. وبعد ذلك أكل على مرأى منهم. ثم خرج إلى قرية بيت عنيا وهم يتبعونه، وهناك رفع يديه وباركهم. وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء (لوقا: 24).
من قراءتنا لهذا النص نخرج بالملاحظات التالية: (1)
إن عدد النسوة اللواتي عرفن موضع القبر ثم جئن في صباح الأحد ومعهن الحنوط غير محدد، ويذكر الكاتب أسماء ثلاث منهن فقط، هن: مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وحنة. بينما ورد في إنجيل متى أنهن اثنتان: مريم المجدلية ومريم الأخرى. وفي إنجيل يوحنا تأتي مريم المجدلية وحدها إلى القبر. (2)
لم يتراءى يسوع للمرة الأولى أمام النسوة (المجدلية وحدها عند يوحنا، والمجدلية ومريم الأخرى عند متى)، وإنما أمام تلميذين يقصدان قرية خارج أورشليم، أحدهما يدعى كليوباس والآخر مجهول. وبعد ذلك ظهر لبطرس ثم للتلاميذ مجتمعين. وهذه الظهورات الثلاثة تحصل جميعها في أورشليم ومحيطها، وذلك في مقابل ثلاثة ظهورات في أورشليم ورابع في الجليل عند يوحنا، وظهور في أورشليم وثان في الجليل عند متى. (3)
لم يتعرف التلميذان على يسوع في ظهوره الأول لهما إلا بعد وصولهما معه إلى القرية عندما تناول الخبز وكسره، مثلما لم تتعرف عليه المجدلية عند يوحنا في ظهوره الأول لها وظنت أنه البستاني. وهذه ظاهرة غريبة لم يفسرها لنا النص. (4)
عندما أخبرت النسوة التلاميذ بشأن قبر يسوع الفارغ، بدا لهم هذا القول ضربا من الهذيان. وهذا يدل أيضا على أن التلاميذ لم يسمعوا سابقا بنبوءة يسوع عن موته وقيامته في اليوم الثالث. (5)
بعد سماع الخبر يهرع بطرس وحده لرؤية القبر، أما عند يوحنا فإن بطرس والتلميذ الآخر المغفل الاسم يهرعان معا إلى الموضع. بينما أغفل متى محاولة التأكد هذه وجعل التلاميذ يتوجهون مباشرة إلى الجليل لرؤية يسوع هناك. (6)
يلفت نظرنا بشكل خاص الطريقة التي صاغ بها لوقا حادثة صعود يسوع إلى السماء عندما قال: «وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء.» وهذا يعني أن صعود يسوع جرى في خفية عن تلاميذه وليس على مرأى منهم. وأن كاتب الإنجيل إنما يقرر هنا عقيدة لاهوتية أكثر من وصفه لحادثة مشهودة.
لقد استبعدنا حتى الآن من هذه المقارنة الآيات الاثنتي عشرة الأخيرة من إنجيل مرقس، والتي تتحدث عن ظهورات يسوع وصعوده إلى السماء، لأنها غير موجودة في نص مرقس الأصلي. ومع ذلك فلا بأس من وقفة قصيرة عند هذه الخاتمة، وإليكم نصها: «وبعدما قام باكرا في أول أسبوع ظهر أولا لمريم المجدلية التي كان قد أخرج منها سبعة شياطين، فذهبت هذه وأخبرت الذين كانوا معه وهم ينوحون ويبكون. فلما سمع أولئك أنه حي وقد نظرته لم يصدقوا. وبعد ذلك ظهر بهيئة أخرى لاثنين منهم وهما يمشيان منطلقين إلى البرية. وذهب هذان وأخبرا الباقين فلم يصدقوا ولا هذين. أخيرا ظهر للأحد عشر وهم متكئون ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم، لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام، وقال لهم: اذهبوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. من آمن واعتمد خلص ومن لم يؤمن يدن. وهذه الآيات تتبع المؤمنين: يخرجون الشياطين باسمي ويتكلمون بألسنة جديدة، يحملون حيات، وإن شربوا شيئا مميتا لا يضرهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيبرءون. ثم إن الرب بعدما كلمهم ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله.» (مرقس، 16: 9-19)
تفتقر هذه الخاتمة إلى الأصالة والحيوية التي ميزت الخاتمات الثلاث. فالظهور الأول ليسوع كان للمجدلية وحدها على ما هو الحال عند يوحنا. وقد وصفها صاحب هذه الخاتمة بأنها التي أخرج منها يسوع سبعة شياطين، مقتفيا بذلك أثر لوقا 8: 1-3. أما الظهور الثاني ليسوع لاثنين من التلاميذ وهما يمشيان في البرية، فمأخوذ من إنجيل لوقا 24: 13-35. وكذلك الأمر في الظهور الثالث للأحد عشر وهم مجتمعون في أورشليم (لوقا، 24: 36-37. قارن أيضا مع يوحنا، 20: 26). كما نلاحظ أن خطاب يسوع للأحد عشر مأخوذ من متى 28: 18-20. وتكلمهم بألسنة جديدة مأخوذ من سفر أعمال الرسل 2: 1-4، وصعود يسوع إلى السماء مأخوذ من لوقا 24: 51. أما عن القول بأنه جلس عن يمين الله، فإن الكاتب هنا لا يصف الحادثة كما وقعت وإنما يقرر فكرة لاهوتية صارت راسخة فيما بعد. لأنه إذا كان أحد قد شاهد يسوع يصعد إلى السماء، فكيف رآه جالسا عن يمين الله؟
ليس هذا كل شيء عن خفايا إنجيل مرقس. فقد صرنا نعرف الآن عن وجود نص لهذا الإنجيل أقدم من نص دير سانتا كاترينا، يدعوه الباحثون اليوم بإنجيل مرقس السري. وهذا ما سوف نتعرض له في الحلقة الثانية من هذه الدراسة.
إنجيل مرقس السري
ولغز التلميذ الحبيب
في دراستنا السابقة عن خفايا إنجيل مرقس، تحدثنا عن تفرد إنجيل يوحنا عن الأناجيل الثلاثة المتشابهة مرقس ومتى ولوقا، سواء من حيث رسالته اللاهوتية أم من حيث روايته لأحداث مهمة بالنسبة لتشكيل العقيدة المسيحية. ولعل أهم هذه الأحداث التي انفرد بها يوحنا القصة المعروفة عن إحيائه لفتى كان يحبه اسمه لعازر بعد مضي أربعة أيام على موته. ولعازر هذا كان من أسرة غنية تمتلك بيتا واسعا في قرية بيت عنيا الواقعة على جبل الزيتون على مسافة ثلاثة كيلومترات إلى الشرق من أورشليم، وكان يعيش مع أختين شابتين له، الأولى تدعى مرثا والثانية مريم. وقد اعتاد يسوع زيارتهم بصحبة تلاميذه الاثني عشر والإقامة عندهم، على ما نفهم من القصة التالية التي أوردها فيما يلي ملخصة عن إنجيل يوحنا:
خلال زيارته ما قبل الأخيرة لأورشليم أحس يسوع بالخطر الذي يتهدده من قبل اليهود الساعين لقتله، فترك المدينة ونزل إلى عبر الأردن حيث أقام مع تلاميذه في الموضع الذي كان يوحنا المعمدان يعمد فيه. فأرسلت إليه الأختان تقولان: يا سيد، إن الذي نحبه مريض. فمكث يسوع في مكانه يومين، ثم قال لتلاميذه: إن لعازر قد مات وإن عليهم التوجه إلى بيت عنيا. فلما وصل يسوع علم أن لعازر قد دفن منذ أربعة أيام، وكان كثيرون من اليهود قد جاءوا إلى مريم ومرثا ليعزوهما عن أخيهما. فلما سمعت مرثا أن يسوع آت خرجت لملاقاته بينما مكثت مريم في البيت مع المعزين، وعندما لاقته خارج القرية قالت له: يا سيد، لو كنت ها هنا لم يمت أخي. لكنني أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك إياه. فقال لها يسوع: سيقوم أخوك. ثم إن مرثا مضت ودعت مريم سرا قائلة لها: إن المعلم قد حضر وهو يدعوك. فقامت، وتبعها من كان في البيت من المعزين معتقدين أنها ذاهبة إلى القبر لتبكي هناك. فلما رأت يسوع خرت عند رجليه قائلة: يا سيد، لو كنت هنا لم يمت أخي. فلما رآها تبكي والذين جاءوا معها يبكون أيضا اضطربت روحه، وقال: أين وضعتموه؟ قالوا: يا سيد تعال وانظر. فبكى يسوع. فقال اليهود: انظروا كم كان يحبه. فاضطربت روحه ثانية وتقدم من القبر، وقال لهم أن يرفعوا الحجر الذي يسد مدخله. فقالت له مرثا: يا سيد، قد أنتن لأن له أربعة أيام. فأجابها يسوع: إن آمنت ترين مجد الله. فرفعوا الحجر ونظر يسوع إلى السماء، وقال: أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي. وأنا علمت أنك تسمع لي في كل حين، ولكن قلت هذا من أجل الجمع الواقف ليؤمنوا أنك قد أرسلتني. قال هذا وصرخ بصوت عظيم: لعازر هلم خارجا. فخرج الميت وهو مربوط بأقمطة ووجهه ملفوف بمنديل. فقال لهم حلوه ودعوه يذهب (يوحنا: 11).
بعد ذلك اعتزل يسوع وتلاميذه في البرية لأن سعي الكهنة والفريسيين لقتله قد اشتد، وتآمروا لقتله بعد أن آمن به عدد كبير من الناس بسبب معجزة قيامة لعازر. وقبل الفصح بستة أيام عاد إلى بيت عنيا فصنعوا له عشاء، وكان لعازر أحد المتكئين معه إلى المائدة، وكانت مرثا تخدم. عند ذلك أخذت مريم زجاجة فيها منا (= 300غ) من عطر ناردين خالص غالي الثمن، ودهنت قدمي يسوع ثم مسحته بشعرها فامتلأ البيت برائحة الطيب (يوحنا، 12: 1-3) بعد ذلك يختفي لعازر من إنجيل يوحنا ولا يظهر خلال الأحداث العاصفة الأخيرة في حياة يسوع، ولا نجده حاضرا واقعة الصلب. وهذا أمر ملفت للنظر إذا أخذنا بعين الاعتبار تلك المحبة العميقة التي جمعت بينهما.
على أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة على القارئ الحصيف للعهد الجديد هو التالي: إذا كانت معجزة إحياء لعازر تمثل قمة معجزات يسوع، وتعتبر بمثابة البرهان الساطع على أنه مرسل من قبل الآب، فلماذا انفرد إنجيل يوحنا بروايتها وسكتت عنها بقية الأناجيل؟
بقي هذا السؤال بلا جواب مقنع حتى عام 1958م، عندما اكتشف الباحث مورتون سميث في بقايا أرشيف دير مار سابا الواقع على مسافة 20 كم إلى الجنوب الشرقي من مدينة القدس، نسخة عن رسالة مكتوبة باللغة اليونانية وجهها اللاهوتي المعروف كليمنت الإسكندراني، الذي نشط في أواخر القرن الثاني الميلادي، إلى قس فلسطيني يدعى تيودور، يجيبه فيها على عدد من الأسئلة بخصوص وجود إنجيل سري لمرقس يسرد أحداثا لم يرد ذكرها في الإنجيل المتداول، تستخدمه طائفة غنوصية معروفة باسم الكاربوكريتيين نسبة إلى معلمهم كاربوكريتوس، الذي نشط في الإسكندرية خلال مطلع القرن الأول الميلادي، وقال: إن الروح لن تنعتق من دورة التناسخ في الأجساد إذا لم تسدد دينها لهذا العالم عن طريق التمتع بكل ملذات الحياة، لا سيما الجنسية منها. وقد عثر مورتون سميث على هذه الرسالة مطوية وملصقة. ضمن غلاف مقوى لكتاب مطبوع في القرن السابع عشر وضعه أحد آباء الكنيسة غير المشهورين. وكان رهبان الدير في تلك الأيام يصنعون أغلفة الكتب الجديدة عن طريق لصق عدد من الأوراق السائبة المتبقية من مخطوطات قديمة، نظرا لندرة الورق لديهم. وقد عرض سميث الرسالة على عدد من الاختصاصيين الذين أكدوا أصالتها وتطابق لغة وأسلوب النص مع لغة وأسلوب كليمنت المميز.
1
بعد نشر سميث لنص رسالة كليمنت، جاءنا الجواب على السؤال المطروح. فالرسالة تشير إلى وجود إنجيل سري لمرقس كان متداولا في القرن الثاني الميلادي. وفي هذا الإنجيل السري ترد قصة إحياء يسوع لفتى ميت في قرية بيت عنيا، وهي تشترك في معظم عناصرها مع قصة إحياء يسوع للفتى لعازر، ولكنها تنتهي بخلوة طقسية بين يسوع والفتى الذي أقامه من بين الأموات لم ترد في إنجيل يوحنا. فلقد أحب الفتى يسوع بعد صحوته وتوسل إليه أن يبقى معه. ثم جاءه مساء وهو يرتدي مئزرا من الكتان على جسده العاري، وقضى الاثنان الليلة في ممارسة طقس تنسيبي معين من شأنه أن يجعله «عارفا بأسرار ملكوت الله» على حد تعبير النص. والترجيح أن هذا الطقس كان يتضمن التعميد بالماء، على ما يبدو من ذلك الاستعداد المسبق للفتى. وكما سنلاحظ من ترجمتي التي سأقدمها أدناه لرسالة كليمنت، فإن يوحنا، إلى جانب تغاضيه عن الخلوة الطقسية بين الطرفين، قد أدخل عددا من التعديلات على قصة مرقس الأقدم عهدا قبل أن يتبناها.
ولكن لماذا تبنى إنجيل يوحنا القصة وهو الأبعد في رسالته ومضمونه عن إنجيل مرقس، بينما رفضها متى ولوقا اللذان اعتبرا مرقس مصدرا رئيسيا لهما على ما أثبتنا في الحلقة الماضية؟ إن المسألة كما أراها هي أن دافع متى ولوقا إلى رفض قصة إحياء يسوع للفتى، هو الدافع نفسه الذي حدا بيوحنا إلى قبولها بعد تعديلها، أي خوفهما من سوء فهم المبتدئين في الدين للخلوة الطقسية بين يسوع والفتى. وقد أشار كليمنت في رسالته إلى هؤلاء المبتدئين عندما قال إن مرقس قد أعد إنجيلين ؛ الأول ظاهري بثه في الناس يحتوي على سيرة يسوع وأعماله وأقواله، وهو موجه إلى المبتدئين في الدين، والثاني روحاني باطني موجه إلى من تعمقوا في خفايا الدين وغاصوا في أسراره. يضاف إلى ذلك أنه تلقى عن يسوع تقاليد سرانية لم يدونها، من شأنها أن تأخذ بيد المريدين إلى قدس أقداس الحقيقة. ولهذا، يقول كليمنت لسائله، بأننا لا يمكن أن نقول الأشياء الحقيقية لكل الناس، وعلينا في مواجهة الكاربوكريتيين
2
الهراطقة الذين يعتمدون على إنجيل مرقس السري من أجل تبرير ممارساتهم الخليعة، أن ننكر تحت القسم أن مرقس هو كاتب هذا الإنجيل.
وإليكم النص الكامل للرسالة وهو من ترجمتي عن مورتون سميث: «لقد فعلت حسنا بردك على تعاليم الكاربوكريتيين النجسة. فهؤلاء هم الكواكب التائهة ممن أشارت إليهم نبوءات الكتاب المقدس، الذين يصدون عن الطريق الضيق للوصايا، ويولون وجوههم نحو الغور السحيق للخطايا الجسدية الشهوانية. إنهم بافتخارهم بامتلاك المعرفة، التي ليست إلا معرفة بسبل الشيطان، إنما يلقون بأنفسهم إلى التهلكة في عالم الظلمة السفلي. وهم في ادعائهم الوصول إلى الحرية إنما يقعون عبيدا لرغباتهم وشهواتهم. مثل هؤلاء الناس ينبغي مقاومتهم بكل الوسائل الممكنة. وحتى حين يقولون شيئا صحيحا فإن على من يحب الحقيقة ألا يوافقهم، لأنه ليس كل الأشياء الحقيقية هي حقيقة، ولا ينبغي على الحقيقة وفق ما تراها الآراء الإنسانية أن تكون مفضلة على الحقيقة بحسب الإيمان.
وفيما يتعلق بالأشياء التي يروونها بخصوص إنجيل مرقس الذي دون بإلهام إلهي، فإن بعضها مزور جملة وتفصيلا، وبعضها الآخر يحتوي على جزء من الحقيقة ولكنه منقول بشكل محرف؛ لأن الأشياء الحقيقية عندما تمتزج بالاختلاقات فإنها تتحرف. وعلى ما يقول المثل، فإنه حتى الملح يفقد طعمه.
خلال مرافقة مرقس لبطرس الرسول عندما كان مقيما في روما، قام بكتابة نص عن أعمال يسوع ولكنه لم يذكرها جميعا، مثلما لم يشر أيضا إلى تعاليمه السرية، وإنما اختار منها ما رآه مناسبا لتدعيم إيمان من هم في طور التعلم. وعندما استشهد بطرس جاء مرقس إلى الإسكندرية جالبا معه نوطاته الخاصة وتلك التي لبطرس، ومنها نقل إلى كتابه السابق ما وجده مناسبا للتمعن في المعرفة، ووضع إنجيلا روحانيا من أجل الساعين إلى كمالهم في الدين، ولكنه مع ذلك لم يكشف عن الأشياء التي لا يجب النطق بها، ولم يدون التعاليم التأويلية للسيد، وإنما أضاف قصصا جديدة إلى تلك التي أوردها سابقا. وذكر أقوالا يعرف مدلولاتها باعتباره متضلعا في أسرار الدين، والتي من شأنها أن تأخذ بيد مستمعها إلى قدس أقداس الحقيقة المخفية وراء حجب سبعة. وعندما حضرته المنية أودع مؤلفه هذا لدى كنيسة الإسكندرية حيث بقي في حرز حريز لا يطلع عليه إلا أولئك الذين جرى تقديمهم إلى الأسرار الكبرى.
ولكن بما أن الشياطين الحمقى يبتكرون دوما وسائل من أجل تدمير الجنس البشري؛ فقد زينوا للكاربوكريتيين أن يستميلوا أحد قسس كنيسة الإسكندرية من أجل العمل معهم، فحصل لهم على نسخة من الإنجيل السري وفسره لهم وفق آرائه التجديفية والشهوانية، كما وأنه مزج الكلمات الطاهرة فيه بأكاذيب نجسة. ومن هذا المزيج استمد الكاربوكريتيون تعاليمهم.
من هنا، وكما ألمحت سابقا، على المرء أن يصمد أمامهم عندما يعرضون تحريفاتهم، وينكر أن إنجيل مرقس السري هو من تأليف مرقس ولو كان ذلك تحت القسم. ذلك أن الأشياء الحقيقية يجب ألا تقال لكل الناس. ولهذا قالت حكمة الرب من خلال سليمان: «أجب الأحمق من خلال حماقته»، أي إن نور الحقيقة يجب ألا يعرض للعميان. وقالت أيضا: «يؤخذ من الذي ليس عنده.» و«دع الأحمق يعمه في الظلام». ولكننا نحن أبناء النور، استنرنا من الأعالي بفجر روح الرب، وحيثما روح الرب هنالك الحرية، وكل الأشياء طاهرة بالنسبة للطاهر.
ولذلك فإنني لن أتردد في إجابتك على أسئلتك التي توجهت بها إلي، داحضا بذلك الافتراءات من خلال كلمات إنجيل مرقس السري نفسها. فبعد قوله (في الإنجيل الذي بين يديك، الإصحاح 10 الآية 32): «وكانوا في الطريق صعودا إلى أورشليم» إلى نهاية قوله: «وفي اليوم الثالث يقوم» (الآية 34)، فإن الإنجيل السري يضيف المادة التالية التي أوردها لك كلمة فكلمة: «ثم جاءوا إلى بيت عنيا، فحضرت إليه امرأة هناك مات أخوها وسجدت أمامه قائلة: يا ابن داود ارحمني. فانتهرها التلاميذ، ولكن يسوع غضب ومضى معها إلى البستان حيث القبر الذي دفن فيه. ولدى اقترابه ندت من داخل القبر صيحة عظيمة. فدنا يسوع ودحرج الحجر عن مدخل القبر ودخل لفوره إلى حيث كان الفتى فمد ذراعه إليه وأقامه ممسكا بيده. ولما رآه الفتى أحبه وتوسل إليه البقاء معه. وبعد خروجهما من القبر توجهوا إلى بيت الفتى لأنه كان غنيا. وبعد ستة أيام لقنه يسوع ما يتوجب عليه فعله. وفي المساء جاء إليه الفتى وهو يرتدي مئزرا من الكتان على جسده العاري وبقي معه في تلك الليلة، لأن يسوع كان يعلمه أسرار ملكوت الله. وعندما قام عاد إلى الجهة الأخرى من الأردن.»
بعد هذا المقطع، يتابع النص (المعروف لديكم، الآية 35): وتقدم إليه يعقوب ويوحنا ابنا زبدي ... وذلك إلى آخر المقطع (في الآية 45). ولكن جملة: «رجل عار إلى رجل عار» وكل الأشياء التي كتبت إلي بخصوصها، غير موجودة. وبعد قوله (في الآية 46): وجاءوا إلى أريحا، يضيف إنجيل مرقس السري هذه الكلمات فقط: وكانت أخت الفتى الذي أحبه يسوع، وأمه، وسالومة، موجودين هناك ولكن يسوع لم يجتمع بهم. أما بقية الأشياء التي كتبت لي بشأنها فهي من قبيل التزوير. هذا هو الشرح الحقيقي الذي ينسجم مع الفلسفة الحقة.»
3
من مقارنة نص قصة إحياء يسوع للفتى في إنجيل مرقس السري وإنجيل يوحنا، نجد عددا من نقاط الاختلاف بين القصتين. فالإنجيل السري لا يذكر لنا اسم الفتى بينما يسميه إنجيل يوحنا لعازر. والإنجيل السري يتحدث عن أخت واحدة دون أن يسميها، بينما يتحدث إنجيل يوحنا عن أختين إحداهما مرثا والأخرى مريم. تدعو الأخت يسوع في الإنجيل السري ب «يا ابن داود»، وهذا اللقب ينسجم مع لاهوت إنجيل مرقس وبقية الأناجيل الإزائية، بينما تدعوه الأختان في إنجيل يوحنا ب «يا سيد». في الإنجيل السري يتقدم يسوع ويدحرج الحجر بنفسه عن مدخل القبر، أما في إنجيل يوحنا فيطلب ممن حوله دحرجة الحجر. في الإنجيل السري يكون لاقتراب يسوع من القبر فعل المعجزة لأن الفتى يصحو وتصدر عنه صيحة عالية، ثم يدخل يسوع ويمد يده للفتى وينهضه؛ أما في إنجيل يوحنا فإن يسوع يقف خارجا ويهتف بصوت عال: لعازر هلم. فيخرج الفتى وهو مربوط بالأقمطة. ولكن على الرغم من هذه الاختلافات فإننا أمام قصة واحدة رويت من خلال تنويعين. ففي كلا الروايتين نجد أن مسرح الحدث هو قرية بيت عنيا التي وصل إليها يسوع قادما من نهر الأردن، وهنالك امرأة مات أخوها جاءت ورجت يسوع أن يحييه، ثم ينتهي الحدث بانبعاث الفتى من القبر.
ومن الملفت للنظر أن إنجيل مرقس المتداول على الرغم من حذفه لقصة إحياء يسوع للفتى وما تلا ذلك من طقس ليلي، فإنه يشير في مكان آخر إلى وجود شاب مع يسوع يرتدي مئزرا على عريه وذلك في مشهد القبض على يسوع في بستان جتسماني الذي لا يبعد كثيرا عن قرية بيت عنيا في جبل الزيتون؛ حيث نقرأ هذه الجملة الخارجة عن سياق الحدث: «وتبعه شاب لابسا إزارا على عريه فأمسكه الشبان (الذين جاءوا للقبض على يسوع)، فترك الإزار وهرب عاريا» (مرقس، 14: 51). وبدون أي تفصيل آخر يتابع كاتب الإنجيل: «ومضوا بيسوع إلى دار رئيس الكهنة ... إلخ.»
والسؤال المهم الذي يطرح نفسه الآن هو: هل غاب لعازر فعلا عن بقية أحداث الإنجيل كما توهم الباحثون في كتاب العهد الجديد؟
إذا عدنا القهقرى إلى حادثة إحياء يسوع للشاب في إنجيل مرقس السري وفي إنجيل يوحنا، نجد أن القصتين تؤسسان معا للقب «التلميذ الذي أحبه يسوع» في الإشارة إلى لعازر. ففي رواية يوحنا نجد أن الأختين ترسلان إلى يسوع قائلتين: «يا سيد هو ذا الذي تحبه مريض»، وذلك في إشارة إلى لعازر دون ذكر اسمه. وفي الشذرة الثانية من إنجيل مرقس السري يقول المؤلف: «وجاءوا إلى أريحا. وكانت أخت الفتى الذي أحبه يسوع وأمه وسالومة موجودين هناك.» بعد ذلك يتابع هذا الفتى ظهوره تحت هذا اللقب. ففي مشهد العشاء الأخير قال يسوع لتلاميذه: «الحق أقول لكم إن واحدا منكم سيسلمني ... وكان متكئا في حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه. فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه. فاتكأ ذاك على صدر يسوع وقال له: يا سيد من هو؟» (يوحنا، 15: 21-25).
وبعد القبض على يسوع تفرق التلاميذ، ولكن سمعان بطرس والتلميذ الآخر الذي يحبه يسوع تبعاه عن بعد: «وكان سمعان بطرس والتلميذ الآخر يتبعان يسوع. وكان ذلك التلميذ معروفا عند رئيس الكهنة، فدخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة، وأما بطرس فكان واقفا خارجا عند الباب. فخرج التلميذ الآخر الذي كان معروفا عند رئيس الكهنة وكلم البوابة فأدخل بطرس» (يوحنا، 18: 15-16).
وعندما رفع يسوع على الصليب كان التلميذ المحبوب وحده واقفا مع النساء تحت الصليب بينما كان بقية التلاميذ مختبئين: «وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه مريم، وأخت أمه مريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية. فرأى يسوع أمه وإلى جانبها التلميذ الحبيب إليه. فقال لأمه: أيتها المرأة هذا ابنك. ثم قال للتلميذ: هذه أمك. فأخذها إلى بيته من تلك الساعة» (يوحنا، 19: 25-27. عن الترجمة الكاثوليكية). وعندما جاءت مريم المجدلية في أول الأسبوع إلى القبر باكرا ونظرت الحجر مرفوعا عن القبر، ركضت «وجاءت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه وقالت لهما: أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه» (يوحنا، 20: 1-2). وعندما ترك يسوع تلاميذه بعد آخر ظهور له عقب قيامته وقال لبطرس أن يتبعه، التفت بطرس: «فرأى التلميذ الذي كان يحبه يسوع يسير خلفهما، ذاك الذي مال على صدر يسوع في أثناء العشاء ... إلخ.» وفي نهاية هذا المقطع يختتم نص إنجيل يوحنا بإشارة صريحة إلى أن كاتب الإنجيل هو التلميذ المحبوب نفسه: «هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا، وكتب هذا. ونعلم أن شهادته حق» (يوحنا: 21).
عندما جرى إقرار الأناجيل الأربعة المقبولة رسميا من قبل الكنيسة في أواخر القرن الثاني الميلادي، وعزي الإنجيل الرابع إلى التلميذ يوحنا ابن زبدي مثلما عزيت بقية الأناجيل إلى أصحابها المفترضين، جرى العرف السائد على المطابقة بين التلميذ الذي أحبه يسوع وبين التلميذ يوحنا ابن زبدي باعتباره مؤلف الإنجيل الرابع. ولكن المشكلة تكمن في أن اسم يوحنا لم يرد صراحة في أي موضع من الإنجيل الرابع، وذلك عدا إشارة عابرة إلى ابني زبدي دون ذكر اسميهما وهما على ما نعرف يوحنا ويعقوب أخوه (يوحنا، 21: 2). أما التلميذ «الذي أحبه يسوع»، وهو اللقب الذي أطلق على لعازر للمرة الأولى، فيتابع ظهوره إلى جانب يسوع تحت هذا اللقب، ثم نفهم من الخاتمة أنه مؤلف الإنجيل الرابع. فمن هو المؤلف الحقيقي لإنجيل يوحنا؟
في الحقيقة هنالك عدد من الباحثين في العهد الجديد قد لاحظوا ما لاحظته من صلة بين لعازر والتلميذ الغامض الذي أحبه يسوع الذي يتكرر ذكره في الإنجيل الرابع، ولكنهم لم يكونوا مستعدين للخروج عن التقاليد الراسخة التي تعزو الإنجيل الرابع إلى يوحنا ابن زبدي، فخرجوا برأي مفاده أن لعازر الذي أحياه يسوع هو في الواقع اسم آخر ليوحنا ابن زبدي. ومن ثم جرت المطابقة بين الشخصيتين. ولكن هذا التفسير لا يصمد أمام النقد المعتمد على نصوص العهد الجديد نفسها. وإليكم الأسباب: (1)
ينتمي يوحنا ويعقوب ابنا زبدي إلى أسرة جليلية؛ أما لعازر فينتمي إلى أسرة أورشليمية. (2)
لا نعرف عن وجود أخ للعازر بل أختين هما مرثا ومريم. (3)
كان يوحنا وأخوه صيادي سمك في بحيرة طبرية بالجليل، ثم تبعا بعد ذلك يسوع في حله وترحاله، وهما يظهران في بعض المشاهد مع أمهما بصحبة يسوع (راجع متى، 20: 20). أما لعازر فكان مستقرا في بيت كبير على مقربة من العاصمة كان من السعة بحيث يتسع ليسوع وتلامذته ليبيتوا فيه عدة أيام. ولعل من دلائل ثراء أهل هذا البيت وجود قبر فخم منحوت من الصخر في فنائه. ولا يحدثنا النص عن وجود أم للعازر التي يبدو أنها متوفاة، وكانت الأخت الكبرى مرثا هي المدبرة لشئون المنزل. (4)
إن التلميذ الآخر الذي تبع يسوع مع بطرس عقب القبض عليه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون يوحنا صياد السمك المتواضع الحال؛ لأن هذا التلميذ كان معروفا من قبل رئيس الكهنة، وهو الذي توسط لبطرس من أجل الدخول إلى بيت رئيس الكهنة. هذه الحظوة الخاصة التي تمتع بها التلميذ عند رئيس الكهنة الذي يبدو أنه كان على علاقة طيبة مع أسرته الغنية، هي التي شفعت للتلميذ الذي أحبه يسوع أن يشهد عملية الصلب دون خوف من الاعتقال، في الوقت الذي تفرق فيه بقية أصحاب يسوع واختبئوا.
اعتمادا على هذه المقدمات التي أجدها في غاية المنطقية، أتوصل إلى نتيجة مفادها أن التلميذ المحبوب لعازر هو مؤلف الإنجيل الرابع وليس يوحنا ابن زبدي، أو أنه كان يملي ذكرياته في أواخر حياته على ذلك المؤلف المجهول. وهذه مسألة سوف نتوسع فيها في بحث لاحق.
يسوع والنساء
لغز مريم المجدلية
يكاد قارئ كتاب العهد الجديد لا يلحظ دورا للنساء في حياة يسوع التبشيرية؛ فحواراته كانت تجري دوما مع الرسل الاثني عشر الذين اختارهم لمرافقته في حله وترحاله، وتعاليمه كانت موجهة على الدوام إليهم. ولكن مؤلفي الأناجيل، تركوا لنا إشارات عابرة هنا وهناك تكشف عن دورهن المهم في الدعوة الجديدة، وتفانيهن في تقديم الدعم المادي والمعنوي للمعلم الذي تركن من أجله بيوتهن وسرن وراءه على طريق الآلام من الجليل إلى الجلجلة حيث صلب ومجد، وكان من بينهن أول الشهود على قيامته من بين الأموات.
هذه الإشارات الغامضة التي تلفت نظرنا إلى الحضور القوي للنساء في ذلك المحيط الذكوري كما قدمه لنا الإنجيليون، تطلعنا على حقيقة في غاية الأهمية، وهي أن عدد النساء في بطانة يسوع المقربة ربما كان أكثر من عدد الرجال، وأن الدعم المالي لهذه المجموعة المرتحلة مع معلمها كان يأتي من بعض أولئك النسوة المقتدرات اللواتي تركن ما كن فيه من رغد العيش وسرن وراء يسوع. ولعل من أهم هذه الإشارات ما ورد في إنجيل لوقا: «وعلى إثر ذلك كان يسير في المدن والقرى يكرز ويبشر بملكوت الله، ومعه الاثنا عشر، وبعض النساء اللواتي شفاهن من الأرواح الشريرة والأمراض، وهن مريم المعروفة بالمجدلية التي أخرج منها سبعة شياطين، وحنة (أو يونا في بعض الترجمات) امرأة خوزي وكيل هيرودوس، وسوسنة، وغيرهن كثيرات كن يخدمنه من أموالهن» (لوقا، 8: 1-3).
تدلنا هذه الإشارة المقتضبة إلى تلميذات يسوع عند لوقا على وجود عدد كبير من النساء في بطانة يسوع المقربة، وأن المصدر الأساسي لتمويل معاش يسوع وتلاميذه كان من أموال هؤلاء النسوة. وقد كان هذا المال يحفظ في صندوق خاص يحمله معه التلميذ يهوذا الإسخريوطي، على ما نفهم من إنجيل يوحنا 12: 4-6. ولكن لوقا لم يذكر لنا من أسماء هؤلاء النسوة سوى ثلاثة، هن: مريم المجدلية، ويونا (أو حنة) امرأة خوزي، وكيل هيرودوس، وسوسنة. ويكشف لنا تعريف لوقا ليونا بأنها زوجة وكيل هيرودوس أنتيباس ملك الجليل، حقيقة في غاية الأهمية وهي أن العديد من هؤلاء التلميذات كن من شرائح اجتماعية ميسورة، وكن من موقعهن المتميز هذا قادرات على دعم طبيعة حياة الترحال التي اختارها يسوع له ولجماعته. وكما سنرى فيما بعد فإن اثنتين من هؤلاء النسوة اللواتي ذكرهن لوقا، وهما مريم المجدلية ويونا، سوف تعودان إلى الظهور في أحداث الأسبوع الأخير من حياة يسوع، أما الثالثة وهي سوسنة (أو سوزان كما تدعى في اللغات الأوروبية) فسوف تختفي تماما، ولا يأتي أحد من الإنجيليين على ذكرها بما فيهم لوقا نفسه.
بعد هذه الإشارة الوحيدة والمقتضبة التي أوردها لوقا إلى وجود نساء كثيرات منذ البداية في بطانة يسوع، تصمت الأناجيل الأربعة عن هؤلاء النسوة وصولا إلى أحداث محاكمة يسوع وصلبه ودفنه. فبعد القبض على يسوع وسوقه إلى المحاكمة، انفض عنه الرسل الاثنا عشر وبقية التلاميذ واختبئوا خوفا من الاعتقال، ولم يصحبه إلى المحاكمة إلا النساء اللواتي رافقنه بعد ذلك إلى موضع الصلب. نقرأ في إنجيل متى الذي لم يعترف بوجود النساء حتى هذا الوقت المتأخر ما يلي: «وكانت هناك نساء كثيرات ينظرن من بعيد وهن كن قد تبعن يسوع من الجليل يخدمنه. وبينهن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وأم ابني زبدي» (متى، 27: 55-56). وابنا زبدي المذكوران هنا هما يعقوب ويوحنا الوارد ذكرهما في قائمة الرسل عند متى (راجع متى: 4). أما يعقوب ويوسي فهما ابنا حلفي. ويلقب يعقوب هذا بالصغير تمييزا له عن يعقوب الكبير ابن زبدي. وعلى الرغم من أن متى لا يذكر لنا اسم أم ابني زبدي، إلا أن المرجح أن يكون اسمها سالومة، لأن مرقس الذي يقدم لنا القائمة نفسها يقول «سالومة» في الموضع الذي قال فيه متى «أم ابني زبدي»: «وكانت أيضا نساء ينظرن من بعيد بينهن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب الصغير ويوسي، وسالومة» (مرقس، 15: 40). فإذا جئنا إلى لوقا وجدناه يذكر من أسماء النساء الكثيرات اللواتي حضرن الصلب ثلاثة، هن: مريم المجدلية، ويونا، ومريم أم يعقوب (لوقا، 24: 10). أي أنه حافظ على قائمته التي قدمها لنا في بداية إنجيله مع استبدال سوسنة بمريم أم يعقوب.
أما يوحنا، وعلى عادته في التفرد عن بقية الإنجيليين، فيقدم لنا قائمة لا تشترك مع بقية قوائم الإنجيليين إلا باسم المجدلية: «وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه، وأخت أمه زوجة كلوبا، ومريم المجدلية» (يوحنا، 19: 25). تحتوي هذه القائمة على شخصيتين نسائيتين لم تردا في قوائم بقية الإنجيليين. فلدينا أولا أم يسوع التي كانت غائبة عن جميع الإنجيليين خلال حياة يسوع التبشيرية، ولم يرد ذكرها إلا عرضا في معرض التعريف بيسوع باعتباره ابن امرأة تدعى مريم (متى، 13: 55-56؛ ومرقس، 6: 1-3)، كما جرت الإشارة إليها على أنها أم يسوع دون ذكر اسمها عندما جاءت أسرته تطلبه وهو منشغل في التعليم: «هو ذا أمك وإخوتك واقفون خارجا طالبين أن يكلموك» (متى، 12: 46-50. قارن مع مرقس، 3: 35-51؛ ولوقا، 8: 19-21). أما عند يوحنا فقد ورد ذكرها مرة واحدة في مطلع حياة يسوع التبشيرية وذلك في عرس قانا عندما اجترح يسوع معجزة تحويل الماء إلى خمر، ولكن دون الإشارة إلى اسمها: «وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك ... إلخ» (يوحنا: 2). وبعد ذلك تغيب مريم عن مسرح الأحداث تماما ولا نعثر لها على ذكر بين بطانة يسوع. ولذلك فمن الغريب أن نجدها فجأة تحت الصليب ومعها أخت لها لم نسمع بها من قبل اسمها مريم أيضا. ولحل هذه المفارقة فقد اقترح بعض الباحثين وجود خطأ في النسخ وأن الآية 25 من الإصحاح 19 يجب أن تقرأ: «وكانت واقفات عند صليب يسوع: أمه، وأخت أمه، ومريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية.» وبذلك يكون لدينا أربع نساء عوضا عن ثلاثة. أما عن المدعو كلوبا الذي تنسب إليه هذه المريم الأخرى، فلم يرد اسمه إلا مرة واحدة في الأناجيل باعتباره من تلاميذ يسوع ودون إعطاء أي تفصيلات بخصوصه (راجع لوقا، 24: 13-18).
بعض هؤلاء النسوة اللواتي حضرن واقعة الصلب كن أول الشهود على قيامة يسوع من بين الأموات، وهي الحدث الرئيسي في العقيدة المسيحية. ففي إنجيل متى يتراءى يسوع للمرة الأولى بعد قيامته أمام مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسي (متى: 28). وفي إنجيل لوقا يتراءى لمريم المجدلية ويونا ومريم أم يعقوب والباقيات معهن (لوقا: 24). وفي إنجيل يوحنا يتراءى للمجدلية وحدها (يوحنا: 20)، وكذلك الأمر في إنجيل مرقس (مرقس: 16).
في جميع قوائم الأسماء التي يقدمها لنا هؤلاء الإنجيليون الأربعة، نجد بينها على اختلافها قاسما مشتركا هو مريم المجدلية. وهذا إن دل على شيء فعلى أهميتها البالغة ومكانتها الخاصة لدى يسوع. فمن هي هذه المرأة الغامضة؟ قبل الدخول في هذا الموضوع سوف نتوقف لإلقاء الضوء على شخصيتين نسائيتين برزتا في آخر مسيرة يسوع التبشيرية، وهما الأختان مريم ومرثا من قرية بيت عنيا في منطقة جبل الزيتون على مسافة ثلاثة كيلومترات من أورشليم.
نتعرف على مرثا وأختها مريم للمرة الأولى في إنجيل لوقا؛ فبعد أن شرع يسوع في رحلته إلى أورشليم دخل قرية لا يذكر لنا المؤلف اسمها: «فيما هم سائرون دخل قرية فأضافته في بيتها امرأة اسمها مرثا، وكانت لهذه أخت تدعى مريم التي جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه. وأما مرثا فكانت مشغولة بأمور كثيرة من الضيافة، فأقبلت وقالت: يا رب. أما تبالي أن تتركني أختي أخدم وحدي؟ فقل لها أن تساعدني. فأجاب يسوع وقال لها: مرثا، مرثا، أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى واحد. فقد اختارت مريم النصيب الصالح الذي لن ينتزع منها» (لوقا، 10: 38-42).
بعد ذلك نقابل مرثا ومريم مرتين في إنجيل يوحنا؛ حيث نعرف أنهما تسكنان مع أخيهما لعازر في بيت كبير في قرية تدعى بيت عنيا، وكان البيت من السعة والثراء بحيث يتسع لإقامة وضيافة يسوع وتلاميذه. ومن المؤكد أن يسوع قد قصد هذا البيت واستراح فيه مرارا؛ لأن مؤلف إنجيل يوحنا يقول لنا في سياق خبره الأول عن زيارة يسوع لمريم ومرثا، عندما أحيا أخاهما لعازر بعد موته بأربعة أيام، أن يسوع كان يحب مرثا وأختها ولعازر. وقد عرضنا هذه القصة بالتفصيل في مقالتنا السابقة، فلتراجع في موضعها في إنجيل يوحنا: 11.
الخبر الثاني الذي يورده يوحنا عند زيارة يسوع لبيت عنيا هو الذي يهمنا هنا: «ثم قبل الفصح بستة أيام أتى يسوع إلى بيت عنيا حيث كان لعازر الذي أقامه من الأموات. فصنعوا له هناك عشاء، وكانت مرثا تخدم وأما لعازر فكان أحد المتكئين معه. فأخذت مريم منا (أو حقا. وهو يتسع لثلاثمائة غرام) من طيب ناردين خالص كثير الثمن، ودهنت قدمي يسوع ومسحت قدميه بشعرها، فامتلأ البيت من رائحة الطيب. فقال واحد من تلاميذه وهو يهوذا سمعان الإسخريوطي المزمع أن يسلمه: لماذا لم يبع هذا الطيب بثلاثمائة دينار ويعطى للفقراء؟ قال هذا ليس لأنه كان يبالي بالفقراء، بل لأنه كان سارقا وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يلقى فيه. فقال يسوع: اتركوها فإنها حفظت هذا الطيب ليوم «دفني و» تكفيني. لأن الفقراء معكم في كل حين، وأما أنا فلست معكم في كل حين» (يوحنا، 12: 1-8).
تتكرر هذه الرواية بتنويعين في الأناجيل الثلاثة الأخرى. فعند متى ومرقس تجري القصة في بيت شخص يدعى سمعان الأبرص في قرية بيت عنيا؛ حيث دخلت امرأة مجهولة وسكبت زجاجة العطر على رأس يسوع لا على قدميه. وبما أن متى يستخدم لغة مرقس نفسها وكلماته مع تعديلات طفيفة لا يعتد بها فسنكتفي هنا بإيراد رواية مرقس: «وكان الفصح وأيام الفطير بعد يومين. وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يمسكونه بمكر ويقتلونه، ولكنهم قالوا ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب. وفيما هو في بيت عنيا في بيت سمعان الأبرص، وهو متكئ، جاءت امرأة معها قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن، فكسرت القارورة وسكبته على رأسه. وكان قوم مغتاظين في أنفسهم فقالوا: لماذا تلف الطيب هذا؟ لأنه كان يمكن أن يباع هذا بأكثر من ثلاثمائة دينار ويعطى للفقراء، وكانوا يؤنبونها. أما يسوع فقال: اتركوها، لماذا تزعجونها؟ قد عملت بي عملا حسنا. لأن الفقراء معكم في كل حين ومتى أردتم تقدرون أن تعملوا بهم خيرا، وأما أنا فلست معكم في كل حين. عملت ما عندها؛ قد سبقت ودهنت بالطيب جسدي للتكفين. الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضا بما فعلته تذكارا لها.» (مرقس، 14: 1-9)
أما التنويع الثاني على هذه الرواية فيرد عند لوقا. وهنا نجد أن زمان الحادثة ومكانها مختلفان تماما، فهي تجري في مطلع حياة يسوع التبشيرية وفي مدينة جليلية تدعى نايين (لوقا، 7: 11) لا في بيت عنيا قرب أورشليم: «وسأله واحد من الفريسيين أن يأكل معه، فدخل بيت الفريسي واتكأ. وكان في المدينة امرأة خاطئة، فعلمت أن يسوع يأكل في بيت الفريسي، فجاءت ومعها قارورة طيب ووقفت من خلف قدميه وهي تبكي وأخذت تبل قدميه بدموعها وتمسحهما بشعرها وتقبلهما وتدهنهما بالطيب. فلما رأى الفريسي صاحب الدعوة ما جرى، قال في نفسه: لو كان هذا الرجل نبيا لعرف من هي هذه المرأة التي تلمسه وما حالها، فهي خاطئة. فقال له يسوع: يا سمعان عندي ما أقوله لك. فقال سمعان: قل يا معلم. فقال يسوع: كان لمداين دين على رجلين، خمسمائة دينار على أحدهما وخمسون على الآخر. وعجز الرجلان عن إيفاء دينه فأعفاهما منه. فأيهما يكون أكثر حبا له؟ فأجابه سمعان: أظن الذي أعفاه من الأكثر. فقال يسوع: أصبت. والتفت إلى المرأة وقال لسمعان: أترى هذه المرأة؟ أنا دخلت بيتك فما سكبت على قدمي ماء، وأما هي فغسلتهما بدموعها ومسحتهما بشعرها. أنت ما قبلتني قبلة وأما هي فما توقفت منذ دخولي عن تقبيل قدمي. أنت ما دهنت رأسي بزيت وأما هي فبالطيب دهنت قدمي. لذلك أقول لك: غفرت لها خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرا، وأما الذي يغفر له القليل فهو يحب قليلا. ثم قال للمرأة مغفورة لك خطاياك» (لوقا، 8: 36-48).
من قراءة هذه الروايات الأربعة نلاحظ أن روايات متى ومرقس ويوحنا تتفق في معظم عناصرها ضد رواية لوقا. فالمكان هو بيت سمعان الأبرص في قرية بيت عنيا عند متى ومرقس، وهو عند يوحنا بيت مرثا ومريم ولعازر في بيت عنيا أيضا. وبما أنه لا يوجد في بيت عنيا سوى بيت واحد كان يسوع يتردد عليه، فمن المنطقي أن يكون بيت سمعان الأبرص هو نفسه بيت الإخوة الثلاثة. ومن المرجح أن سمعان الأبرص هذا هو والد الإخوة الثلاثة ولكنه كان متوفيا في ذلك الوقت. يدلنا على ذلك أن يسوع قد دخل بيت سمعان الأبرص ولكن سمعان هذا لم يكن موجودا؛ لأن الراوي لم يتحدث عن استقباله ليسوع ولا عن جلوسه معه إلى المائدة، ولا عن حوار جرى بينه وبين يسوع، والقصة تبدأ وتنتهي وكأن سمعان الأبرص غير موجود. كما تتفق الروايات الثلاث في عنصر سكب زجاجة الطيب سواء على رأس يسوع عند متى ومرقس أم على قدميه عند يوحنا، وكذلك في عنصر احتجاج البعض على هذا الإسراف على الرغم من اختلاف هوية هؤلاء المحتجين (قوم مغتاظون في أنفسهم عند مرقس، أو تلاميذ يسوع عند متى، أو تلميذ واحد عند يوحنا)، وكذلك في رد يسوع على أولئك المحتجين وقوله بأنها فعلت ذلك استباقا ليوم الدفن والتكفين.
أما عند لوقا فإن القصة لا تحدث في بيت عنيا كما هو الحال عند بقية الإنجيليين، وإنما في نايين في بيت رجل يدعى سمعان أيضا ولكنه يلقب بالفريسي لا بالأبرص. وعلى الرغم من اشتراك قصة لوقا مع البقية في عنصر سكب قارورة العطر، إلا أنها تفتقد عنصر احتجاج البعض، وتختلف في مضمون خطاب يسوع الأخير بخصوص تصرف المرأة، الذي ينسجم مع وصف لوقا لها بأنها خاطئة. وتعبير خاطئة هنا هو صيغة مهذبة لكلمة مومس.
وفي الحقيقة فإن اتفاق متى ومرقس ويوحنا ضد لوقا فيما يتعلق بمعظم عناصر القصة، يقودنا إلى القول بضعف رواية لوقا لا سيما في وصفه للمرأة بأنها خاطئة، ومن المرجح أن لوقا قد أدخل تعديلاته هذه على القصة لأغراض تعليمية تتعلق بالتوكيد المسيحي على التوبة وعلى المغفرة، شأنه في ذلك شأن القصة التي أوردها يوحنا عن المرأة التي أخذت في زنا وأراد القوم رجمها فقال لهم: «من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها أولا بحجر.»
وبهذا نكون قد أضفنا إلى قائمة الأسماء المعروفة لتلميذات يسوع اسمين جديدين هما مرثا ومريم من بيت عنيا. ولكن السؤال الذي حير الباحثين بخصوص هاتين المرأتين هو غيابهما عن أحداث محاكمة يسوع وصلبه ودفنه وقيامته. فأين كانتا وهما اللتان أحبهما يسوع مع أخيهما لعازر حبا جما.
وقد قاد البحث في هذه المسألة البعض إلى الخروج بنتائج لا تصمد أمام النقد المعتمد على وقائع الكتاب. فقد ربط البعض بين مريم المجدلية والمرأة الخاطئة في رواية لوقا وقالوا إنها المرأة نفسها، كما ربط البعض الآخر بين مريم المجدلية ومريم من بيت عنيا أخت مرثا ولعازر، وهنالك من ربط المجدلية بكل من المرأة الخاطئة ومريم من بيت عنيا، وقالوا إن الثلاثة هم شخصية واحدة. وبذلك فإن مريم بيت عنيا لم تكن غائبة عن الأحداث الأخيرة في حياة يسوع، بل حاضرة تحت اسم المجدلية.
1
إن الربط بين المرأة الخاطئة في إنجيل لوقا ومريم المجدلية، لا يجد سندا له لا من إنجيل لوقا نفسه ولا من بقية الأناجيل. فلوقا نفسه يقول لنا منذ البداية بأن المجدلية كانت من التلاميذ الأوائل ليسوع مع أخريات يذكر من أسمائهن حنة امرأة خوزي وكيل هيرودوس ملك الجليل، وسوسنة، ويقول إنهن كن يخدمن يسوع من أموالهن. ولا شك أن اقتران اسم المجدلية باسم حنة وهي زوجة شخصية بارزة في الجليل يدل على أن الاثنتين تتمتعان بالمكانة الاجتماعية ذاتها. والشيء نفسه يقال عن استحالة الربط بين المجدلية ومريم بيت عنيا استنادا إلى معطيات الكتاب. فالمجدلية جليلية وتنتمي إلى بلدة مجدل الواقعة على بحر الجليل، وقد تبعت يسوع من الجليل إلى أورشليم، أما مريم بيت عنيا فأورشليمية تقيم في قرية قريبة من العاصمة، ولم تكن ترتحل مع يسوع بل كان يسوع نفسه يقصد بيتها للإقامة والاستراحة.
إن كل ما يمكننا قوله بخصوص مريم المجدلية استنادا إلى معطيات الكتاب، هو أنها كانت امرأة ثرية من الجليل تبعت يسوع بعد أن شفاها من مرض عصبي معين لعله الصرع، وهو ما عبر مرقس عنه بقوله: إن يسوع أخرج منها سبعة شياطين (مرقس، 16: 9). ويبدو أنها كانت التلميذة المفضلة عند يسوع بدليل ورود اسمها على الدوام في قوائم أسماء التلميذات عند جميع الإنجيليين، وشهادتها إما منفردة أو مع أخريات على قيامته من بين الأموات. ويبدو أن دورها في بطانة يسوع كان يشبه دور بطرس؛ فقد كان بطرس مترئسا على التلاميذ الذكور وكانت المجدلية مترئسة على التلميذات.
هذا الدور المميز للمجدلية يؤكده لنا مؤلفو الأناجيل الغنوصية المتحررون من الشوفينية الذكورية، ومنهم نفهم أن المجدلية كانت تنتمي إلى الحلقة الضيقة من التلاميذ الذين خصهم يسوع بتعاليمه السرية التي حجبها عن الآخرين. نقرأ في إنجيل فيليب ما يلي: «كانت مريم المجدلية رفيقة يسوع على الدوام، وقد أحبها أكثر من جميع التلاميذ، وغالبا ما كان يقبلها. وهذا ما أزعج بقية التلاميذ، حتى إنهم قالوا له في إحدى المرات: لماذا تحبها أكثر منا جميعا؟» فأجابهم المخلص، وقال: «لماذا لا أحبكم مثلما أحبها.» وفي نص مسيحي غنوصي معروف بعنوان
، نجد في أحد المشاهد أن بطرس يتذمر من احتكار مريم الحوار مع يسوع في تجاهل لأسبقيته ويطلب منه إسكاتها، ولكن يسوع يعنفه على موقفه هذا. وبعد ذلك تقول مريم ليسوع بأنها لا تستطيع التحدث معه بحرية خوفا من بطرس الذي يكره جنس النساء، فيقول لها يسوع: إن من يلهمه الروح هو المخول بالكلام رجلا كان أم امرأة. وفي النص المعروف بعنوان إنجيل المجدلية، نجد التلاميذ الذين اجتمعوا بعد صلب يسوع من أجل استعادة وتذاكر أقواله، يطلبون من المجدلية أن تطلعهم على بعض تعاليم يسوع السرية التي تعرفها. وعندما شرعت في الكلام تدخل بطرس قائلا: هل تحدث المعلم سرا مع امرأة بما لم يتحدث به علنا معنا؟ فقال له التلميذ لاوي: إذا كان المعلم قد وجدها مستحقة لذلك فمن أنت حتى ترفضها؟ لقد عرفها المعلم جيدا؛ ولذلك فقد أحبها أكثر منا. بعد ذلك تتابع المجدلية بموافقة الجميع إطلاعهم على ما سمعته من يسوع ولم يكونوا يعرفون عنه شيئا.
2
أما لماذا غابت الأختان مرثا ومريم عن الأحداث الحاسمة الأخيرة في حياة يسوع، فلا أجد له تفسيرا إلا في عدم اهتمام مؤلفي الأناجيل بتتبع أخبار النساء وتغطيتها بما يتناسب ودورهن البارز في الدعوة اليسوعية المبكرة.
ألغاز ميلاد يسوع
بعد مضي ألفين من السنين على ميلاد يسوع، ما زلنا لا نملك أي وثيقة تاريخية عن حياة هذه الشخصية الاستثنائية في التاريخ الروحي للإنسانية. وما زالت الأناجيل الأربعة التي اعتمدتها الكنيسة تقف شاهدا وحيدا على ميلاده ومسيرة حياته التبشيرية وصلبه.
لقد دون أول الأناجيل وهو إنجيل مرقس نحو عام 70م، أي بعد أربعين سنة على وفاة يسوع وسبعين سنة على ميلاده؛ ودون آخرها وهو إنجيل يوحنا بين عام 100 وعام 110م، أي بعد مضي نحو سبعين سنة على وفاة يسوع ونحو قرن كامل على ميلاده. هذا يعني أن مؤلفي الأناجيل كانوا في حالة انقطاع تام عن الأحداث التي يروونها، وأن كلا منهم قد تقصى وقائعه على طريقته الخاصة، واختار منها ما يتلاءم مع طبيعته الشخصية وثقافته وطبيعة المستمعين الذين يتوجه إليهم برسالته. وبالنظر إلى أن اللاهوت المسيحي كان ينمو ويتطور خلال هذه الفترة الفاصلة بين الحدث وزمن تدوينه، فإن المفاهيم اللاهوتية المستحدثة كان لا بد لها من أن تفرض نفسها على تفسير ذلك الحدث. وفي ظل غياب السلطة الدينية المركزية وعدم استقرار اللاهوت المسيحي في ذلك الوقت المبكر، فقد كان على كل مؤلف إنجيلي، سواء فيما يتعلق باختياره لأحداث روايته من بين عدة تنويعات وصلت إليه، أم في تفسيره لهذه الأحداث، أن يصدر عن موقف شخصي ورؤية خاصة به. وبما أن أولئك المؤلفين كانوا حملة رسالة دينية، لا مؤرخين يتقصون الحقائق وفق مناهجنا الحديثة في البحث، فإن الاختلاف بينهم هو أمر متوقع على ما نستطيع ملاحظته ابتداء من الأخبار المتعلقة بأسرة يسوع وميلاده. (1) الأسرة
يلفت نظرنا في الأناجيل شح المعلومات المتعلقة بأسرة يسوع. فنحن لا نعرف شيئا عن أسرة مريم وحياتها قبل بشارتها من قبل الملاك بالحمل العذري، ولا نعرف شيئا عن يوسف الذي قدم له متى ولوقا سلسلتي نسب لا تفيدانا بشيء بسبب تعارضهما. كما أن الوالدين يغيبان تقريبا عن أحداث الإنجيل بعد قصة الميلاد. فإنجيل مرقس الذي تجاهل قصة الميلاد لا يأتي على ذكر مريم بالاسم إلا مرة واحدة عندما قال أهل الناصرة عن يسوع: «أليس هذا النجار ابن مريم» (مرقس، 6: 3). أما يوسف فقد تجاهله مرقس تماما ولم يأت على ذكره لا من قريب ولا من بعيد. وفي إنجيل متى أشار المؤلف إلى مريم بالاسم مرة واحدة، وأشار إلى يوسف بصفته النجار دون ذكر اسمه، عندما أعاد صياغة قول أهل الناصرة الوارد عند مرقس أعلاه بخصوص يسوع ليغدو على الشكل التالي: «أليس هذا ابن النجار؟ أليست أمه تدعى مريم» (متى، 13: 55). وفي إنجيل لوقا يرد ذكر يوسف ومريم بعد قصة الميلاد مرة واحدة فقط ولكن دون ذكر اسميهما، وذلك في قصته عن زيارة أسرة يسوع إلى أورشليم عندما كان في سن الثانية عشر، وكيف افتقده أبواه ليجداه في الهيكل يناقش الشيوخ (لوقا، 4: 16-22). وبعد ذلك تغيب مريم تماما، أما يوسف فيرد ذكره مرة واحدة عندما قال أهل الناصرة عن يسوع: «أليس هذا ابن يوسف» (لوقا، 4: 23).
وفي إنجيل يوحنا وهو الإنجيل الثاني بعد مرقس الذي تجاهل قصة الميلاد، يرد ذكر يوسف بالاسم مرتين في معرض الإشارة إلى يسوع على أنه ابن يوسف ولكن دون أي معلومات أخرى عن هذه الشخصية الغامضة. (يوحنا، 1: 45 و6: 48). أما مريم فلم يرد ذكرها بالاسم، وإنما بصيغة «أم يسوع» وذلك في موضعين فقط. فقد ورد ذكرها في مطلع الإنجيل في قصة تحويل يسوع الماء إلى خمر في بلدة قانا الجليل: «وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك، ودعي يسوع وتلاميذه إلى العرس، ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر. فقال لها يسوع: ما لي ولك يا امرأة؟ لم تأت ساعتي بعد. فقالت أم يسوع للخدم: مهما قال لكم فافعلوه» (يوحنا، 2: 1-5).
في هذا الحوار الذي قدمه لنا يوحنا، لدينا دليل على الدفء المفقود بين يسوع وأمه، وذلك في قوله لها: «مالي ولك يا امرأة». وهذا ما نلاحظه أيضا في مشاهد لاحقة: «فبينما هو يكلم الجموع إذا أمه وإخوته خارجا طالبين أن يكلموه، فقال له واحد: هو ذا أمك وإخوتك واقفون خارجا يطلبون أن يكلموك. فقال له: من هي أمي ومن هم إخوتي؟ ثم مد يده نحو تلاميذه وقال: ها أمي وها إخوتي، لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي» (متى، 12: 46-50). ولعل في هذا التعليق من قبل يسوع إشارة خفية إلى أن أسرته لم تكن قد آمنت به بعد. ويؤكد لنا هذا ما أورده إنجيل مرقس من أن أسرة يسوع جاءت للقبض عليه لأنهم اعتبروه فاقد الرشد: «ولما سمع أقرباؤه خرجوا ليمسكوه لأنهم قالوا إنه مختل» (مرقس، 3: 21). وبعد بضع فقرات من الإصحاح نفسه يقول لنا مرقس: «فحينئذ جاء إخوته وأمه ووقفوا خارجا يطلبونه ... إلخ. مما ورد عند متى في المقتبس السابق» (مرقس، 3: 31-35). ونحن لا نستطيع هنا إلا أن نربط بين الخبر الأول وهذا الخبر الثاني. فأسرة يسوع قد خرجت أولا للقبض عليه، وعندما عرفوا مكانه جاءوا ووقفوا خارج البيت يطلبونه. كما نلاحظ الدفء المفقود بين يسوع وأسرته في مشهد آخر صدر فيه عن يسوع تعليق مشابه لتعليقه الآنف الذكر: «وفيما هو يتكلم بهذا، رفعت امرأة صوتها من الجمع وقالت له: طوبى للبطن الذي حملك وللثديين اللذين رضعتهما. أما هو فقال: بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه» (لوقا، 11: 27-28).
بعد عرس قانا لا تظهر مريم في إنجيل يوحنا إلا في مشهد الصلب: «وكانت واقفات عند صليب يسوع: أمه، وأخت أمه مريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية» (يوحنا، 19: 25). فأين كانت مريم خلال مدة السنتين اللتين استغرقتهما حياة يسوع التبشيرية في إنجيل يوحنا؟ ولماذا لم تكن بين النسوة اللواتي تبعن يسوع من الجليل ورافقنه في حله وترحاله؟
في بقية أسفار العهد الجديد البالغ عددها سبعة وعشرين سفرا، لا يرد ذكر يوسف النجار، بينما يرد ذكر مريم مرة واحدة في سفر أعمال الرسل؛ حيث يقول لنا المؤلف في الإصحاح الأول بأن التلاميذ في أورشليم بعد صعود يسوع: «كانوا يواظبون على الصلاة مع النساء ومريم أم يسوع ومع إخوته» (الأعمال، 1: 14). وبعد ذلك يصمت مؤلف سفر الأعمال عن مريم صمتا تاما، الأمر الذي يدل على أن هذا الخبر العابر هو إضافة لاحقة على النص الأصلي لسفر الأعمال؛ لأن مؤلف سفر الأعمال هذا هو لوقا نفسه الذي تجاهل في إنجيله وجود مريم إلى جانب يسوع خلال حياته التبشيرية، فهي لم تكن بين النسوة اللواتي تبعنه، ولم تكن موجودة عند القبض عليه ولا عند محاكمته ولا في مشهد الصلب، كما لم يرد ذكرها بين الذين شهدوا ظهورات يسوع بعد قيامته. وبالتالي فإنه من المستبعد أن يكون لوقا هو الذي جاء بمريم فجأة إلى مسرح الحدث، ثم جعلها تختفي بالطريقة التي ظهرت بها. (2) النسب
هذا المأزق المتعلق بنقص المعلومات عن حياة يسوع قبل ظهوره العلني بعد تعمده بماء الأردن على يد يوحنا المعمدان وهو في نحو الثلاثين من عمره، هو الذي دفع متى ولوقا إلى ابتكار سلسلة نسب ليسوع تربطه بالملك داود، وإيرادهما لقصة ميلاد لا تحتاج إلى الوثائق لأنها تستخدم لغة ميثولوجية من أجل التعبير عن حقائق إيمانية وليس عن حقائق تاريخية.
يستهل متى إنجيله بمقدمة عن نسب يسوع من ناحية يوسف النجار، فيعرض لنا سلسلة تبتدي بإبراهيم الأب الأول للشعب العبراني، وفي الوسط تمر بالملك داود، ثم تنتهي بيوسف: «كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم: إبراهيم ولد إسحاق، وإسحاق ولد يعقوب، ويعقوب ولد يهوذا وإخوته ... إلخ ... وأليعازر ولد متان، ومتان ولد يعقوب، ويعقوب ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح» (متى، 1: 1-26). أما لوقا فلم يستهل إنجيله بسلسلة نسب يسوع وإنما أطلعنا عليها بعد ابتداء يسوع بكرازته، وذلك في الإصحاح الثالث حيث نقرأ: «ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة. وهو على ما كان يظن: ابن يوسف، بن هالي، بن متثات بن لاوي بن ملكي ... إلخ ... بن شيت بن آدم، ابن الله» (لوقا، 3: 23-24). وبمقارنة بداية سلسلة لوقا المعكوسة مع نهاية سلسلة متى نجد أن يوسف النجار عند لوقا هو: ابن عالي بن متثات بن لاوي. أما عند متى فهو: ابن يعقوب بن متان بن عازر. أي إن متى ولوقا لم يتفقا من حيث البداية على اسم الجد المباشر ليسوع، ولا على أسماء أصوله الأقربين، ثم يتابع لوقا بعد ذلك سلسلته في خط مختلف تماما عن متى، حتى لكأننا أمام سلسلتي نسب لشخصيتين مختلفتين تماما، وذلك وصولا إلى الملك داود حيث تعود السلستان إلى الاتفاق وتصلان إلى إبراهيم؛ لأن كلا المؤلفين يعتمدان هنا سلسلة الأنساب التوراتية الواردة في سفر التكوين. وعند إبراهيم تنتهي سلسلة متى بينما يتابع لوقا منفردا وصولا إلى آدم: «ابن إبراهيم، بن تارح، بن ناحور ... إلخ ... ابن شيت بن آدم، ابن الله». وبذلك فإن سلسلة لوقا تقوض نفسها بنفسها لأنها ابتدأت بالقول: «وهو على ما كان يظن ابن يوسف بن هالي»، وانتهت بالقول: «بن شيت بن آدم ابن الله؟» وذلك مثلما تقوض سلسلة متى نفسها أيضا عندما انتهت بالقول: «ومتان ولد يوسف رجل مريم التي ولد منها يسوع»، ولم تقل: «ومتان ولد يوسف، ويوسف ولد يسوع». فالسلسلتان لا معنى لهما لأنهما لا تعترفان بأبوة يوسف ليسوع، وهذا يستدعي منطقيا عدم وجود رابطة نسب بين يسوع والملك داود الجد الأعلى ليوسف، وبالتالي فلا معنى للقب ابن داود الذي يطلقه كل من متى ولوقا على يسوع.
فإذا جئنا إلى رواية الحبل العذري والميلاد عند متى ولوقا، نجدهما على ما تبينه المقارنة التالية يتابعان ما بدآه من اختلاف في النسب. (3) الحبل العذري
رواية متى «أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا. لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وجدت حبلى من الروح القدس. فيوسف رجلها إذ كان بارا ولم يشأ أن يشهرها أراد تخليتها سرا. ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور، إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلا: يا يوسف بن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي تحمله هو من الروح القدس، فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم، وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا. فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما أمره الملاك وأخذ امرأته، ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر» (متى، 1: 18-25).
رواية لوقا
يبتدئ لوقا روايته بقصة الكاهن زكريا وكيف حملت زوجته أليصابات قريبة مريم بشكل إعجازي وهما في سن الشيخوخة بيوحنا المعمدان. ثم يقطع روايته وأليصابات في شهرها السادس ليقص لنا عن الحبل العذري لمريم: «وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم، فدخل إليها الملاك وقال: سلام لك أيتها المنعم عليها، الرب معك، مباركة أنت في النساء. فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية. فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم، لأنك قد وجدت نعمة عند الله، وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيما وابن العلي يدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد. فقالت مريم للملاك: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا؟ فأجابها الملاك: الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعى ابن الله. وهو ذا نسيبتك أليصابات هي أيضا حبلى بابن في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقرا، لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله. فقالت مريم: هو ذا أنا أمة الرب، ليكن لي كقولك. فمضى من عندها الملاك. فقامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا (= أورشليم)، ودخلت بيت زكريا وسلمت على أليصابات. فلما سمعت أليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت أليصابات من الروح القدس، وصرخت بصوت عظيم وقالت: مباركة أنت في النساء ومباركة ثمرة بطنك، فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي؟ ... إلخ» (لوقا، 1: 26-44). بعد ذلك تمكث مريم عند زكريا وأليصابات نحو ثلاثة أشهر ثم تعود إلى بيتها.
من مقارنة هاتين الروايتين نخرج بالملاحظات التالية: (1)
يحيط الغموض التام بالشخصيتين الرئيسيتين يوسف ومريم. ويبدو أن المؤلفين لا يعرفان عنهما سوى الاسم فقط، ولا شيء آخر عن الأسرة والوالدين والوضع الاجتماعي. وعلى عكس الرأي الشائع بأن يوسف كان يعمل نجارا، فإن المعطيات النصية غير واضحة بهذا الخصوص. فروايتا الميلاد لا تذكران شيئا عن مهنة يوسف رجل مريم. أما المواضع الأخرى التي جرى التعويل عليها لوصف يوسف بالنجار فمتضاربة بهذا الخصوص؛ فمرقس الذي تجاهل وجود يوسف تماما قد وصف يسوع نفسه بالنجار عندما قال على لسان أهل الناصرة: «أما هو النجار ابن مريم» (6: 3). أما متى فقال: «أما هو ابن النجار» (13: 55). بينما قال لوقا: «أما هو ابن يوسف» (4: 23). وكذلك فعل يوحنا الذي وصف يسوع مرتين بابن يوسف دون أن يأتي على ذكر النجار (يوحنا، 1: 45، و6: 42). وبذلك تقف شهادة متى عن يوسف بأنه نجار وحيدة ومن دون مؤيد من بقية الأناجيل. وقد ناقش بعض الباحثين بأن كلمة
Tekon
الواردة في النص اليوناني للأناجيل هي المعادل للكلمة الآرامية «ن ج ا ر» في لغة فلسطين المحكية في ذلك الزمان، والتي تعني كما في العربية من يمتهن النجارة. ولكن هذه الكلمة الآرامية قد وردت أكثر من مرة في أدبيات التلمود في معرض الإشارة إلى الشخص المتعلم والمثقف، وهذا الاستخدام ربما يعكس واقع استخدامها الأدبي في اللغة الآرامية التي لم يتوفر لدينا الكثير من نصوصها الأدبية. وعلى ذلك فربما لم يكن يوسف نجارا على الإطلاق، ولا يسوع كذلك.
1 (2)
الموطن الأصلي لكل من يوسف ومريم هو الجليل عند لوقا، أما عند متى فهو بيت لحم في مقاطعة اليهودية قرب أورشليم. وسوف نرى فيما بعد كيف جاء لوقا بيوسف ومريم إلى بيت لحم من أجل إتمام النبوءة التوراتية بخصوص ميلاد المسيح المنتظر. (3)
يلعب يوسف الدور الرئيسي في قصة متى التي تقدمه كرجل حكيم عاقل تصرف بهدوء عندما اكتشف أن خطيبته مريم حبلى. وعلى عكس المتوقع فإن الملاك جبرائيل يظهر له في الحلم لا لمريم، ويبشره بالمولود ويطلب منه الاحتفاظ بخطيبته لأن الذي تحمله هو من الروح القدس، وأن عليه أن يسميه يسوع. أما عند لوقا فإن الدور الرئيسي تلعبه مريم، والملاك يظهر لها في اليقظة لا في المنام، ويدخل عليها كأي زائر عادي فيلقي السلام ويبشرها بالمولود الذي ستحبل به من الروح القدس. بعد ذلك نجد مريم تعيش حياتها بحرية؛ فبعد سماعها خبر حمل قريبتها أليصابات، تترك مدينتها في الجليل وتسافر وحيدة لزيارة أليصابات في مقاطعة اليهودية قاطعة مسافات طويلة ووعرة وشاقة؛ حيث مكثت عندها ثلاثة أشهر ثم عادت إلى الناصرة. وخلال كل هذه الأحداث لا نعثر ليوسف على أثر، ولا نعرف كيف عرف بخبر الحمل ولا عن ردة فعله تجاه ذلك. ثم نجدهما بعد ذلك قادمين إلى بيت لحم حيث وضعت مريم مولودها. (4)
في بشارة الملاك ليوسف في إنجيل متى يوصف يسوع بأنه الذي «يخلص شعبه من خطاياهم». أما عند لوقا فيوصف بأنه الذي «يعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد.» أي إن متى يبشر بمسيح روحاني، أما لوقا فيبشر بمسيح سياسي. (5)
يقتبس متى من سفر إشعيا التوراتي 7: 14 عندما يقول: «لكي يتم ما قيل بالنبي القائل: هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعون اسمه عمانوئيل». ثم يضيف من عنده: «الذي تفسيره الله معنا». ومتى هنا شأنه شأن بقية مؤلفي الأناجيل يعتمد على الترجمة اليونانية للتوراة والمعروفة باسم «السبعينية». وهذه الترجمة، كما يقر الآن جميع علماء التوراة، قد أخطأت بإيجاد المعادل اليوناني لكلمة
Almah
التي استخدمها مؤلف سفر إشعيا والتي تعني بالعبرية فتاة صغيرة، وقالت
أي فتاة عذراء. وعليه فإن الآية إياها في الأصل العبري ينبغي أن تقرأ على الشكل التالي: «هو ذا الفتاة الصغيرة (= ألمه) تحبل وتلد ابنا ... إلخ.» وهذا يعني أن شهادة سفر إشعيا عن ولادة المسيح من عذراء لا أساس لها في النص العبري لسفر إشعيا، ولا في بقية ترجمات التوراة إلى اللغة اليونانية، واللاحقة على السبعينية، والتي استخدمت في الواقع كلمة
Neanis
أي فتاة صغيرة باليونانية، مقابل
أي عذراء.
2 (6)
يقول متى: إن يوسف قد أخذ مريم كما أمره الملاك بعد أن كان عازما على تخليتها، «ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر، ودعا اسمه يسوع». وكلمة «يعرفها» هنا تدل على الخلوة الجنسية، وبما أن المعنى المباشر لهذه الآية يدل على أن يوسف لم يختل بمريم قبل الولادة، ولكنه ربما اختلى بها بعد الولادة، فإن القائمين على الترجمة الكاثوليكية الجديدة إلى العربية (منشورات المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1969م)، قد عمدوا إلى إعادة صياغة جملة «ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر»، وقالوا: «على أنه لم يعرفها. فولدت ابنا فسماه يسوع». (4) قصة الميلاد
إن قصة ميلاد يسوع غائبة عن أول الأناجيل وهو إنجيل مرقس، وكذلك عن آخرها وهو إنجيل يوحنا. وهذا ما دعا معظم الباحثين في العهد الجديد إلى اعتبارها إضافة لاحقة دبجها متى ولوقا كل على طريقته.
رواية متى
بعد أن ختم متى في الإصحاح الأول قصة الحبل العذري بقوله: «وأخذ امرأته ولم يعرفها حتى وضعت ابنها البكر، ودعا اسمه يسوع»، يستهل قصة الميلاد في الإصحاح الثاني فيقول: «ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودوس الملك، إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟ فإنا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له. فلما سمع هيرودوس الملك اضطرب وجميع أورشليم معه، فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم: أين يولد المسيح؟ فقالوا له: في بيت لحم اليهودية، لأنه هكذا مكتوب بالنبي: وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل.
حينئذ دعا هيرودوس المجوس سرا وتحقق منهم زمان النجم الذي ظهر، ثم أرسلهم إلى بيت لحم، وقال: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي، ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتي أنا أيضا وأسجد له. فلما سمعوا من الملك ذهبوا، وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف فوق، حيث كان الصبي. فلما رأوا النجم فرحوا فرحا عظيما جدا وأتوا إلى البيت ورأوا الصبي مع مريم أمه، فخروا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له ذهبا ولبانا ومرا، ثم إذ أوحي إليهم في حلم ألا يرجعوا إلى هيرودوس، انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم.
وبعدما انصرفوا، إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا: قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك؛ لأن هيرودوس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه. فقام وأخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف إلى مصر، وكان هناك إلى وفاة هيرودوس، لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: ومن مصر دعوت ابني. حينئذ لما رأى هيرودوس أن المجوس سخروا به غضب جدا، فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها من ابن سنتين فما دون، بحسب الزمان الذي تحققه من المجوس. حينئذ تم ما قيل بإرميا النبي القائل: صوت سمع في الرامة، نوح وبكاء وعويل كثير، راحيل تبكي على أولادها ولا تريد أن تتعزى لأنهم ليسوا بموجودين.
فلما مات هيرودوس، إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر قائلا: قم وخذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل، لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي. فقام وأخذ الصبي وأمه وجاء إلى أرض إسرائيل. ولكن لما سمع أن أرخيلاوس يملك على اليهودية عوضا عن هيرودوس أبيه خاف أن يذهب إلى هناك. وإذ أوحي إليه في حلم انصرف إلى نواحي الجليل وأتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة، لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيدعى ناصريا.» (متى، 2: 1-23)
رواية لوقا
بعد أن ينتهي لوقا من سرد قصة ميلاد يوحنا المعمدان التي شبكها مع قصة ميلاد يسوع في إصحاحه الأول، ينتقل إلى القول: «وفي تلك الأيام صدر أمر من أغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة، وهذا الاكتتاب جرى إذ كان كيرينيوس والي سوريا. فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد إلى مدينته. فصعد يوسف أيضا من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم لكونه من بيت داود وعشيرته، ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى. وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد، فولدت ابنها البكر وقطمته وأضجعته في المذود؛ إذ لم يكن لهما موضع في المنزل (= النزل، الفندق، الخان).
وكان في تلك الكورة رعاة متبدين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم. وإذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب أضاء حولهم فخافوا خوفا عظيما. فقال لهم الملاك: لا تخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لكل الشعب، أنه قد ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب، وهذه لكم العلامة، تجدون طفلا مقمطا مضجعا في مزود. وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين: المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة. ولما مضت عنهم الملائكة إلى السماء، قال الرعاة بعضهم لبعض: لنذهب الآن إلى بيت لحم وننظر هذا الأمر الواقع الذي أعلمنا به الرب. فجاءوا مسرعين ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعا في مزود. فلما رأوه أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن الصبي، وكل الذين سمعوا تعجبوا مما قيل لهم من الرعاة. وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها. ثم رجع الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوه، ورأوه كما قيل لهم.
ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع كما تسمى من الملاك قبل أن حبل به في البطن، ولما تمت أيام تطهيرها حسب شريعة موسى صعدوا إلى أورشليم ليقدموه للرب، كما هو مكتوب في ناموس الرب أن كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوسا للرب، ولكي يقدموا ذبيحة كما قيل في ناموس الرب، زوج يمام أو فرخي حمام ... ولما أكملوا كل شيء حسب ناموس الرب رجعوا إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة، وكان الصبي ينمو ويتقوى بالروح ممتلئا حكمة، وكانت نعمة الرب عليه.» (لوقا، 2: 1-40)
من قراءة هاتين الروايتين اللتين لا تتفقان إلا في عنصر الولادة في بيت لحم، نتوصل إلى الملاحظات التالية: (1)
على الرغم من أن الروايتين تشتركان في عنصر الولادة في بيت لحم؛ لأن المسيح في النبوءات التوراتية يولد في هذا المدينة، إلا أن متى الذي ينكر الأصل الجليلي للعائلة المقدسة ويجعل من بيت لحم موطنها الأصلي، يقول لنا بأن الولادة حصلت بشكل طبيعي في بيت العائلة، وذلك في عهد الملك هيرود الكبير الذي جعله الرومان ملكا على فلسطين وحكم من عام 37 إلى عام 4ق.م. وعليه فإن من المرجح أن ميلاد يسوع وفق رواية متى قد حصل نحو عام 6ق.م. أي قبل وفاة هيرود بعامين. أما لوقا الذي جعل من ناصرة الجليل الموطن الأصلي للعائلة في قصة الميلاد العذري، فقد جاء بيوسف ومريم من الناصرة إلى بيت لحم بداعي الإحصاء السكاني الذي أمر به الإمبراطور أوغسطس عندما كان كيرينيوس واليا على سوريا. وبدلا من ولادة مريم في بيت الأسرة في بيت لحم، يجعلها لوقا تلد خارج أحد الخانات على مشارف بيت لحم وتضجع مولودها في مزود لعلف الحيوانات، وذلك لعدم وجود مكان لهما في الخان بسبب كثرة الواردين إلى المدينة من أجل الاكتتاب. وبما أن المعلومات التاريخية تقول لنا بأن السلطات الرومانية عينت كيرينيوس واليا على سوريا عام 6م، وفي عهده جرى مثل هذا الإحصاء الذي كان يهدف أساسا إلى إحصاء المكلفين ضريبيا،
3
فإن ميلاد يسوع وفق رواية لوقا يجب أن يكون في عام 6م، أي بعد التاريخ الذي نستنتجه من رواية متى باثنتي عشرة سنة. وهنالك نقطة تستحق التوقف عندها فيما يتعلق بإحصاء كيرينيوس، فإذا كان هذا الإحصاء قد جرى لغاية محددة تتعلق بالتكليف الضريبي للمواطنين، فقد كان الأحرى بيوسف أن يبقى في مكان إقامته ومقر عمله لا أن يمضي إلى بيت لحم موطن أجداده. (2)
يقحم متى على رواية الميلاد مجوس آتين من الشرق رأوا نجم ولادة المسيح فتبعوه لكي يأتوا ويسجدوا له. وكانت صفة المجوس في ذلك الوقت تطلق على الحكماء المتضلعين بالفلك وعلوم التنجيم، وعندما سمع هيرود بخبر ميلاد المسيح ملك اليهود اضطرب من ظهور منافس له على العرش، فدعا العارفين بالكتب وسألهم أين يولد المسيح، فقالوا له في بيت لحم. وهنا يقتبس متى من سفر ميخا التوراتي نبوءته بخصوص ميلاد المسيح في بيت لحم (راجع ميخا، 5: 2) بعد تحويرها على طريقته، فقال: «وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا ... منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل.» هذا وتتجلى اللغة الميتولوجية التي استخدمها متى في قصة الميلاد بأوضح أشكالها عندما جعل النجم يقود المجوس إلى بيت يوسف حتى وقف فوقه. ونحن هنا لا يمكن إلا أن نتساءل كيف يمكن لنجم يبعد عن الأرض مسافات تقاس بالسنوات الضوئية أن يشير إلى بيت بعينه في بلدة صغيرة على الكرة الأرضية؟ (3)
يتحول مجوس متى الذين رأوا نجم ملك اليهود في المشرق وتبعوه، إلى رعاة عند لوقا كانوا يحرسون غنمهم في الليل عندما ظهر لهم ملاك وبشرهم بميلاد المخلص في بيت لحم، وهنا يضيف لوقا على هذا المشهد الميثولوجي عناصر تجعله أكثر فخامة، عندما ينضم إلى الملاك حشد كبير من جند السماء يسبحون الله. (4)
عندما تأكد لهيرود في رواية متى عدم قدرته على معرفة هوية الطفل بعد أن خدعه المجوس، أمر بقتل جميع المواليد في بيت لحم، ولكن الملاك أمر يوسف أن يأخذ زوجته وطفلها ويسافر بهما إلى مصر، ففعل ذلك تحت جنح الظلام، وأقام في مصر مدة غير محددة حتى أمره الملاك بالعودة لأن هيرود قد مات. وعندما وصل إلى الوطن عرف أن فلسطين قد قسمت إلى عدة ولايات بعد وفاة ملكها، وأن أرخيلاوس ابنه قد صار ملكا على مقاطعة اليهودية، فخاف من الإقامة في بيت لحم، وتوجه إلى الجليل حيث سكن في مدينة الناصرة . وبذلك يفسر متى كون يسوع جليليا على الرغم من ولادته في بيت لحم.
وفي الحقيقة، فإن التاريخ قد حفظ لنا الكثير من مآثر هيرود الكبير ومن فظائعه وجرائمه التي لا تحصى أيضا، ومنها قتل العديد من أفراد أسرته نفسها، ولكن مذبحة مواليد بيت لحم لم تحصل بالتأكيد ولم يتوفر لدينا شاهد تاريخي على وقوعها. أما غرض متى من ابتكار هذه القصة فلاهوتي بالدرجة الأولى، لأنه أراد أن يجعل من يسوع موسى الثاني، ومن هيرود صنوا لفرعون. وكما أمر فرعون بقتل جميع مواليد العبرانيين من الذكور ولكن موسى الطفل نجا وحده عندما وضعته أمه في سفط من البردي وأسلمته إلى النهر (سفر الخروج: 1-2)، كذلك فعل هيرود بمواليد بيت لحم ولكن يسوع وحده نجا. ويستشهد متى بآية من سفر هوشع تقول: «ومن مصر دعوت ابني» ليفسر بها سفر يسوع إلى مصر وعودته منها، علما بأن هوشع هنا لم يكن يتحدث عن دعوة المسيح من مصر، وإنما عن دعوة بني إسرائيل المستعبدين هناك. والنص الكامل للآية التي أوردها متى مجتزأة هو: «لما كان إسرائيل غلاما أحببته، ومن مصر دعوت ابني» (هوشع، 11: 1). (5)
بما أن لوقا قد جعل ميلاد يسوع بعد مضي عشر سنوات على وفاة الملك هيرود، فإن قصة مذبحة الأطفال والهرب إلى مصر، لم يكن لها مكان في روايته التي سارت أحداثها بعد الميلاد بشكل روتيني. فقد انتظر الوالدان مدة ثمانية أيام وهي الفترة اللازمة لطهارة الوالدة بعد الوضع، ثم ختنا الطفل وذهبا إلى الهيكل؛ حيث قدما قربانا عنه حسب شريعة موسى ثم رجعوا إلى الجليل. وبعد ذلك ينفرد لوقا بذكر قصة لم ترد في بقية الأناجيل. فعندما كان يسوع في سن الثانية عشرة، قامت العائلة بزيارة أورشليم في عيد الفصح، وهناك افتقد الوالدان يسوع ولم يجداه فراحا يبحثان عنه في كل مكان حتى عثرا عليه في الهيكل يجادل الشيوخ مفصحا عن حكمة لا تتوفر عادة لمن هم في سنه (لوقا، 2: 41-50).
هذا كل ما لدينا في الأناجيل الرسمية عن أسرة يسوع وميلاده وحياته حتى بلوغه الثلاثين من العمر. أما أناجيل الطفولة المنحولة والتي لم تعترف بها الكنيسة، فلم تزد على معلوماتنا أي جديد؛ لأنها اعتمدت روايتي متى ولوقا، وأضافت عليها الكثير من العناصر الميثولوجية. وبما أن هذه الأناجيل قد دونت بعد الأناجيل الأربعة بزمن طويل، وذلك فيما بين أواسط القرن الثاني الميلادي وأواسط القرن الرابع، فإنه من غير المحتمل أن يكون مؤلفوها قد اعتمدوا مصادر لم تكن متوفرة زمن تدوين الأناجيل الرسمية. ولكن عنصرا واحدا في هذه الأناجيل يستحق التوقف عنده؛ لأنه يقدم لنا رواية ثالثة عن مكان ولادة يسوع، الذي لم يولد لا في بيت عادي من بيوت بيت لحم ولا في خان على مشارفها، وإنما على الطريق قبل الوصول إلى بيت لحم.
فعلى ما ورد في إنجيل يعقوب التمهيدي، فإن يوسف ينطلق مع زوجته الحبلى من أجل الاكتتاب في بيت لحم، ولما انتصف بهم الطريق قالت له مريم: أنزلني عن الأتان الآن؛ لأن الذي في بطني يضغط من أجل الخروج. فوجد يوسف هناك مغارة فأدخلها إليها ثم خرج ليبحث عن قابلة، فالتقى في طريقه امرأة تطوعت لمساعدته بعد أن روى لها قصته وكيف حبلت خطيبته من الروح القدس، وعندما وصلا إلى المغارة كانت مريم قد وضعت طفلها وألقمته صدرها. فتقدمت المرأة وفحصتها فوجدتها ما زالت عذراء بعد الولادة.
4
ولا أدل على تأثير هذه القصة في نفوس المسيحيين الأوائل، على الرغم من تعارضها مع قصة الميلاد الرسمية فيما يتعلق بعنصر المغارة، من أن الإمبراطورة هيلانة قد بنت كنيسة المهد فوق مغارة في بيت لحم كان الموروث الشعبي يعتقد أنها مغارة الميلاد، وذلك عام 330م. وما زالت هذه الكنيسة قائمة حتى الآن. وفي هذه الحادثة دلالة ذات أهمية على أن الحدود لم تكن واضحة في أذهان المسيحيين بين الأناجيل الرسمية والأخرى المنحولة حتى ذلك الوقت المتأخر. ومن الجدير بالذكر أن مشهد الولادة في مغارة بقي شائعا في الرسوم الدينية المسيحية وصولا إلى يومنا هذا؛ حيث نجد مجسمات مصغرة لهذا المشهد في واجهات المحال التجارية خلال أسبوع الميلاد في أوروبا وأميريكا.
من كل ما تقدم نخلص إلى نتيجة مفادها أن مؤلفي إنجيلي متى ولوقا لم يكن بين أيديهما معلومات بخصوص ميلاد يسوع وطفولته وشبابه، وأنهما ردما هذه الفجوة بقصة استلهمت عناصرها الرئيسية من القصص الديني الشائع شرقا وغربا عن ميلاد الطفل المؤله من عذراء. وهذا ما نجده في قصص ميلاد بوذا، والإله آتيس الذي غزا روما قادما من الشرق، والإله أدونيس السوري، والإله الفارسي ميثرا، والمخلص الزرداشتي شاوشيانط الذي سيظهر في نهاية التاريخ، عندما تحبل به عذراء تنزل للاستحمام في مياه إحدى البحيرات حيث تتسرب إلى رحمها بذور زرادشت التي حفظت هناك منذ القدم. وقائمة هؤلاء المولودين من عذراء طويلة، وتتطلب بحد ذاتها دراسة مستقلة تبحث في منشئها وبواعثها الفلسفية والنفسية.
على أننا سوف نتوقف في المرحلة الثانية من هذا البحث لندقق في عنصرين من عناصر قصة الميلاد الإنجيلية؛ وهما ولادته في بيت لحم اليهودية، وحياته الأولى في مدينة الناصرة، لنرى أن ولادته في بيت لحم اليهودية مستبعدة، وأن مدينة الناصرة لم يكن لها وجود في ذلك الزمان.
مشكلة بيت لحم والناصرة
إن الصورة العامة التي تقدمها لنا جغرافية فلسطين هي صورة منطقة تتألف من بيئات معزولة عن بعضها البعض. وقد انعكست هذه الجغرافية المتنوعة على الحياة السياسية، فكانت فلسطين مقسمة على الدوام إلى عدد من الدويلات الصغيرة المستقلة. وتتجلى عزلة البيئات الفلسطينية بشكل خاص في مناطق الهضاب، ونموذجها مرتفعات الجليل التي يفصلها وادي يزرعيل العريض والخصب عن الهضاب المركزية (أي منطقة السامرة) ومرتفعات يهوذا. وتشير الشواهد الأركيولوجية والتاريخية إلى أن صلات الجليل الثقافية والسياسية مع فينيقيا والعالم السوري الأوسع كانت أقوى من صلاته مع المنطقة الفلسطينية. فإلى جانب اللقى الأثرية والبنى المعمارية التي تشهد على مثل هذه الصلات، فقد ورد اسم مدينة حاصور عاصمة الجليل القديمة في أكثر من عشرين رقيما ضمن أرشيف مدينة ماري السورية على الفرات الأوسط، والذي يرجع تاريخه إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد. وتكشف لنا المعلومات الواردة في هذه الرقم عن أهمية حاصور وعن علاقاتها الدولية الواسعة.
خلال عصر الحديد الأول والثاني (1200-587ق.م.) الذي شهد مولد وغياب مملكتي السامرة ويهوذا، بقيت منطقة الجليل على عزلتها عن مناطق المرتفعات الأخرى وراء وادي يزرعيل (مرجع ابن عامر)، ولا يوجد لدينا دليل على صلات ثقافية مع السامرة جارتها الجنوبية بل على العكس من ذلك؛ فالفخاريات وغيرها من اللقى المكتشفة خلال هذا العصر تشير بقوة إلى تأثيرات فينيقية وآرامية، ويبدو أن الجليل قد وقع تحت سيطرة مملكة صور آنا وتحت سيطرة مملكة دمشق آنا آخر، ولم يقع تحت سيطرة مملكة السامرة إلا خلال الهزيع الأخير من حياتها قبل دمارها على يد الآشوريين عام 721ق.م. ولهذا فقد قام الآشوريون بتهجير قسم كبير من سكانه مع من هجروا من أهل السامرة وأحلوا محلهم سكانا من مناطق أخرى.
تنقصنا المعلومات عن الجليل خلال العصر الفارسي، أما خلال العصر الهيلينستي والروماني فقد تهلين الجليل مثلما تهلينت فينيقيا والسامرة وشرقي الأردن، ونشأت فيه مدن جديدة بنيت وفق المفاهيم المعمارية والاجتماعية اليونانية، أهمها مدينتا تيبرياس (طبرية) وسيفوريس. وقد كان التركيب الإثني لهذه المدن متنوعا؛ فقد احتوت على ذخيرة أساسية من السكان الأصليين القدماء، وعلى شرائح أخرى تم تهجيرها إلى الجليل من قبل الآشوريين، وعلى جاليات يونانية. أما الديانة السائدة في الجليل فقد كانت كنعانية تقليدية تم تطعيمها بعناصر يونانية بعد مطابقة الآلهة المحلية مع الآلهة اليونانية. ولهذا يطلق مؤلف إنجيل متى على هذه المنطقة اسم جليل الأمم (متى، 4: 15). ومتى هنا يستخدم تعبير «الأمم» بالمعنى التوراتي في الإشارة إلى الشعوب غير اليهودية.
لكل هذه الأسباب مجتمعة فإن الجليل لم يحتو حتى أواسط القرن الثاني إلا على جالية يهودية قليلة العدد، وكان الجليليون ينظرون بعداوة إلى هؤلاء ويعتبرونهم جسما دخيلا على المجتمع الجليلي، وعندما ثارت مقاطعة اليهودية على الحكم السلوقي ونجح يهوذا المكابي في طرد الحامية السلوقية من أورشليم عام 164ق.م. وجد الجليليون في ذلك مناسبة للتخلص من اليهود، وهذا ما دفع بيهوذا المكابي إلى إرسال نجدة عسكرية أجلتهم عن الجليل وجاءت بهم إلى أورشليم (راجع سفر المكابين الأول في الترجمة الكاثوليكية، 5: 14-23). ولكن الوضع تغير بعد بضعة عقود عندما تحولت مقاطعة اليهودية إلى مملكة مستقلة وراح حكامها من الأسرة المكابية يوسعون مناطق نفوذهم، فقام الملك أرسطو بولس الأول بضم الجليل إلى أملاكه نحو عام 100ق.م. وفرض الدين اليهودي على سكانه بقوة السلاح. ومع ذلك فقد بقي الدين اليهودي بمثابة قشرة سطحية تعلو الثقافة والمجتمع في الجليل، والمراجع اليهودية ملأى بالإشارة إلى قلة دين الجليليين وجهلهم بالطقوس والواجبات الدينية اليهودية.
بعد دخول الرومان إلى سوريا واستيلائهم على أورشليم عام 63ق.م. تفككت دولة المكابيين، وساد جو من التسامح الديني الذي شجع الكثيرين من سكان الجليل على الارتداد عن اليهودية والعودة إلى دين آبائهم، لا سيما في عهد هيرود الكبير (أو هيرود العربي كما كان يلقب) الذي عينه الرومان ملكا على منطقتي فلسطين وشرقي الأردن، والذي شجع الديانات المحلية على التعبير عن نفسها وبنى لها معابد لآلهتها التقليدية القديمة. وهذا يعني أن الجليل لم يقع تحت سيطرة الثقافة اليهودية إلا لفترة قصيرة من الزمن، وأن من بقي على اليهودية في الجليل بعد الفتح الروماني لم يكن ينظر إلى نفسه كيهودي أرثوذكسي، مثلما لم يعد يهوديا حقا من قبل أهل اليهودية.
هذه المقدمة عن تاريخ الجليل مهمة جدا لفهم الخلفية الثقافية التي كانت وراء رسالة يسوع التي خرج بها عن الأعراف والشرائع والعقائد اليهودية. فلربما لم ينشأ يسوع في أسرة يهودية، أو أن أسرته قد تهودت خلال فترة الحكم المكابي واستمرت على اليهودية الشكلية بحكم العادة، أو كانت تنتمي إلى جماعة روحية من جماعات جبل الكرمل والمعروفة بطبيعتها الصوفية ونزعتها العالمية. لقد نشأ يسوع في الجليل وعاش فيه طيلة حياته وبشر برسالته، وكان تلامذته وأتباعه جليليين، وهو لم يذهب إلى أورشليم إلا في أواخر مسيرته التبشيرية حيث صلبه اليهود . وهذا يستتبع منطقيا أن يكون قد ولد في الجليل لا في اليهودية. ولكن كيف يمكن التوفيق بين هذه النتيجة وبين الأخبار التي أوردها كل من متى ولوقا عن ولادة يسوع في بيت لحم؟
في الحقيقة إذا كانت قصة الميلاد في بيت لحم ذات أصل تاريخي، فإن المدينة المرشحة لأن تكون مكان الميلاد ليست بيت لحم اليهودية، وإنما مدينة أخرى في الجليل تحمل الاسم نفسه. إن ما لا يعرفه الجميع، وما تم التعتيم عليه تاريخيا، هو وجود مدينة في الجليل تحمل اسم بيت لحم تقع مقابل السفوح الشمالية الشرقية لجبل الكرمل، وقد كانت هذه المدينة قائمة ومزدهرة خلال حياة يسوع، على ما بينته التنقيبات الأثرية التي أرجعت تاريخها إلى القرن السابع قبل الميلاد. وقد عثرت البعثة الأثرية الإسرائيلية التي نقبت في الموقع على بقايا كنيسة بيزنطية تعود بتاريخها إلى أواخر القرن الرابع الميلادي، ولكنها بنيت في موقع كنيسة أقدم منها تعود بتاريخها إلى نحو عام 100م. وبيت لحم الجليل هذه تظهر في المصورات الجغرافية القديمة ومنها مصور بطليموس الذي يرجع بتاريخه إلى نحو 150م. وقد تتالت على المدينة مراحل خراب وهجران ثم بناء وازدهار طوال أكثر من ألفي سنة، وعند قيام دولة إسرائيل عام 1948م استوعبت حدودها بيت لحم هذه مع معظم الجليل، وهي تظهر الآن في جميع الخرائط الحديثة لدولة إسرائيل. وقد ورد في الموسوعة اليهودية الصادرة في إسرائيل عام 1972م بخصوصها ما يلي: «إن بيت لحم الجليلية تقع في غرب الجليل، وهي قريبة من قرية تيفون في سبط زبولون. وكانت في الماضي ضمن الأراضي التابعة لصور ... وفي سنة 1948م سكنتها جالية ألمانية تابعة لجمعية الهيكل» (الجزء 4، ص750).
1
وقد عرف محررو التوراة بيت لحم الجليل، وفي الكتاب إشارات عديدة إليها. من ذلك ما أورده محرر في سفر يشوع في معرض تعداده للمناطق التي وزعها يشوع على الأسباط وبينها بيت لحم التي أعطيت لسبط زبولون (يشوع، 19: 10-16). وكما هو معروف فإن سبط زبولون في كتاب التوراة قد سكن منطقة في الجليل الأدنى تقع إلى الشرق من جبل الكرمل. ومن ذلك أيضا ما ورد في سفر القضاة: «وقضى يفتاح لإسرائيل ست سنين. ومات يفتاح الجلعادي، وقضى بعده لإسرائيل إبصان من بيت لحم سبع سنين. ومات إبصان ودفن في بيت لحم، وقضى بعده لإسرائيل إيلون الزبولوني ...» وتعلق الترجمة الكاثوليكية الجديدة، وتوراة أورشليم الفرنسية على هذا النص بقولها: «إن بيت لحم التي يتحدث عنها السفر هنا هي بيت لحم زبولون، وهي التي ذكرها سفر يشوع 19: 15. وهي بالقرب من الناصرة.»
اعتمادا على ذلك نستطيع القول بأن الأخبار التي تواترت إلى مؤلف إنجيل متى عن بيت لحم بأنها الموطن الأصلي لأسرة يسوع ربما كانت صحيحة، إلا أن متى وجه أنظار قارئه إلى بيت لحم يهوذا بدلا من بيت لحم الجليل لكي تنطبق على يسوع النبوءة التوراتية الواردة في سفر ميخا عن ولادة المسيح فيها، فقال: «لأنه هكذا مكتوب بالنبي: وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا، لست الصغرى بين رؤساء يهوذا؛ لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل» (متى، 2: 6). بينما وردت نبوءة ميخا في نصها الأصلي على الشكل التالي: «أما أنت يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، ولكن منك يخرج لي الذي يكون متسلطا على إسرائيل ومخارجه منذ القدم» (ميخا، 5: 2).
هذا ويطرح المكان الذي أمضى فيه يسوع طفولته وشبابه مشكلات لا تقل عن مشكلات مكان ميلاده. فقد قال متى في نهاية قصته عن الميلاد: إن يوسف بعد عودته من مصر خاف من العودة إلى بيت لحم، و: «انصرف إلى نواحي الجليل وأتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة، لكي يتم ما قيل في الأنبياء إنه يدعى ناصريا» (2: 22-23). وهنا نلفت النظر إلى أن اسم المدينة لم يرد في النص اليوناني بصيغة
Nasirah (ناصرة-كما ورد في العربية) وإنما بصيغة
Nazareth (نازاريت). أما النسبة إليها فقد وردت بصيغة
Nazoraios (نازورايوس). وقد احتفظت الترجمات الأوربية بصيغة
Nazareth
كاسم لمدينة يسوع ولكنها نسبت إليها بصيغة
Nazarene
الإنكليزية، وصيغة
Nazoreon
الفرنسية. وهنا تعلق الترجمة الكاثوليكية الجديدة للآباء اليسوعيين (1989م) على عبارة متى «إنه سيدعى ناصريا» بقولها: «ناصريا: يصعب علينا أن نعرف بدقة ما هو النص الذي يستند إليه متى من العهد القديم. فاللفظ المستعمل (
Nazoraos = ) لا يدل على أحد سكان الناصرة ولا على أحد من شيعة الناصريين، بل كان متى يرى فيه (على ما يبدو) لفظا يعادل الجليلي (قارن مع متى، 26: 69). ولربما أراد متى أن يشير باللفظة إلى قدوس الله المثالي، إلى النذير أو المنذور لله، على ما نجده في سفر القضاة 13: 5».
وأغلب الظن أن تعبير
Nazoraios
اليوناني هو المعادل لتعبير «النذير»، أو «المنذور» الوارد في التوراة، وهو واحد من جماعة النذيرين التي تنفرد بأخلاقيات معينة وممارسات خاصة بهم؛ فهم لا يشربون الخمر أو أي شيء مصنوع من العنب، ولا يحتكون لأي سبب بجثة ميت، ولا يقصون شعورهم، ويتبعون نظاما غذائيا صارما. وقد كان شمشمون واحدا من هؤلاء النذيرين على ما نقرأ في سفر القضاة: «وكان رجل من صرعة من عشيرة الدانيين اسمه منوح وامرأته عاقر لم تلد فتراءى ملاك الرب للمرأة وقال لها: ها أنت عاقر لم تلدي، ولكنك تحبلين وتلدين ابنا. والآن فاحذري ولا تشربي خمرا ولا مسكرا ولا تأكلي شيئا نجسا. فها أنت تحبلين وتلدين ابنا ولا يعلو موسى (= أداة الحلاقة) رأسه، لأن الصبي يكون نذيرا لله من البطن، وهو يبدأ يخلص إسرائيل من يد الفلسطينيين» (القضاة، 13: 2-7).
ويرد ذكر هؤلاء النذيرين في مواضع عدة من كتاب التوراة، ومنها ما ورد في سفر النبي عاموس في معرض تنديده بخطايا بني إسرائيل: «... وأنا أصعدتكم من أرض مصر وسرت بكم في البرية أربعين سنة لترثوا أرض الأموري، وأقمت من بينكم أنبياء ومن فتيانكم نذيرين. أليس هكذا يا بني إسرائيل يقول الرب؟ لكنكم سقيتم النذيرين خمرا وأوصيتم الأنبياء قائلين لا تتنبئوا» (عاموس، 2: 10-12). وكان النبي الكبير صموئيل منذورا للرب من بطن أمه أيضا (صموئيل: 1).
ويتحدث النبي إرميا عن نفسه كنذير للرب من بطن أمه: «فكانت كلمة الرب إلي قائلا: قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك، جعلتك نبيا للشعوب. فقلت: آه يا سيد الرب، إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد. فقال الرب لي: لا تقل إني ولد لأنك إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به. ومد الرب يده ولمس فمي وقال الرب لي : ها قد جعلت كلامي في فمك» (إرميا، 1: 4-8). ونقرأ في سفر إشعيا على لسان المخلص الذي سيبعثه الرب لبني إسرائيل مسيحا: «الرب من البطن دعاني، من أحشاء أمي ذكر اسمي، وجعل فمي كسيف حاد. في ظل يده خبأني وجعلني سهما مبريا في كنانته أخفاني ... الرب جابلي من البطن عبدا له لإرجاع يعقوب إليه فينضم إليه إسرائيل، فأتمجد في عيني الرب وإلهي يصير قوتي» (إشعيا، 49: 1-5).
ويقول الملاك لوالد يوحنا المعمدان عندما جاءه ببشارة حمل زوجته العاقر: «لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت وامرأتك أليصابات ستلد لك ابنا وتسميه يوحنا، ويكون لك فرح وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته؛ لأنه يكون عظيما أمام الرب، وخمرا ومسكرا لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس» (لوقا، 1: 13-15). وفي أناجيل الطفولة المنحولة نجد أن مريم العذراء كانت نذيرة للرب أيضا. ففي إنجيل يعقوب التمهيدي تقول حنة أم مريم للملاك الذي بشرها بالحبل: «حي هو الرب، إذا ما أنجبت ذكرا أو أنثى فسوف أنذره للرب ليخدمه كل أيام حياته.» وبعد أن صارت الطفلة قادرة على المشي أخذها أبواها إلى هيكل الرب وفاء بالنذر، وهناك أقامت إلى سن المراهقة.
ونجد أصول هؤلاء النذيرين في الإصحاح السادس من سفر العدد حيث نقرأ: «وكلم الرب موسى قائلا: كلم بني إسرائيل وقل لهم: إذا انفرز رجل أو امرأة لينذر نذر النذير، لينتذر للرب، فعن الخمر والمسكر يفترز ولا يشرب خل الخمر ولا خل المسكر، ولا يشرب من نقيع العنب ولا يأكل عنبا رطبا أو يابسا. كل أيام نذره افتراز، لا يمر موسى على رأسه إلى كمال الأيام التي انتذر فيها. للرب يكون مقدسا، ويربي خصلات شعر رأسه. كل أيام انتذاره لا يأتي إلى جسد ميت» (العدد، 6: 1-6).
هذا المعنى لتعبير
Nazoraios
اليوناني أو
Nazarene
الإنكليزي، يتأكد لنا عندما نعلم أنه لم توجد في عصر يسوع مدينة اسمها
Nazareth
في أي مكان في الجليل. فهذا الاسم غير موثق في التوراة أو التلمود، وهي لا تظهر على الخرائط والمصورات الجغرافية العائدة إلى القرن الأول والقرن الثاني الميلادي. كما أن المؤرخ اليهودي يوسيفوس الذي أمدنا في نهاية القرن الأول الميلادي بقوائم ومعلومات عن كل مدن وبلدات وقرى فلسطين، لم يأت على ذكر مدينة تدعى
Nazareth
أو ما هو قريب من هذا الاسم.
2
هذا وتعزز التنقيبات الأثرية في الموقع الذي يدعى الناصرة اليوم هذه المعلومات المستقاة من التاريخ. يقول الباحث أيتيان نودي الأستاذ في مدرسة أورشليم للدراسات الكتابية والأركيولوجية ما يلي: «لقد أجرينا تنقيبات أثرية في
Nazareth
تحت الكنيسة (= بازاليكا) الحالية، فوجدنا بعض البقايا التي ترجع إلى القرن الثاني وما بعده، أما من القرن الأول فلم نجد شيئا واضحا، إن لم نقل أكثر.» ويقول المؤرخ الفرنسي بيار أنطوان برنهايم: إن
Nazareth
لم تكن موجودة أيام المسيح، وهذه حقيقة ثابتة من الناحية الأركيولوجية والتاريخية. وهكذا يقول أيضا الشارح الكاثوليكي الكبير م.أ. بومار في دراسة له عن إنجيل مرقس، وغيره من الشارحين أمثال تروكمي وكروسمان وكولبير وغيرهم.
3
كيف إذن تم الربط بين
Nazareth
الواردة في النص اليوناني للإنجيل، وبين الموقع الجليلي المعروف باسم الناصرة؟
خلال القرون الأولى للميلاد عندما كانت العقيدة المسيحية في طور البناء، راح آباء الكنيسة يوثقون كل موقع جغرافي ذي صلة بحياة يسوع وكل قرية ومدينة وبقعة. وبما أن مثل هذا التوثيق لم يكن ناجحا في العديد من الحالات، فقد عمد الخيال الشعبي من ناحيته إلى ربط أحداث معينة بمواقع مختلفة في كثير من الأحيان، حتى صار للحادثة الواحدة أكثر من موقع مفترض، ولا أدل على ذلك من أن الحجاج إلى أرض الإنجيل يطاف عليهم بسبعة أماكن يقال إن الملاك قد ظهر فيها لمريم العذراء في قصة البشارة، ويبدو أن الساعين إلى التوثيق الرسمي للمواقع الإنجيلية قد أفادوا في العديد من الحالات مما سبقهم إليه الخيال الشعبي. وهذا ما حصل فيما يتعلق بموقع
Nazareth . فبعد أن فشلت كل الجهود في إيجاد موقع بهذا الاسم في طول الجليل وعرضه، تم العثور على مزرعة صغيرة فيها عدة بيوت حول نبع صغير (يدعى اليوم بنبع السيدة مريم) تدعى باللغة المحلية ناصرة، وهو الاسم الأكثر قربا إلى الكلمة اليونانية
Nazareth . وبذلك أراح الباحثون أنفسهم من مهمة بدت لهم مستحيلة.
على أن مدينة أخرى يمكن أن تطرح نفسها كبديل للناصرة وهي كفر ناحوم، التي نفهم من روايات الإنجيل أنها تقع على الشاطئ الشمالي لبحر الجليل (= طبريا). فإنجيل متى يخبرنا أنه بعد هبوط الروح القدس على يسوع عقب اعتماده في نهر الأردن، اعتكف في الصحراء مدة أربعين يوما. وعندما عاد إلى الجليل: «ترك الناصرة وجاء كفر ناحوم على شاطئ البحر في بلاد زبولون ونفتالي، فسكن فيها ليتم ما قيل بإشعيا النبي: أرض زبولون وأرض نفتالي، طريق البحر عبر الأردن، جليل الأمم، الشعب القاعد في الظلمة أبصر نورا باهرا، والقاعدون في بقعة الموت وظلاله أشرق عليهم نور» (متى، 3: 12-16). وفي موضع آخر يدعو متى كفر ناحوم بمدينة يسوع: «فدخل السفينة وجاء إلى مدينته، وإذا مفلوج يقدمونه إليه مطروحا على فراش ... إلخ» (متى، 9: 1). وفي إيراده للقصة نفسها يقول مرقس: «ثم دخل كفر ناحوم ... وجاءوا إليه بمفلوج يحمله أربعة ... إلخ.» ويبدو أنها كانت مدينة كبيرة لأننا نفهم من متى 8: 5-13 أن مفرزة عسكرية رومانية كانت تعسكر فيها. كما نفهم من مرقس 2: 1 و14 أنها احتوت على مركز لجباية الضرائب. وفي هذا المركز كان متى العشار (أي جابي الضريبة) جالسا عندما دعاه يسوع للانضمام إليه (متى، 9: 9-13، ومرقس 2: 14-17). وفي كفر ناحوم أجرى يسوع أكثر معجزاته الشفائية.
ولكن المشكلة هي أن كفر ناحوم غير موثقة خارج النص الإنجيلي، شأنها في ذلك شأن الناصرة، ولا يوجد في الجليل حتى اليوم موقع بهذا الاسم، ولكن الرأي السائد الآن هو مطابقتها مع مكان يدعى تل الحوم يبعد نحو ثلاثة كيلو مترات إلى الجنوب الغربي من مصب نهر الأردن في بحيرة طبريا.
هل ولد يسوع في 25 ديسمبر؟
حتى أواسط القرن الثالث الميلادي لم يكن باستطاعة آباء الكنيسة الاتفاق على تحديد شهر ويوم ميلاد يسوع؛ ولذلك فقد كان المسيحيون الأوائل يحتفلون به إما في 20 أبريل/نيسان، أو في 20 مايو/أيار، أو في 6 يناير/ك 2 وهو اليوم الذي يبتدئ فيه فيضان نهر النيل في مصر، واعتبر مناسبة للاحتفال بميلاد الإله أوزيريس. وقد بقيت هذه المسألة موضع جدل إلى أن أقر البابا ليبيريوس في عام 354م أن يسوع المسيح ولد في 25 ديسمبر/ك 1.
1
وفي الحقيقة فإن تاريخ يوم الميلاد هذا يتعارض مع رواية الميلاد في إنجيل لوقا التي تقول: إن رعاة مبتدين كانوا يحرسون قطعانهم عندما ظهر لهم ملاك الرب وقال لهم إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح (لوقا، 2: 8-11). فالكل يعرف أن شهر ديسمبر ليس الوقت المناسب لخروج الرعاة لرعي قطعانهم؛ لأن السهول في هذا الوقت تكون خالية من العشب والكلأ الصالح للرعي. فلماذا تم التغاضي عن هذا الخبر في النص المقدس، وصرف النظر عن الميلاد الربيعي إلى الميلاد الشتوي الذي يتوافق مع يوم الانقلاب الشتوي في 25 ديسمبر؟ قبل الشروع في الإجابة التفصيلية على هذا السؤال، سوف نلقي نظرة على معنى وأهمية هذا اليوم لدى العديد من الثقافات العالمية.
في القارة الهندية كان هذا اليوم مناسبة احتفالية كبرى قبل قرون عديدة من العصر المسيحي. وفي الصين اعتبر يوم الانقلاب الشتوي مقدسا، وكانت تغلق فيه الحوانيت ويتوقف الناس عن العمل. وفي فارس كانت تقام أفخم الاحتفالات في هذا اليوم الذي اعتبروه عيد ميلاد إله الشمس. وكان المصريون القدماء يعينون يوم حبل الإلهة إيزيس بابنها حوروس في اليوم الأخير من شهر مارس/آذار ويوم ولادتها به في 25 ديسمبر، عندما كان المحتفلون يخرجون من معبد حوروس وهم يحملون صورة الطفل الإلهي مثلما تحمل صورة البامبينو (أي الطفل الوليد) اليوم في روما لتعرض على المحتفلين بميلاد يسوع. وكان عباد الإله أدونيس والإله باخوس خلال العصر الهيلينستي والروماني يحتفلون بميلاد هذين الإلهين في يوم الانقلاب الشتوي. وتقول أسطورة ميلاد أدونيس إنه ولد في مغارة كما ولد يسوع في أناجيل الطفولة المنحولة. وكان للجرمان القدماء احتفال في يوم الانقلاب الشتوي يدعونه احتفال يولي
Yole ، فيه يتم تجديد العهود والمواثيق وتقدم القرابين إلى الآلهة وتشعل النار في جذوع أشجار مقطوعة. وقد بقيت كلمة يولي حتى الآن في اللغة الألمانية للدلالة على عيد ميلاد يسوع. وفي بريطانيا وإيرلندا كان السلتيون القدماء يحتفلون بالانقلاب الشتوي بإشعال الحرائق على رءوس الجبال والمرتفعات. ومن حضارة العالم الجديد في أميريكا لدينا العديد من الشواهد على قدسية يوم الانقلاب الشتوي والاحتفالات الدينية التي كانت تقام في هذا اليوم.
2
على أننا إذا أردنا فهم المؤثرات الثقافية المباشرة الكامنة وراء اختيار الكنيسة ليوم الانقلاب الشتوي باعتباره يوم ميلاد يسوع، علينا تضييق مساحة الخلفية الثقافية ذات الصلة بهذا الموضوع، وحصرها زمنيا في القرون الميلادية الثلاثة الأولى، ومكانيا في الرقعة الممتدة من نهر الفرات السوري شرقا إلى نهر التيبر الإيطالي غربا ومن البحر الأسود شمالا إلى مصر جنوبا. ففي هذا المتصل الزماني المكاني نشأت التصورات الفلسفية والدينية ذات الصلة بموضوعنا. (1) إله الشمس الحمصي
ابتدأ تدفق الآلهة الشرقية على روما منذ دخول القائد الروماني بومبي إلى سوريا عام 66ق.م. ولكن الطبع الروماني المحافظ لم يقبل طقوس الآلهة المستوردة إلا بعد تهذيبه للكثير من أصولها الشرقية وجعلها منسجمة إلى هذا الحد أو ذاك مع الطابع العام للديانة الرومانية التقليدية. في عام 193م وعقب اغتيال الإمبراطور كومودوس، نجح القائد العسكري سبتيموس سيفيروس ذو الأصول الفينيقية الأفريقية في القضاء على اثنين من منافسيه على العرش، ودخل روما منتصرا حيث سلمه مجلس الشيوخ الرداء الأرجواني القيصري، وحل في القصر الإمبراطوري مع زوجته السورية جوليا دومنا ابنة كاهن الشمس في حمص وملكها. وكان سيفيروس قد تزوجها عندما كان قائدا للفيلق العسكري الروماني الرابع المتمركز في سوريا.
كان الحكم في مدينة حمص بأيدي أسرة شمسي غرام العربية الأصل، والتي كان ملوكها يقبضون على زمام السلطة الزمنية والدينية بيد واحدة في ظل نظام حكم ثيوقراطي. ووفق التنظيم الإداري الجديد للمنطقة السورية؛ فقد تم تثبيت أسرة شمسي غرام الحاكمة في حمص تحت سلطة الوالي الروماني المقيم في أنطاكية. خلال الفترة التي نتحدث عنها هنا كانت حمص تحت حكم جوليوس باسيان الكاهن الأكبر لمعبد إله الشمس المدعو إيلاجا بال (=إله الجبل). وقد حافظت عبادة إله الشمس الحمصي على الطابع الأصلي للعبادات السامية التي لم تكن تصور آلهتها في هيئة بشرية تنزيها لها، وإنما ترمز إليها بحجر طبيعي غير منحوت غالبا ما يتخذ شكلا مخروطيا. كان حجر معبد حمص على ما يصفه المؤرخون حجرا أسود لا يزيد ارتفاعه عن ال 60سم، ذا رأس مستدق وقاعدة عريضة، وكان الكهنة يجللونه برداء مزركش صقيل عليه صورة نسر وهو الرمز الشائع للألوهة الشمسية، ويقيمون أمامه الطقوس في قدس أقداس المعبد.
لم يرزق الكاهن باسيان بأولاد ذكور وإنما بابنتين، الأولى جوليا دومنا وهي الكبرى والثانية جوليا ميسا (= ميساء). وقد عمل ما في وسعه ليقدم لابنتيه ثقافة منفتحة جمعت بين الحكمة الشرقية والفلسفة اليونانية، وأوكل إليهما منذ صغرهما خدمة إله الشمس في معبده، وهكذا فقد تشربت جوليا دومنا ديانة إيلا جابال التي ضربت جذورها في أعماق نفسها وزودتها بنظرة شمولية عالمية. فقد كانت عبادة الشمس في حمص عبادة توحيدية، ولكنها لم تكن بالتوحيدية المتعصبة التي لا تعترف بالديانات الأخرى، وإنما توحيدية منفتحة ترى أن كل أشكال العبادة هي طرق تؤدي إلى معرفة الله الحق.
عندما استقرت جوليا دومنا في روما وراحت تشارك زوجها شئون الحكم، أجبرها حسها البراجماتي كإمبراطورة على إخفاء ميولها الدينية، ولكن أفكارها الإنسانية العالمية تبدت في سلوكها العام. فقد راحت تتصل بالأدباء والفلاسفة وأحاطت نفسها بهم، وكان يحضر مجلسها في بيتها الصيفي مفكرون من مختلف الشيع والمدارس الفلسفية. من بين كل هؤلاء كان فيلوسترات هو الصديق المقرب إليها، وقد وضع بإيحاء منها وبالتعاون معها كتابا دعاه «حياة أبولونيوس»، عبر فيه عن أفكار جوليا دومنا في احترام جميع الأديان، والنظر إليها كصيغ فكرية تسعى إلى غاية واحدة.
3
أما سبتيموس سيفيروس الذي انتقلت إليه من زوجته هذه الرؤية الدينية العالمية، فقد تأثر بعبادة شمولية أخرى هي عبادة الإله سيرابيس التي نشأت في مصر منذ أوائل عصر البطالمة الذين حاولوا أن يجمعوا في شخصه آلهة الشرق والغرب معا وتلتقي عنده خصائص الآلهة طرا، وهذا ما أسبغ عليه لقب بانثيوس، أي كل الآلهة. وقد انتقل هذا الإله إلى روما وطمحت عبادته لأن تكون عبادة أممية تجمع شعوب الإمبراطورية حول إيمان واحد، وكان عدد من الأباطرة الرومان ميالين إلى هذه العبادة مشجعين على انتشارها، وبينهم كاليجولا وتيتس وفيسبازيان. وتروي أخبار فيسبازيان أنه كان يشفي حالات العمى بقوة إلهه سيرابيس.
4
عندما ورث كركلا ابن جوليا دومنا عرش أبيه حافظ على عبادة سيرابيس، ولكنه بتأثير أمه طابق بينه وبين إله الشمس الكلاسيكي هيليوس الذي كان إله الشمس السوري يختفي وراءه. وتظهر على نقوش كركلا الهالة المشرقة للشمس ورمزها التقليدي الآخر وهو الأسد، ويظهر القيصر وهو يرفع يده اليمني مشيرا إلى الشمس. في عهد كركلا لم يكن لإله الشمس اسم يدل على منشئه، غير أن أحدا لم يشك في أنه إله الشمس الحمصي لأن الأم كانت حمصية الأصل ومن نسب أسرة كهنة إيلاجا بال. ولكن هذا الإله أسفر عن وجهه السوري بعد اغتيال كركلا، عندما رفعت الفرق العسكرية المرابطة في سوريا إلى المنصب الإمبراطوري الفتى باسيان حفيد جوليا ميسا الأخت الصغرى لجوليا دومنا، والذي أطلق عليه اسم جده الكاهن باسيان وكان وريثه في منصب كاهن الشمس.
وصل باسيان إلى روما بزيه الكهنوتي الشرقي، ولم يرتد بعد ذلك الزي الروماني إلا مكرها وفي مناسبات قليلة. بعد استقراره في العاصمة تفرغ باسيان لخدمة إلهه إيلاجا بال والتبشير بديانته، فاستقدم الحجر الأسود من حمص وبنى له معبدا في روما، وراح يقود بنفسه وبصفته الكاهن الأعلى طقوس المعبد، ويرقص حول المحاريب على ألحان الجوقات المؤلفة من نساء سوريات وإيقاع الطبول والصنوج. وكان من بين مشاهدي هذه الطقوس كبار أعضاء مجلس الشيوخ وطبقة الفرسان، وكان ذوو المناصب العليا في الدولة يشاركون فيها.
لقد كان باسيان تحت تأثير التصورات الدينية لوطنه، وكل ما حرك عواطفه كان له أصل في الطقوس السورية أو الشرقية بشكل عام، وهو يظهر فيما وصلنا إليه من صور على هيئة شاب بوجه ناعم وشفتين ممتلئتين ونظرة عميقة حالمة تعكس استغراقا في التأملات الصوفية. غير أن جهود القيصر الكاهن لم تتوقف عند عرض الطقوس الشرقية الغريبة على الطبع الروماني، بل كان همه يتجه بشكل أساسي إلى نشر ديانة الشمس ورفع إلهها ربا أوحد للإمبراطورية الرومانية. وخلال ثلاث سنوات فيما بين 220 و222م، بذل القيصر السوري كل جهد تبشيري ممكن، إلا أن سعيه آل إلى الفشل وتخلى عنه في النهاية كل نصير، حتى إن جدته جوليا ميسا نصحته بالاعتزال والتنازل عن صلاحياته تدريجيا لألكسيان ابن ابنتها الثانية جوليا ممايا. وفي إحدى الليالي من شهر آذار عام 222م هاجمه الجنود وقتلوه في قصره مع أمه، ونودي بألكسيان آخر أفراد الأسرة السورية إمبراطورا تحت اسم أليكسندر سيفيروس. أما القيصر القتيل فقد خلده التاريخ تحت اسم إلهه ودعاه إيلاجا بال.
بعد وفاة إيلاجا بال وانهيار مشروعه كان على ديانة الشمس السورية أن تسلك طرقا غير مباشرة في التبشير. وقد تمحورت جهودها أخيرا في اتجاهين معتمدة على الرواية الأدبية والفلسفة الأفلاطونية المحدثة. (2) هيليودور الحمصي
كان هيليودور الحمصي من الأدباء البارزين في أواسط القرن الثالث الميلادي، وقد كتب رواية عنوانها الإثيوبيكا (أي الإثيوبية) لقيت انتشارا واسعا في العالم الروماني، ثم ابتعثت مجددا في العصور الحديثة ولقيت تقديرا كبيرا بين مثقفي عصر النهضة الأوروبية وعصر الباروك، وكانت محل إعجاب كل من رفائيل، وتاسو، وسيرفانتس، وكالديرون، وشكسبير، وراسين. تعود هذه الرواية إلى الفترة التي تلت مباشرة سقوط الإمبراطور إيلاجا بال، أي إلى زمن كان الإله الحمصي فيه معروفا للقارئ، وتدور أحداثها بين مصر وإثيوبيا، ويلعب الدور الرئيسي فيها إله الشمس الكلاسيكي هيليوس الذي لا يربطه الكاتب بمكان معين، فهو الإله المطلق الذي يعبر عن حضوره في العالم من خلال قرص الشمس الذي يشرف من عليائه على كل الأقطار، وبذلك يخرج هيليودور إلهه من معبده ومن حجره الأسود في حمص ويبشر به إلها كونيا. وفي نهاية الرواية فإن القارئ الذي مال قلبه إلى هذا الإله لكونه أنقى الآلهة، ولما سمع عن أعماله وانتشار عبادته إلى بلاد الإثيوبيين، يفاجأ بأن إله الرواية هو الإله الحمصي. عندما يشير المؤلف في النهاية إلى أنه مواطن حمصي ينتمي إلى أسرة هيليوس. لقد حفظ هيليودور هذه المفاجأة لآخر القصة، وهي خدعة فنية ماهرة ومؤثرة، ولكنها تدل على ما تركه تهور الإمبراطور السوري الشاب من آثار سلبية دعت إلى توخي الحذر في الدعوة إلى الإله الحمصي القديم في حلته الجديدة.
5 (3) الأفلاطونية المحدثة
على التوازي مع الرواية كان فلاسفة سوريون من تلاميذ أفلوطين الإسكندري مؤسس الفلسفة الأفلاطونية المحدثة (205-270م) يمزجون تعاليم معلمهم مع ديانة إله الشمس السوري التي أخذت بالتقاطع مع الفكر الفلسفي اليوناني إبان فترته الخريفية.
يمثل فكر أفلوطين نهاية التفكير الفلسفي القديم، ويؤذن ببداية تفكير جديد يندمج فيه الدين بالتفكير العقلي إلى أبعد الحدود. يقوم النظام الفلسفي لهذا المعلم الكبير (الذي ما زال فكره فاعلا في الديانات المشرقية) على فكرة تدرج الموجودات هبوطا من المبدأ الأول عبر ثلاث مراتب آخرها مرتبة المادة التي تعتبر أدنى الموجودات. هذا المبدأ الأول يسميه أفلوطين بالواحد الخير، ويندر جدا أن يطلق عليه اسم الله. ونحن إذا أردنا أن ننسب للواحد الخير صفات لما استطعنا وصفه إلا أنه بخلاف كل ما نعلم، لأنه الكمال المطلق بالقياس إلى كل ما عداه. ولأفلوطين في وصف صدور مراتب الوجود عن الواحد صور وتشبيهات مختلفة؛ إنه أشبه بفيض النور عن الشمس، أو فيض الماء عن النبع، أو صدور الأقطار عن مركز الدائرة. والصفة المشتركة بين هذه التشبيهات هي تأكيدها على بقاء المصدر ثابتا مع صدور غيره عنه، واحتفاظه بوحدته الأصلية. وقد كانت أول المراتب صدورا عن الواحد الخير هي مرتبة العقل الذي يرى الواحد من خلاله ذاته؛ وعن العقل فأضحت المرتبة الثانية وهي النفس التي تتصف بطبيعة مزدوجة؛ ففي جانبها الداخلي تتجه إلى أعلى صوب العقل، أما مظهرها الخارجي فيهبط إلى عالم الحسن الذي تكون خالقة له، فهي أصل العالم المادي.
6
وبذلك يكتمل الثالوث الأفلوطيني الذي تحول فيما بعد إلى الثالوث المسيحي المؤلف من الأب (= الواحد الخير)، والابن (= الكلمة، اللوغوس، العقل)، والروح القدس (= النفس).
لم تتخل الأفلاطونية المحدثة عن عالم الآلهة المتعددة الذي ميز التراث اليوناني، ولكنها أفرغته من محتواه ومعناه؛ وذلك بإرجاع التعدد إلى الوحدة. وبقدر ما جردت الآلهة القديمة من جوهرها الإلهي برزت أهمية الذي احتواها جميعا في جوهره الشامل وهو إله الشمس: العقل الإلهي المدبر للكون. ولكن هذا الإله لم يكن إلا الصورة المرئية والأداة للواحد الكبير الذي فوقه. وتتوضح هذه الفكرة بشكل خاص لدى تلاميذ أفلوطين المباشرين والذين كانوا ينتمون إلى دائرة شرقية محددة. من أبرز هؤلاء: آمونيوس سكاس وهو مصري، وفورفوريوس الصوري نسبة إلى مدينة صور، ولونجين، وكلينيكوس، وأميليوس ويامبليخوس، وجميعهم سوريون. كان فورفوريوس الأبرز بين هؤلاء وهو الشارح الرئيسي لأفكار أفلوطين. من أهم مؤلفاته الكتاب الذي يشرح نظريته في ألوهية الشمس وهو بعنوان «فيما يتعلق بالشمس». وخلاصة آرائه في هذا الكتاب هي أن الآلهة طرا ليست إلا درجات متفاوتة من قوى إله الشمس وطاقاته، فهو النور الأعظم وهم النجوم. إلا أن الشمس بدورها ليست إلا وسيطا بين الواحد الخير والآلهة، وبين العالم الروحاني والعالم المحسوس، إنها الصورة المرئية لله في العالم وقوته الفاعلة فيه والمنظمة لأحواله، فهي سيد وملك بإرادة من الخير الروحاني الأعلى.
7
وبهذه الطريقة تمت صياغة الأساس الفلسفي الذي كان يفتقد إليه إله الشمس السوري وكاهنه الإمبراطور الشاب، الذي لم يكن في حوزته من أدوات التبشير بإلهه الواحد سوى الطقوس التي لم تقنع الكثيرين في عصر يموج بالأفكار والمدارس الفلسفية. (4) أورليان وعبادة الشمس الإمبراطورية
قضى أفلوطين الشطر الأخير من حياته في روما، وهناك التحق به تلميذه المفضل فورفوريوس الصوري. وفي عهد الإمبراطور غالينوس لقيت الأفلاطونية المحدثة سندا سياسيا لها في شخص الإمبراطور الذي كان يجلس الساعات الطوال إلى أفلوطين ويحاوره. وعندما اغتيل غالينوس عام 268م، وجدت الأفلاطونية المحدثة سندا لها في ملكة الشرق زنوبيا، التي استولت على كامل بلاد الشام ووادي النيل في محاولة لخلق إمبراطورية مشرقية موحدة ومستقلة عن روما، وربما كانت تفكر في التوجه إلى روما ذاتها. وقد التحق ببلاطها في تدمر عدد من الأفلاطونيين مثل فورفوريوس، وكلينيكوس، ولونجين الذي جعلته الملكة مستشارها الخاص وموجها لسياستها الخارجية.
ولكن الإمبراطور الجديد أورليان كان مصمما على القضاء على طموحات الملكة السورية. فبعد أن استقرت له الأمور في روما توجه إلى سوريا وهزم الجيش التدمري في معركتين، كانت الأولى عند أنطاكية والثانية عند مشارف مدينة حمص. وعلى ما ترويه السيرة المدونة لأورليان فإن جيش أورليان قد تضعضع في المعركة الثانية أمام استبسال جنود زنوبيا وشرع الجنود الرومان بالفرار. وفي هذه اللحظة تراءى للجنود تجل إلهي أوصاهم بمتابعة القتال، وأحرز أورليان النصر ولم يبق أمامه سوى تصفية حساب سريع مع زنوبيا التي تحصنت في تدمر. عندما دخل أورليان إلى حمص توجه إلى معبد الشمس فيها وقدم القرابين إلى إيلاجا بال الذي رأى فيه تلك القوة الإلهية التي منحته النصر. وفي عودته إلى روما مصطحبا أسيرته الملكة التدمرية، حمل معه عبادة هذا الإله وطابق بينه وبين إله الشمس الكلاسيكي هيليوس تحت اسم سول إنفيكتوس أي الشمس التي لا تقهر، وجعل منه رمزا لوحدة الإمبراطورية التي تشرق على أصقاعها أشعة إله واحد. وقد بنى أورليان معبدا لهذا الإله في روما كانت تقام فيه احتفالات دينية بميلاد الشمس كل أربع سنوات في يوم 25 ديسمبر. كما صك الإمبراطور عملة معدنية يظهر عليها قرص الشمس كسيد للإمبراطورية وأورليان باعتباره ممثله الأرضي. وهكذا عاد إيلاجا بال إلى روما في حلة إمبراطورية تاركا حجره الأسود في حمص، وتحول إلى قوة عالمية وإله صالح لأن تعبده جميع شعوب الإمبراطورية.
8
في هذا الوقت كانت عبادة الشمس تتلقى دفعا جديدا من فلسفة أخرى وعبادة شمسية أخرى، وهما الفلسفة الرواقية المتأخرة وعبادة الإله الشمسي ميثرا القادم من إيران، والذي انتزع لنفسه لقب سول إنفيكتوس - الشمس التي لا تقهر. وكانت المسيحية قد تحولت في أواسط القرن الثاني الميلادي من فرقة يهودية منشقة إلى ديانة شمولية ذات طموح عالمي ، وترافق هذا التحول مع تبدلات جوهرية في اللاهوت المسيحي قادت إلى تأليه يسوع المسيح الذي دخل في تنافس مع آلهة العبادات الشمولية الأخرى، انتهى بعد نحو خمسين سنة من وفاة أورليان إلى المطابقة بين المسيح والشمس التي لا تقهر. (5) أثر الفلسفة الرواقية المتأخرة
كانت الرواقية في نشأتها مذهبا أضعف ارتباطا بأرض اليونان الأصلية من الفلسفات اليونانية الأخرى، وأشهر ممثليها كانوا من الفلاسفة الشرقيين. وقد قامت هذه الفلسفة على أفكار فينيقي من قبرص يدعى زينون (335-263ق.م.). كان اهتمام زينون أخلاقيا بالدرجة الأولى، ومن المشاكل التي عالجها والتي ظلت بعد ذلك الشغل الشاغل للرواقية هي مشكلة الحتمية (أو القدرية) وما يتصل بها من مشكلة حرية الإرادة. وهاتان المشكلتان لا يمكن فهمهما إلا على ضوء فهم التركيب الكلي للكون. فقد رأى زينون أن المادة الأصلية هي النار ومنها تنفصل العناصر الأخرى بمضي الوقت لتشكل معالم الكون، وفي النهاية يحدث حريق شامل ويعود كل شيء إلى النار الأصلية، ثم يتشكل الكون من جديد في دورات لا تنتهي من الخلق والفناء وإعادة الخلق. أما القوانين التي تسير العالم فتصدر عن فعالية إلهية تحكم التاريخ بكل تفاصيله، حيث يحدث كل شيء من أجل هدف معين على نحو مقدر مسبقا. وهذه الفعالية الإلهية هي قوة كامنة في الكون وليست شيئا خارجا عنه.
9
أما تلاميذ زينون الذين ترأسوا المدرسة الرواقية على التوالي، فقد جاء معظمهم من آسيا الصغرى وبشكل خاص من منطقة كيليكيا على البحر المتوسط، وجاء بعضهم من سوريا. فقد ترأس الرواقية بعد زينون مباشرة تلميذه أراتوس من مدينة صولي القريبة من طرسوس عاصمة كيليكيا (315-240ق.م.)، ومن أشهر مؤلفاته كتاب الظواهر
الذي درس فيه أحوال الفلك، وعقد صلة لا تنفصم عراها بين الرواقية وأحوال السماء. وقد عاصر أراتوس واحدا من حلقة زينون يدعى آثينودوريوس وهو من مدينة صولي أيضا. ومن صولي جاء كريسبوس (280-207ق.م.) الذي قدم أول عرض منهجي للمذهب الرواقي. تلاه زينون من طرسوس، ثم سلوقس من منطقة الدجلة، ثم ديوجين البابلي، ثم انتيباتر من طرسوس واثنان من تلامذته الطرسوسيين أرخيديمس وهيراكليد، ثم بوسيدونيوس السوري الذي يوصف بأنه واحد من أهم المفكرين في التاريخ القديم، وكان أستاذا للكاتب الروماني الشهير شيشرون، ثم آثينودوريوس الكبير وأثينودوريوس الصغير وكلاهما من طرسوس، وقد عاصر الصغير الإمبراطور أوغسطس (27ق.م-14م) الذي تعلم على يديه، ثم صار حاكما لمدينة طرسوس، وتلاه في حكمها بعد ذلك رواقي آخر يدعى نسطور، وبذلك تحقق حلم أفلاطون في دولة يحكمها الفلاسفة.
10
لقد قاد اهتمام الرواقيين المتأخرين بعلم الفلك والتنجيم وإيمانهم بالقدر الذي يتحكم بكل الحوادث، إلى التبشير بنوع من العقيدة الكوكبية التي ترى أن الأجرام السماوية هي كائنات إلهية، ولكن الإله الحق الأعلى هو العقل الذي يتخلل الفراغ الكوني، على حد قول كريسبوس. هذا العقل الشمولي يدعوه بوسيدونبوس السوري بالحنان الكوني الذي يجمع أجزاء العالم في وحدة لا تنفصم. ومن ناحية أخرى فقد أكد رواقيون آخرون على ألوهية الشمس واعتبروها بمثابة سيد الكون والمبدأ الناظم له. وعلى حد وصف الكاتب الروماني بليني لهذه العقيدة: «في الوسط تتحرك الشمس التي تفوق الجميع في الحجم والطاقة، وهي التي تنظم الفصول وحركة بقية النجوم في السماء، وعلى هذا يجب الاعتقاد بأنها روح الكون أو عقله.» ويقول شيسترون وهو أحد مصادرنا الرئيسية عن الرواقية المتأخرة في كتابه «حلم سكيبيو» ما يلي: «إن فلك النجوم الثابتة هو الحاوي على كل شيء وهو الإله الأعلى، وتحته سبعة أفلاك تتحرك في اتجاه معاكس لحركته. في وسط هذه الأفلاك هنالك الشمس سيدة الأنوار كلها، وهي العقل والمبدأ المتحكم بالكون.» «في هذه الصياغات المتعددة للعقيدة الرواقية المتأخرة، نجد أنفسنا أمام ألوهتين رئيسيتين توصف كل منهما بأنها حاكمة الكون وناظمته. فمن جهة هنالك «العقل الذي يتخلل الفراغ الكوني» أو «الحنان الكوني» أو «فلك النجوم الثابتة»، ومن جهة أخرى هناك «الشمس حاكمة العالم». ونحن لا نستطيع التوفيق بين هاتين الألوهتين إلا إذا اعتبرناهما ألوهة واحدة من حيث الجوهر، وأن إحداهما وهي الشمس قد صدرت عن الأخرى، على طريقة الأفلاطونية المحدثة، وصارت صورتها المرئية في العالم وقوتها الفاعلة فيه.»
11 (6) ميثرا والميثروية
خلال القرن الأول قبل الميلاد وفي الموطن الأصلي للفلسفة الرواقية (كيليكيا)، إبان عهد المملكة الفارسية التي أسسها ميثراديتس السادس في منطقة البنط وضمت إليها أجزاء واسعة من آسيا الصغرى، ظهرت في كيليكيا عبادة جديدة انتشرت في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية، من البحر الأسود إلى اسكتلندا غربا وإلى الصحراء الأفريقية الكبرى جنوبا. تركزت هذه العبادة حول إله قادم من إيران يدعى ميثرا. وتقول أسطورته الأصلية إنه ولد تحت شجرة تنمو قرب مجرى مائي؛ حيث انبثق من صخرة على هيئة طفل عار يحمل بإحدى يديه مشعلا يدل على أصله الشمسي،
12 (قارن مع ولادة عيسى في القرآن الكريم عند جذع نخلة يتدفق تحتها سريا، أي مجرى مائيا؛ مريم: 22-23).
وقد تمت مطابقة ميثرا مع إله الشمس الكلاسيكي هيليوس في صيغته الأخيرة باعتباره الشمس التي لا تقهر، وانتزع منه لقب «سول إنفيكتوس». ويعبر الفن المصور الميثروي عن هذه المطابقة في العديد من المنقوشات التي يظهر فيها الإلهان وهما يتصافحان بمودة. كما يعبر الفن المصور عن دور ميثرا كحاكم شمسي للكون بطرق شتى، فنجده أحيانا منبثقا من صخرة الميلاد وهو يحمل بيده كرة الكون، أو على هيئة شاب عار يحمل بيده اليسرى كرة الكون وباليمنى يسند دائرة الأبراج السماوية. وفي المشهد التقليدي لميثرا وهو يضحي بالثور السماوي نجد عباءته الشرقية منفتحة وراءه على هيئة قبة ترتسم عليها نجوم السماء وأبراجها، وقد يوضع هذا المشهد ضمن دائرة الأبراج، الأمر الذي يشير إلى الرمزية الكونية لمشهد القربان وصلته بالنظام السماوي. على أن ميثرا ما لبث حتى تحول تحت تأثير المفاهيم الرواقية المتأخرة إلى فكرة مجردة عن الألوهة المطلقة الخافية التي تتصل بالعالم عن طريق وسيط إلهي أدنى هو الشمس: العقل المدبر للكون وحاكمه المباشر. وهنا يعبر الفن المصور عن هذه العلاقة الجديدة من خلال مشاهد نجد فيها هيليوس راكعا أمام ميثرا الذي يضع يده على رأسه في حركة تدل على منحه لقبا وتخويله سلطانا.
13
خلال القرون الثلاثة الأولى للميلاد كانت الميثروية المنافس الرئيسي للمسيحية على استمالة شعوب الإمبراطورية؛ وذلك بسبب التشابه الكبير في معتقداتهما. فكلاهما كان يؤمن بخلود الروح وبالبعث والعالم الآخر، وبإله مخلص يؤدي الاتحاد به إلى الخلاص من ربقة الموت. هذا التشابه في العقائد وفي الطقوس المرتبطة بها أدهش المسيحيين أنفسهم فاعتبروه من صنع الشيطان ، أما الميثرويون فكانوا يتهمون المسيحيين باقتفاء أثرهم واقتباس معتقداتهم. وفي القرن الرابع الميلادي بدأت الميثروية بالتراجع أمام المسيحية في كل مكان حتى اختفى أثرها. على أن المراقب لذروة التنافس بينهما إبان القرن الثاني الميلادي، بإمكانه القول إنه لو قيض للمسيحية أن تكبو في مسيرتها لسبب ما، لكان الغرب اليوم ميثرويا.
من هذا العرض (الموجز بما يكفي لغاية بحثنا) للمشهد الديني في الإمبراطورية الرومانية خلال القرون الثلاثة الأولى للميلاد، نلاحظ أن الوثنية المتأخرة المنفتحة على الأفلاطونية المحدثة وعلى الرواقية المتأخرة، كانت تتقارب مع المسيحية في صيغتها الغربية على الرغم من الصراع القائم بينهما. فقد كانت الوثنية تفارق التعددية في اتجاه نحو التوحيد، في الوقت الذي راح المفهوم التوحيدي الأصلي للمسيحية يعرض نفسه في صيغة تعددية: الآب، والابن، والروح القدس. في هذا الثالوث يلعب المسيح دور العقل المدبر للكون باعتباره الكلمة، أو اللوغوس الذي صدر عن الآب. أي إنه اتخذ دور الشمس كحاكم للعالم في الأفلاطونية المحدثة والرواقية المتأخرة والميثروية. وبذلك صار المناخ الفكري مهيأ للمطابقة بين المسيح وسول إنفيكتوس. وهذا ما حققه الإمبراطور قسطنطين. (7) قسطنطين والعبادة المسيحية-الشمسية
لقد لعب الإمبراطور قسطنطين (306-337م) في تاريخ المسيحية الدور الذي لعبه قورش الفارسي في تاريخ الديانة اليهودية. فبعد دخول قورش إلى بابل عام 539ق.م. ووراثته لأملاكها في مناطق غربي الفرات، أصدر مرسومه الشهير الذي سمح فيه للشعوب التي سباها البابليون ومن قبلهم الآشوريون بالعودة إلى ديارهم. وكان سبي مملكة يهوذا الفلسطينية من جملة المستفيدين من هذا المرسوم، فأخذوا بالعودة إلى أورشليم على دفعات؛ حيث أعادوا بناء المدينة والهيكل، وهي العودة التي آذنت ببداية التاريخ اليهودي الذي ترافق مع تدوين أسفار التوراة. أما قسطنطين فبعد انتصاره في معركة جسر ميلفيان التي أكسبته عرش روما، أعلن مرسوم ميلان الشهير الذي نص فيه على الحرية الدينية لجميع الطوائف في الإمبراطورية، وعلى رأسها الكنيسة المسيحية التي رد إليها أماكن العبادة والعقارات التي صودرت منها في العهود السابقة وسمح لها بالتبشير علنا دون رقيب. وكان هذا المرسوم منعطفا حاسما في تاريخ المسيحية التي تحولت بعد أقل من نصف قرن إلى ديانة رسمية للإمبراطورية. وكما أطلق المحررون التوراتيون على قورش لقب مسيح الرب على الرغم من أنه لم يكن يهوديا (إشعيا، 45: 1)، كذلك رفعت كنيسة روما قسطنطين إلى مصاف القديسين على الرغم من أنه لم يكن مسيحيا.
وتقول القصص التي تحدثت عن معركة جسر ميلفيان التي هزم فيها قسطنطين منافسه ماكسينتيوس، أنه رأى قبل المعركة على شمس منتصف الظهيرة صليبا نقشت عليه عبارة «بهذه الشارة سوف تنتصر» (قارن مع التجلي الإلهي الذي ظهر لأورليان على أبواب حمص، ونسب بعد ذلك لإله الشمس، مما أوردناه سابقا). وبعد ذلك أمر قسطنطين بصنع راية على الشكل الذي تبدى له وأضاف إليها الحرفين الأولين من اسم المسيح (= خريستوس)، رفعت بعد ذلك في المعركة، كما أمر جنوده برسم الشارة على تروسهم ودروعهم. ونحن إذا سلمنا جدلا بوجود أصل منطقي لهذه القصة، فلن نجده إلا في حلم رآه قسطنطين في الليلة السابقة للمعركة، ظهر له فيه إله الشمس التي لا تقهر «سول إنفيكتوس» في منتصف النهار (وهو الوقت المناسب لتجلي هذا الإله) في هيئة قرص الشمس وعليه شارة ما فسرت بعد ذلك بأنها الصليب المسيحي. وفي الحقيقة فإن مسيرة حياة هذا الإمبراطور تؤكد لنا هذا التفسير.
14
على عكس ما يعتقده الكثيرون فإن المسيحية لم تغد الدين الرسمي للدولة خلال عهد قسطنطين، وأول الأباطرة المسيحيين هذا لم يتلق المعمودية وهي طقس الدخول في المسيحية إلا وهو على فراش الموت. إن القصة الحقيقية لتحوله إلى المسيحية ترسم أمامنا شخصية عاهل متردد فكريا لم يكن من السهل عليها أن يتخلى عن معتقداته التي شب عليها، لا سيما عبادة الشمس الإمبراطورية، لصالح المسيح. وقد كانت مسيرته في تغيير الديانة الوطنية مسيرة حذرة راقبها كل من المسيحيين والوثنيين بوجل وترقب لما ستنجلي عنه مواقف مليكهم.
في مرسوم ميلان لم يشر قسطنطين بشكل مباشر إلى إله المسيحيين، بل اكتفى بإطلاق لقب عام على الألوهة الكونية التي دعاها «إله السماء»، وهذا اللقب ينطبق على الإله المسيحي مثلما ينطبق على إله الشمس. كما أن هذا المرسوم لم يجعل من المسيحية دينا للإمبراطور ولا دينا للدولة، وإنما ساواها مع بقية الديانات المعترف بها في الإمبراطورية وحصنها من الاضطهاد. كما أن قسطنطين لم يتبع مرسوم ميلان بأي مرسوم آخر ذي طابع قانوني يتعلق بالمسيحية والمسيحيين، وإنما كان على الناس تتبع مواقفه وتصريحاته الشخصية التي تكشف عن ميوله الخاصة لا عن مواقف رسمية حاسمة. فالإمبراطور بقي إلى ما بعد أواسط العمر مثابرا على رعاية الديانة الرومانية التقليدية وأنفق بسخاء على بناء معابد آلهتها، كما رفع أباه المتوفي إلى مجمع الآلهة وأقر له عبادة خاصة محتذيا بذلك مثال العديد من الأباطرة السابقين الذي ألهوا بعد مماتهم. وعلى الرغم من أنه أعلن في سنواته الأخيرة أنه لن يدخل معبدا وثنيا، وعمل على تشجيع كل متعمد بمنحه ثوبا أبيض وعشرين قطعة ذهبية، إلا أنه لم يتخذ خطوة واحدة في سبيل إغلاق المعابد الوثنية وصرف كهنتها كما هو متوقع من إمبراطور قرر التحول إلى المسيحية. إن كل الدلائل تشير إلى أن عقيدته الخاصة كانت مثل أورليان موجهة نحو إله الشمس الذي اشتهر في كل مكان بأنه الحامي الخاص للإمبراطور. ولكن هذا الإله كان يتوحد تدريجيا في عقله بالمسيح الذي قال عن نفسه في إنجيل يوحنا: «أنا نور العالم» (يوحنا، 8: 12). وقال: «آمنوا بالنور ما دام لكم النور، فتكونوا أبناء النور» (يوحنا، 12: 36).
ومع ذلك فقد مجدت الكنيسة فضائل نصيرها الكريم، وكان اسمه يذكر مضافا إليه لقب «المساوي للرسل»، ولكنها غضت الطرف عن عيوبه وسقطاته التي لا تتناسب مع هذا اللقب، وكانت المهمة غير المحببة لنفس أسقف روما هي التستر على فظائعه الكثيرة وتبريرها، لا سيما قتله لابنه الأكبر من زوجته الأولى المدعو كريسبوس. كان هذا الابن محبوبا من قبل الجميع لثقافته وعلمه وبسالته، وكان الشعب يهتف باسمه إلى جانب اسم أبيه. ولكن سرعان ما أثارت هذه الشعبية المحفوفة بالمخاطر انتباه الأب الذي كان في الجزء الثاني من حياته يتوجس خيفة من انقلاب موهوم عليه . وقد غذى الوشاة هذا الوهم حتى تحول في ذهنه إلى حقيقة، وكان المتهم الرئيسي في المؤامرة هو الابن التعس الذي خضع لمحاكمة سرية قصيرة وجرى إعدامه. وبعد فترة أعدم زوجته الثانية التي أنجبت له عدة أولاد بتهمة الزنا مع أحد العبيد، ولكن هذه التهمة لم تكن إلا واجهة ستر وراءها شكوكه بصلة لها بالمؤامرة المزعومة التي أثبت الزمن بعد ذلك بطلانها.
لقد كان قسطنطين يهدف على ما يبدو إلى توحيد الإمبراطورية دينيا بعد أن أعاد إليها الوحدة السياسية. وقد توجه تفكيره في البداية نحو صياغة الإيديولوجيا الإمبراطورية حول الإله سول إنفيكتوس. فالشمس في سطوعها على أصقاع الإمبراطورية هي خير رمز يعبر عن وحدتها، ثم أخذ يجد ضالته تدريجيا في النزوع العالمي للمسيحية ولكن من غير أن يتخلى عن سول إنفيكتوس، لا سيما وأن عبادة هذا الإله كانت توحيدية في جوهرها. وتعبر التماثيل التذكارية التي نصبها قسطنطين عن هذه النزعة التوفيقية التي تحكمت بتفكيره. من ذلك مثلا التمثال الذي أمر بنصبه على عمود بورفيري في عاصمته الجديدة القسطنطينية، والذي يمثل الإمبراطور على صورة إله الشمس هيليوس وهو يحمل بيده كرة العالم التي ارتفع عليها الصليب (قارن مع صور ميثرا التي أشرنا إليها أعلاه)، وعلى قاعدة العمود نقش يقول: «قسطنطين الذي يضيء مثل الشمس.» وكان نظر التمثال يتجه نحو الأعلى إلى الشمس الطالعة. وهناك ميداليات ذهبية يظهر عليها الإمبراطور وإله الشمس كتوءمين. ومنذ عام 324 أقر قسطنطين صك نقود معدنية عليها صورته وهو رافع يديه نحو الشمس، أو صورة إله الشمس وهو يظلل القيصر الذي يحمل بيده لواء الصليب، أو صورة الشمس منفردة وهي ترسل أشعتها في كل اتجاه. وعلى قوس النصر الذي بناه يظهر إله الشمس إلى جانب الإلهة فيكتوريا ربة النصر وأمامهما يقف القيصر.
ولم يبق على قسطنطين إلا أن ينتظر إعلان السلطات الكنسية رسميا ألوهية المسيح من أجل أن تكتمل في ذهنه المطابقة بين سول إنفيكتوس والمسيح، وهذا ما تم في مجمع نيقية عام 325م الذي دعا إليه الإمبراطور من أجل توحيد وتنميط العقيدة المسيحية. فقد أقر المجتمعون أن يسوع المسيح هو اللوغوس، أو العقل الكوني المنبعث عن الآب والمساوي له في الجوهر.
وهكذا توفرت كل الأسباب الداعية إلى اعتبار يوم 25 ديسمبر/ك1 بمثابة يوم ميلاد يسوع المسيح. وهذا ما أقره قسطنطين عندما قدس يوم الأحد الذي كان يوما مقدسا عند طائفة ميثرا وجعله يوم عبادة وراحة للمسيحيين بدل يوم السبت اليهودي، كما قدس يوم 25 ديسمبر باعتباره يوم ميلاد المسيح، وهو يوم ميلاد ميثرا وبقية الآلهة الشمسية. ففي هذا اليوم تبلغ الشمس أقصى مدى لها في الميلان عن كبد السماء ويبلغ النهار أقصى مدى له في القصر، ثم تأخذ في الارتفاع تدريجيا كل يوم ويأخذ النهار في الزيادة على حساب الليل. لقد انتصرت الشمس التي لا تقهر.
بعد نحو عقدين على وفاة قسطنطين أقر البابا ليبيريوس في عام 353م يوم 25 ديسمبر باعتباره التاريخ المعتمد لميلاد المسيح.
15
يسوع في الفكر اليهودي
والتجديف على مريم
عندما أخذت الحركة المسيحية الناشئة تنتشر بين صفوف اليهود، سواء داخل فلسطين أم في المغتربات اليهودية بآسيا الصغرى ومصر واليونان وإيطاليا، لم يعمد الفكر اليهودي إلى مواجهتها بالجدل اللاهوتي والفلسفي، وإنما بإطلاق الشائعات التي تتهم السيدة مريم بالزنى وتصف ابنها بأنه ساحر مشعوذ. فمنذ القرن الثاني الميلادي عرض لنا الكاتب سيلسوس الخصم اللدود للمسيحية في كتابه «الكلمة الصادقة» وجهة النظر اليهودية عن يسوع وأمه مريم، والتي تلخصها هذه الفقرة من الكتاب، أوردها الكاتب المسيحي أوريجين في مؤلفه ضد سيلسوس: «كان يسوع ابنا لامرأة غزالة فقيرة تدعى مريم، وهي زوجة لرجل يعمل في مهنة النجارة، ولكنها لم تنجب بكرها يسوع منه وإنما من جندي روماني فار من الخدمة يدعى بانتر. وعندما كبر يسوع سافر إلى مصر حيث اشتغل عاملا مياوما وتعلم هناك فنون السحر، وعندما عاد إلى فلسطين أعلن نفسه إلها، وجمع حوله أكثر الناس بؤسا وإحباطا وراح يجوب في شتى أنحاء فلسطين. ولما كشف اليهود حقيقة أمره طاردوه، ولكنه هام متخفيا عن الأعين إلى أن تم القبض عليه بخيانة من تلاميذه. وبعد أن نفذ به حكم الإعدام سرق تلاميذه جثمانه وادعوا بأنه قام من بين الأموات.» «وقد أورد حاخامات التلمود اليهودي خبرا مشابها عن يسوع الذي دعوه ابن بانتر، وقالوا إن أمه مريم كانت تعمل ندافة، وأنها أنجبته من عشيقها الوثني بانتر. وقد سافر إلى مصر وتعلم هناك فنون السحر. وعندما عاد حوكم وأعدم رجما بالحجارة ثم علق على خشبة عشية عيد الفصح.»
1
وقد أشار مؤلفو التلمود في سياقات مختلفة بعد ذلك إلى يسوع تحت اسم يسوع بن بانتر أو ابن بانتيرا.
وقد ابتعث اليهود أسطورة الجندي بانتر أو بانتيرا في العصر الحديث عندما اكتشفت مقبرة رومانية في ألمانيا عام 1859م (في بنغر بروك عند التقاء نهر ناهي مع نهر الراين)، احتوت على عدة قبور لجنود رومان، على أحدها شاهدة قبر لجندي فينيقي خدم طيلة حياته في الجيش الروماني، نقشت عليها الكتابة التالية: «هنا يرقد تيبيريوس أبديس بانتيرا جندي من الكتيبة الأولى للرماة. من صيدا، عمره اثنان وستون عاما. خدم مدة أربعين سنة.»
2
وقد أرجع الباحثون تاريخ هذا القبر إلى أواسط القرن الأول الميلادي.
في دراسته لهذا النقش يقول الباحث مورتون سميث في كتابه «يسوع الساحر»، بأن الاسم الأول هو تيمنا باسم الإمبراطور تيبيريوس الذي خدم هذا الجندي في عهده، والاسم الثاني «أبدي»، أو «عبدي» في الأصل الفينيقي، هو اختصار للتعبير السامي «عبد شمس» أو شيء من هذا القبيل، والاسم الثالث هو الترجمة اللاتينية للاسم السامي «فهد». ثم يختم تعليقه بالقول: إن شاهدة القبر هذه ربما كانت الدليل المادي الوحيد المتوفر لدينا عن أسرة يسوع.
3
لقد وجد اليهود في شاهدة هذا القبر فرصة ذهبية لإعادة فتح ملف يسوع باعتباره ابنا غير شرعي لمريم، وساهم العديد من مؤلفيهم في التعليق على النص المنقوش، في محاولة لتوكيد صحة ادعاءات التلمود القديمة بخصوص النسب الحقيقي ليسوع. وكان آخر هؤلاء آثاري يهودي يمارس التنقيب في المواقع الفلسطينية يدعى جيمس تابور، وضع كتابا نشر عام 2006م تحت عنوان «سلالة يسوع» وترجم إلى العربية عام 2008م تحت العنوان نفسه . ولعل ظهوره باللغة العربية هو ما دعاني إلى بسط أفكار مؤلفه في هذا الحيز الضيق،
4
والتساؤل عن الفائدة من ترجمة هذا الكتاب الذي يهزأ بعقائد المسلمين والمسيحيين بخصوص طهرانية السيدة مريم، لا سيما وأن مترجمه هو الدكتور سهيل زكار الباحث التاريخي المعروف الذي قدم لنا ترجمات مهمة أغنت مكتبتنا العربية.
يقول المؤلف: إن بانتيرا جاء من مدينة فينيقية على الساحل السوري لا تبعد كثيرا عن موطن يسوع في الجليل. ونحن نعرف أن كتيبة الرماة التي يذكرها النقش قد وصلت إلى دلماشيا في كرواتيا إبان العام السادس الميلادي قادمة من فلسطين، ثم نقلت إلى منطقة الراين/ناهي في العام التاسع للميلاد. قد يبدو من المستبعد للوهلة الأولى أن نتصور أن هذا النقش من بين آلاف النقوش المماثلة هو شاهد على قبر والد يسوع، ولكن لا ينبغي لنا صرف النظر عن الأدلة الواضحة. فلقد كان صاحب هذا النقش جنديا رومانيا من أهل سوريا/فلسطين، ومن المنطقة الواقعة إلى الشمال من الجليل، وكان معاصرا لمريم أو يسوع. وبناء عليه فنحن نمتلك الاسم الصحيح، والمهنة الصحيحة، والمكان الصحيح، والوقت الصحيح. وقد اقترح بعض الناس الذين تناولوا هذا الموضوع بأن الجندي كان قد اغتصب مريم خلال غمرة الاضطرابات السياسية التي حدثت في فلسطين إبان تلك الفترة، وأن يوسف النجار خطيب مريم قد قدر هذه الظروف وكان على استعداد لتبني الطفل كأنه ابنه. ولكن هنالك بديل ممكن وهو أن مريم قد حملت من خلال علاقة حرة مع الجندي الروماني لا سيما وأنها كانت مخطوبة لرجل عجوز يكبرها سنا، وأن بانتيرا كان شابا في سنها تقريبا. ومن المحتمل أن يكون قد غادر المنطقة عندما انتقلت قطعته العسكرية عنها بشكل فجائي، ودون أن يعرف شيئا عن حمل مريم. وعلى الرغم من أن مؤلفي إنجيل متى وإنجيل لوقا في قصتيهما عن الميلاد قد قالا لنا بأن مريم حملت بعد خطبتها، إلا أننا ينبغي ألا نأخذ ما قدماه على أنه الكلمة الأخيرة، فمن المحتمل أن مريم قد حملت أولا وبعد ذلك قامت أسرتها بترتيبات زواجها من يوسف الذي قبل بالوضع وهو عارف بمسألة الحمل غير الشرعي.
ثم يستشهد المؤلف بعد ذلك بمقاطع من التلمود اليهودي، فيورد لنا إشارات متعددة وردت فيه تدعو يسوع بابن بانتيرا دون مزيد من الإيضاح، الأمر الذي يدل في رأيه على أن هذا اللقب كان شائعا في منطقة الجليل وأن يسوع قد عرف به. ثم ينتقل إلى القول بأن المؤلفين المسيحيين قد نظروا بشكل جاد إلى هذه التسمية التي كانوا يعرفونها، وعمدوا من جانبهم إلى تفسيرها. فقد قال إبيفانوس من القرن الثاني الميلادي في كتابه «ضد الهرطقات»: إن والد يوسف النجار كان معروفا باسم يعقوب بانتيرا. وقال يوحنا الدمشقي من القرن الثامن الميلادي في كتابه «الإيمان القويم»: إن الجد الأعلى لمريم كان اسمه بانتيرا. وهذه المحاولات لإضفاء الشرعية على اسم بانتيرا تظهر بوضوح أن هذا الاسم لم يكن ابتكارا يهوديا هدفه التشهير بيسوع.
ثم إن المؤلف يسوق عددا من الشواهد الإنجيلية التي يفسرها على هواه لدعم أطروحاته. فمؤلف إنجيل مرقس الذي لم يورد قصة الميلاد العذري وتجاهل وجود يوسف النجار جملة وتفصيلا، يضع على لسان أهل الناصرة قولهم بعد أن تعجبوا من حكمة يسوع: «أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخو يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا» (مرقس، 6: 3). وهو يرى في دعوة يسوع بابن مريم إشارة إلى وجود أب غير شرعي، لأن اليهود كانوا يشيرون إلى الأبناء بأسماء آبائهم لا بأسماء أمهاتهم. ولهذا فقد عمد مؤلف إنجيل متى الذي ظهر بعد إنجيل مرقس إلى إعادة صياغة كلام مرقس عندما قال: «أليس هذا هو ابن النجار؟ أليست أمه تدعى مريم» (متى، 13: 55)، وذلك في محاولة منه للالتفاف حول الفضيحة التي كانت معروفة تماما لدى سكان قرية الناصرة في عقود زمانية ماضية. وفي العادة نادرا ما تموت الإشاعات، ومن الصعب أن تختفي تماما.
ويرى في إنجيل يوحنا أشياء أكثر دقة وتحديدا. فعندما احتدم النقاش بين يسوع وناقديه اليهود قالوا له: «إننا لم نولد من زنا» (يوحنا، 8: 41). وكأنهم غمزوا من قناته وأرادوا القول: «مثلك أنت». وفي موضع آخر هناك إشارة مبطنة ثانية، عندما قال اليهود بعد أن سمعوا وعظ يسوع: «أليس هذا هو يسوع بن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه» (يوحنا، 6: 42). فلماذا ذكروا اسم يوسف أولا ثم أضافوا بشكل فائض عن الحاجة: «الذي نحن عارفون بأبيه وأمه»؟
وهنالك قطعة أخرى من هذا اللغز يجدها المؤلف، وهي في رأيه واحدة من أكثر القصص غرابة في الإنجيل، أوردها لنا مؤلف إنجيل مرقس الذي دعا يسوع بابن مريم ولم يذكر يوسف النجار قط. فهو يحدثنا عن رحلة خفية قام بها يسوع من شواطئ بحيرة طبريا حيث كان يكرز في نواحي صور وصيدا: «ثم قام من هناك ومضى إلى تخوم صور وصيداء، ودخل بيتا وهو لا يريد أن يعلم أحد، فلم يقدر أن يختفي لأن امرأة كان بابنها روح نجس سمعت به فأتت وخرت عند قدميه ... إلخ» (مرقس، 7: 24-25) وهذا الخبر لم يرد عند متى ولوقا لأنهما لم يرغبا في أن يطرح أحد السؤال البديهي، وهو لماذا ترك يسوع الجليل وسافر إلى منطقة صور وصيدا؟ وبيت من كان يعرفه يسوع ودخله بشكل سري؟ هذا السؤال لا يجيب عليه مؤلف كتاب «سلالة يسوع» تاركا الجواب لفهم القارئ الذي لا بد أن يكتشف بقليل من التروي أن يسوع قد جاء لزيارة والده الفينيقي!
لم يكن يسوع ابن زنا فقط بالنسبة للمؤلف، ولكنه تسلسل أيضا من سلالة كان عدد من أفرادها أولاد زنا. فسلسلة النسب التي قدمها لنا متى في مطلع إنجيله تحتوي على أربع نساء كان لهن علاقات خارج إطار الزوجية. وبما أن متى قد سماهن بأسمائهن ولم يأت على ذكر غيرهن من النساء، فإن المؤلف يرى أن متى كان يقدم ضمنيا علاجا لوضع مريم ويربطها بأولئك النسوة. وعلى الرغم من أن مؤلفنا لم يذكر أسماء النسوة ولم يتعرض لقصصهن، إلا أنني سأقدم فيما يلي نبذة مختصرة عنهن، لأوضح كيف نقل المؤلف فضائح التوراة الجنسية إلى كتاب العهد الجديد: (1)
تامار:
كانت تامار زوجة الابن يهوذا الذي ينتسب إليه سبط يهوذا المعروف. وعندما مات زوجها أعطاها يهوذا لابنه الثاني الذي ما لبث أن مات أيضا، فوعدها بتزويجها من الابن الثالث ولكنه ماطل في الوفاء بوعده. وعندما عرفت تامار أن حماها مسافر إلى مدينة تمنة لبعض أشغاله خلعت عنها ثياب ترملها، ولبست مما تلبسه العاهرات وتغطت ببرقع، وجلست على جانب الطريق. فلما مر بها يهوذا طلب أن يدخل عليها دون أن يعرفها. فقالت له: ماذا تعطيني إذا دخلت علي؟ فقال: أعطيك جديا من الماعز. فقالت: هل تعطيني رهنا ريثما ترسل الجدي؟ فأعطاها خاتمه وعصابة رأسه وعصاه ودخل عليها. وبعد ثلاثة أشهر قيل ليهوذا إن تامار كنته قد زنت وهي الآن حامل. فقال يهوذا: أخرجوها واحرقوها، فأرسلت إليه تامار أشياءه التي رهنها عندها قائلة: إني حامل من صاحب هذه الأشياء، فعرف يهوذا أشياءه وبرأها ثم تزوجها فولدت له ابنين هما فارص وزارح (التكوين: 38). ومن فارص تسلسل سلمون الذي تزوج بعد عدة أجيال من عاهرة تدعى راحاب. (2)
راحاب:
وهي عاهرة كانت تستقبل الرجال في بيتها بمدينة أريحا. وعندما اقترب يشوع بن نون خليفة موسى من المدينة لحصارها، أرسل أمامه جاسوسين أضافتهما راحاب وخبأتهما لدى البحث عنهما، وكان بيتها ملاصقا لسور المدينة فأنزلتهما بحبل من الكوة، وأخذت عليهما عهدا ليتوسطا في إنقاذ حياتها إذا ما دخل العبرانيون المدينة، وقالت إنها ستربط على الكوة حبلا من خيوط القرمز (وهو راية العاهرات منذ القدم) على كوتها التي أنزلتهما منها ليعرف المقتحمون بيتها ويتركوها بسلام. وعندما أخذ يشوع المدينة نجت راحاب بخيانتها، وتزوجها سلمون سليل العاهرة الأولى تامار، فولدت له بوعز (يشوع: 2-4). وقد تزوج بوعز هذا فيما بعد من الفتاة السيئة السمعة راعوث. (3)
راعوث:
وهي فتاة مؤابية تزوجت رجلا من سبط يهوذا كان متغربا في مؤاب. ولما مات زوجها لصقت بحماتها نعمي ورافقتها إلى بيت لحم في أرض يهوذا. وكانت مجاعة في الأرض فمضت راعوث إلى حقل رجل غني من أقرباء حماتها يدعى بوعز، وراحت تلتقط بقايا الحصاد من التراب. فلما رآها بوعز أكرمها وأطعمها وأمر غلمانه ألا ينهروها. فعادت إلى حماتها وأخبرتها بكرم صاحب الحقل. فقالت لها: اغتسلي وتدهني والبسي ثيابك وانزلي إلى البيدر، ولا تدعي الرجل يعرفك حتى يفرغ من الأكل والشرب. ومتى اضطجع فاعلمي المكان الذي يضطجع فيه وادخلي واكشفي ناحية رجليه واضطجعي. ففعلت راعوث كما قالت لها حماتها. وفي الصباح قال بوعز لغلمانه ألا يقولوا لأحد أن راعوث قد باتت عنده. ثم تنتهي القصة بزواج بوعز من راعوث التي أنجبت له عوبيد جد داود (سفر راعوث). (4)
بتشبع:
بينما كان الملك داود يتمشى على سطح بيته في إحدى أمسيات الصيف، لمح امرأة عارية تستحم في منزلها القريب، فشغف بها وأرسل في اليوم التالي يسأل عن هويتها فقالوا له إنها زوجة الجندي الشجاع أوريا الحثي وهو يقاتل الآن في جيش الملك وراء نهر الأردن. فأرسل داود غلمانه وأتوا بها عنوة إليه فدخل عليها ثم أعادها إلى بيتها. وبعد مدة أرسلت إليه تقول إنها حبلى منه. فكتب داود إلى قائد جيشه يقول: اجعلوا أوريا في مقدمة الحرب ثم ارجعوا من ورائه فيضرب ويموت. وهكذا كان، وعندما علم داود بموت أوريا أرسل إلى بتشبع من يأتي بها وتزوجها فأنجبت له سليمان (صموئيل الثاني: 11)، وكان آخر المتسلسلين من سليمان هو يوسف «رجل مريم التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح» (متى، 1: 1-11).
وهكذا أنجبت مريم ابنها خارج نطاق الزوجية على منوال بقية الزانيات في سلسلة نسب يسوع. ومتى في رأي مؤلفنا يصف حالة واقعية كان يعرفها تمام المعرفة.
لم أعالج في هذا الحيز الضيق سوى أفكار المؤلف بخصوص ميلاد يسوع وأخلاق أمه مريم، وهي مبسوطة في الفصل الثالث. أما بقية الكتاب فعلى الرغم من تنوع موضوعاتها إلا أنها تهدف في النهاية إلى إقناع القارئ بأن يسوع قد عاش ومات على العقيدة اليهودية، وأن مذهبه لم يكن إلا تنويعا على الخلفية المذهبية التوراتية. فيسوع ليس مؤسس المسيحية، بل بولس الذي فسر يسوع بما يتلاءم مع الروح الدينية اليونانية والرومانية. هذه الأفكار ليست بالجديدة، والمؤلفون اليهود ما زالوا يعزفون على هذا الوتر منذ قرن مضى، من أجل تقويض الإيمان المسيحي والكنيسة المسيحية.
والسؤال الذي أوجهه أخيرا إلى المترجم وإلى الناشر هو: هل بذلتم كل هذا الورق والجهد من أجل إنتاج كتاب يسمعنا بآذاننا شتائم اليهود الذين لم يشفوا غليلهم بعد من يسوع-عيسى عليه السلام وأمه التي اصطفاها الله على نساء العالمين؟
هل كان يسوع متزوجا؟
إن مسألة ما إذا كان يسوع متزوجا، ليست من الموضوعات التي تستحق أن يشغل أي باحث جاد نفسه بدراستها؛ لأنها تنتمي إلى مجال الأدب ( = Fiction ) أكثر من انتمائها إلى مجال البحث الأكاديمي الرصين. والمسألة برمتها لا تمتلك الحد الأدنى من العناصر التي يمكن إخضاعها للتقصي التاريخي ولا لمناهج دراسة كتاب العهد الجديد.
على أن ما حفزني على طرح هذه المسألة هو صدور ترجمة رديئة عن دار نشر سوريا عام 2006م لكتاب صدرت طبعته الأولى في بريطانيا عام 1981م تحت عنوان:
The Holy Blood and the Holy Grail ، أي الدم المقدس والكأس المقدسة.
1
ثم أعيد طبعه مرارا ولقي رواجا كبيرا في أوساط عامة القراء الغربيين الذين لم يقرءوا كتابهم المقدس، وبالتالي لم يكن لديهم معايير للتفريق بين البحث الجاد في الأناجيل والبحث الزائف الذي يستغل جهل القارئ العادي من أجل الانتشار السريع وتحقيق الشهرة والمكسب المادي. وبذلك فقد شرب القارئ من كأس مؤلفي الكتاب الثلاثة دون أن ينتبه إلى جرعة السم اليهودي المركز التي تناولها من قلمهم.
يدور الكتاب حول فكرة أساسية مفادها أن الكنيسة الكاثوليكية قد حاولت عبر التاريخ إخفاء سر رهيب مفاده أن عملية الصلب لم تكن سوى تمثيلية مدبرة بعناية، انتهت بإنزال يسوع عن الصليب قبل موته ثم إنعاشه واختفائه بعد ذلك في مكان سري ، وأن يسوع قد عاش بعد ذلك لمدة طويلة، بعد أن أرسل زوجته مريم المجدلية مع أولاده منها إلى مرسيليا بجنوب فرنسا حيث أسسوا لسلالة ملوك حكمت هناك، باعتبارهم الورثة الشرعيين للملك الذي لم يحكم: يسوع المسيح. فالكأس المقدسة التي كانت أشهر موضوع عالجته الرومانسيات الأوروبية في أواخر العصور الوسطى، ليست في حقيقة الأمر إلا مريم المجدلية زوجة يسوع التي حملت الدم الملكي إلى أوروبا.
قرأت الطبعة الإنكليزية من الكتاب بعد صدورها في لندن ببضع سنوات ولم أجد فيه سوى حبكة بوليسية بعيدة كل البعد عن البحث الأكاديمي الرصين وقد التقط أحد مؤلفي روايات التشويق في أميركا هذه الحبكة، وجعل من الكتاب رواية تحت عنوان «شيفرة دافينشي»، لقيت بدورها إقبالا شديدا، وجرى تحويلها بعد ذلك إلى فيلم سينمائي، كما صدرت لها ترجمة رديئة في دمشق لقيت رواجا منقطع النظير. وبما أن القراء العرب قد اطلعوا على كتاب الدم المقدس والكأس المقدسة، وقرءوا رواية شيفرة دافنشي، وشاهدوا الفيلم المقتبس عنها، فقد رأيت من واجبي كباحث في كتاب العهد الجديد أن أضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بالأفكار التي قامت عليها هذه الأعمال الثلاثة.
فيما يلي من هذه الدراسة لن ألتفت إلى ما ورد في كتاب شيفرة دافنشي؛ لأن خيال المؤلف الروائي لا يشكل موضوعا للمناقشة، ولكني سوف أركز على ما ورد في الكتاب الذي قامت عليه هذه الرواية وأناقشه، مستندا إلى معطيات الأناجيل نفسها، ومبرهنا على أن المؤلفين قد قرءوا هذه الأناجيل بعيون يهودية، وبإصرار يهودي على النخر في أساسات الكنيسة المسيحية. وسيكون تركيزنا بشكل خاص على بعض خلاصات المؤلفين الواردة في الفصل الثاني عشر لأنها تقدم نموذجا عن الأسلوب الذي اتبعوه في تضليل القارئ العادي الذي لم يدرس الإنجيل ولم يطلع على تفاصيله ودقائقه. (1) هل قدس يسوع الزواج
يقول المؤلفون: لا يوجد في الأناجيل دليل واضح على أن يسوع لم يكن متزوجا، وكان العديد من حوارييه متزوجين مثل بطرس الذي دخل يسوع بيته وشفا حماته، وهناك من الدلائل ما يشير إلى أنه لم يأمر بالعزوبية، بل وأنه قد قدس الزواج وحض عليه. فعندما جاء إليه قوم من الفريسيين ليجربوه وقالوا له: «هل يحل للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب؟ فأجاب وقال لهم: أما قرأتم (في التوراة) أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثى؟ وقال من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بزوجته ويكون الاثنان جسدا واحدا ؟ (إشارة إلى ما ورد في سفر التكوين: 2 عن خلق آدم وحواء) إذن ليس بعد اثنين بل هم جسد واحد. فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان» (متى، 19: 1-7).
الرد
لم يكن معظم حواريي يسوع الاثني عشر متزوجين. ولا يوجد لدينا في الأناجيل الأربعة دليل إلا على زواج بطرس، أما البقية فوضعهم العائلي مجهول. وفيما يتعلق بالمقطع الذي استشهد به المؤلفون من إنجيل متى، فقد قدموا لنا نصفه الأول وتركوا النصف الثاني الذي يحض على العزوبية لمن شاء من الرجال وقدر عليها. فقد قال له سائلوه بعد أن سمعوا جوابه: «فلماذا أوصى موسى أن يعطى كتاب طلاق فتطلق؟ قال لهم: إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم، ولكن من البدء لم يكن هكذا. وأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا بسبب الزنى وتزوج بأخرى يزني، والذي يتزوج بمطلقة يزني.» وهنا سأله تلاميذه عما إذا كان من المستحسن والحالة هذه الامتناع عن الزواج: «إن كان هكذا أمر الرجل من المرأة، فلا يوافق أن يتزوج!» فقال لهم بأن الامتناع عن الزواج وقف على الخاصة الذين نذروا أنفسهم لخدمة الرب: «ليس الجميع يقبلون هذا الكلام بل الذين أعطي لهم. لأنه يوجد خصيان ولدوا هكذا من بطون أمهاتهم، ويوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت الله. من شاء أن يقبل فليقبل» (متى، 19: 3-12). ويجب أن نلاحظ فيما يتعلق بجواب يسوع الأخير المتعلق بالاختيار الحر للعزوبية، أنه موجه إلى التلاميذ لا إلى سائليه من اليهود. وهذا يعني أنه يقر هنا شريعة مسيحية لأتباعه. فإذا كان هذا ما شرعه يسوع لأتباعه، أفلا يكون المشرع نفسه أولى باتباع شرعته؟ (2) دلائل على زواج يسوع
يقول المؤلفون: إذا كان يسوع لم يأمر بالعزوبية فليس لدينا مبرر للافتراض بأنه كان أعزب. وطبقا للتقاليد اليهودية في ذلك الزمن لم يكن الزواج مستحبا فقط وإنما كان إلزاميا تقريبا، وكان مفروضا على الأب أن يجد زوجة لابنه مثلما كان مفروضا عليه أن يختنه. وفي الحقيقة فإن عدم وجود إشارة واضحة في الأناجيل إلى عزوبية يسوع يدل بقوة على أنه كان متزوجا، وأنه قد التزم بثقافة وأعراف زمانه. ولو أن يسوع بقي أعزب إلى ما بعد سن الثلاثين لكان موضع نقد واستهجان ولأدى ذلك إلى عزله اجتماعيا باعتباره خارجا على الأعراف الدينية والاجتماعية.
الرد
في الرد على الشق الأول من هذا الطرح، أقول بأن يسوع قد حبب العزوبية إلى المختارين من جماعته عندما قال في المقتبس الذي أوردناه عن متى: «يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت الله من شاء أن يقبل فليقبل (وورد في الترجمة الكاثوليكية: فمن استطاع أن يفهم فليفهم)» (متى، 9: 12). أما في الرد على الشق الثاني، فأقول: إنه في أيام يسوع كان خاصة اليهود موزعين في ثلاث طوائف رئيسية وصف لنا المؤرخ اليهودي يوسيفوس بدقة اختلافها في المعتقدات والممارسات، وهم: الصدوقيون، والفريسيون، والأسينيون. وكانت الطهارة الجنسية والعزوف عن الزواج من القواعد الأساسية التي يتوجب على الأسينيين الالتزام بها. وهذا يعني أن قسما لا يستهان به من اليهود كانوا عازفين عن الزواج والعلاقات الجنسية أيام يسوع، وأن العفة الجنسية كانت أمرا عاديا وغير مستهجن لدى قطاعات من المجتمع، فلماذا تكون حالة يسوع وحده استثناء من القاعدة، ولماذا يجب أن يكون يسوع وحده مستهجنا بسبب عزوبيته؟ يضاف إلى ذلك أن العديد من الباحثين في مخطوطات البحر الميت التي تركتها لنا الطائفة الأسينية قد وجدوا الكثير من أوجه الشبه بين تعاليم يسوع والتعاليم الأسينية، ووصل بعضهم حد القول بأن يسوع ربما كان أسينيا قبل أن يخرج عن الطائفة ويختط لنفسه نهجا خاصا. (3) عرس قانا باعتباره عرس يسوع
يقول المؤلفون: في الإنجيل الرابع هنالك قصة عرس تجري في بلدة قانا الجليل ربما كانت قصة عرس يسوع نفسه. فللوهلة الأولى يبدو أننا أمام حفلة عرس محلية بسيطة يبقى فيها العريس والعروس مجهولين. ولكن بعض التفاصيل الصغيرة في هذه الحفلة تطرح أسئلة تستحق التوقف عندها. فلقد دعي يسوع إلى الحفلة على الرغم من أنه لم يكن بعد قد باشر دعوته العلنية، وكانت أمه هناك دون أن يوضح لنا المؤلف السبب في ذلك. وعندما نفدت الخمر أمرت مريم ابنها أن يتصرف كما لو أنها كانت هي المضيفة: «ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له: ليس لهم خمر! فأجابها: ما لي ولك يا امرأة، لم تأت ساعتي بعد.» لكن مريم تتغاضى عن احتجاج ابنها برباطة جأش وتقول للخدم: «مهما قال لكم فافعلوه. فيمتثل الخدم لأوامرها كأنهم معتادون على ذلك منها ومن يسوع. وهكذا تفلح مريم على الرغم من محاولة يسوع المزعومة لرفض سلطتها، وينجز يسوع أولى معجزاته وهي تحويل الماء إلى خمر، على الرغم من أنه لم يكن بعد قد أظهر قدراته الخارقة، ولم يكن لدى مريم سبب يدعوها للافتراض بامتلاك يسوع لمثل هذه القدرات. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا كان على ضيفين في زفاف أن يكونا معنيين بمسألة نفاد الخمر على الرغم من أن تلك المسئولية تقع عادة على عاتق صاحب الدعوة، ما لم يكن عرس قانا هو حفل زفاف يسوع نفسه؟ وفي هذه الحالة فقط يكون هو المسئول عن إعادة ملء أوعية الخمر التي نفدت. وهناك دليل آخر على أن عرس قانا كان في واقع الأمر هو عرس يسوع نفسه. فبعد اجتراح معجزة تحويل الماء إلى خمر قال مشرف الحفلات الذي يدير شئون الضيافة في العرس للعريس: كل إنسان إنما يأتي بالخمر الجيدة أولا، فإذا سكروا يأتي بالتي هي دونها في الجودة، أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن.» هذه الكلمات تبدو موجهة بشكل واضح إلى يسوع باعتباره العريس.
الرد
إن في قول مؤلف إنجيل يوحنا: «وكانت أم يسوع هناك» دلالة واضحة على أن مريم كانت من ذوي قربى العريس، ويبدو أنها كانت على درجة من القرابة تدعوها لأن تكون موجودة قبل وقت من ابتداء الحفل لكي تساعد في الترتيبات، على ما هو سائد في الحفلات الشرقية حتى يومنا هذا. أما يسوع فقد كان مدعوا مع تلامذته وجاء بهم مع بقية المدعوين. وبسبب وضعها كقريبة وكمساهمة في ترتيبات الحفل، فقد حاولت تفادي الموقف المحرج الناجم عن نفاد الخمر وطلبت من ابنها أن يتصرف.
وفي الحقيقة، فإن من يعيد قراءة قصة عرس قانا مرارا وتكرارا، لن يجد فيها ما وجده المؤلفون الذين يبدون له وكأنهم يبنون استنتاجاتهم على قصة أخرى غير قصة عرس قانا. (4) المجدلية كمرشحة أولى
يقول المؤلفون: إذا كان يسوع متزوجا فهل تسعفنا روايات الأناجيل بإشارات غامضة تدل على هوية زوجته؟ في المقام الأول يبدو لنا وجود مرشحتين لتكون إحداهما زوجة يسوع وكلتاهما كانتا من بطانته المقربين. أولى هاتين المرشحتين هي مريم المجدلية التي يدل اسمها على أنها من بلدة مجدلة في الجليل (وهي اليوم بلدة المجدل على الشاطئ الغربي من بحر الجليل). إن دور هذه المرأة في الأناجيل الأربعة غامض إلى حد كبير، ويبدو أنها قد حجبت عن عمد. ففي إنجيل لوقا تظهر في وقت مبكر من حياة يسوع التبشيرية في الجليل، عندما أخرج منها سبعة شياطين، ورافقته بعد ذلك من الجليل إلى اليهودية حيث نراها في مشهد الصلب وما تلا ذلك من أحداث. أما في بقية الأناجيل فلا تظهر إلا في المراحل الأخيرة من حياة يسوع. وعلى عكس الموروثات السائدة التي تطابق بينها وبين المرأة الخاطئة (= المومس) التي دخلت على يسوع وراحت تبكي وتقبل قدميه وتمسحهما بشعرها وتدهنهما بالطيب (لوقا، 7: 36-50)، فإن صورتها في الأناجيل تدل على انتمائها إلى الطبقة الأرستقراطية، وكان من بين صديقاتها زوجة مسئول كبير في إدارة الملك هيرود أنتيباس حاكم الجليل. ولا أدل على مكانتها المميزة في بطانة يسوع من أن اسمها في الأناجيل الأربعة يتصدر قائمة أسماء النساء اللواتي تبعن يسوع من الجليل وخدمنه من أموالهن. وقد تلقت المجدلية من يسوع معاملة تفضيلية، الأمر الذي أثار غيرة بقية التلاميذ وقاد في النهاية إلى محاولة تشويه صورتها. وبما أنها التحقت بيسوع عندما كان في الجليل وتبعته في جولاته التبشيرية وصولا إلى أورشليم، فإن في ذلك دليلا على أنها كانت متزوجة وتسير في صحبة زوجها؛ لأن النساء في أيام يسوع لم يكن يسافرن إلا بصحبة أزواجهن. ويبدو هذا الشرط أكثر إلحاحا إذا كانت المرأة تسافر في صحبة معلم روحي وتختلط مع بطانته من الذكور. وبما أنه من غير المتصور أن تكون المجدلية متزوجة من أحد تلاميذ يسوع؛ لأن علاقتها المميزة مع المعلم ستجعلهما عرضة للأقاويل ولتهمة الزنا، فإن المجدلية لا بد وأنها كانت زوجة يسوع نفسه.
الرد
لم تكن المجدلية وحدها هي التي ترتحل دون زوج في ركب يسوع، بل إن كل من رافقنه من النساء كن يرتحلن بلا أزواج. فمرقس يذكر جماعة من النساء كن في بطانة يسوع منهن: المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وسالومة. ومتى يقول: إن كثيرا من النساء تبعن يسوع من الجليل، ويذكر من أسمائهن، المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وأم ابني زبدي. ولوقا يذكر من أسماء الكثيرات: المجدلية وحنة امرأة خوزي وكيل (أو خازن) الملك هيرودوس، وسوسنة. ويوحنا يذكر: المجدلية ومريم زوجة كلوبا. ونحن نعرف من أزواج هؤلاء النسوة زبدي الصياد أبا يعقوب ويوحنا، وخازن الملك هيرود أنتيباس، وكلوبا أخا يوسف النجار، وهؤلاء لم يكونوا في بطانة يسوع مع زوجاتهم، وكذلك بقية النسوة اللواتي ربما كن عازبات وبلا أزواج. فلماذا يكون وجود المجدلية بلا زوج في صحبة يسوع أمرا مستهجنا؟ وبأي شطحة خيال غير منضبط استنتج المؤلفون أنها لا بد وأن تكون زوجة ليسوع؟ (5) مريم بيت عنيا كمرشحة ثانية
يقول المؤلفون: هنالك امرأة أخرى ذات دور بارز في الإنجيل الرابع مرشحة أيضا لأن تكون زوجة يسوع. إنها مريم من بيت عنيا أخت مرتا ولعازر الذي أقامه يسوع من بين الأموات، وكان لهؤلاء الثلاثة بيت كبير فاره في ضاحية عنيا على جبل الزيتون المشرف على مدينة أورشليم، كان من السعة بحيث يتسع لإقامة يسوع وتلاميذه المرتحلين في صحبته. وقد أحب يسوع هذه الأسرة وغالبا ما كان يلجأ إلى بيتهم للراحة أو النوم. وفي إحدى المرات غادر يسوع بيت عنيا ونزل مع تلاميذه إلى عبر الأردن حيث أقام مدة. فأرسلت إليه الأختان مريم ومرتا تقولان إن أخاهما لعازر مريض. ولكن يسوع تلكأ أربعة أيام قبل أن يتوجه إلى بيت عنيا، وعندما وصل خرجت مرتا لاستقباله أما مريم فمكثت في البيت. فقالت له مرتا: «لو كنت هنا يا سيد لما مات أخي» وبعد حوار قصير بين الطرفين ترجع مرتا إلى البيت وتقول لأختها: «المعلم هنا وهو يدعوك». فقامت مريم وخفت إليه. وهنا يفسر المؤلفون عدم خروج مريم لملاقاة يسوع بأنها كانت في فترة الحداد السبعية التي تلتزم النساء خلالها بيوتهن ويمارسن طقوس الحداد على القريب الميت، ولا يخرجن من البيت إلا بأمر أزواجهن، وهذا ما حدث بين يسوع مريم، فلقد تصرفا وفق العائدة السائدة كزوج وزوجة يهوديين.
الرد
كما هو الحال في بقية الشواهد التي يسوقها المؤلفون، فإنهم هنا يتوجهون بالخطاب إلى الشريحة الواسعة من المسيحيين التي لم تقرأ الإنجيل. إن نظرة فاحصة إلى قصة إحياء لعازر في إنجيل يوحنا كفيلة بالرد على هذا الاستنتاج الساذج. فقد بقيت مريم في البيت ولم تخرج للقاء يسوع لأن البيت كان مليئا بالمعزين الذي جاءوا لتعزية الأختين بأخيهما، وكان من عدم اللياقة الاجتماعية أن تترك الأختان معا ضيوفهما وتخرجا للقاء يسوع. وهذا بالضبط ما ورد في إنجيل يوحنا؛ حيث نقرأ: «وكان كثير من اليهود قد جاءوا إلى مرتا ومريم يعزونهما عن أخيهما. فلما سمعت مرتا بمجيء يسوع خرجت لاستقباله ولبثت مريم قاعدة في البيت» (يوحنا، 11: 19-20)، أما لماذا دعا يسوع بعد ذلك مريم فلكي يدلانه على الموضع الذي دفن فيه لعازر ويتوجه معهما إلى المكان. وعندما خرجت مريم للقاء يسوع رافقها من كان حولها من المعزين: «فلما رأى اليهود الذين كانوا في البيت مع مريم يعزونها أنها قامت وخرجت على عجل، لحقوا بها وهم يظنون أنها ذاهبة إلى القبر لتبكي ... فلما رآها يسوع تبكي ويبكي معها اليهود الذين رافقوها ارتعشت نفسه واضطرب، وقال: أين وضعتموه؟» (يوحنا، 11: 29-33).
وهنالك سؤال لم يكلف المؤلفون أنفسهم عناء الإجابة عليه، وهو: كيف يكون يسوع متزوجا من مريم بيت عنيا، مع العلم بأنه كان مقيما في بلدة كفر ناحوم قرب بحيرة طبرية في الجليل (لوقا ، 4: 31؛ ويوحنا، 2: 12)، ولم ينزل لزيارة أورشليم إلا مرة واحدة وفق الأناجيل الإزائية، وثلاثا أو أربع مرات وفق إنجيل يوحنا، أما مريم فقد كانت مقيمة في قرية بيت عنيا على بعد ثلاثة كيلومترات إلى الشرق من أورشليم مع أختها مرتا وأخيها لعازر. ولكي يقطع المسافر المسافة بين هذين الموقعين، عليه أن يرتحل بصورة متواصلة مدة ثلاثة أيام على الأقل ممتطيا ظهر حمار إذا كان موسرا.
يقول المؤلفون: هناك دليل إضافي على زواج محتمل بين يسوع ومريم بيت عنيا يرد في إنجيل لوقا؛ حيث نقرأ: «وبينما هم سائرون دخل يسوع قرية فرحبت به امرأة اسمها مرتا في بيتها، وكان لها أخت اسمها مريم جلست عند قدمي يسوع تستمع إلى كلامه، وأما مرتا فكانت منهمكة في شئون الضيافة. فجاءت وقالت: يا رب أما تبالي أن تتركني أختي أخدم وحدي؟ قل لها أن تساعدني. فأجاب يسوع وقال: مرتا، مرتا، أن تهتمين وتقلقين لأجل أمور كثيرة، ولكن الحاجة إلى شيء واحد. ومريم اختارت النصيب الصالح الذي لن ينزع منها» (لوقا، 10: 38-42). من مناشدة مرتا ليسوع أن يطلب من مريم القيام بمساعدتها نستنتج أن يسوع كان يمارس نوعا من السلطة على مريم حتى يأمرها أن تخف لمساعدة أختها. كما أن في جواب يسوع لمرتا بأن أختها قد اختارت النصيب الصالح إشارة إلى خيارها الزواج منه. على أية حال من الواضح أن مريم بيت عنيا كانت تلميذة شغوفة بيسوع شغف المجدلية نفسها.
الرد
لم يكن من اللائق بالنسبة لمرتا أن تتوجه بخطابها إلى أختها التي كانت تستمع إلى كلام الضيف وإنما إلى الضيف نفسه طالبة تدخله، فكان سلوكها متفقا تماما مع قواعد الضيافة والتهذيب الاجتماعي، ولا شيء هناك ينم عن تمتع يسوع بنوع من السلطة على مريم. أما عن قول يسوع بأن مريم قد «اختارت النصيب الصالح الذي لن ينزع منها» فليس فيه إشارة إلى وضعية الزواج القائم بينهما، وإنما إشارة إلى قبولها لتعاليمه وإيمانها به، كما هو حال أي تلميذ آخر. (6) هل المريمتان واحدة؟
يقول المؤلفون: يذكر مرقس ومتى ويوحنا أن مريم المجدلية كانت حاضرة في وقت الصلب، ولكن لا أحد منهم يذكر أن مريم بيت عنيا كانت حاضرة أيضا. فإذا كانت مريم بيت عنيا مكرمة كتلميذة بالقدر نفسه، وهو ما يبدو لنا من سياق الأحداث، فإن غيابها عن اللحظة الأخيرة من حياة يسوع أمر غير مفسر ويستحق الشجب، هذا إلا إذا كانت موجودة في شخص مريم المجدلية ذاتها، فإذا كانت المجدلية ومريم بيت عنيا هما شخص واحد في الواقع، فليس هناك سؤال عن سبب تغيب الأخيرة عن الصلب. وفي الحقيقة فإنه إذا كان يسوع متزوجا فليس هناك إلا مرشحة واحدة لتكون زوجته، وهي المرأة التي ذكرت في الأناجيل تحت أسماء مختلفة وفي أدوار مختلفة.
الرد
لا ندري كيف تكون مريم المجدلية ومريم بيت عنيا شخصية واحدة مع العلم بأن المؤلفين قالوا لنا قبل بضع صفحات أن المجدلية جاءت من بلدة مجدلة قرب طبريا، وتبعت يسوع من الجليل بعد أن أخرج منها سبعة شياطين. ثم قالوا لنا في تعريف مريم بيت عنيا بأنها أورشليمية تسكن مع أختها مرتا وأخيهما في ضاحية على جبل الزيتون مشرفة على أورشليم، وأن بيتهم كان من السعة بحيث يتسع لاستضافة يسوع وتلاميذه بضعة أيام، وكان ملحقا بالبيت قبر فخم منحوت من الصخر خاص بالأسرة، الأمر الذي يدل على ثرائها وانتمائها إلى الأستقراطية الأورشليمية.
هذه الأسئلة لم يكلف المؤلفون أنفسهم عناء الإجابة عليها، بل انتقلوا في آخر الفصل 12 الذي نعالجه هنا إلى القول بوجود ابن ليسوع ورث عنه عرش داود (!) وقد وجدوا هذا الابن في براباس، السجين الذي أطلقه بيلاطس لليهود بدلا عن يسوع. (7) ابن يسوع
يقول المؤلفون: هل يمكن أن نجد في الأناجيل ما يدل على وجود ابن ليسوع؟ هنالك شاهد غائم على ذلك ولكنه يتوضح أمام أعيننا إذا نحن أمعنا النظر في النص الذي يذكر شخصية براباس المحيرة. فالباحثون ما زالوا غير متأكدين من أصل الاسم واشتقاقه. فقد يكون تحريفا لكلمة برابي/
Berabbi
التي تلحق بأسماء المعلمين اليهود البارزين دلالة على التقدير. وقد يكون تحريفا لكلمة
Bar-Rabbi
التي تعني ابن المعلم، أو لكلمة
Bar Abba
أي ابن الأب. وفي الحالتين الأخيرتين هنالك إشارة إلى ابن يسوع. ونحن كلما تأملنا في هذه الشخصية تبين لنا وجود محاولة لإخفاء أمر ما بشأنها والإساءة إليها، وانتهى به الأمر في الموروثات المتداولة لأن يعتبر لصا. ولكن الأناجيل لم تصفه باللص، فهو عند مرقس ولوقا متمرد متهم بالقتل والعصيان المسلح، وهو عند متى أسير مشهور، وفي إنجيل يوحنا استعمل المؤلف في وصفه كلمة
Lestia
التي تعني في اليونانية إما لص أو رجل عصابات. لذلك من المرجح أن يكون براباس هذا منتميا إلى جماعة الزيلوت (أو الغلاة)، وهم متمردون على الحكم الروماني وغالبا ما كانوا يقومون بأعمال شغب سياسي وعصيان مسلح. وهذا يتفق مع ما ورد في إنجيل لوقا من أن براباس قد سجن لأجل فتنة وقتل (لوقا، 23: 25)، ولكننا لا نعرف عن حدوث فتنة سياسية في تلك السنة غير ما قام به يشوع وجماعته في الهيكل عندما قلب يسوع مناضد الصيارفة وطرد باعة حيوانات القرابين، وعلى حد وصف يوحنا فقد جلدهم بالسوط. فهل كانت هذه هي الفتنة التي كان براباس متورطا فيها؟ هذا يبدو محتملا. وفي هذه الحال لا بد أن يكون براباس واحدا من بطانة يسوع.
لقد اقترح أحد الباحثين المحدثين أن براباس كان ابن يسوع. وفي هذه الحالة فإن اختيار اليهود له يبدو منطقيا؛ لأن اليهود الواقعين تحت نير روما كان يرون أن مسيحهم الذي انتظروه طويلا لكي يأتي ويحررهم، هو الآن مهدد بالموت، وعليهم الاختيار بين إطلاق سراحه أو إطلاق سراح ابنه. في مثل هذه الظروف ألا تعد السلالة أكثر أهمية من الفرد ؟ ألن يكون للحفاظ على السلالة أولوية على أي شيء آخر؟ ألن يفضل الشعب وهو يواجه هذا الاختيار الرهيب، أن يكون ملكهم هو الضحية لكي تبقى سلالته من بعده؟ إن بقيت السلالة فسيكون على الأقل هناك أمل للمستقبل.
الرد
لن أقوم بالرد على القسم الأول من هذا الطرح، لأن النتيجة المستنبطة من مقدماته متهافتة تهافت تلك المقدمات التي تركز على مناقشة لغوية لاسم برباس. ربما كان علينا أن نرجع إلى أهل براباس ونسألهم لماذا أطلقوا مثل هذا الاسم عليه. أما عن القسم الثاني المتعلق بتفضيل الجموع اليهودية، التي احتشدت تحت شرفة الوالي بيلاطس، إطلاق براباس على إطلاق يسوع من أجل الحفاظ على سلالة ملك اليهود، فأقول بأن هذه الجموع لم تكن تؤمن بأن يسوع هو المسيح اليهودي المنتظر، وكان الشعب كله يطالب بصلبه صائحا «دمه علينا وعلى أولادنا» (متى، 27: 25). أما تلاميذ يسوع فقد كانوا مختبئين طيلة أحداث المحاكمة والصلب خوفا من الاعتقال. ولم يكن عدد أتباع يسوع ممن آمن بأنه المسيح يزيد كثيرا عن المائة شخص، على ما نفهم من سفر أعمال الرسل 1: 15. ثم لماذا يجب التضحية بالأب من أجل استمرار السلالة؟ أولن تستمر السلالة من خلال أولاد آخرين ليسوع يفترض المؤلفون وجودهم على ما سنرى بعد قليل، أو من أولاد آخرين ينجبهم يسوع من المجدلية إذا ما تم إنقاذه، لا سيما وأن الزوجين كانا في ريعان الشباب؟ (8) يقول المؤلفون
ولد يسوع وفق رواية متى نحو عام 6ق.م. ونحو عام 6م وفق رواية لوقا، وصلب في زمن لا يتعدى عام 36م (وهو العام الأخير لولاية بيلاطس على اليهودية). وهذا يعني أنه مات في نحو الثانية والأربعين، أو في نحو الثلاثين من عمره. في الحالة الأولى من الممكن أن يكون له ولد تجاوز سن العشرين، وفي الحالة الثانية من الممكن أن يكون له ولد في سن الثالثة أو الرابعة عشرة إذا أخذنا بعين الاعتبار عادة الزواج المبكر في تلك الأيام. وبناء على ذلك ليس من المستبعد أن يكون براباس ابنه. ولربما كان له أطفال آخرون أنجبتهم المجدلية في أي وقت بعد بكرها براباس.
الرد
ينسى المؤلفون هنا أنهم قد زوجوا يسوع من المجدلية في مطلع حياته التبشيرية واعتبروا أن عرس قانا الجليل كان عرس يسوع نفسه. ووفق تحقيب إنجيل يوحنا لأحداث الإنجيل، فقد صلب يسوع بعد عامين من ظهوره العلني الذي أعقب عرس قانا مباشرة. وعليه فإذا كان له ولد من المجدلية فإن عمره عند وفاة يسوع لم يكن يتجاوز العام. (9) المجدلية وسبط بنيامين
يقول المؤلفون: لقد كانت المجدلية من طبقة أرستقراطية على ما بينا سابقا، أما عن انتمائها العشائري فلا يوجد في كتاب العهد الجديد إشارة إليه. على أن الموروثات اللاحقة تقول إنها كانت من نسب ملكي، والبعض قال بأنها تنتمي إلى سبط بنيامين. وهذا ما أعطى يسوع سببا وجيها للزواج منها، وكان هذا السبب سياسيا بالدرجة الأولى. فالمدينة المقدسة أورشليم كانت في الأصل ملكا لسبط بنيامين، وفق التوزيع الأصلي الذي قام به يشوع بن نون لأرض كنعان المكتسبة حربا على الأسباط الاثني عشر. ومن سبط بنيامين هذا خرج أول ملك وحد الإسرائيليين في دولة واحدة بسطت سلطتها المركزية على كامل أراضي إسرائيل، وهو الملك شاؤل الذي مسحه النبي صموئيل ملكا بأمر من الرب. ولكن داود الذي ينتمي إلى سبط يهوذا انتزع الملك من شاؤل وحرم البنيامينيين من حقهم الشرعي بالحكم، وبعد أن جعل عاصمته في أورشليم حرمهم أيضا من ميراثهم الشرعي.
وقد كان يسوع وفق نص الإنجيل من عشيرة داود وبالتالي من سبط يهوذا، وهذا ما يجعله مغتصبا في عين البنيامينيين للملك الذي يطالب به. من هنا فإن زواجا سياسيا من امرأة بنيامينية سوف يعطيه حقا شرعيا في الحكم ويخفف من معارضة البنيامينين المتوقعة له، ويعيد أورشليم إلى أصحابها الأصليين. وهذا ما حصل.
الرد
لقد كان التوزيع الذي قام به يشوع بن نون توزيعا عن الورق فقط؛ فقد كان على كل سبط أن يحارب من أجل امتلاك حصته من الأرض الموزعة. وهذا ما نفهمه من سفر القضاة 2: 6 حيث نقرأ : «وصرف يشوع الشعب؛ فذهب بنو إسرائيل كل واحد إلى ملكه لأجل امتلاك الأرض.» ولقد كانت أورشليم من ضمن حصة بنيامين، ولكن البنيامينيين لم يمتلكوها قط (راجع سفر القضاة، 1: 21). وعندما أسس شاؤل البنياميني المملكة الموحدة لكل إسرائيل لم تكن عاصمته في أورشليم وإنما في مدينة جبعة (راجع صموئيل الأول: 1/ 26، و11 /4، و15/ 34، و6 /22). أما عن قول المؤلفين بأن داود قد انتزع الملك من شاؤل فغير صحيح؛ لأن شاؤل قد قتل مع أولاده السبعة في آخر معركة له مع الفلسطينيين (صموئيل الأول: 31)، فجاء بنو يهوذا إلى حبرون مقر إقامة داود ومسحوه ملكا عليهم (صموئيل الثاني، 2: 1-4). وبعد نزاع طويل على السلطة بين قبيلة يهوذا والقبائل العشر الشمالية، جاء جميع شيوخ إسرائيل إلى الملك في حبرون ومسحوا داود ملكا على إسرائيل (صموئيل الثاني، 5: 1-2). وفي ذلك الوقت لم تكن أورشليم ملكا لبنيامين وإنما لسكانها اليبوسيين الكنعانيين، فأقام داود سبع سنين في حبرون وجعلها عاصمة له، وبعد ذلك شن حربا على اليبوسيين وحاصر أورشليم ثم فتحها وجعل منها عاصمته الجديدة (صموئيل الثاني، 5: 1-10). وبعد ذلك بقيت سلالة الملك داود تحكم في أورشليم حتى دمارها على يد نبوخذ نصر الكلداني عام 587ق.م. أي طيلة ما يزيد عن أربعمائة سنة، دون أن يعترض أحد على شرعية ملوكها، ولم يضطر واحد من هؤلاء الملوك إلى الزواج من امرأة بنيامينية لدعم حقه الشرعي في الحكم. ولا أدل على العلاقات الطيبة التي جمعت سبط يهوذا مع جاره سبط بنيامين، من أن سبط بنيامين كان السبط الوحيد الذي بقي مع يهوذا بعد انقسام المملكة عقب وفاة الملك سليمان، إلى مملكة إسرائيل في الشمال التي تبعها الأسباط العشرة، ومملكة يهوذا في الجنوب التي تبعها سبط يهوذا وكذلك سبط بنيامين. وبقيت الأمور على هذه الحال حتى دمار مملكة إسرائيل عام 721ق.م. ثم دمار مملكة يهوذا عام 587ق.م.
بهذه الطريقة البعيدة مناهج البحث في كتاب العهد الجديد، حاول المؤلفون إقناعنا بأن يسوع كان متزوجا من مريم المجدلية، وأنه نجا من الصلب بمؤامرة مدبرة، وأرسل بالمجدلية مع أولادها إلى شواطئ فرنسا حاملة الدم الملكي اليهودي إلى أوروبا؛ حيث تأسست هناك ممالك يحكمها ملوك ينتمون إلى قبيلة يهوذا وقبيلة بنيامين، وإلى ملك اليهود الذي لم يقيض له أن يحكم.
معمودية يسوع
(1) يوحنا المعمدان وتاريخ طقس المعمودية
المعمودية، وهي طقس ديني يتضمن غمر الجسد بشكل كامل في الماء، ممارسة موغلة في القدم. ففي الثقافة السومرية (الألف الثالث قبل الميلاد) كان إله الماء يدعى إيا، أي إله بيت الماء، وكان معبده العلوي الذي يقيم فيه بين الناس نظيرا لمسكنه السفلي في الأعماق المائية العذبة، ويدعى بيت الطهارة؛ حيث كانت تجري طقوس الاغتسال بالماء.
1
أما الرمزية الكامنة وراء هذا الطقس فمؤداها أن غسل الجسد بالماء هو مظهر خارجي لتطهير الروح، والمغتسل بالماء الذي يذهب بأدران الظاهر إنما يعبر في الوقت ذاته عن غسله لأدران الباطن. كما أن الغطس الكامل في ماء نهر مقدس أو في جرن العماد الموضوع في المعبد ثم الصعود ثانية، يعبر عن الموت والانبعاث، موت الفرد عن نفسه الأرضية والانبعاث في نفس روحانية.
وتتخذ المعمودية مركز البؤرة في طقوس ديانات الأسرار التي شاعت في العصر الهيلنستي والعصر الروماني، والتي تقوم عقائدها على الإيمان بإله مخلص يقود العابد الذي اتحد به إلى الخلاص من ربقة الموت وإلى خلود الروح. فمن خلال طقس المعمودية كان المنتسبون الجدد إلى الديانة يعبرون إلى أسرارها التي كانت محجوبة المنتسبين. وسنسوق فيما يلي نموذجين من هذه الطقوس، الأولى طقوس إيليوسيس في العبادة السرية للإلهة اليونانية ديمتر وابنتها بيرسيفوني، والثانية طقوس الإلهة المصرية إيزيس كما كانت تمارس في روما.
وعرفت بلاد الإغريق نوعين من الطقوس الديمترية، النوع الأول يدعى بالطقوس الصغرى وكانت تقام سنويا في ذكرى عثور ديمتر على ابنتها بيرسيفوني التي اختطفها هاديس إله العالم الأسفل. ويغلب على هذه الطقوس طابع احتفالات الخصب؛ حيث يرمز صعود بيرسيفوني من العالم الأسفل إلى عودة الحياة إلى الطبيعة الميتة. أما النوع الثاني فيدعى بالطقوس الكبرى، وكانت تقام كل خمسة أعوام على شرف ديمتر لا باعتبارها مخلصة أرضية تتشارك مع ابنتها في إحياء الطبيعة سنويا، وإنما باعتبارها إلهة خلاص روحاني. يشارك في هذه الاحتفالات الكبرى المريدون الجدد الذين تم اختيارهم لدخول أسرار الإلهة والعبور إلى حلقة عبادها الخاصة، فهي والحالة هذه طقوس تنسيب وعبور. كان موكب المحتفلين ينطلق من أثينا مشيا على الأقدام إلى مدينة إيليوسيس مركز عبادة ديمتر، وعند الوصول إلى البحر ينزل المشاركون في الطقوس حيث يغمرون أنفسهم بالماء في عملية تطهير رمزي من شأنها إعدادهم للحياة الروحية الجديدة. وعند الوصول إلى إيليوسيس يخضع المشاركون الطقوس تنسيب تكمل طقوس العماد بالماء لا نعرف عنها شيئا، لأن من مروا بها حاذروا دوما من البوح بحقيقة ما كان يجري هناك.
2
ويشير المؤرخ الإغريقي هيرودوتس إلى هذا الطابع السري لطقوس إيليوسيس في معرض حديثه عن أسرار الإله أوزيريس في مصر، وذلك في كتابه «التاريخ» فيقول: «على تلك البحيرة أمام المعبد في الدلتا يقيم المصريون طقوسهم المكرسة لإلههم الذي لن أنطق باسمه. وعلى الرغم من أني رأيت رؤية العين كل ما جرى في ذلك المكان، فإني لن أزيد في القول شيئا، وأمسك لساني عن البوح بما رأيت مثلما أمسكته عن البوح بما رأيت في طقوس الإلهة ديمتر في إيليوسيس.»
3
أما عن طقوس التنسيب في عبادة الإلهة إيزيس بصيغتها الرومانية، فيحدثنا عنها الكاتب الروماني أبوليوس الذي تحول فيما بعد إلى هذه العبادة وصار كاهنا لإيزيس، وذلك في كتابه المعروف «الحمار الذهبي». وهو يصف هنا تجربته الشخصية عندما مر بهذه الطقوس التي يتخذ الاعتماد بالماء مدخلا إليها: «جاءني الكاهن الأعلى ومعه كهان آخرون، فاقتادوني إلى الحمام حيث أمرت بالاغتسال، وبعدها قام الكاهن الأعلى نفسه بسكب ماء مقدس على جسدي كله وهو يتلو صلوات وأدعية خاصة. ولما انتهيت أتى بي إلى المعبد وأجلسني عند قدمي تمثال الإلهة وأعطاني تعليمات مقدسة لا أجرؤ على البوح بها. ثم ألزمني صياما خاصا فلم أقرب اللحم أو الخمر مدة عشرة أيام، اقتصر طعامي خلالها على ما يسد الرمق فقط. وعندما حل اليوم الأخير جاءني الكاهن الأكبر فألبسني عباءة بيضاء قطنية وقادني إلى قدس أقداس المعبد. أما ما حدث هناك فإن لساني لو نطق وسمحت لأذنك أن تسمع، فإن لساني سيلقى جزاء بما نطق، وستلقى أذنك جزاء بما سمعت.»
4
وقد كانت الكنيسة المسيحية في طورها الأول، شأنها في ذلك شأن بقية ديانات الأسرار، عبارة عن حلقة مقتصرة على المنتسبين المؤهلين لتلقي أسرار الدين، أو أسرار ملكوت الله على حد وصف يسوع نفسه . فعندما سأله التلاميذ عن مغزى أحد الأمثال التي كان يوردها أمام اليهود قال لهم: «لكم قد أعطي أن تعرفوا أسرار ملكوت الله وأما للباقين فبأمثال، حتى إنهم مبصرين لا يبصرون وسامعين لا يسمعون» (لوقا، 8: 9-10). وكان التعميد الذي يتضمن الغطس الكامل بالماء ثم الصعود منه، هو طقس التنسيب الذي يتوجب على المريد الجديد أن يمر به من أجل الولادة الثانية. وهذا مغزى قول يسوع في إنجيل يوحنا: «ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله إلا إذا ولد وكان مولده من الماء والروح» (يوحنا، 3: 5). وكان يسوع وتلاميذه يعمدون كل راغب في الانضمام إلى الجماعة المسيحية، على ما نفهم من إنجيل يوحنا 3: 3، وإنجيل متى 28: 19. ويعود طقس المعمودية المسيحية إلى النبي يوحنا بن زكريا الملقب بالمعمدان الذي كان يعمد بالماء عند نهر الأردن لمغفرة الخطايا.
ويوحنا هذا شخصية غامضة يلفها الضباب، وهو يظهر فجأة ودون مقدمات في أناجيل متى ومرقس ويوحنا، أما مؤلف إنجيل لوقا فيورد قصة عن ميلاده من الكاهن زكريا وامرأته العاقر اليصابات، تشبه قصص الميلاد الإعجازي للشخصيات التوراتية الرئيسية مثل إسحاق وصموئيل وشمشون، ولكنه يصمت بعد ذلك عن حياة المعمدان بين ميلاده وظهوره على شاطئ نهر الأردن يعمد الناس. أما عن رسالته وتعاليمه، فإن مؤلفي الأناجيل يجعلون منه خاتمة النبوة في إسرائيل. وهذا مؤدى قول يسوع في إنجيل لوقا: «كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا المعمدان ثم ابتدأت البشارة بملكوت الله» (لوقا، 16: 16). من هنا فقد عمد هؤلاء إلى إعطائه دور النبي الذي يظهر في آخر الأزمان من أجل التمهيد لظهور المسيح على ما رددته النبوءات المسيانية في كتاب التوراة. ونبي آخر الأزمنة هذا هو شخص تحل عليه روح النبي إيليا أعظم أنبياء التوراة بعد موسى، على ما نقرأ في سفر ملاخي: «ها أنا ذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم والمخوف، فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على الآباء» (ملاخي، 4: 5-6). وأيضا: «ها أنا ذا أرسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامي، ويأتي إلى هيكله السيد الذي تطلبونه، وملاك العهد الذي تسرون به» (ملاخي، 3: 1). وهو يوصف في سفر إشعيا بأنه: «صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب، قوموا في القفر طريقا لإلهنا» (إشعيا، 40: 3). وهو في مظهره ونمط حياته يشبه إيليا الذي كان رجلا أشعر يتمنطق بمنطقة من جلد على حقويه، ويمضي جل وقته في البرية (1 ملوك، 17: 5؛ و2 ملوك، 1: 8). وقد اقتبس مؤلفو الأناجيل هذه الأخبار والأوصاف وعزوها إلى يوحنا المعمدان باعتباره النبي المنتظر الذي يبشر بظهور المسيح. نقرأ في افتتاحية إنجيل مرقس. «كما هو مكتوب في الأنبياء: ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك. صوت صارخ في البرية، أعدوا طريق الرب، اصنعوا سبله مستقيمة. كان يوحنا يعمد في البرية ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا. (وهنا يضيف متي: فيقول توبوا قد اقترب ملكوت السماوات). وخرج إليه جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم واعتمدوا على يديه في نهر الأردن معترفين بخطاياهم. وكان يوحنا يلبس وبر الإبل ومنطقة من جلد على حقويه، ويأكل جرادا وعسلا بريا. وكان يكرز قائلا: يأتي بعدي من هو أقوى مني، الذي لست أهلا أن أنحني وأحل سيور حذائه. أنا عمدتكم بالماء، وأما هو فسيعمدكم بالروح القدس، في تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا من الأردن» (مرقس، 1: 1-10).
ويضيف متى ولوقا خطابا يضعانه على لسان يوحنا، نورده فيما يلي عن صيغة لوقا: «وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعتمدوا على يديه: يا أولاد الأفاعي، من علمكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟ ألا اصنعوا أثمارا تليق بالتوبة، ولا تقولوا إن أبانا هو إبراهيم، لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم. والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار. وسأله الجموع قائلين: فماذا نفعل؟ أجابهم: من له ثوبان فليعط من ليس له، ومن له طعام فليفعل كذلك. وجاء عشارون أيضا ليعتمدوا على يديه فقالوا له: يا معلم ماذا نفعل؟ فقال لهم: لا تستوفوا أكثر مما فرض لكم. وسأله أيضا بعض الجنود: ونحن ماذا نفعل ؟ فقال: لا تظلموا أحدا ولا تشوا بأحد واكتفوا بأرزاقكم» (لوقا، 3: 7-14).
ولإنجيل يوحنا رواية خاصة به سوف نعرضها عند الحديث عن معمودية يسوع.
لم تدم فترة كرازة يوحنا المعمدان طويلا؛ فقد قبض عليه هيرود أنتيباس ملك الجليل لأنه كان يشجب زواجه من هيروديا امرأة أخيه. وعندما كان هيرود يحتفل بعيد ميلاده رقصت سالومي ابنة هيروديا أمام المدعوين فسر برقصها، وأقسم تحت تأثير الخمر أنه مهما طلبت يعطيها، فدفعتها أمها أن تطلب رأس يوحنا، فأسقط في يد هيرود وأرسل وقطع رأس يوحنا وأحضروه له على طبق (متى، 14: 3-12).
ولدينا خبر تاريخي واحد عن يوحنا المعمدان يتقاطع مع الأخبار الإنجيلية أورده المؤرخ اليهودي يوسيفوس في كتابه «عاديات اليهود» الذي وضعه في روما نحو عام 93 للميلاد، فقال «إن يوحنا الملقب بالمعمدان كان رجلا بارا، يأمر اليهود بالمعاملة الطيبة تجاه بعضهم بعضا وبتقوى الله. وكان يعمد بالماء من أجل تطهير الجسد بعد أن تطهرت الروح بالبر والتقوى. ولأن الجميع كانوا يتقاطرون إليه ويسمعون كلماته خاف هيرود من تأثيره على الناس ومن فتنة محتملة، فقبض عليه وسجنه في قلعة مخايروس ثم أمر بإعدامه.»
5
إن ما تقوله لنا هذه الأخبار الشحيحة هو أن تعاليم يوحنا المعمدان لم تخرج عن الإطار العام للعقيدة اليهودية في أشكالها المتأخرة. فيوحنا كان يبشر بقرب حلول ملكوت الرب الذي بشر به كبار الأنبياء من قبله مثل إشعيا وإرميا، وهو مملكة أرضية يحكمها الإله يهوه بنفسه. وكان يعمد بالماء لمغفرة الخطايا استعدادا لدخول المعتمدين في هذا الملكوت، ولاستقبال المسيح اليهودي الذي يفتتح الملكوت بظهوره. ومثل هذه الأفكار لم تكن بالشيء الجديد، وكان الأسينيون يبشرون بها، وهم طائفة يهودية طهرانية اعتزلت المدن وأقامت في البرية في انتظار قدوم المسيح، وكانت تمارس طقوس التعميد بالماء.
إلا أن ظهور بعض الطوائف الغنوصية منذ القرن الأول الميلادي، والتي تدعي انتسابها إلى يوحنا المعمدان، وتنسب إليه تعاليمها وطقوسها، يزودنا بمقاربة جديدة لتصور التعاليم الأصلية ليوحنا. فالغنوصية هي منظومة من الأفكار الدينية تبلورت فيما بين أواخر القرن الأول قبل الميلاد وأوائل القرن الأول الميلادي. وهي تقول بثنائية الجسد والروح؛ حيث ينتمي الجسد إلى عالم المادة المظلم، وتنتمي الروح إلى العالم الإلهي المنير، فهي قبس من روح ملك الأنوار احتبسها الديميرج (أي الإله الآخر الذي صنع العالم) في جسد صنعه من طين الأرض ونفخ فيه الحياة. وستبقى الروح أسيرة في هذا الجسد المادي وفي هذا العالم المادي، وأسيرة دورات تناسخ لا تنتهي، إلى أن يقودها الغنوص (أي العرفان الداخلي) إلى إدراك طبيعتها الإلهية، عندها فقط تستطيع الإفلات من دورة التناسخ والعودة إلى موطنها السماوي الذي جاءت منه.
وتحدثنا كتب التراث العربي، مثل كتاب الفهرس لابن النديم، عن أكثر من طائفة معمدانية كانت حية في أيامهم، ومنها طائفة «المغتسلة» (وهي تسمية مشتقة من طقس العماد بالماء) التي نشأ فيها ماني ثم انشق عنها وأسس الديانة المانوية. وقد بقي من هذه الطوائف اليوم طائفة الصابئة المندائيين التي تقيم في جنوب العراق والمناطق العربية من إيران. وكلمة صابئة مشتقة من الجذر صبأ، الذي يدل في اللغة المندائية الآرامية على التعميد والتطهر بالماء، وهو طقس الدخول في الدين. أما كلمة المندائية فمشتقة من كلمة مندا التي تعني معرفة أو علما، ويعادلها في اليونانية كلمة غنوص (
Gnosis ). وعلى ما نستشف من مصادر المندائيين أنفسهم، ومن كتب التراث العربي، ومن دراسات المستشرقين المحدثين، فإن الموطن الأصلي لهذه الطائفة كان في منطقة القدس وشواطئ نهر الأردن، ثم هاجروا شرقا نحو وادي الرافدين عقب الاضطرابات التي رافقت وتلت الحروب اليهودية الرومانية فيما بين عام 66 وعام 70 للميلاد، والتي انتهت بدمار أورشليم على يد القائد الروماني تيتس. وما زال اسم الأردن (أو يردنا باللغة المندائية) وهو النهر المقدس لديهم، يطلق على الماء الجاري الذي يستخدم في طقوس التعميد. وقد عثر في منطقة ميسان في الجنوب العراقي على قطع نقود تحمل كتابة مندائية تعود بتاريخها إلى نحو 150م، الأمر الذي يدل على قدم هذه الطائفة وقربها زمنيا من العصر الذي عاش فيه يوحنا المعمدان.
ينتسب المندائيون إلى النبي يوحنا الذي يدعونه بلغتهم يهنا أو يهيا، وتورد كتبهم المقدسة عن نسبه وميلاده أخبارا تشبه قصة إنجيل لوقا والقصة القرآنية. نقرأ في إحدى تراتيلهم: «باسم الحي ربي، النور السني. ولد يوحنا في القدس. أليصابات ولدت ولدا من الأب الشيخ زكريا. يوحنا ولد ولمس الأردن وكان نبيا. نور الإيمان قلبه، ونحن نتعمد بمائه، ونرتسم بالرسم الزكي. ونأكل من زاده ونشرب من مائه، فتنفتح قلوبنا إلى النور.» وطقس التعميد عندهم لا يتم إلا بالماء الجاري، وذلك على سنة يوحنا الذي كان يعمد في ماء الأردن. ويخضع للتعميد الصغار في طفولتهم، والكبار قبل الزواج، كما يتعمد من شاء أن يكسب أجرا. ويجري التعميد في يوم الأحد وهو اليوم المقدس عندهم. كما يجري في المناسبات الدينية. ويهدف هذا الطقس إلى تطهير الجسد والروح، ويكون الغطس الكامل في الماء رمزا لفناء الجسد الخاطئ، والخروج من الماء رمزا للجسد الذي انبعث روحيا. وخلال طقس المعمودية وبقية الاحتفالات الدينية يرتدي المندائي الثياب البيض التي ترمز إلى النور، ويتحاشى بشكل عام اللون الأسود الذي هو لون الظلام والخطيئة.
يقوم جوهر العقيدة المندائية على الإيمان بأن نفس الإنسان أو نسمته (= نشمتا بالمندائية) هي نفحة من الذات العليا، ولا بد لها وأن تعود يوما إلى باريها وتتحد به في حياة باقية خالدة. وقد حلت هذه النسمة الإلهية أول ما حلت في جسد آدم الأرضي ومعها شيء من جلال موطنها الأصلي وجماله، وفي الوقت نفسه حلت في ذلك الجسد الأرضي روح الشر (روها) ومعها كل ما في دنيا الظلام من خبث وشر. ولكن من خلال العرفان، أو الماندا، يستطيع الإنسان اكتشاف أصله السماوي ويصارع في داخله روح الشر، وبذلك يتحقق الانعتاق بعد الموت.
6
اعتمادا على وجود هذه الطوائف الغنوصية المعمدانية التي تنتمي إلى يوحنا المعمدان وتنسب إليه تعاليمها، واستمرارها غير المنقطع منذ القرن الذي عاش فيه يوحنا، نستطيع الاستنتاج بدرجة عالية من الثقة أن هذه التعاليم هي التي سمعها تلامذة يوحنا الأولون ونقلوها إلى الأجيال اللاحقة، وأن يوحنا كان بحق واحدا من مؤسسي المدرسة الغنوصية السورية التي كان سمعان ماجوس السامري أشهر ممثليها. وكلمة ماجوس، أي المجوسي، كانت تعني في العصر الهيلنستي والروماني الشخص الحكيم المتضلع بأمور الفلك والتنجيم والسحر، ومنهم المجوس الوارد ذكرهم في قصة الميلاد عند لوقا، والذين كانوا يرصدون النجوم عندما رأوا نجم المخلص ساطعا في السماء فتبعوه إلى بيت لحم.
يلف الغموض شخصية سمعان ماجوس؛ لأن مؤلفاته قد ضاعت ولم يبق منها سوى شذرات أورها نقاده المسيحيون، لا سيما هيبوليتوس في كتابه «تفنيد كل الهرطقات» الذي وضعه في مطلع القرن الثالث الميلادي. نشط سمعان خلال أواسط القرن الأول الميلادي، وهذا يعني أنه عاصر كلا من يسوع ويوحنا المعمدان. وقد ورد ذكره في سفر أعمال الرسل وهو السفر الرابع في الكتاب المقدس المسيحي (العهد الجديد)، وفي سفر أعمال بطرس المنحول. يقول سمعان وفق ما ينقله عنه ناقده هبوليتوس، بأن الله قوة أزلية وغير متمايزة منغلقة على نفسها في صمت وسكون تام. ثم إن هذه القوة انقسمت على نفسها، فظهر العقل
Nous-
وهو مذكر، والفكرة
Enoia-
وهي مؤنث. وبذلك انشطرت الألوهة إلى قسم علوي هو عالم الروح وقسم سفلي هو عالم المادة. ولقد امتصت الفكرة إينويا القوى الخلاقة للأب وأنتجت ملائكة وقوى عملت من خلالهم على خلق العالم المادي. ولكن إينويا فقدت السلطة على القوى التي نتجت عنها وصارت أسيرة لها ولا تستطيع الرجوع إلى الآب. ثم ظهر سمعان ماجوس كتجسيد لله على الأرض لكي يحرر إينويا من قيودها، ويقدم الخلاص من العالم المادي لكل من يتعرف عليه من البشر بصفته هذه.
7
لقد اعتبر بعض الباحثين أن سمعان ماجوس هو المعبر الأقدم عن الفكر الغنوصي، ولكن الاتجاهات الأحدث في البحث لم تعد تؤيد هذا الطرح مع اعترافها بأن أعماله هي أبكر ما وصلنا من نتاجات هذا الفكر. وهنالك أخبار متداولة تقول بأن سمعان قد تلقى علومه في الإسكندرية ثم عاد إلى فلسطين حيث تتلمذ على يد يوحنا المعمدان الذي اعتبره أنجب تلاميذه، وكان عازما على تعيينه خلفا له. ولكن سمعان كان في رحلة إلى مصر عندما جرى القبض على يوحنا وإعدامه، فاستلم المنصب سامري آخر من أتباع يوحنا اسمه دوتيسيوس. وعندما عاد سمعان إلى فلسطين جمع حوله ثلاثين تلميذا وراح يطوف معهم إلى أن لقي حتفه في ظروف غامضة في روما. وقد خلفه في زعامة الطائفة اثنان من تلاميذه، الأول ميناندر وهو سامري أيضا ولكنه أمضى النصف الثاني من حياته في أنطاكية حيث توفي نحو عام 80م. أما الثاني وهو ساتورنيلوس فكان من مواطني مدينة دافنة إلى الشمال من السامرة حيث منابع نهر الأردن، وقد عاش حتى أواسط القرن الثاني الميلادي.
8
أما سفر أعمال الرسل فيورد عن سمعان ماجوس ما يلي: «فنزل فيليبس الرسول مدينة سامرية وجعل يبشر بالمسيح ... وكان في المدينة قبل ذلك رجل اسمه سمعان يفتري السحر ويفتن أهل السامرة زاعما أنه رجل عظيم. فكانوا يلزمونه من صغيرهم إلى كبيرهم ويقولون: هذا قوة الله العظيمة. وإنما لزموه لأنه أخذ يفتنهم بأساليب سحره من زمن طويل. فلما آمنوا بكلام فيليبس الذي بشرهم بملكوت الله واسم يسوع، اعتمدوا رجالا ونساء وآمن سمعان أيضا» (أعمال، 8: 4-12). ولكن سفر أعمال بطرس المنحول يعطينا صورة أخرى؛ حيث نجد سمعان ماجوس قد سبق الرسول بطرس إلى روما وراح يبشر بمعتقده هناك مدعيا أنه ابن الله ومجترحا المعجزات التي استمالت الناس، وكان بطرس من ناحيته يشفي المرضى والعميان والمقعدين بقوة الروح القدس. ثم اجتمع الاثنان للمنافسة بحضور الإمبراطور نيرون وحشد من أهل روما، فقام سمعان بصعود برج عال وطار فوق أحياء المدينة، ولكن بطرس صاح بصوت عال: أناشدكم يا ملائكة الشيطان الذين تحملونه أن تفلتوه . وعلى الفور سقط سمعان على الأرض وتحطم جسده.
9
تعبر أخبار العهد الجديد عن المنظور الذي رأى من خلاله الإنجيليون تعاليم يوحنا المعمدان باعتباره معلما يهوديا اختط لنفسه نهجا خاصا لا يتعارض جذريا مع العقيدة اليهودية. أما تعاليم الطائفة المندائية فيبدو أنها قد حفظت لنا الكثير من جوانب فكر يوحنا المعمدان باعتباره معلما غنوصيا ينتمي إلى المدرسة الغنوصية السورية التي ضاعت معالمها من خلال ما نقله لنا أعداؤها المسيحيون، ومن خلال مؤلفي أسفار العهد الجديد الرسمية منها والمنحولة، الذين لم يكن بين أيديهم، على ما يبدو، معلومات كافية عن شخصية المعمدان وطبيعة رسالته.
بعد هذا المدخل عن يوحنا المعمدان وتاريخ طقس المعمودية، ننتقل إلى خبر اعتماد يسوع كما ورد في الأناجيل ومدلولاته. (2) المعمودية كبوابة للاستنارة
إذا نحينا قصة الميلاد التي وردت في إنجيلي متى ولوقا (ولم ترد في إنجيلي مرقس ويوحنا) باعتبارها مقدمة مقحمة على سيرة يسوع اقتضتها طبيعة التغييرات اللاهوتية التي حصلت خلال فترة امتدت قرابة نصف قرن بين حادثة الصلب وظهور الأناجيل، فإن سيرة يسوع تبدأ من اعتماده في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان، وهو العمل العلني الأول ليسوع. فعندما رأى يسوع أن الكل يقصد يوحنا جاء من الجليل هو أيضا للاعتماد على يديه. وهنا يروي لنا الإنجيليون أربع قصص تختلف في التفاصيل أحيانا وتتعارض في أحيان أخرى.
ونبدأ كالعادة بإنجيل مرقس، وهو الأقدم وربما الأقرب إلى الواقعة التاريخية: «وفي تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا في الأردن. وللوقت وهو صاعد من الماء رأي السماوات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلا عليه، وكان صوت من السماوات: أنت ابني الحبيب الذي به سررت.» (مرقس، 1: 9-10)
نلاحظ من هذا الخبر المقتضب الخالي من التفاصيل والخيال الأدبي، أن يسوع قصد يوحنا مثال بقية الناس، وربما مر بين المنتظرين دورهم للعماد دون أن يلحظه يوحنا، بدليل أن اللقاء بين الطرفين كان موضوعيا ولم يجر بينهما أي حديث متبادل.
ونقرأ في إنجيل متى: «حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه، ولكن يوحنا منعه قائلا: أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي؟ فأجاب يسوع وقال له: اسمح الآن؛ لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر. حينئذ سمح له. فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلا مثل حمامة وآتيا عليه، وصوت من السماوات قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت» (متى، 3: 13-17).
في قصة متى هذه يتحول اللقاء الموضوعي كما وصفه مرقس إلى لقاء درامي يتخلله حوار مفعم بالمعنى. فلقد أدرك متى المأزق اللاهوتي لقصة اعتماد يسوع على يد يوحنا، وهو مأزق ذو شقين؛ الشق الأول يتعلق بمضمون طقس المعمودية كما مارسه يوحنا وهو مغفرة الخطايا استعدادا لحلول ملكوت السماء، وهذا المضمون يعني أن يسوع كان كغيره من البشر خاطئا في الجسد ويرنو إلى الغفران. أما الشق الثاني فيتعلق بالمرتبة النسبية لكل من المعمد ومتلقي العماد؛ حيث يتخذ المعمد المرتبة الأعلى من الناحية الروحية ومتلقي العماد المرتبة الدنيا، ويكون يوحنا معلما ويسوع تلميذا. ولكي يتلافى متى هذا المأزق اللاهوتي المزدوج، فقد جعل المعمدان يدرك لفوره أنه أمام الشخص الذي كان يقول عنه «يأتي بعدي من هو أقوى مني، الذي لست أهلا لأن أنحني وأحل سيور حذائه» (مرقس، 1: 7-8). ولهذا فقد أحجم عن تعميده قائلا: «أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي؟» ثم نزل عند رغبته بعد أن أصر يسوع على إتمام المعمودية على يديه.
وفي الحقيقة فإن موقف يوحنا كما عرضه متى غير مفهوم، لأن الروح القدس لم يكن بعد قد هبط على يسوع، ويسوع نفسه لم يكن يعرف أنه المسيح المنتظر قبل سماعه للصوت السماوي. فكيف تأتت ليوحنا هذه المعرفة المسبقة؟ يضاف إلى ذلك أن الجملة التي استخدمها كل من مرقس ومتى: «وللوقت وهو صاعد من الماء رأي السماوات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلا عليه» (مرقس، 1: 10-11) تدل على أن يسوع وحده قد رأى ما رأى وسمع ما سمع، وذلك في حالة كشف باطني لم يستشعرها أحد غيره.
هذا الحوار بين يوحنا ويسوع لم يرد عند بقية الإنجيليين؛ فيسوع لم يلتق بيوحنا عند لوقا، لأنه عمد نفسه بنفسه عندما كان يوحنا في السجن، أما مؤلف إنجيل يوحنا فقد تجاهل تماما قصة اعتماد يسوع على يد يوحنا.
نقرأ في إنجيل لوقا: «وإذا كان الشعب ينتظر والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح، أجاب يوحنا الجميع وقال: أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوى مني ، الذي لست أهلا لأن أحل سيور حذائه، هو سيعمدكم بالروح القدس ونار ... أما هيرودس رئيس الربع فإذا توبخ منه لسبب هيروديا امرأة فيليبس أخيه ولسبب جميع الشرور التي كان هيرودس يفعلها، زاد هذا أيضا على الجميع أنه حبس يوحنا في السجن. ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضا. وإذا كان يصلي انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس ... إلخ» (لوقا، 3: 15-22).
في هذا النص يقول لنا لوقا بأن هيرودوس ملك الجليل زج يوحنا في السجن، ثم يقول بعد ذلك «ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضا». فهل يعني هذا أن يسوع قد عمد نفسه بنفسه؟ أم أن صياغة لوقا تتضمن بعض التقديم والتأخير؟
ونقرأ في إنجيل يوحنا: «وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت؟ فاعترف ولم ينكر وأقر: إني لست المسيح.» فسألوه: إذن ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال: لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب: لا. فقالوا: من أنت لنعطي جوابا للذين أرسلونا؟ ماذا تقول عن نفسك؟ قال: أنا صوت صارخ في البرية، قوموا طريق الرب كما قال النبي إشعيا. وكان المرسلون من الفريسيين، فسألوه وقالوا له: فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟ فأجابهم يوحنا قائلا: أنا أعمد بماء ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه، هو الذي يأتي بعدي، الذي صار قدامي، الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه. هذا كان في بيت عبرة في عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمد. «وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلا إليه، فقال: هذا هو حمل الله الذي يرفع خطية العالم، هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي الذي صار قدامي لأنه كان قبلي، وأنا لم أكن أعرفه، ولكن ليظهر لإسرائيل لذلك جئت أعمد بالماء. وشهد يوحنا قائلا: إني رأيت الروح مثل حمامة نازلا من السماء فاستقر عليه. وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء، ذاك قال لي: الذي ترى الروح نازلا ومستقرا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وشهدت بأن هذا هو ابن الله» (يوحنا، 1: 19-24).
من قراءة هذا النص نخرج بالملاحظات التالية: (1)
يسوع لم يعتمد على يد يوحنا. وهذا يأتي في انسجام مع لاهوت الإنجيل الرابع الذي رفع يسوع إلى مرتبة «كلمة الله» التي كانت عنده منذ البدء. وهذا هو مؤدى قول المعمدان: «يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي» فالقادم من السماء لا يعتمد على يد رجل أرضي، إنه يعمد ولا يتعمد لأنه بلا خطيئة. (2)
كما هو الحال في رواية مرقس، فإن يسوع والمعمدان لم يتبادلا كلمة واحدة، على الرغم من أن يسوع قد جاء إلى المكان الذي كان يوحنا يعمد فيه، ورآه يوحنا مقبلا إليه. فلماذا أقبل يسوع إلى يوحنا إذا كان عازفا عن الاعتماد؟ ولماذا بالدرجة الأولى ترك موطنه في الجليل وقصده؟ (3)
تغيب من رواية إنجيل يوحنا عبارة «وصوت من السماوات قائلا هذا هو ابني الحبيب (أو أنت ابني الحبيب) الذي به سررت»، وتستبدل بها شهادة المعمدان: «وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله». (4)
من مجريات روايات مرقس ومتى ولوقا، يتضح لنا أن يسوع والمعمدان لم يكونا على معرفة سابقة. ثم تأتي رواية إنجيل يوحنا لتؤكد لنا هذه الواقعة بصريح العبارة، عندما يكرر المعمدان مرتين أنه لم يكن يعرف يسوع. وهذا يتناقض مع رواية الميلاد عند لوقا الذي جعل من أليصابات أم يوحنا قريبة لمريم أم يسوع (وفي التقاليد الكنسية ابنة خالتها)، وجعل مريم تترك موطنها في الجليل عقب البشارة بالحمل، تسافر إلى أورشليم حيث مكثت عند زكريا وأليصابات مدة ثلاثة أشهر (لوقا، 1: 39-56). (5)
عندما رأى المعمدان يسوع مقبلا قال: «هذا هو حمل الله الذي يرفع خطية العالم». ولقب «حمل الله» الذي ينفرد به مؤلف إنجيل يوحنا، يحمل في طياته نوعا من المشابهة بين «حمل الفصح» الذي يريق اليهود دمه بعد ظهر اليوم السابق للفصح اليهودي وبين يسوع. فكما أن دم حمل الفصح يغسل خطايا اليهود في العيد، كذلك هو دم يسوع المسيح الذي قدم نفسه قربانا من أجل رفع خطيئة البشر أينما كانوا وتقديم الخلاص لهم. ولهذا فإن مؤلف إنجيل يوحنا يجعل حادثة صلب يسوع في اليوم السابق للفصح اليهودي لا في يوم الفصح نفسه كما فعل بقية الإنجيلين، ويجعل موته بعد ظهر هذا اليوم في توافق مع إراقة دم حمل الفصح في باحة هيكل أورشليم.
هذه الرمزية تترسخ بعد ذلك في فكر بولس الرسول المؤسس الحقيقي للاهوت المسيحي، فبولس يرى أن «عقاب الخطيئة هو الموت» (روما، 6: 23)، وبما أن مآل البشر جميعا إلى الموت، فإن ذلك يستتبع أن البشر كلهم خطاة. ولكن موت المسيح على الصليب قد حرر البشر من الخطيئة ومن الموت: «ألا تعلمون أننا حين تعمدنا لنتحد بالمسيح يسوع تعمدنا لنموت معه، فدفنا معه بالمعمودية وشاركناه في موته، حتى كما أقامه الآب بقدرته المجيدة من بين الأموات، نسلك نحن أيضا في حياة جديدة، فإذا كنا اتحدنا به في موت يشبه موته فكذلك نتحد به في قيامته. ونحن نعلم أن الإنسان القديم فينا (=جسد آدم) صلب مع المسيح حتى يزول سلطان الخطيئة في جسدنا ... فإذا كنا متنا مع المسيح فنحن نؤمن بأننا سنحيا معه» (روما، 6: 1-8).
بعد هذا اللقاء الأول والأخير بين يسوع والمعمدان، تم إلقاء القبض على المعمدان وأودع السجن، ولم يقيض للاثنين أن يلتقيا ثانية. وبعد أن سمع يسوع بالقبض على المعمدان باشر نشاطه التبشيري العلني. وعلى حد قول مرقس: «وبعدما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مرقس، 1: 14). أي إن يسوع قد تبنى رسالة يوحنا الذي قال قبله : «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات» مضيفا إليها بشارته الخاصة. وعندما بدأ يسوع يظهر المعجزات، جاء تلاميذ يوحنا وأخبروا معلمهم بما رأوا وسمعوا. فدعا يوحنا اثنين من تلاميذه وأرسل إلى يسوع يسأله عما إذا كان المسيح المنتظر: «أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ فأجاب يسوع وقال لهما: اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما. إن العمي يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشرون، وطوبى لمن لا يشك في» (متى، 11: 1-6). ويسوع هنا إنما يلمح إلى ما ورد في النبوءات التوراتية بخصوص مجيء المسيح (راجع سفر إشعيا، 26: 19، و29: 18، و35: 5، و60: 1)، ويرد على سؤال يوحنا بطريقة غير مباشرة. على أن المشكلة في هذا الخبر هي أن متى الذي جعل يوحنا يسأل يسوع عما إذا كان المسيح المنتظر (متى، 11: 3)، كان قد جعله في خبر العماد يتعرف على يسوع بصفته هذه عندما مانع في تعمده قائلا: وأنا محتاج أن اعتمد منك، وأنت تأتي إلي؟ (متى، 3: 14).
بعد انصراف تلميذي يوحنا يتوجه يسوع بخطاب لمن حوله من الناس ينطوي على مغزى يتعلق بطبيعة رسالته: «ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تحركها الريح؟ ... بل ماذا خرجتم تنظروا؟ أنبيا؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي ... لأني أقول لكم إنه بين المولودين من النساء ليس نبي أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه» (لوقا، 7: 24-28). في هذا الخطاب يعترف يسوع بدور يوحنا المعمدان، ولكنه في الوقت نفسه يعلن أن رسالته قد تجاوزت يوحنا، لأن أصغر المؤمنين بالبشارة، المؤهلين لدخول الملكوت القادم، هو أعظم من يوحنا.
هذا التجاوز يعبر عنه مشهد التعميد نفسه؛ فيسوع قد غطس في الماء ثم خرج منه تاركا يوحنا وراءه وراح يصلي في خلوة، وأثناء الصلاة انفتحت السماء ونزل عليه روح الله مثل حمامة واستقر عليه، وسمع صوتا من السماء قائلا: هذا هو النبي الحبيب الذي به سررت. وهنا يمثل المعمدان الحكمة القديمة التي تجاوزها يسوع بعد أن خرج من الماء، أما الحمامة والصوت السماوي الذي سمعه يسوع بينما هو يصلي ، فيعبران عن حالة الكشف الداخلي التي توصل إليها يسوع وهو في غمرة التأمل الباطني العميق. وهكذا فقد عبر العتبة التي تؤدي إلى طريق لا عودة منها، طريق حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم ويقدم الخلاص لبني البشر.
مثل هذا الكشف قد حصل لبوذا وهو في حالة تأمل عميق تحت شجرة الاستنارة، على ما تخبرنا به قصة استنارة البوذا التي تشترك في عناصرها مع قصة استنارة يسوع، أو بالتعبير الظاهري هبوط الروح القدس عليه. فبعد أن ترك الأمير الشاب سيدهارتا (البوذا المقبل) قصر أبيه الملوكي وزوجته الشابة، شرع في رحلة طويلة بحثا عن أجوبة على الأسئلة الوجودية الكبرى التي كانت تؤرقه، نشد خلالها عددا من المعلمين الهندوس واستمع إليهم محاولا اتباع طرقهم الصوفية، ولكنه لم يصل إلى نتيجة ترضي فكره الحائر، فقرر السير وحيدا في طريق المعرفة. وصل سيدهارتا إلى غابة يجري عبرها نهر صاف، وهناك ألزم نفسه تدريبات نسكية قاسية مدة خمس سنوات، معتقدا أن الصوم وتعذيب الجسد سوف يجلب له صفاء الذهن الذي يقود إلى كشف البصيرة. وفي هذه الأثناء انضم إليه خمسة من النساك الذين ساروا على نهجه آملين منه أن يشاركهم معرفته. وأخيرا هزل جسده وتحول إلى عظم وجلد وبلغ حافة الموت دون أن يبلغ غايته، ثم سقط مغشيا عليه من شدة الضعف، وعندما أفاق عرف أن طريقة قهر الجسد قد أخفقت؛ فقبل قصعة من الأرز المسلوق بالحليب من يد فتاة تسكن قرية قريبة، وأكل منها فشعر بقوة في جسده. وهنا انفض عنه النساك الخمسة الذين اتهموه بالخور والضعف، أما هو فقد قام إلى النهر حيث غطس في الماء وانتعش، ثم تجاوزه إلى الضفة الأخرى وقصد شجرة تين هندي وارفة وجلس تحتها مستغرقا في تأمل باطني عميق، عازما ألا يبرح موضعه حتى يصل إلى المعرفة. وما إن حل المساء حتى بدأ قلبه يضيء بالاستنارة الكاملة، وتحول إلى بوذا، أي «المستيقظ» أو المستنير الذي أفاق من نوم الغفلة ورقدة الجهالة وعرف سر الحياة وغايتها ومآلها.
وهنالك تفسير كوكبي لقصة معمودية يسوع يقول به بعض المفسرين الذين يرون أن المستويات السرانية الباطنية في فهم سيرة يسوع قد ربطته منذ البداية بالشمس التي تولد في يوم 25 ديسمبر، عندما تدخل في برج الجدي ويأخذ النهار بالطول على حساب الليل. فقد كان برج الجدي (
Capricon ) هو الشارة السماوية لإله الماء إنكي في ثقافة الشرق القديم، الذي كان يدعى منذ الفترة الهيلينستية أوانس، المعادل لاسم يوحنا الذي يلفظ باللغة اليونانية يوانس وباللاتينية جوهانس وبالعبرية يوحنان. وبما أن معمودية يسوع تعبر عن ولادته الثانية عقب لقائه بيوحنا المعمدان الذي يمثل هنا برج الجدي، فإن المشهد بكامله ليس إلا ترجمة ميثولوجية لدخول الشمس في برج الجدي وهو البرج العاشر في دائرة الأبراج السماوية، متوجهة نحو البرج الحادي عشر وهو برج الدلو. ثم يسير هؤلاء خطوة أبعد في هذا التفسير؛ فإذا كان يسوع وفق هذه الرمزية الكوكبية قد ولد في 25 ديسمبر، فإن مريم العذراء قد حبلت به قبل ذلك بتسعة أشهر أي في 25 مارس/آذار في يوم الانقلاب الربيعي عندما تدخل الشمس في برج العذراء. وهنالك جملة غامضة يضعها مؤلف إنجيل يوحنا على لسان المعمدان يمكن فهمها على ضوء هذا التفسير عندما يقول لتلامذته عن يسوع: «إذن فرحي قد كمل. ينبغي أن ذلك (= يسوع) يزيد وأنا أنقص» (يوحنا، 3: 30)، وذلك في إشارة إلى طول النهار وقصر الليل عقب دخول الشمس (أو يسوع) في برج الجدي (أي المعمدان).
10
من هو إله يسوع؟
بعد أن غطس يسوع في ماء الأردن وخرج منه، ترك يوحنا المعمدان وجمهرة المتعمدين وجعل يصلي في خلوة مستغرقا في تأمل باطني عميق: «وإذا كان يصلي انفتحت السماء، ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة، وكان صوت من السماء قائلا: أنت ابني الحبيب بك سررت» (لوقا، 3: 21- 22). هذا المشهد الذي يوصف في الأناجيل الثلاثة الإزائية على أنه حدث موضوعي، لم يكن في حقيقة الأمر إلا تعبيرا بمفردات رمزية عن خبرة صوفية وجدية قادت يسوع إلى الكشف والاستنارة، عقب فترة طويلة من البحث العقلي والكدح الروحي. لقد عرف إلهه الذي كشف عن نفسه في هيئة حمامة، وهذا الإله لم يكن إله التوراة الذي رفضه يسوع في عقله الباطن منذ حداثته وراح يبحث عن الإله الحق. فمن هو إله يسوع؟
من المهم جدا أن نلاحظ أن يسوع لم يستخدم في أقواله الاسم التوراتي يهوه أو بديله إيلوهيم في الإشارة إلى إلهه، وإنما دعاه دوما بلقب الآب أو الآب السماوي. وبهذا اللقب تتوجه إليه الصلاة المسيحية التي علمها يسوع لتلاميذه: «أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ... إلخ» (متى، 6: 9-12). فهو أب ليسوع وأب لجميع البشر: «إن الأعمال التي أعملها باسم أبي تشهد لي» (يوحنا، 10: 25). «فاغفروا لكي يغفر لكم أبوكم الذي في السماوات زلاتكم» (مرقس، 11: 25). «فكونوا كاملين لأن أباكم الذي في السماوات هو كامل» (متى، 5: 48).
إن هوية الإله الذي تجلى ليسوع بعد خروجه من ماء العماد، تعلن عن نفسها من خلال الهيئة الرمزية التي تجلى بها. فإله التوراة لم يتجل أبدا في هيئة حمامة وإنما في ظواهر طبيعانية تعبر عن القوة والجبروت والغضب. فعندما أعلن عن نفسه لموسى أول مرة ناداه من قلب جذوة نار تتوهج في شجرة عليق (الخروج، 3: 1-6). وأعلن عن نفسه للمصريين من خلال الأوبئة والكوارث التي أرسلها عليهم والتي كان آخرها قتله لمواليدهم الجدد ومواليد مواشيهم: «فحدث في نصف الليل أن الرب ضرب كل بكر في أرض مصر، من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الأسير الذي في السجن، وكل بكر بهيمة» (الخروج، 12: 29). «وعندما أخرج موسى بني إسرائيل من مصر كان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم الطريق وليلا في عمود نار ليضيء لهم» (الخروج، 13: 21). وعندما نزل الرب على جبل سيناء ليعطي موسى لوحي الشريعة تجلى لبني إسرائيل في ظواهر بركانية: «وكان جبل سيناء كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون وارتجف كل الجبل جدا» (الخروج، 19: 18). وكانت ناره تسقط من السماء لتلتهم المحارق الحيوانية الموضوعة على المذبح: «فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب، ولحست المياه التي في القناة» (الملوك الأول، 18: 38). وكانت الريح والزلزلة والنار تتقدمه لتعلن عن حضوره: «وإذا بالرب عابر وريح عظيمة وشديدة قد شقت الجبال وكسرت الصخور أمام الرب ولم يكن الرب في الريح، وبعد الريح زلزلة ولم يكن الرب في الزلزلة، وبعد الزلزلة نار ولم يكن الرب في النار» (الملوك الأول، 19: 11-13). وإذا تكلم كان صوته يخرج مثل هدير العاصفة وقصف الرعد: «فأجاب الرب أيوب من العاصفة فقال له: هل لك ذراع كما للرب؟ وبصوت مثل صوته ترعد» (أيوب، 40: 6-9). وكان الوباء والحمى رسولاه يتقدمانه إذا مشى: «الرب جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران. جلاله غطى السماوات والأرض امتلأت من تسبيحه ... قدامه ذهب الوبأ وعند رجليه خرجت الحمى ... وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم ودكت الجبال الدهرية وخسفت آكام القدم» (حبقوق، 3: 3-6).
وعلى العكس من هذه التجليات للإله التوراتي فإن إله يسوع قد اختار الحمامة لكي يعلن عن نفسه من خلالها. فقد كانت الحمامة رمزا للحب سواء في ثقافات الشرق القديم أم في الثقافة الكلاسيكية، ونجدها دوما في الفن المصور بصحبة إلهات الحب، وقد تمثل إلهة الحب نفسها بجناحين. إن جوهر إله يسوع هو المحبة، محبة العالم: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذلك ابنه الوحيد لكيلا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا، 3: 16). أما إله التوراة فقد أحب إسرائيل وكره بقية العالم، وقد زرع كراهية الشعوب الأخرى في قلب بني إسرائيل في وصيته الأولى لموسى عن كيفية التعامل معهم: «احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخا في وسطك، بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أصنامهم وتقطعون سواريهم» (الخروج، 34: 12-13). وهذا نموذج من قوانين موسى الحربية التي استنها لقادة جيشه: «اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها، لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهن لكم حيات» (العدد، 31: 17-18). وهنالك قانون آخر فرضه يهوه معروف بقانون التحريم الذي يلزم القائد العسكري تقديم كل ذي نفس حية من الشعب المهزوم قربانا للرب: «فالآن اذهب واضرب شعب عماليق وحرموا كل ماله، ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا» (صموئيل الأول، 15: 3).
أما المخطط الذي رسمه يهوه للتاريخ فهو مسيرة تنتهي بسيادة شعب إسرائيل على أمم العالم، بعد مذبحة شاملة يقودها بنفسه تجعل من بقي من هذه الأمم حيا عبيدا لشعب الرب: «ولولوا لأن يوم الرب قريب، قادم كخراب من القادر على كل شيء» (إشعيا، 13: 6). «هو ذا الرب يخلي الأرض ويفرغها ويقلب وجهها ويبيد سكانها» (إشعيا، 24: 1). «اقتربوا أيها الأمم لتسمعوا ويا أيها الشعوب أصغوا. لتسمع الأرض وملؤها، لأن للرب سخطا على كل الأمم وحموا على جيشهم، قد حرمهم دفعهم للذبح، فقتلاهم تطرح وجيفهم تصعد نتانتها، وتسيل الجبال بدمائهم» (إشعيا، 34: 1-4). «ويكون في ذلك اليوم أن السيد يعيد يده ثانية ليقتني بقية شعبه ... ويجمع منيفي إسرائيل ويضم مشتتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض؛ لأن الرب سيرحم يعقوب ويختار إسرائيل ويريحهم في أرضهم، فتقترن بهم الغرباء وينضمون إلى أرض الرب عبيدا وإماء» (إشعيا، 11: 11-12 و14: 1-2).
وفي المشهد التالي الذي يرسمه إشعيا، نرى يهوه بعد عودته من المذبحة الشاملة وقد تلطخت ثيابه بالدم فصار كمن داس في معصرة عنب: «من هذا الآتي من آدوم بثياب حمر، من بصرة، هذا البهي بملابسه المتعظم بكثرة قوته؟
أنا المتكلم بالبر العظيم للخلاص.
ما بال لباسك محمر وثيابك كدائس معصرة؟
قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد. فدستهم بغضبي ووطئتهم بغيظي، فرش عصيرهم على ثيابي فتلطخت كل ملابسي. لأن يوم النقمة في قلبي وسنة مفديي قد أتت ... فدست شعوبا بغضبي وأسكرتهم بغيظي وأجريت على الأرض عصيرهم» (إشعيا، 63: 1-6).
هذا الإله الذي رفضه يسوع في أعماقه منذ البداية يدعوه الغنوصيون بإله العالم المادي ويقرنونه بالشيطان. وإذا كان يسوع قد تعرف على إلهه الحقيقي في تجربته الروحية الأولى عقب خروجه من ماء العماد، فإن تجربته الروحية الثانية التي وضعته وجها لوجه مع إله التوراة سيد هذا العالم المادي ، سوف تحسم خياراته إلى الأبد.
يلخص لنا مرقس هذه التجربة الثانية بقوله: «وللوقت أخرجه الروح إلى البرية، وكان هناك في البرية أربعين يوما يجرب من الشيطان. وكان مع الوحوش، وصارت الملائكة تخدمه» (مرقس، 1: 12-13). أما متى ولوقا فيتوسعان في تفاصيل هذه القصة اعتمادا على مصدر ثالث مشترك: «أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئا من الروح القدس. فاقتاده الروح في البرية أربعين يوما وإبليس (ديابولوس باليونانية، وتعني الشيطان) يجربه، ولم يأكل شيئا في تلك الأيام . ولما انقضت جاع أخيرا. فقال له إبليس: إن كنت ابن الله فقل لهذه الحجارة أن تصير أرغفة. فأجابه يسوع: مكتوب أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله. فمضى به إبليس إلى المدينة المقدسة وأقامه على شرفة الهيكل وقال له: إن كنت ابن الله فألق بنفسك إلى الأسفل، فإنه مكتوب: يوصي ملائكته بك فيحملونك على أيديهم فلا تصطدم رجلك بحجر. فقال يسوع: مكتوب أيضا: لا تجرب الرب إلهك. ثم مضى به إبليس إلى جبل عال وعرض عليه ممالك الأرض في لحظة من الزمن ثم قال له: أجعل لك هذا السلطان كله، ومجد هذه الممالك، لأنه قد دفع إلي وأنا أجعله لمن أشاء، فإن سجدت لي يعود هذا كله إليك. فقال يسوع: اذهب يا شيطان، لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد. فلما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين. ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل، فانتشر ذكره في الناحية كلها وكان يعلم في مجامعهم» (لوقا، 4: 1-13. قارن مع متى 4: 1-11).
إذا أردنا فهم هذه القصة فعلينا أن نأخذها بدلالاتها الرمزية لا في تفاصيلها كواقعة حقيقية. فهذه التجربة قد جرت في عقل يسوع عندما انسحب إلى الصحراء حيث اعتكف مدة من الزمن يتأمل في الحقائق التي تكشفت له وفي دوره المقبل. وهي تجربة قريبة من تجربة البوذا مع الشيطان أيضا. فعندما جلس البوذا تحت شجرة التين الهندي عازما على ألا يبرح مكانه حتى ينكشف له الطريق إلى خلاص الإنسان، جاءه إله الرغبة والموت (وهما العنصران المتحكمان في حياة الإنسان) ليصده عن المعرفة المحررة، وتبدى له أولا في صورة أمير ساحر يحمل بيده قوسا تزينه الأزهار، وبرفقته بناته الثلاث اللواتي كشفن عن محاسنهن وحاولن إغواء البوذا بشتى الوسائل، ولكن قلبه بقي ساكنا كبرعم لوتس فوق مياه بحيرة صافية. عند ذلك اتخذ المغوي هيئة رئيس الشياطين مارا وهاجمه مع أبالسته المخيفة التي اتخذت أشكالا مرعبة أحاطت بالشجرة وراحت تضيق الخناق على البوذا وتقذفه بشتى أنواع الأسلحة، ولكنه بقي في جلسة التأمل غير عابئ بما يجري حوله، وكانت القذائف التي ترمى عليه تتحول إلى زهور معلقة في الهواء فوق رأسه. وأخيرا خاب سعي مارا وانسحب مع رهطه، وأخذ قلب البوذا يشع بالمعرفة. وهنا اهتزت الأرض بمسرة وجاء الآلهة إلى البوذا وسجدوا أمامه. لقد صار الطريق إلى خلاص الأرواح ممهدا بعد استنارة المعلم.
1
إذا كان إله يسوع قد كشف عن هويته من خلال رمز الحمامة، فإن الذي جرب يسوع في البرية يكشف عن هويته من خلال قوله ليسوع بعد أن عرض عليه ممالك الأرض في لحظة من الزمن: «أجعل لك هذا السلطان كله ومجد هذه المالك، لأنه قد دفع إلي وأنا أجعله لمن أشاء، فإن سجدت لي يعود هذا كله إليك.» فهو الإله «الديمبرج» صانع العالم المادي وحاكمه الأعلى. أما عن صلة هذا الإله بالشيطان وبالإله التوراتي الأعلى المتعالي عن هذا العالم الناقص والمليء بالشر، فتشرحه لنا المنظومة الفكرية الغنوصية التي كان يوحنا المعمدان وسمعان ماجوس السامري أبرز ممثليها السوريين في أواسط القرن الأول الميلادي.
يتخذ مفهوم «الغنوص-
Gnosis » مركز البؤرة من عقائد وممارسات الغنوصيين. والكلمة يونانية وتعني المعرفة بشكل عام، ولكن المعرفة التي يسعى إليها الغنوصي ليست مما يمكن اكتسابه بإعمال العقل المنطقي وقراءة الكتب وإجراء التجارب والاختبارات، وإنما هي فعالية روحانية داخلية تقود صاحبها إلى اكتشاف الشرط الإنساني، وإلى معرفة النفس التي تقود إلى معرفة الله الحي ذوقا وكشفا وإلهاما. هذه المعرفة هي الكفيلة بتحرير الروح الحبيسة في سجن الجسد المادي وسجن العالم المادي الأوسع، لتعود إلى العالم النوراني الذي صدرت عنه. فالروح الإنسانة هي قبس من روح الله، وشرارة من نور الأعالي وقعت في ظلمة المادة ونسيت أصلها ومصدرها. والإنسان في هذه الحياة أشبه بالجاهل أو الغافل أو النائم، ولكن في أعماق ذاته هنالك دوما دعوة إلى الصحو عليه أن ينصت إليها، ويشرع في رحلة المعرفة التي تحوله من نفس حيوانية أسيرة لرغبات الجسد، إلى نفس عارفة أدركت روابطها الإلهية وتهيأت للانعتاق الذي يعود بها إلى ديارها.
ولكن الله الذي يبحث عنه الغنوصي في أعماق ذاته ليس الإله الذي صنع هذا العالم المادي المليء بالألم والشر والموت، بل هو الأب النوراني الأعلى الذي يتجاوز ثنائيات الخليقة ولا يحده وصف أو يحيط به اسم، الواحد الموجود بصمديته، القائم بنوره، البداية التي لم تسبقها بداية. خفي لم يره أحد، بلا أوصاف لأن أحدا لم يفهم كنهه فيصفه، بلا اسم لعدم وجود أحد قبله يطلق عليه الاسم. قائم في نفسه ولنفسه وراء الوجود ووراء الزمن. أما صانع العالم فهو إله أدنى من الأب النوراني، إنه يهوه إله اليهود الذي يوازي شيطان الديانة الزرادشتية المدعو أنجرا ماينيو، أو أهيريمان. وتصوره الأدبيات الغنوصية كإله جاهل بالعوالم النورانية القائمة فوقه، يجلس على عرش يحيط به معاونوه من قوى الظلام المدعوون بالأراكنة (الكلمة صيغة الجمع من كلمة أركون، أي حاكم باللغة اليونانية). وعلى الرغم من أن هذا الإله قد صنع الإنسان من مادة الأرض الظلامية نفسها، إلا أنه أخذ روحه من نور الأعالي المسروق وحبسها في قوقعة الجسد. ولكي يبقيه في حجب الجهل فقد فرض عليه الشريعة التي تشغله عن نفسه وعن اكتشاف الجوهر الحقيقي للروح. أما عن كيفية ظهور هذا الإله الخالق، فمسألة لم يعالجها المعلمون الغنوصيون من خلال مقاربات فلسفية وإنما من خلال صياغات أسطورية لا نجد داعيا للخوض في تفاصيلها هنا.
2
لقد كانت مثل هذه الأفكار كامنة في خلفية يسوع الثقافية، ومن الممكن جدا أن قصة اعتماده في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان، تخفي وراءها مرحلة من حياة يسوع تتلمذ فيها على يوحنا قبل أن يشق طريقه الخاص. ولكن أفكار يسوع هذه تظهر في أقواله ومواقفه على درجات متفاوتة من الوضوح أو الخفاء، وذلك تبعا لدرجة فهم مؤلفي الأناجيل من جهة (ومن ورائهم تلاميذ يسوع المباشرون) ولرغبة يسوع في التصريح أو التلميح. ولدينا في الأناجيل عدة مواقف تفصح عن قصور فهم التلاميذ عن بلوغ مؤدى أقوال معلمهم. نقرأ في إنجيل لوقا: «فلم يفهموا هذه الكلمة وكانت مغلقة عليهم فما أدركوا معناها وهابوا أن يسألوه عنها» (لوقا، 9: 45). وأيضا: «أما تفهمون هذا المثل؟ فأنى لكم أن تفهموا سائر الأمثال» (مرقس، 4: 13). وأيضا: «فلم يفهموا شيئا من ذلك، وكان هذا الكلام مغلقا عليهم فما أدركوا معناه» (لوقا، 18: 34). وفي خطاب يسوع للناس العاديين كان يصوغ كلماته على قدر أفهامهم: «وكان يضرب لهم كثيرا من هذه الأمثال ليلقي إليهم كلام الله على قدر ما كانوا يستطيعون أن يسمعوه» (مرقس، 4: 33). وفي إحدى المرات تركه كثير من تلاميذه لما سمعوه: «هذا كلام عسير من يقدر أن يسمعه؟ ... فتولى عنه كثير من تلاميذه ولم يعودوا يمشون معه» (يوحنا، 6: 60-66). ولنتابع فيما يلي بعض ما رشح إلى الأناجيل من أقوال يسوع التي تعبر عن موقفه من إله التوراة ورفضه لشريعته.
في قول لافت للنظر يصف يسوع شريعة موسى التي تلقاها من يهوه بأنها شريعة موت في مقابل شريعته التي تهب الحياة: «لم يعطكم موسى خبز السماء، بل أبي يعطيكم خبز السماء الحق، لأن خبز الله هو الذي ينزل من السماء ويعطي العالم حياة» (يوحنا، 6: 32-35). «آباؤكم أكلوا المن (= شريعة موسى) في البرية وماتوا. هو ذا الخبز النازل من السماء ليأكل منه الإنسان فلا يموت. أنا الخبز الذي نزل من السماء» (يوحنا، 6: 49-51). واليهود لم يعرفوا قط الإله الحق الذي هو إله يسوع: «على أني ما جئت من نفسي، بل هو حق الذي أرسلني أنتم لا تعرفونه وأما أنا فأعرفه» (يوحنا، 7: 28-29). «أنتم لا تعرفوني ولا تعرفون أبي، ولو عرفتموني لعرفتم أبي» (8: 19).
وفي قول له مشبع بالفكر الغنوصي الذي يرفض العالم يقول يسوع لليهود : «أنتم من الدرك الأسفل وأنا من الملأ الأعلى. أنتم من العالم، وأنا لست من هذا العالم.» فالقلة العارفة التي أدركت من هي وإلى أين تمضي، تشعر بغربتها في هذا العالم، والعالم من جهته ينبذها ويبغضها. ولذلك يقول يسوع عن تلاميذه الذين فهموا رسالته: «أنا ذاهب إليك أيها الأب القدوس ... بلغتهم كلامك فأبغضهم العالم لأنهم ليسوا من العالم. كما أني لست من العالم. لا أسألك أن تخرجهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير » (17: 11-15). «يا أبت العادل. العالم لم يعرفك، أما أنا فقد عرفتك، وعرف هؤلاء أنك أرسلتني. أظهرت لهم اسمك وسأظهره لهم، لتكون فيهم المحبة التي إياها أحببتني وأكون أنا فيهم» (يوحنا، 17: 25-26).
وفي المقابل، فإن اليهود أبناء هذا العالم واقعون تحت سلطان الشيطان إله عالمهم. وإذا كان الله أبا لمن عرفه وآمن به، فإن الشيطان هو أبو اليهود الذين لم يتلقوا من سلسلة أنبيائهم المزعومين كلمة حق منذ أبيهم إبراهيم: «أنا أقول بما رأيت عند أبي وأنتم تعملون بما سمعتم من أبيكم (= الشيطان = يهوه). فأجابوه: إن أبانا هو إبراهيم. فقال لهم يسوع: لو كنتم أبناء إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم. ولكنكم تريدون قتلي، أنا الذي قال لكم الحق الذي سمعه من الله. وهذا ما لم يفعله إبراهيم» (يوحنا، 8: 38-40). فإذا كان إبراهيم لم ينقل لليهود الحق الذي سمعه من الله، فإن التاريخ النبوي التوراتي بكامله تاريخ زائف، وكل الذين تسلسلوا بعد إبراهيم من أنبياء اليهود لم يعرفوا الله الحق. ولذلك قال يسوع في مناسبة أخرى: «الحق أقول لكم: من لم يدخل حظيرة الخراف من الباب بل تسلق إليها من طريق آخر كان لصا سارقا، ومن يدخل من الباب كان راعي الخراف ... جميع الذين جاءوا قبلي لصوص سارقون ولكن الخراف لم تصغ إليهم. أنا الباب فمن دخل مني يخلص» (يوحنا، 10: 1-9).
وفي سياق آخر يؤكد يسوع أبوة الشيطان لليهود في مقابل أبوة الله الخفي للعارفين: «لو كان الله أباكم لأحببتموني، لأني من قبل الله خرجت وأتيت ... إنكم أولاد أبيكم إبليس وأنتم تريدون إتمام شهوات أبيكم. كان منذ البدء مهلكا للناس، لم يثبت على الحق لأنه ليس فيه شيء من الحق، فإذا نطق بالكذب نضح بما فيه لأنه كذاب وأبو الكذاب. أما أنا فلا تصدقوني لأني أقول الحق ... من كان من الله سمع كلام الله، فإذا كنتم لا تسمعون فلأنكم لستم من الله. فقال اليهود: ألسنا على صواب إذا قلنا إنك سامري وأن بك مسا» (يوحنا، 8: 42-48).
إن الجملة الأخيرة التي رد بها اليهود على يسوع والتي اتهموه فيها بأنه «سامري» وبه مس، لم تلق عناية كافية من مفسري الكتاب. فالسامري تعني مواطنا من منطقة السامرة التي كانت تحتوي في ذلك الزمان على طوائف دينية ومجموعات اثنية متنوعة. كما تعني أيضا عضوا في مجموعة السامريين، وهم طائفة دينية يهودية لا يحتوي كتابها المقدس إلا على أسفار موسى الخمسة، وما زالت بقية منها تعيش حول منطقة نابلس، أما يسوع فقد كان مواطنا جليليا ولم تكن له صلة بطائفة السامريين، وكان محاورو يسوع يعرفون ذلك جيدا فما الذي قصدوا إليه عندما لقبوه بالسامري؟ إن التفسير الوحيد لهذا اللقب هو أن اليهود قد عقدوا صلة بين ما يطرحه يسوع من أفكار وبين أفكار سمعان ماجوس السامري وطائفته الغنوصية التي نشطت خلال أواسط القرن الأول الميلادي.
وفي حوار له مع امرأة سامرية، قال يسوع بأنه لا يهود السامرة ولا يهود أورشليم قد عرفوا الله الحق، وأنه ستأتي ساعة تلغى فيها طقوس هيكل أورشليم ويتم التخلص من اليهود: «قالت له المرأة: يا سيد أرى أنك نبي. آباؤنا سجدوا في هذا الجبل (= جبل جرزيم موقع هيكل السامريين) وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه. قال لها يسوع: يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو من اليهود» (يوحنا، 4: 19-22).
ومع رفضه لإله التوراة فقد رفض يسوع شريعته. فقد كان يشفي المرضى في يوم السبت منتهكا قانون الراحة الأسبوعي. وعندما شغب عليه اليهود من أجل ذلك قال لهم: «إن أبي ما يزال يعمل، وأنا أيضا أعمل» (يوحنا، 5: 17). وقال لهم في مناسبة مشابهة أخرى: «إن السبت جعل للإنسان، وما جعل الإنسان للسبت» (مرقس، 2: 27). ولم يكن يحض تلاميذه على الالتزام بالصيام اليهودي. وعندما احتج عليه اليهود لتجاهله فرض الصيام، رد عليهم بطريقة ساخرة عندما قال: «هل يستطيع أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم (يعني نفسه)» (مرقس، 2: 18-19). وقد نقض شريعة الطعام التي تفرق بين ما هو طاهر وما هو نجس و«جعل كل الأطعمة طاهرة» على حد تعبير (إنجيل مرقس-الترجمة الكاثوليكية، 7: 19). وانتقد طقوس المحارق والقرابين الحيوانية عندما قال بأن الله يريد الرحمة لا الذبيحة (متى، 9: 13). ورفض تطبيق شريعة رجم الزانية عندما جاءه اليهود بامرأة أخذت في زنا، وقال لهم: «من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم أولا ويرمها بحجر» (يوحنا، 8: 3-11).
ونلاحظ في إشارة يسوع إلى الشريعة في جداله مع اليهود قوله دائما «شريعتكم»، ولم يقل أبدا «شريعتنا». الأمر الذي يدل على أنه لم يعتبر نفسه واقعا تحت سلطان الشريعة اليهودية (راجع على سبيل المثال: يوحنا، 10: 34، 15: 25، 8: 17-18، 7: 19. ومرقس، 10: 3-5).
إن قصة تجربة الشيطان في البرية هي التي وضعت يسوع منذ البداية على طريق الجلجلة حيث غرس صليبه. لقد رفض إله اليهود فقتله اليهود.
تعاليم يسوع السرية
لقد خاطب يسوع الناس على قدر إفهامهم بمن فيهم تلاميذه. وهذا يستدعي بالضرورة أنه قد بث في تلاميذه نوعين من التعاليم، الأول ظاهري والثاني باطني. وهذا هو مؤدى قوله في إنجيل لوقا: «ليس أحد يعرف من هو الابن إلا الآب، ولا من هو الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له» (لوقا، 10: 22). أي إن يسوع لم يعلن الحقائق الخافية بخصوص الآب إلا للقلة التي اختارها من تلاميذه. وقد أكد بعض آباء الكنيسة هذه الحقيقة، ومنهم كليمنت الإسكندري (أواخر القرن الثاني الميلادي) الذي كشف في إحدى رسائله عن وجود إنجيل روحاني لمرقس لدى كنيسة الإسكندرية يحتوي على تعاليم ليسوع لا يعرفها إلا الخاصة، ولا يجوز كشفها لغير الساعين إلى كمالهم في الدين. على أن بعض جوانب تعاليم يسوع الباطنية ذات الطابع الغنوصي الواضح قد رشح إلى أسفار الكتاب المقدسي المسيحي، لا سيما رسائل بولس وإنجيل يوحنا. أما تعاليمه الظاهرية فقد دونها حسب فهمهم لها مؤلفو الأناجيل الإزائية الثلاثة مرقس ومتى ولوقا. ولنبدأ برسائل بولس باعتبارها أقدم أدب مسيحي مدون.
يتحدث بولس عن «إله هذا العالم» أو «إله هذا الدهر» في إشارة خفية إلى إله التوراة يهوه في أكثر من موضع. فهو إله الهالكين من اليهود الذين رفضوا الخلاص الذي قدمه لهم يسوع: «ولكن إذا كان إنجيلنا مكتوما (= محجوبا)، فإنه مكتوم عن الهالكين الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح» (2 كورنتة، 4: 3-4). ومن المعروف أن لقب «إله هذا الدهر» هو واحد من ألقاب إله التوراة. نقرأ في سفر إشعيا على سبيل المثال: «أما عرفت، ألم تسمع؟ إله الدهر، الرب خالق أطراف الأرض، لا يكل ولا يعيا» (إشعيا، 40: 28). هذا الإله الذي يدعوه الغنوصيون بالأركون الأكبر من الكلمة اليونانية (
Archon
أي الحاكم)، يدير العالم من خلال مساعديه المدعوين أيضا بالأراكنة (
Archons )، أو الأركان بلغة بولس، وهم حفظة الشريعة: «لما كنتم تجهلون الله كنتم عبيدا لآلهة ليست بآلهة حقا. أما الآن وقد عرفتم الله، بل عرفكم الله، فكيف تعودون إلى تلك الأركان الضعيفة الحقيرة وتريدون أن تكونوا عبيدا لها كما كنتم قبلا، تراعون الأيام والشهور والفصول والسنين (إشارة إلى السبت وأعياد اليهود الدينية)» (غلاطية، 4: 8-10). «حين كنا قاصرين كنا عبيدا لأركان هذا العالم. فلما تم الزمان أرسل الله ابنه مولودا لامرأة، مولودا في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة» (غلاطية، 4: 3-6).
وهؤلاء الأراكنة هم ملائكة الحاكم الأكبر الذين بلغوا شريعته لليهود وعملوا على تطبيقها: «فما معنى الشريعة؟ إنها أضيفت بداعي المعاصي إلى أن يأتي النسل الذي جعل له الموعد (= المسيحيون)، أعلنها (أي الشريعة) الملائكة على يد وسيط (= موسى)، والواحد لا وسيط له، والله واحد» (غلاطية، 3: 19-20). وهؤلاء الملائكة من معاوني الآركون الأكبر هم أصحاب الرئاسة والسلطة الذين خلعهم المسيح: «كنتم أمواتا بزلاتكم وقلف أجسادكم، فأحياكم الله معه وصفح لنا عن جميع زلاتنا ومما ما كان علينا من صك للفرائض، وألغاه مسمرا إياه على الصليب، وخلع أصحاب الرئاسة والسلطان وعاد بهم في ركبه الظافر» (كولوسي، 2: 13-15). ومع زوال سلطة هؤلاء فقد زالت سلطة الشريعة: «فلا يحكمن عليكم أحد في المأكول والمشروب أو الأعياد والأهلة والسبوت، فما هذه كلها إلا ظل الأمور المستقبلية، أما الحقيقة فهي جسد المسيح. فلا يحرمنكم أحد إياها رغبة منه في التواضع وفي عبادة الملائكة ... فأما وقد متم مع المسيح متخلين عن أركان العالم، فما بالكم لو كنتم عائشين في العالم تخضعون لمثل هذه النواحي: لا تمس، ولا تذق، ولا تأخذ ... وتلك أشياء تئول كلها إلى الزوال بالاستعمال» (كولوسي، 2: 16-22). وهؤلاء الأراكنة هم الذين صلبوا يسوع المسيح لجهلهم بحكمة الله الخفية: «ولكن هناك حكمة نتكلم عليها بين الناضجين في الروح، وهي غير حكمة هذا العالم ولا رؤساء هذا العالم وسلطانهم على زوال، بل هي حكمة الله السرية الخفية التي أعدها قبل الدهور في سبيل مجدنا وما عرفها أحد من رؤساء هذا العالم، ولو عرفوها لما صلبوا رب المجد» (1 كورنثة، 2: 6-8).
وبخصوص المفهوم الغنوصي عن روح الإنسان باعتبارها قبس من روح الله يقول بولس: «أما تعرفون أن روح الله يسكن فيكم؟ فمن هدم هيكل الله هدمه الله، لأن هيكل الله مقدس وأنتم أهل الهيكل» (1 كورنثة، 3: 16-17). «وإذا كان روح الله الذي أقام يسوع من بين الأموات يسكن فيكم، فالذي أقام يسوع المسيح من بين الأموات يبعث الحياة في أجسادكم الفانية بروحه الذي يسكن فيكم» (روما، 8: 10-11). «فمع أن الإنسان الظاهر فينا يسير إلى الفناء، إلا أن الإنسان الباطن يتجدد يوما بعد يوم» (2 كورنثة، 4: 16). وما دام الأمر كذلك فإن هذا العالم هو بالمفهوم الغنوصي غربة للروح لأن مسكنها الأصلي هو في السماء: «ولذلك لا نزال واثقين كل الثقة، عارفين أننا ما دمنا في هذا الجسد فنحن متغربون عن الرب لأننا نهتدي بإيماننا لا بما نراه. فنحن إذن واثقون، ونفضل أن نغترب عن هذا الجسد لنقيم مع الرب» (2 كورثنة، 5: 6-8). وعلى عكس اليهود الذين يعتقدون أن وطنهم في الأرض، فإن من عرف المسيح يعرف أن وطنه الحقيقي هو في السماء: «هناك جماعة كثيرة تسلك في حياتها سلوك أعداء صليب المسيح (= اليهود). هؤلاء عاقبتهم الهلاك، وإلههم بطنهم (كناية عن شرائع النجس والطاهر في المأكل)، ومجدهم عوراتهم (كناية عن افتخارهم بالختان)، وهمهم أمور الدنيا. أما نحن فوطننا في السماء ومنها ننتظر الرب يسوع المسيح. فهو الذي يبدل جسدنا الوضيع ليجعله على صورة جسده المجيد» (فيليبي، 3: 18-21).
وهذا ما يقود بولس إلى موقف غنوصي من الجسد: «اسلكوا سبيل الروح ولا تقضوا شهوة الجسد، لأن الجسد يشتهي ما يخالف الروح» (غلاطية، 5: 16-17). وموقفه هذا من الجسد يقوده إلى موقف سلبي من الزواج على الرغم من عدم شجبه له: «أريد أن تكونوا من دون هم. فغير المتزوج يهتم بأمور الرب وكيف يرضي الرب، والمتزوج يهتم بأمور العالم، وكيف يرضي امرأته، فهو منقسم ... أقول هذا لخيركم لا لألقي عليكم قيدا، بل لتعلموا ما هو لائق وتخدموا الرب دون ارتباك» (1 كورثنة، 7: 32-35).
هذه النظرة الغنوصية إلى الجسد ينجم عنها بالضرورة عند بولس قوله بالبعث الروحاني لا بالبعث الجسدي، على ما يراه الغنوصيون أيضا: «هكذا أيضا قيامة الأموات، يدفن الجسم في فساد ويقام في عدم فساد، يدفن في هوان ويقام في مجد، يدفن في ضعف ويقام في قوة، يدفن جسما حيوانيا ويقام جسما روحانيا ... كما هو الترابي هكذا الترابيون أيضا، وكما هو السماوي هكذا السماويون أيضا. وكما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضا صورة السماوي. أقول لكم أيها الإخوة إن لحما ودما لا يقدران أن يرثا ملكوت الله، ولا يرث الفساد عدم الفساد» (1 كورثنة، 15: 42-50).
إن ثنائية الجسد والروح تعكس عند بولس ثنائية الظلام والنور، والخير والشر. وهو في تبنيه إلى هذه الثنائيات يستخدم مصطلح الإفاقة من نوم الغفلة ورقدة الجهالة الشائع عند الغنوصيين: «تنبه أيها النائم وقم من بين الأموات يضيء لك المسيح» (إفسس، 5: 14). «وأنتم تعرفون في أي وقت نحن. حانت ساعتكم لتفيقوا من نومكم، فالخلاص الآن أقرب إلينا مما كان يوم آمنا. تناهى الليل، واقترب النهار. فلنطرح أعمال الظلام ونحمل سلاح النور، لنسلك كما يليق السلوك في النهار» (روما، 13: 11-13). «أما أنتم أيها الإخوة فلا تعيشون في الظلام حتى يفاجئكم ذلك اليوم مفاجأة اللص، فلا ننم كسائر الناس بل علينا أن نسهر ونصحو. فإنما في الليل ينام النائمون، وفي الليل يسكر السكارى، أما نحن أبناء النهار فلنكن صاحين لابسين درع الإيمان والمحبة وخوذة رجاء الخلاص» (1 تسالونيكي، 5: 4-8). «احمدوا الآب بسرور لأنه جعلكم أهلا لأن تشاطروا القديسين ميراثهم في النور. فهو الذي نجانا من سلطان الظلمات ونقلنا إلى ملكوت ابنه الحبيب، فكان به الفداء وغفران الخطايا» (كولوسي، 1: 12-13).
فإذا انتقلنا إلى إنجيل يوحنا الذي رشح إليه الكثير من تعاليم يسوع الباطنية، لوجدنا كيف تغيب الحدود الفاصلة بين المسيحية الأولى والفكر الغنوصي، لا سيما فيما يتعلق بثنائيات الوجود: الخير والشر، النور والظلمة، الموت والحياة، والمعرفة والجهل: «أنا نور العالم، من يتبعني لا يخبط في الظلام بل له نور الحياة» (8: 12). «النور باق معكم وقتا طويلا، فامشوا ما دام لكم النور مخافة أن يدرككم الظلام؛ لأن الذي يمشي في الظلام لا يدري أين يسير. آمنوا بالنور ما دام لكم النور، فتكونوا أبناء النور» (12: 35-36). «جئت إلى العالم نورا، فمن آمن بي لا يقيم في الظلام» (12: 46).
ويتحدث يسوع في إنجيل يوحنا عن غربة المؤمنين في عالم تحكمه القوى الظلامية: «من يحب نفسه يهلكها، ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية» (يوحنا، 12: 25). «من أحب حياته هلك، ومن كره حياته في هذه الدنيا حفظها إلى الأبدية». (12: 25) «لو كنتم من العالم لأحب العالم من كان منه، ولكن أبغضكم العالم لأنكم لستم منه. فاختياري لكم أخرجكم من العالم» (15: 19). «بلغتهم كلامك فأبغضهم العالم، لأنهم ليسوا من العالم كما أني لست من العالم» (17: 14). ولذلك عندما سأله الوالي الروماني أثناء المحاكمة: أأنت ملك اليهود؟ أجابه يسوع: «ليست مملكتي من هذا العالم. ولو كانت مملكتي من هذا العالم لدافع عني رجالي لكيلا أسلم إلى اليهود» (18: 36). هذه المملكة الأرضية التي رفضها يسوع ما عرفت الله قط: «العالم لم يعرفك، أما أنا فقد عرفتك، وعرف هؤلاء (= التلاميذ) أنك أرسلتني» (17: 25).
وإذا كان العالم جاهلا بالله الحق فلأنه واقع تحت سلطان قوة أخرى يدعوها يسوع بسيد هذا العالم، إله اليهود الذي جربه في البرية، والذي رفض يسوع السجود له وأعلن انتهاء سلطانه على المؤمنين بالآب السماوي: «اليوم دينونة هذا العالم، واليوم ينبذ سيد هذا العالم. فإذا رفعت من هذه الأرض جذبت إلى الناس أجمعين» (12: 31-32). «لأن سيد هذا العالم قد حكم عليه» (16: 11). «لن أخاطبكم بعد الآن لأن سيد هذا العالم آت وليس له يد علي. وما ذلك إلا ليعرف العالم أني أحب الآب وأعمل بما أوصاني» (14: 30-31). سيد هذا العالم الذي عرض على يسوع السلطة على كل ممالك الأرض، هو الذي يهب كل سلطان أرضي، وهو الذي أسلم يسوع إلى الصلب. فعندما قال له الوالي ببلاطس أثناء المحاكمة: «ألا تكلمني؟ أفلست تعلم أن لي سلطانا أن أصلبك وسلطانا أن أطلقك؟» أجاب يسوع: «لم يكن لك سلطان علي البتة لو لم تكن أعطيت (هذا السلطان) من فوق، لذلك الذي أسلمني إليك له خطية عظيمة» (19: 10-11). ولكن يسوع بموته على الصليب وقد غلب العالم وسيد هذا العالم: «ستعانون الشدة في هذا العالم، فاصبروا لها، لقد غلبت العالم» (16: 13).
أما مصدرنا الثالث في تتبع التعاليم الخفية ليسوع، فهو إنجيل غير رسمي منسوب إلى توما الرسول يحتوي على 114 قولا ليسوع من غير التعرض لسيرته أو المناسبات الخاصة بهذه الأقوال. وعلى الرغم من بقاء هذا الإنجيل خارج كتاب العهد الجديد، إلا أنه أكثر الأناجيل غير الرسمية قربا إلى الأناجيل القانونية، الأمر الذي أكسبه عن جدارة لقب الإنجيل الخامس. تعود أقدم الشذرات المكتشفة من هذا الإنجيل إلى مطلع القرن الثاني الميلادي، ولكن الباحثين يعتقدون بأنه ترجمة يونانية عن نص آرامي أقدم دون في فلسطين أو مكان آخر من سوريا. وهناك اتجاهات جديدة في البحث تضع تاريخ تدوينه في زمن ما من النصف الثاني للقرن الأول الميلادي، أي إلى فترة تدوين الأناجيل الرسمية.
من الأقوال ال 114 الواردة في إنجيل توما هناك نحو 50 قولا يشترك بها مع أقوال يسوع الواردة في الأناجيل الإزائية الثلاثة (مرقس ومتى ولوقا)، وهذا ما يعطي بقية الأقوال مصداقية تؤكد نسبتها إلى يسوع. إلا أن ما يميزه عن الأناجيل الإزائية هو أن يسوع لا يظهر فيه كمبشر بحلول اليوم الأخير ودينونة العالم، وإنما كمعلم حكمة يرشد إلى سبل الحياة الروحية الكفيلة بتطهير النفس والانعتاق من العالم. وتظهر في أقواله لهجة غنوصية بسيطة وواضحة، وبعيدة عن التصورات الميثولوجية المعقدة التي نواجهها في النصوص الغنوصية التي دونت بعده، والتي ابتعدت عن جو الأناجيل الرسمية على الرغم من اتخاذها لشخصية يسوع المسيح المبعوث مركزا لأفكارها وتصوراتها الدينية.
ومؤلف الإنجيل يصف في فقرته الاستهلالية الأقوال التي يقدمها لنا على أنها: «الكلمات الخفية التي نطق بها يسوع الحي، ودونها يهوذا توما» وأن: «من يتوصل إلى تأويلها لن يذوق الموت أبدا» وتبتدئ كل فقرة من الفقرات ال 114 إما بجملة: «قال يسوع» أو «قال له التلاميذ» أو «سأله التلاميذ». وفيما يلي مقتبسات من هذا الإنجيل مع شروحاتي على المتن:
1
قال يسوع: على من يبحث ألا يتوقف عن البحث إلى أن يجد، وحين يجد سوف يضطرب، وحين يضطرب سوف يعجب ويسود على الكل.
أي إن المعرفة هي أداة الساعي إلى الخلاص، وعليه متابعتها دون كلل أو يأس، لأنها ستقود في النهاية إلى الاستنارة التي تترافق في البداية مع الدهشة والاضطراب، ثم يليها الغبطة والسكون الداخلي.
قال يسوع: عندما تعرفون أنفسكم تعرفون أنكم أبناء الآب الحي. ولكن إذا لم تعرفوا أنفسكم أقمتم في الفقر وكنتم الفقر.
على ما هو معروف في الأدبيات الغنوصية فإن يسوع هنا يقرن الروح بالثروة والجسد بالفقر. فمن عرف نفسه عرف إلهه الذي سيمد له يد الخلاص، ومن لم يعرف نفسه بقي مقيما في الفقر، أي في الجسد المادي، أسيرا لدورة التناسخ. ولذلك قال في فقرة أخرى من إنجيل توما:
إذا نشأ الجسد عن الروح فهي معجزة، وإذا نشأت الروح عن الجسد فهي معجزة المعجزات. وإني لأعجب كيف لهذه الثروة العظيمة أن تقيم في هذا الفقر.
قال يسوع: اعرف ما في متناول البصر يظهر لك الخافي عليك. فما من خفي إلا وينكشف.
أي إن المعرفة الحقة للعالم تكشف لك أصله المتجذر في الشر والظلام.
قال يسوع: لقد ألقيت على العالم نارا، وها أنا أرقبه حتى يضطرم.
أي إن يسوع جاء ليقضي على كل ما هو قديم ويستبدله بكل ما هو جديد. وقد ورد في إنجيل لوقا: «جئت لألقي على الأرض نارا، وكم أرجو أن تكون قد احترقت» (لوقا، 12: 29).
قال يسوع: هذه السماء ستزول والتي فوقها ستزول، ولكن من هم أموات لن يحيوا، ومن هم أحياء لن يموتوا.
الأموات الذين لن يحيوا هنا، هم غير العارفين. أما الأحياء فهم العارفون الذين عرفوا أنفسهم وعرفوا إلههم.
قال يسوع: إذا صمتم جلبتم على أنفسكم خطيئة، وإذا صليتم أدنتم أنفسكم، وإذا تصدقتم آذيتم أرواحكم.
أي إن العارف الذي يصوم عن العالم ليس بحاجة إلى الصيام التعبدي اليهودي؛ والذي هو في تواصل دائم مع الإلهي ليس بحاجة إلى طقس الصلاة الشكلي، والذي تنبع أخلاقه عن التزام حر وأصيل ليس بحاجة إلى أخلاق الشريعة المفروضة من الخارج.
قال يسوع: ليس بمقدور أحد أن يمتطي حصانين في آن معا، أو أن يشد قوسين. وليس بمقدور العبد أن يخدم سيدين (قارن مع متى، 6: 24).
الحصانان والقوسان والسيدان هنا هما الروح والجسد.
قال يسوع: إذا سألوكم من أين جئتم؟ قولوا: جئنا من النور، من المكان الذي انبثق فيه النور من تلقاء ذاته وتجلى في صور نورانية. وإذا سألوكم: من أنتم؟ قولوا: نحن أبناؤه، نحن مختارو الآب الحي.
قال له تلاميذه: أربعة وعشرون نبيا كلهم تكلموا عنك. قال لهم: لقد غفلتم عن الحي الذي أمامكم وتكلمتم عن الأموات.
يؤكد يسوع هنا على القطيعة مع التاريخ الديني اليهودي. فالشريعة وتعاليم الأنبياء قد انتهت بظهور البشارة الجديدة.
قال له تلاميذه: هل الختان مفيد؟ قال لهم: لو كان مفيدا لكان أبوهم أنجبهم مختونين. ولكن الختان الحقيقي بالروح.
يستبدل يسوع هنا طهارة الجسد التي يعبر عنها الختان اليهودي بطهارة الروح التي يعبر عنها العماد المسيحي. فالختان الحقيقي هو بالروح لا بالجسد. وهذا ما عبر عنه بولس عندما قال: «الختان ختان القلب العائد إلى الروح لا إلى حروف الشريعة» (روما، 2: 29). وأيضا: «ها أنا ذا بولس أقول لكم: إذا اختتنتم فلن يفيدكم المسيح شيئا ... لقد انقطعتم عن المسيح يا أيها الذين يلتمسون البر من الشريعة» (غلاطية، 5: 2-4).
قال يسوع: كونوا عابري سبيل.
أي عيشوا في هذا العالم كغرباء عنه متطلعين دوما إلى موطنكم الأصلي في السماء. ولذلك قال في موضع آخر عندما سألته المجدلية: ماذا يشبه تلاميذك؟ فقال: يشبهون صغارا يعيشون في حقل لا يخصهم.
قال يسوع: من عرف كل شيء ولم يعرف نفسه، افتقر إلى كل شيء.
قال يسوع: من يطلب يجد ومن يقرع يفتح له الباب.
أي إن المعرفة متاحة للجميع وما عليك إلا أن تقرع بابها.
قال يسوع: من فهم العالم وقع على جيفة، ومن وقع على جيفة فالعالم ليس أهلا له.
أي إن من يعرف العالم على حقيقته لا يرى فيه سوى جيفة، فيشيح بوجهه عنها ويغدو فوق العالم.
قال يسوع: تطلعوا إلى الحي ما دمتم أحياء، لئلا تموتوا وتحاولوا رؤية الحي فلا تستطيعون.
أي لن يرى الله بعد الموت إلا من رآه رؤية القلب الحقة في الحياة. (1) مآل تعاليم يسوع
إن تعاليم يسوع الظاهرة منها والباطنة، قد وصلت إلى مؤلفي الأناجيل بعد أكثر من أربعين سنة على وفاته، وذلك على شكل مجموعات أقوال دونها مؤلفون مجهولون، ومنها مجموعة اللوجيا-
Logia ،
2
والمجموعة المنسوبة إلى توما التي اقتبسنا منها أعلاه، ومجموعة المصدر،
3
إضافة إلى أخبار متفرقة حفظتها ذاكرة التلاميذ عن سيرة حياته. وقد تأمل هؤلاء المؤلفون في هذه التركة وفهموها كل بما يتناسب مع تكوينه الشخصي وخلفيته الثقافية، فأخذ ما أخذ وترك ما ترك. ثم جاءت الكنيسة المبكرة وتأملت في تركة هؤلاء المؤلفين وبنت عليه مستوى ثانيا للتفسير. وأخيرا جاء اللاهوت المسيحي الذي صاغه آباء متشبعون بالثقافة اليونانية، فبنوا مستوى ثالثا للتفسير. ومع الانتقال بين مستويات التفسير هذه، جرى إسقاط الكثير من التعاليم الباطنية ليسوع حتى بدا أنها قد ضاعت إلى الأبد. إلا أن شخصية فذة بين آباء الكنيسة نشط في أواسط القرن الثاني الميلادي يدعى مرقيون
Marcion ، قد حفظ لنا جوهر هذه التعاليم وبنى عليها كنيسة بديلة عن كنيسة روما. وعلى الرغم من أن هذه الكنيسة لم تعمر طويلا، إلا أن تعاليم مرقيون بقيت بمثابة شاهد حي على الوجه الخفي لتعاليم يسوع المسيح.
مرقيون والكنيسة البديلة
من بين آباء الكنيسة الأوائل كان مرقيون-
Marcion
الأبرز بين من تقصى تعاليم يسوع الباطنية وفهمها حق فهمها. وعندما فشل في إحداث أي تغيير يذكر في قناعات زملائه في كنيسة روما، انشق عنها وأنشأ كنيسة جديدة توسعت شرقا وغربا بزخم قوي، وطرحت نفسها بديلا عن كنيسة روما التقليدية.
جاء مرقيون من آسيا الصغرى. فقد ولد وترعرع في مدينة سينوب على البحر الأسود بمنطقة البنط-
. سنة ميلاده غير معروفة ولكن يمكن تحديدها بشكل عام في أواخر القرن الأول الميلادي. نشأ في أسرة مسيحية وكان والده أسقفا للمجموعة المسيحية المحلية. ويعتقد البعض أنه كانت لوالده هذا روابط مع طائفة البولسيين-
، وهي طائفة مسيحية مبكرة نشأت في أرمينيا على يد مبشر يدعى عاديا جاء من أورشليم حاملا معه تعاليم سرية ليسوع من منشئها. وقد بشر عاديا بعقيدة تقول بأن يسوع هو كائن بشري تبناه الله وجعله ابنا له. ثم تطور ضمن هذه العقيدة تنويع آخر يقول بوجود إلهين أعليين لا إله واحد، الأول هو الآب السماوي الأعلى، والثاني هو الديميرج خالق هذا العالم وسيده.
أخذ مرقيون عن والده مهنة الشحن البحري بسفينة تخصه، وربما أكثر. وقد توسع في أعماله باتجاه الموانئ الغربية لآسيا الصغرى مثل إفسوس وسميرنا التي كانت من المراكز القديمة للحركة الغنوصية، وهناك حصلت جدالات فكرية حامية بينه وبين السلطات المسيحية التقليدية. وفي سميرنا وصفه المنافح العنيد عن الإيمان القويم بوليكارب بأنه بكر الشيطان. نحو عام 139م رحل إلى روما حيث انضم إلى المجموعة المسيحية العاملة هناك وتبرع للحركة بمبلغ كبير من المال. في مكان إقامته الجديد طور تعاليمه، ويقال إنه اتصل بالغنوصي السوري كيردو-
Cerdo
وتأثر به، وكان يبشر مثله بالفصل بين الإله الخالق إله التوراة والإله الخفي الأعلى إله يسوع. وعندما انعقد مجمع كنسي في روما عام 144م، عمل مرقيون على الترويج لأفكاره والدفاع عنها، ولكن المجمع رفض أطروحاته بعد جدال طويل بشأنها. عند ذلك انسحب مرقيون من كنيسة روما وأسس كنيسته الجديدة التي أنفق بقية عمره في الدعوة إليها بعزيمة لا تفتر ولا تلين، وفي إحداث فروع لها في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية.
شكلت كنيسة مرقيون أكبر تهديد للكنيسة القويمة في القرن الثاني الميلادي، وانتشرت فروعها في إيطاليا وبلاد الشام ومصر ووادي الرافدين وأرمينيا، وشارك أعضاؤها في النضال المسيحي إلى جانب إخوتهم من أتباع الكنيسة القويمة، ونالوا من الاضطهاد مثل ما نالهم وقدموا من الشهداء مثل ما قدموا. ولكن الكنيسة الرسمية لم تعتبرهم إلا هراطقة، وفي أول كتاب مسيحي ضد الهرطقة وضعه جوستين الشهيد نحو عام 150م، جرى تصنيف مرقيون إلى جانب كل من سمعان ماجوس السامري وتلميذه ميناندر باعتبارهم رأس المكيدة التي يدبرها الشيطان ضد المسيحية. وقد استمرت الكنيسة المرقيونية في الغرب إلى جانب الكنيسة القويمة إلى أن صارت المسيحية دينا للإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع الميلادي، ثم بدأت تتلاشى بتأثير القرارات الرسمية التي أصدرها الأباطرة ضد الهرطقات، وملاحقة الهراطقة وإحراق كتبهم. أما في الشرق فقد عاشت المرقيونية فترة أطول بسبب هجرة المرقيونيين إلى المناطق الريفية البعيدة واختفائهم من المدن الكبرى. ويبدو أن من لم يعد منهم إلى الكنيسة الرسمية قد دخل في المانوية بسبب التقارب الواضح بين العقيدتين. كما أن ماني نفسه قد استلهم على ما يبدو التنظيم الكنسي المرقيوني عندما كان يؤسس لكنيسته الغنوصية العالمية.
يقوم فكر مرقيون على الفصل التام بين العهد الجديد والعهد القديم، وكان معارضا للطريقة المسيحية التقليدية في تأويل كتاب العهد القديم (= التوراة) لجعله متلائما مع العقيدة المسيحية. كما يقوم فكره على التناقض بين إله الشريعة وإله المحبة والخلاص؛ فالأول هو إله العهد القديم الذي خلق العالم وراح يحكمه من خلال شريعة قائمة على الانتقام، ومؤسسا العدالة بلا رحمة أو طيبة. هذا الإله الحقود والناقص نقص العالم الذي خلقه، والذي يقول مرقيون إنه يعرفه حق المعرفة، هو إله جدير بالازدراء ولا يستحق بالفعل العبادة التي يطلبها، وهو ليس أبا ليسوع كما يعتقد المسيحيون القويمون. أما إله المحبة والخلاص الذي يدعوه مرقيون بالإله المتعالي والإله المجهول الذي يقيم في سمائه الخاصة فوق إله الخلق، فليس له علاقة بمجريات الأحداث في العالم لأنه لم يكن صانعه، وهو لم يتدخل إلا بأن أرسل ابنه يسوع المسيح في هيئة جسمانية تخفي أصله السماوي إلى هذا العالم البائس الذي أحبه وأراد له الخلاص، وفي هذه الهيئة الجسمانية حكم عليه إله التوراة بالصلب لأنه كان جاهلا بحقيقته. ولكن يسوع قبل الرجوع إلى أبيه نزل إلى هاديس (= العالم الأسفل أو الجحيم) ليكمل فعله الخلاصي بتحرير الأموات. وهناك شمل فعله الخلاصي جميع الأمم التي طالتها لعنات التوراة، بينما بقي أعمدة التاريخ الديني التوراتي في العالم الأسفل لأنهم بقوا على عنادهم وقساوة قلوبهم.
إن مفهوم اغتراب الله عن العالم هو مفهوم جذري لدى مرقيون. فما نعرفه عن الله هو أن جوهره الطيبة والرحمة، وفيما عدا ذلك فليس بإمكاننا تقديم أي وصف أو تحديد له؛ لأن شروطنا الأرضية لا تسمح لنا بذلك. وبينما تعقد الأنظمة الغنوصية الراديكالية (التي لا ينتمي إليها مرقيون) صلة من نوع ما بين الديميرج والإله الخفي المتعالي، باعتبار أن ظهور الديميرج كان نتاجا لعملية سقوط في عالم الملأ الأعلى، فإن نظام مرقيون يصر على عدم وجود رابطة بين الإلهين. وعلى عكس هذه الأنظمة أيضا، فإن الإنسان عند مرقيون هو من صنع الديميرج روحا وجسدا، وبالتالي فإن روحه ليست قبسا من روح الإله الخفي، والشراكة في الجوهر مع الله لا تشكل العنصر الأساسي في عملية الخلاص عن طريق العرفان الذي يكشف للإنسان هذه الشراكة، لأنه معتمد بشكل كلي على رحمة الله ونعمته من خلال الإيمان بيسوع المسيح مخلصا. هذا الإيمان هو الذي سيؤدي إلى مباركة الروح من قبل الإله الخفي، وتحويلها من روح ملوثة بشر العالم بداعي ارتباطها بالجسد إلى روح نورانية منعتقة ومتحررة من سجن الجسد وسجن العالم.
إن عدم وجود صلة بين الديميرج والإله الخفي في فكر مرقيون قد أعفاه من تلك التصورات الميثولوجية المعقدة التي حاول معلمو الغنوصية الراديكالية من خلالها شرح كيفية صدور الديميرج عن عالم الألوهة العلوي واستقلاله بخلق العالم المادي. فلقد التزم مرقيون الفكر الإنجيلي لا سيما أطروحات بولس التي طورها بروح غنوصية لم تكن غائبة عن بولس نفسه، ووصل بها إلى نتائجها المنطقية، التي لم يصغها بولس بطريقة صريحة.
وعلى الرغم من معارضة مرقيون لإله العهد القديم وتوكيده على تحرير الإنسان من حكمه، إلا أنه يعتقد أن عليه متابعة مهمته في تسيير شئون هذا العالم؛ لأن العالم من حيث الأصل لا قيمة له، والجسد الإنساني لا يساوي شيئا وكذلك حياة هذا الجسد في العالم. لذلك فقد عارض مرقيون الزواج لأنه يؤدي إلى التكاثر، وإلى إدامة بؤس الشرط الإنساني عن طريق إنجاب رعايا جدد يقعون تحت سلطة إله هذا العالم ويساعدون على تعزيز سلطانه. وهو في هذا الموقف على نقيض النزعة النسكية المسيحية التي تعارض الفعل الجنسي ما لم يكن هدفه الإنجاب.
كان لمرقيون عدد من الكتابات لم يصلنا منها إلا شذرات أوردها المؤلفون المسيحيون في معرض ردهم على الهرطقات المسيحية، ولكنه لم يعتبر مؤلفاته كتبا مقدسة كما فعل ماني. ولذلك فقد عمل على تزويد كنيسته بكتاب مقدس اختار أسفاره من عديد الأسفار التي كانت متداولة بين المسيحيين في ذلك العصر، فكان بذلك أول من أقر كتابا قانونيا معتمدا للعهد الجديد. وقد احتوى هذا الكتاب على إنجيل لوقا بعد أن حذف منه مرقيون قصة الميلاد التي اعتقد أنها مقحمة على النص الأصلي، وسلسلة نسب يسوع التي تربطه بالملك داود، كما حذف منه ما اعتقد بأنه مداخلات يهودية. كما اعتمد مرقيون إلى جانب إنجيل لوقا عشرا من رسائل بولس وهي: غلاطية، وكورنثة 1 و2، وروما، وتسالونيكي 1 و2، وإفسوس، وفيلمون. وفي ردها على هذا الإجراء سارعت كنيسة روما إلى صياغة كتابها القانوني الذي احتوى على معظم الأسفار التي نعرفها اليوم، واعتبرت كتاب التوراة العبرانية بمثابة عهد قديم لهذا العهد الجديد.
ولكي نأخذ فكرة عن الطريقة التي عرض بها المؤلفون المسيحيون أفكار مرقيون، سوف أقدم فيما يلي هذا المقتبس من كتاب المؤلف إيرينايوس المتوفى نحو عام 200م والذي نافح فيه عن العقيدة المسيحية ضد الهرطقات، وهو بعنوان «ضد الهرطقات» (باللاتينية
Adversus Haereses ): «ومرقيون البنطي خلف كيردو ، وطور مذهبه الذي جدف فيه بلا حياء على الإله الذي اعترفت به الشريعة كما الأنبياء، ودعاه بصانع الشر، ومحب الحروب، والمخادع المراوغ، والمناقض لنفسه. وهو يقول بأن يسوع قد جاء من قبل الآب الذي يقيم فوق هذا الإله الذي صنع العالم، عندما كان بونتوس بيلاطس واليا على اليهودية في أيام الإمبراطور تيبيريوس، وأظهر نفسه لأهل اليهودية في هيئة رجل بشري، معلنا أنه جاء ليهدم الشريعة وتعاليم الأنبياء وجميع أفعال هذا الإله الذي خلق العالم، والذي يدعوه مرقيون حاكم وسيد هذا العالم. وقد اعتمد إنجيل لوقا بعد أن شذبه وحذف منه كل ما له علاقة بنسب يسوع، وأقواله وتعاليمه التي يقر فيها بأن خالق العالم الذي تدعوه الأسفار المقدسة بالرب هو أبوه. وقد أقنع تلاميذه بأن تعاليمه أكثر مصداقية من تعاليم الرسل الذين نقلوا لنا الإنجيل، بينا لم ينقل لهم هو إلا جزءا صغيرا منه. كما أنه اختصر رسائل بولس الرسول وحذف منها كل ما قاله بولس بخصوص خالق العالم باعتباره أبا ليسوع، كما حذف كل مقتبسات بولس من نبوءات الأنبياء التي تتحدث عن مجيء المسيح.» «وبرأيه فإن الأرواح التي تتقبل تعاليمه هي التي ستحقق الخلاص. وهذا الخلاص لا يشارك به الجسد لأنه مصنوع من مادة الأرض، وزيادة في التجديف على الله، قدم لنا مرقيون هذه القصة التي تجعله متحدثا باسم الشيطان وعدوا للحقيقة: فعندما هبط يسوع بعد قيامته إلى الجحيم، خلص من ربقة الموت قابيل وسلالته، وأهل سدوم، والمصريين وأمثالهم من الأمم الوثنية؛ لأنهم هرعوا إليه وآمنوا به فضمهم إلى ملكوته. أما هابيل وأخنوخ ونوح، وإبراهيم ونسله، والأنبياء، وكل البارين الذي أطاعوا الرب، فلم يشملهم الخلاص الذي أعلنته الحية لمرقيون، لأنهم اعتقدوا أن الرب الذي كان دوما يجربهم قد جربهم مرة أخرى، فلم يهرعوا إلى يسوع ولم يصدقوا دعواه، وبقيت أرواحهم في الجحيم.»
من هذا العرض العام لتعاليم مرقيون، نلاحظ أنه قد أبقى نفسه على مسافة متساوية من الغنوصية الراديكالية ومن المسيحية القويمة. ويمكننا اعتباره لاهوتيا مسيحيا أكثر منه لاهوتيا غنوصيا. ولكن بعض تلاميذه المباشرين مالوا من بعده إلى الراديكالية وطوروا تعاليمه ووصلوا بها إلى حيث لم يشأ لها أن تصل. من أهم هؤلاء التلاميذ المدعو آبيليس-
Apelles ، الذي نشأ في الإسكندرية موطن الغنوصية المصرية، وهو الذي حرف مسار تعاليم أستاذه لتلتقي مع تعاليم الغنوصية الراديكالية في ذلك العصر؛ فقد عزا إلى الروح الإنسانية وجودا مسبقا في عالم الإله الخفي الأعلى، كما جعل من الإله الذي صنع العالم ملاكا ناريا خلقه الله، ولكنه سقط من عليائه وأدار ظهره للنور، ثم صنع العالم والإنسان. وهذا الملاك الساقط هو إله اليهود يهوه. وقد بث آبيليس تعاليمه في كتابين لم يصلا إلينا، وإنما ألمح إليهما بعض المؤلفين المسيحيين مثل أوزيبيوس. وقد استقل آبيليس عن الكنيسة المرقيونية وأسس كنيسته الخاصة التي اندثرت في أواخر القرن الثالث الميلاد.
1 (1) المرقيونية في مؤلفات المسلمين
عاشت المسيحية المرقيونية في الشرق حتى القرن العاشر الميلادي على ما يورده ابن النديم في كتابه المعروف بالفهرست. فهول يقول: «ولأصحاب مرقيون عدة كتب غير موجودة إلا حيث يعلم الله. وهم يتسترون بالنصرانية، وهم بخراسان كثير، وأمرهم ظاهر كظهور المنانية (=المانوية).» ويقول في عقائدهم ما يلي: «المرقيونية هم أصحاب مرقيون، وهم قبل الديصانية. وهم طائفة من النصارى أقرب من المنانية والديصانية.» وزعمت المرقيونية أن الأصلين القديمين هما النور والظلمة، وأن ها هنا كونا ثالثا مزجها وخالطها. وقالت بتنزيه الله عز وجل عن الشرور؛ لأن خلق جميع الأشياء كلها لا يخلو من ضرر، وهو مجل عن ذلك. واختلفوا في الكون الثالث ما هو، فقالت طائفة منهم هو الحياة وهو عيسى، وزعمت طائفة أن عيسى هو رسول ذلك الكون الثالث، وهو الصانع للأشياء بأمره وقدرته. إلا أنهم أجمعوا على أن العالم محدث وأن الصنعة بينة فيه، ولا يشكون في ذلك. وزعمت أن من جانب الزهومات (= اللحم والدسم) والمسكر وصلى لله دهره وصام أبدا أفلت من حبائل الشيطان. والحكايات عنه (أي مرقيون) مختلفة كثيرة الاضطراب. وللمرقيونية كتاب يختصون به يكتبون به ديانتهم. ولمرقيون إنجيل سماه ...
أما الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل، فقد وضع المرقيونية في باب «من له شبهة كتاب»، وقال فيهم ما يلي: «أصحاب مرقيون، أثبتوا أصلين قديمين متضادين: أحدهما النور والثاني الظلمة. وأثبتوا أصلا ثالثا هو المعدل الجامع، وهو سبب المزاج. فإن المتنافرين المتضادين لا يمتزجان إلا بجامع. وقالوا إن الجامع هو دون النور في المرتبة وفوق الظلمة. وحصل من الاجتماع والامتزاج هذا العالم. ومنهم من يقول: إن الامتزاج حصل بين الظلمة والمعدل؛ إذ هو أقرب منها، فامتزجت به لتطيب به وتلتذ بملاذه. فبعث النور إلى العالم الممتزج روحا مسيحية وهو روح الله وابنه، تحننا على المعدل الجامع السليم الواقع في شبكة الظلام الرجيم، حتى يخلصه من حبائل الشياطين. فمن اتبعه فلم يلامس النساء ولم يقرب الزهومات أفلت ونجا، ومن خالفه هلك.» «وقالوا: وإنما أثبتنا المعدل لأن النور هو الله تعالى، لا يجوز عليه مخالطة الشياطين ... وأيضا: فإن الضدين يتنافران طبعا ويتمانعان ذاتا ونفسا، فكيف يجوز اجتماعهما وامتزاجهما؟ فلا بد من معدل يكون دون النور وفوق الظلام فيقع الامتزاج منه. وهذا على خلاف ما قالته المانوية، وهو أيضا على خلاف ما قاله زردشت، فإنه يثبت التضاد بين النور والظلمة، ويثبت المعدل كالحاكم على الخصمين الجامع بين المتضادين، لا يجوز أن يكون طبعه من أحد الضدين، وهو الله عز وجل الذي لا ضد له ولا ند.»
2
من هذا العرض الذي قدمه ابن النديم والشهرستاني، نلاحظ أن العقيدة المرقيونية في صيغتها المتأخرة قد حافظت على بعض الأفكار الأصلية للمعلم الأول، ولكنها تبنت الكثير أيضا من الأفكار والتصورات الغنوصية الراديكالية التي كانت أبعد ما تكون عن فكر مرقيون.
هل وجد يسوع فعلا؟
عبر التاريخ الطويل للبحث في العهد الجديد ظهر تيار ما زال له مؤيدون في الوقت الراهن، يقول إن يسوع المسيح ليس شخصية تاريخية، وما أحداث الإنجيل إلا أسطورة تكونت ببطء ونسجتها مخيلة اللاهوتيين على مدى قرن من الزمان إلى أن اكتملت بالطريقة التي وصلتنا بها. إننا لا نعرف شيئا عن أسرة يسوع ولا عن حياته قبل ظهوره الفجائي وهو في نحو الثلاثين من العمر، كما أن سيرة حياته التبشيرية كما دونها الإنجيليون مليئة بالتناقضات التي لا يمكن التوفيق بينها على أي صعيد. ويبدو أن هؤلاء الإنجيليين الذين كانوا يكتبون باللغة اليونانية، لم يكونوا على معرفة مباشرة بجغرافية فلسطين وبيئتها الطبيعية، وأن أحدا منهم لم ير يسوع شخصيا ولم يسمع منه، بل ولم ير من اجتمع بيسوع مباشرة وسمع منه. إننا نعرف مثلا لون بشرة النبي محمد ولون عينيه وطول قامته ومزاجه وطبائعه وأدق تفاصيل حياته، ولكننا لا نعرف شيئا ملموسا يتعلق بيسوع ولم يصفه لنا أحد من الذين رافقوه وخالطوه عبر حياته.
إن مسألة تاريخية يسوع بقيت أمدا طويلا مادة لجدل أكاديمي حاد بين الباحثين، ولا يبدو أنها ستغلق في يوم من الأيام. ويرتكز أصحاب مقولة أسطورية الإنجيل بشكل رئيس على وقوف الرواية الإنجيلية وحيدة في شهادتها على يسوع، ويقولون إن الأحداث التي وصفها الإنجيليون قد مرت من غير أن يلحظها أحد من المعاصرين. ففي القرن الأول الميلادي الذي دعوه أصحاب هذا الاتجاه بقرن الصمت عن يسوع، تم إنتاج مراجع غنية باللغتين اليونانية والرومانية أعطتنا صورة حافلة بالتفاصيل عن أحداث القرن وعن الحياة الثقافية والسياسية في أصقاع الإمبراطورية لا سيما في المشرق العربي. ومؤلفو هذه المراجع على تخصصهم في حقول معينة، إلا أن طابع الموسوعية كان غالبا على أعمالهم وقدموا لنا معلومات كثيرة ما زلنا نستفيد منها اليوم في إعادة بناء تصورنا لذلك العصر.
من هؤلاء المؤلفين على سبيل المثال يرد ذكر فيلون الإسكندري، وهو فيلسوف يهودي أفلاطوني (ت54م)، وبلوترخ (40-120م)، وتاسيتوس (54-109م). وبلينوس الأصغر (61-113م)، وسويتونيوس (75-؟)، وسينيكا (ت65م)، وجوفينال (45-130م)، وبلينوس الأكبر (23-79م). ومن المنطقة الفلسطينية نفسها لدينا من طبريا المؤرخ جوستوس الذي أنجز كتابا عن تاريخ ملوك اليهود حتى منتصف القرن الأول الميلادي، والمؤرخ اليهودي الشهير يوسيفوس الذي أمضى القسم الأخير من حياته في روما وأنجز خلال الربع الأخير من القرن الأول الميلادي كتابين عن تاريخ اليهود، الأول بعنوان عاديات اليهود
Jewish Antiquities ، والثاني بعنوان الحروب اليهودية
Jewish Wars . ومن هذين الأخيرين يمكن أن نتوقع إشارات إلى يسوع وحركته الدينية. ولكن جوستوس الذي قدم لنا معلومات غزيرة عن الملك هيرود أنتيباس حاكم الجليل في عصر يسوع، لم يتعرض ولو بإشارة عابرة إلى يسوع، أما يوسيفوس فإن المقطع الوحيد الذي ذكر فيه يسوع، ما زال حتى الآن موضع جدل بين الباحثين، وجلهم يؤكد بأنه إضافة مسيحية على النص الأصلي.
1
في الرد على هذه الطروحات التي تبدو منطقية وجذابة للوهلة الأولى، تقول بأن يسوع وحركته الدينية ما كان لهما أن يلفتا نظر السلطات الرومانية ولا المؤلفين المعروفين في ذلك الوقت. فحياة يسوع التبشيرية لم تدم أكثر من سنة وفق الأناجيل الإزائية أو سنتين وفق إنجيل يوحنا. وخلال هذه الفترة القصيرة لم يفلح يسوع في خلق حركة دينية قوية يمكن أن تشغل بال السلطات اليهودية في أورشليم، أو حركة معارضة سياسية يمكن أن تشغل بال السلطات الرومانية. إن قراءة ما وراء السطور في الأناجيل تقودنا إلى الاستنتاج بأن حركة يسوع لم تفلح خلال حياته في التسرب إلى نسيج المجتمع الجليلي أو المجتمع اليهودي، وعندما مات لم يترك وراءه أكثر من مائة تابع على أكثر تقدير. أما دخول يسوع إلى أورشليم الذي صوره بعض الإنجيليين بطريقة فخمة وجعلوا أهل المدينة يخرجون لاستقباله شيبا وشبانا، وهم يبسطون أرديتهم تحت حوافر حماره ويهتفون بأعلى أصواتهم تحية له، فإن إنجيل لوقا يقدم لنا الصورة الأقرب إلى الواقع عندما يقول: «فجاء التلميذان بالجحش إلى يسوع ورصفا رداءيهما عليه وأركبا يسوع. وفيما هو سائر فرشوا ثيابهم في الطريق. ولما قرب عند منحدر جبل الزيتون ابتدأ كل جمهور التلاميذ يفرحون ويسبحون الله بصوت عظيم قائلين: مبارك الملك الآتي باسم الرب، سلام في السماء ومجد في الأعالي» (لوقا، 19: 35-39).
فإذا كان الأمر كذلك، فإن إعدام يسوع لم يكن بالشأن الكبير الذي يمكن أن ينتشر خبره في أرجاء الإمبراطورية ويلفت نظر المؤرخين. فقد كان العشرات من القوميين اليهود يصلبون في تلك الأيام على يد السلطات الرومانية بتهمة الشغب السياسي والتحريض ضد روما، كما كان المجلس اليهودي (السنهدرين) يحكم بالموت رجما بالحجارة على من تثبت عليه تهمة التجديف أو ازدراء الشريعة. وكان استفانوس وهو أحد أعمدة كنيسة أورشليم بعد وفاة يسوع واحدا من هؤلاء، على ما يخبرنا به سفر أعمال الرسل. فقد ادعى عليه بعض اليهود قائلين: إنا سمعناه يكفر بموسى وبالله، ويقول إن يسوع الناصري يبدل ما أورثنا به من سنن. فحكم عليه المجلس بالرجم (أعمال، 7: 8-53). وكانت العادة أن يعلق المرجوم بعد موته على عمود خشبي. وفي الحقيقة فإن جوهر تهمة يسوع لم يختلف كثيرا عن تهمة استفانوس على الرغم من تقديمها إلى بيلاطس في قالب سياسي.
ويعطينا سفر أعمال الرسل معلومة دقيقة عن عدد أتباع يسوع. فعندما اجتمع كل التلاميذ بعد أن ظهر يسوع لهم للمرة الأخيرة كان تعدادهم نحو مائة وعشرين (أعمال، 1: 15). وهؤلاء كانوا يواظبون على الصلاة في الهيكل اليهودي (3: 1) ربما بداعي التقية، ولم يكن بالإمكان تمييزهم عن بقية اليهود، لا سيما وأنهم لم يطلقوا على أنفسهم في البداية اسم المسيحيين، وإنما استخدموا تسمية عامة ودعوا أنفسهم بالإيبونيين (إيبونيم) التي تعني بالعبرية الفقراء. أما اسم المسيحيين فلم يطلق على أتباع يسوع إلا نحو عام 50م وكان ذلك في مدينة أنطاكية. ومما لا شك فيه أن يسوع قد استطاع استمالة عدد من اليهود المتكلمين باليونانية ممن كانوا يأتون لزيارة أورشليم بمناسبة الفصح اليهودي، وكانت له معهم حوارات (يوحنا، 12: 20). وعندما عاد هؤلاء إلى مواطنهم خارج فلسطين شكلوا بؤرا مسيحية متفرقة دون أن يلحظهم أحد لأنه لم يكن بإمكان الغريب عنهم التمييز بينهم وبين اليهود الآخرين. ولمثل هؤلاء وجه بولس الرسول خطابه أولا، سواء عن طريق زيارتهم أم عن طريق توجيه رسائله إليهم.
وقد ساهم نشاط بولس التبشيري المحموم في زيادة عدد البؤر المسيحية داخل الجماعات اليهودية وخارجها، ولكن المجتمع الروماني بقي على عدم تمييزه لهؤلاء عن بقية اليهود وبقوا على حالة الكمون التي يعيشونها. ولكن شيئا ما حدث في روما نحو عام 50م نقله إلينا مؤرخ القصر الإمبراطوري سويتونيوس نحو عام 115م في كتابه «حياة الأباطرة الاثنا عشر»؛ حيث أورد خبرا مقتضبا وغامضا بعض الشيء، فقال: إن الإمبراطور كلاوديوس (41-54م) طرد من روما اليهود الذين أثاروا فتنة بتحريض من المسيح (=
Christus
باليونانية).
2
ومن الواضح هنا أن سويتونيوس كان ينقل هذه الواقعة حرفيا عن السجلات الإمبراطورية العائدة إلى أواسط القرن الأول عندما كانت المعلومات مشوشة عن المسيحيين وعن علاقتهم باليهود. ونحن هنا أمام أول خبر تاريخي عن اليهود المتنصرين وعن معلمهم. وعلى الرغم من أن هذا الخبر موثق خارج فترة صمت القرن إلا أن صاحبه قد انتزعه ولا شك من وثائق تعود إلى زمن الحدث.
إن خبر سويتونيوس هذا يدلنا على أن المسيحية لم تظهر للعيان كحركة دينية متميزة قبل تقاطعها مع حياة المجتمع الروماني. وقد حصل مثل هذا التقاطع بشكل أكثر درامية في عصر الإمبراطور نيرون (ت68م)، عندما شب في أواخر فترة حكمه حريق كبير في العاصمة روما وكاد أن يأتي على المدينة بأكملها، وسرت شائعات بين الناس تقول إن نيرون هو الذي أشعل المدينة ليتمتع بالمشهد العظيم للكارثة. ولما كان سبب الحريق مجهولا بالفعل للسلطات الرومانية، فقد نصحه مستشاروه بالبحث عن كبش فداء وجده في الجماعات المسيحية التي وجهت إليها التهمة، إضافة إلى تهم أخرى تتعلق بممارسة السحر وطقوس غريبة تتضمن أكل اللحم البشري وشرب الدم. ولا شك أن هذه التهمة الأخيرة ذات صلة بطقس التناول الذي يتضمن أكل جسد المسيح وشرب دمه رمزيا من أجل التوحد معه. ومصدرنا عن هذه الأحداث هو مؤرخ آخر للقصر الإمبراطوري يدعى تاسيتوس في كتابه الموسم بالحوليات
Annals
والذي يعود إلى نحو 120م، أي مرة أخرى إلى خارج ما يدعى بقرن الصمت. ولكن هذا المؤرخ في تقصيه لأخبار الأباطرة كان مثل معاصره سويتونيوس يستخدم وثائق الأرشيف الملكي، كما أن ذكرى مثل هذه الأحداث كانت ما تزال ماثلة في الأذهان بعد مرور ستين عاما على وقوعها، يقول تاسيتوس: «لكي يقضي نيرون على الشائعات ألقى تهمة الحريق على عاتق تلك الجماعة المكروهة التي يدعوها الناس بالمسيحيين. وكان الحاكم بيلاطس قد أعدم المسيح الذي ينتمون إليه، وذلك في عهد الإمبراطور تيبيروس ... وبعد القبض على أفراد الطائفة وانتزاع الاعترافات منهم كان معظمهم يدان لا بتهمة الحرق المتعمد بالدرجة الأولى وإنما بتهمة كراهية الجنس البشري. وبعد ذلك كانت العقوبات القاسية والمهينة تنفذ بحقهم، فكانوا يلبسون جلود الحيوانات البرية وتطلق عليهم الكلاب الشرسة التي تمزقهم إربا. أو كانوا يثبتون على الصلبان وعند المساء كانت أجسادهم تحرق لتضيء عتمة الليل مثل المشاعل. وقد قدم نيرون حدائقه الخاصة لتكون مسرحا لهذه المشاهد ... إن هؤلاء بصرف النظر عن جريرتهم قد استحقوا التعاطف لأن عقابهم بهذه الطريقة لم يكن من أجل الصالح العام وإنما إرضاء لنزوات رجل واحد (= نيرون).»
3
نأتي الآن إلى المؤرخين الفلسطينيين جوستوس من طبرية، ويوسيفوس اليهودي. فقد ولد جوستوس في مدينة طبرية الجليلية ولكنه أمضى الشطر الثاني من حياته في مدينة إفسوس بآسيا الصغرى، وهناك وضع كتابه عن تاريخ ملوك اليهود الذي أنهاه خلال فترة حكم الملك هيرود أغريبا حفيد هيرود الكبير، والذي جعله الرومان ملكا على اليهودية عام 41م، ولكنه لم يحكم سوى ثلاث سنوات لأنه توفي عام 44م بشكل مفاجئ، وعادت اليهودية لتحكم من قبل ولاة رومانيين. أما لماذا لم يهتم هذا المؤرخ بذكر شيء عن يسوع والمسيحيين، فلأن الأحداث التي يرويها تنتهي بعد عقدين من الزمان فقط على وفاء يسوع، عندما لم تكن المسيحية في فلسطين قد تميزت على اليهودية، ولا يمكن أن نتوقع منه كبير اهتمام بحركة دينية لم تكن قد طفت على السطح في ذلك الزمن. يضاف إلى ذلك أن كتاب جوستوس يتحدث عن تاريخ ملوك اليهود، والمسيحية نشأت في زمن لم يكن فيه ملك على اليهودية.
أما يوسيفوس الذي كان موسوعيا بكل ما في الكلمة من معنى، والذي أورد لنا في مؤلفيه سابقي الذكر كل كبيرة وصغيرة، فقد جاء على ذكر يسوع في المخطوطات التي وصلتنا من كتابه عاديات اليهود الذي أنهاه نحو عام 94م، أي في أواخر قرن الصمت عن يسوع. وهذا نص الفقرة الخاصة بذلك وهي من المجلد الثامن عشر: «في ذلك الزمان عاش إنسان حكيم يدعى يسوع، إذا كان لنا أن ندعوه إنسانا لأنه أتى أمورا غير عادية، وكان معلما للناس الذين تقبلوا الحقيقة بفرح، وجذب إليه كثيرا من اليهود واليونانيين. لقد كان هو المسيح. وحينما حكم عليه بيلاطس بالصلب بناء على اتهام شيوخنا، بقي الذين أحبوه منذ البداية مخلصين له، وفي اليوم الثالث لموته ظهر لهم حيا لأن أنبياء الرب تنبئوا بذلك وبكثير من معجزاته الأخرى.»
4
في التعامل مع هذا الخبر انقسم الباحثون إلى فريقين، فقد رفضه الفريق الأول جملة وتفصيلا باعتباره مداخلة مسيحية أضافها النساخ اللاحقون، لأن يوسيفوس الذي كان مؤمنا يهوديا ومن فرقة الفريسيين تحديدا، قد دعا يسوع بالمسيح وتحدث عن قيامته من بين الأموات كأنها واقعة حدثت فعلا. أما الفريق الثاني فقد قبل الخبر في خطوطه العامة، على اعتبار أن يد من زور هذا النص قد بنى تزويره على نص أصلي كتبه يوسيفوس، وأن مهمته اقتصرت على إضافة بعض العبارات ذات الصبغة المسيحية. وقد بقيت نتائج الجدل بين الفريقين معلقة في الفراغ، إلى أن نشر أحد الباحثين عام 1971م مخطوطا من القرون الوسطى كتبه باللغة العربية الأسقف آغابيوس تحت عنوان الحوليات العالمية. وكان من جملة ما تطرق إليه هذا المؤلف أخبار عن يسوع مستمدة من الكتب القديمة بما في ذلك كتاب عاديات اليهود ليوسيفوس، الذي يبدو أنه كان محتفظا بنسخة منه مختلفة عن بقية النسخ التي وصلتنا، نسخة منقولة عن الأصل قبل تزويره، ومنه اقتبس هذا النص وأورده في مخطوطه: «في ذلك الزمان عاش إنسان حكيم دعوه يسوع، عاش حياة استقامة وعفة وصار له كثير من اليهود تلاميذ. حكم عليه بيلاطس بالموت صلبا، ولكن تلاميذه لم يتخلوا عنه. وقد قال هؤلاء إنه ظهر لهم حيا في اليوم الثالث بعد صلبه. وهم يفترضون أنه هو المسيح الذي تنبأ الأنبياء بموته.»
5
يبدو لنا هذا الخبر الذي أورده آغابيوس مكتوبا من قبل شخص موضوعي. فهو لم يقل إن يسوع هو المسيح بل قال إن تلاميذه يفترضون ذلك. ولم يقل إنه ظهر لتلاميذه حيا في اليوم الثالث وإنما عزا لتلاميذه هذا القول. من هنا يمكن اعتباره أقرب إلى الصيغة الأصلية التي أوردها يوسيفوس. ولعل مما يدعم هذا الرأي أن يوسيفوس قد أورد خبرا لاحقا عن يسوع، يتحدث فيه عن حادثة جرت نحو عام 62م عندما أعدم المجلس اليهودي «يعقوب أخا يسوع الذي يدعى المسيح» (ويعقوب هذا ورد اسمه بين إخوة يسوع في إنجيل متى 13: 55، وفي إنجيل مرقس 6: 3). إن الصيغة المختصرة لهذا الخبر وعدم تصدي المؤلف لمزيد من التعريف بيسوع، يدل على أنه اعتبر يسوع شخصية معروفة تماما ولا حاجة إلى التعريف بها. كما أن هذا الخبر الثاني يؤكد أصالة الخبر السابق.
6
ولكن ماذا يقول اليهود أنفسهم في يسوع؟ وهم المستفيد الأول من فكرة لا تاريخية يسوع لا سيما في جدالهم مع المسيحيين المنشقين عن اليهودية؟ إن وجهة نظر اليهود في يسوع تتخذ لدينا أهمية بالغة، لأن الأخبار التي تداولوها كانت أخبارا متصلة وغير منقطعة ومستمدة من عصر يسوع نفسه، فقد أورد كتاب التلمود رواية كانت متداولة بين اليهود مفادها أن يسوع قد ولدته امرأة تعمل ندافة من عشيقها الوثني بانتير. وقد سافر في شبابه إلى مصر حيث تعلم فنون السحر، وعندما عاد حوكم وأعدم رجما بالحجارة، ثم علق عشية عيد الفصح.
7
ونحن إذن صرفنا النظر عن الحقد اليهودي الذي ينضح من هذا الخبر لما وجدنا فيه إلا توكيدا على تاريخية يسوع. فلو لم يكن يسوع شخصا من لحم ودم، ولو أن أحدا ما قال في ذلك العصر إن يسوع كان شخصية مختلقة، لكان اليهود أسرع الجميع إلى إعلان ذلك، وحشد الوقائع للبرهنة عليه بدل التركيز على تشويه سمعته وسمعة أمه.
لقد تقصينا حتى الآن المصادر الخارجية التي تشهد على تاريخية يسوع، وهي المصادر نفسها التي ادعى بها أصحاب الرأي المخالف. ولكن ماذا عن مصادر كتاب العهد الجديد ذاتها؟ ولماذا تستبعد هذه المصادر من الجدال الدائر حول تاريخية يسوع؟ أليس من الممكن والمرجح أنها تحتوي على وقائع تاريخية جرى تقديمها في قالب وعظي ألقى ظلالا من الشك على مصداقيتها؟
لقد تحول بولس الرسول إلى المسيحية في أربعينيات القرن الأول، وراح يبشر بالمسيح الذي صلب من أجل خلاص العالم، وذلك بعد مضي نحو عقد واحد من الزمان على حادثة الصلب. ثم بدأ بكتابة رسائله المعروفة مع بداية خمسينيات القرن، والتي كان يجري تداولها على نطاق واسع بين المجموعات اليهودية المتنصرة قبل تدوين الأناجيل. فهل كان بولس يبشر بكائن أسطوري لم يوجد قط ولم يسمع أحد بصلبه على يد بيلاطس قبل عقدين من الزمان؟ إن بولس لم ير يسوع لكنه عرف الذين رأوه وسمعوه، وكان على صلة بكنيسة أورشليم، وكان يلتقي ببطرس ويوحنا وغيرهما من تلاميذ يسوع. فهل كان هؤلاء شخصيات ميثولوجية أيضا لم يعرفها ولم يسمع بها اليهود من مستمعي بولس؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف استطاع بولس استمالة عدد كبير من اليهود اليونانيين وكان بعضهم يحج إلى أورشليم ويعرف أخبارها، ويعرف بالتالي كذب ما يدعيه بولس؟
على أية حال، فإن بولس لم يرو لنا شيئا من سيرة حياة يسوع، ولم يبشر بيسوع الإنسان الذي عاش في فلسطين، وإنما بيسوع القائم من بين الأموات وبالآثار الخلاصية لصلبه وقيامته. وما علينا من أجل البحث عن يسوع التاريخي سوى الالتفات إلى الأناجيل الأربعة، من أجل إحداث شبكة من التقاطعات بين الأخبار الواردة فيها والأخبار التاريخية الموثقة. وهذا ما سوف نلتفت إليه فيما يلي من هذا البحث.
الإطار التاريخي للإنجيل
لقد ظهرت الأناجيل الأربعة في عصر موثق لنا كل التوثيق، ونعرف الكثير عن أحداثه وشخصياته. في ذلك العصر كانت الكتابة التاريخية قد بلغت درجة عالية من النضج، وكان أصحابها يتبعون مناهج متطورة في التوثيق وتقصي الحقائق. ولكن مؤلفي الأناجيل لم يكونوا مؤرخين بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، ولم يكن بين أيديهم وثائق مكتوبة عن حياة يسوع وما جرى له قبل عقود عديدة مضت، وإنما أخبار متداولة شفاهة تلونت عبر الزمن بالتطورات اللاهوتية ضمن الفكر المسيحي، وبالآراء ووجهات النظر المتخالفة للمجموعات المسيحية، فانتقى كل منهم ما انتقى وأسقط ما أسقط. وهم في اختيارهم للمعلومات لم يكونوا يتوخون الدقة التاريخية وإنما دعم وتقوية الإيمان، وتقديم الإرشاد للمجموعات المسيحية. هذه العملية الانتقائية قد ترافقت مع عملية تأويلية من شأنها إعادة صنع الحدث بطريقة خلاقة، لا مجرد روايته كما وصل إلى الكاتب. وعلى الرغم من ذلك فقد قدم لنا الإنجيليون إطارا جغرافيا وطبوغرافيا واضحا للحدث، وكان يسوع يتحرك على مسرح واقعي نستطيع مطابقته اليوم على خارطة فلسطين في تلك الأيام. كما قدموا لنا إطارا زمنيا عاشت فيه مجموعة من الشخصيات التاريخية الموثقة لنا بدقة في المصادر الخارجية، وأهمهم: (1)
هيرود الكبير، الذي عينه الإمبراطور أوغسطس ملكا على فلسطين، ثم ضم إلى ممتلكاته مناطق شرقي الأردن ووصلت سلطته إلى حوران في الجنوب السوري. وقد دام حكمه من عام 37ق.م. إلى عام 4ق.م. تميز هيرود بالقسوة والبطش، وحكم مملكته بقبضة من حديد، وكان متحمسا للثقافة الهيلينية كارها لليهود والثقافة اليهودية. اشتهر بأعمال البناء والتشييد، وكان من جملة أعماله إعادة بناء وتوسيع هيكل أورشليم وجعله درة معابد الشرق في زمانه. وحسب رواية متى فإن يسوع ولد في أواخر عهد هذا الملك. (2)
أرخيلاوس، ابن هيرود الكبير. عينه الرومان حاكما على مقاطعتي اليهودية والسامرة بعد تقسيم مملكة أبيه. وقد قمع عشية تسلمه للسلطة تمردا لليهود في أورشليم وقتل منهم ثلاثة آلاف. ولكن الإمبراطور أوغسطس خلعه من ملكه بسبب سوء حكمه عام 6م، وأعاد السلطة في المقاطعتين إلى ولاة رومانيين ، وفي عهده عادت العائلة المقدسة من مصر. (3)
هيرود أنتيباس (4ق.م-39م)، الابن الثاني لهيرود الكبير. عينه أوغسطس حاكما على الجليل وبيرايا (شرقي الأردن)، وبقي في منصبه أكثر من أربعين سنة. وعندما ارتقى العرش الإمبراطور كاليغولا غضب عليه ونفاه إلى ليون في فرنسا. يرتبط اسمه في الأناجيل الإزائية بمقتل يوحنا المعمدان، وبمحاكمة يسوع. (4)
فيليبس (4ق.م-34م)، الابن الثالث لهيرود الكبير. وقد أعطي حكم مناطق سوريا الجنوبية (الطراخونية في اللجاة، إيطورية في البقاع، والجولان). وبقي في نصبه نحو أربعين سنة، وارتبط اسمه في الإنجيل بظهور يوحنا المعمدان. (5)
كيرينيوس، المفوض العام الروماني في سوريا من عام 6 إلى 7م. وفي عهده جرى الإحصاء السكاني الذي تحدث عنه لوقا. (6)
بيلاطس البنطي (26-36م). الوالي الروماني على مقاطعتي اليهودية والسامرة، وكان مقره الرسمي في مدينة قيسارية على الساحل الفلسطيني لا في أورشليم، وكان يصعد إلى دار الولاية في أورشليم ليقضي للشعب هناك. ارتبط اسمه في الأناجيل بمحاكمة يسوع. (7)
قيافا، رئيس الكهنة في أورشليم من عام 27 إلى عام 36م. وكان منصب رئيس الكهنة في تلك الأيام في يد الإدارة الرومانية، تعين فيه من تشاء وتعزل من تشاء. (8)
حنان، أو حنانيا. رئيس الكهنة في أورشليم من عام 6 إلى 15م. خلعه الوالي الروماني على اليهودية فاليروس جراتوس واستبدله بأحد أولاده، ولكنه بقي أكثر الكهنة نفوذا وبقي يحمل لقب رئيس الكهنة. وكان حما الرئيس الفعلي قيافا الذي كان دمية بيده. ارتبط اسما هذين الكاهنين بمحاكمة يسوع. (9)
يوحنا المعمدان. وهو أيضا شخصية تاريخية موثقة، وقد أورد المؤرخ يوسيفوس عددا من الأخبار المتعلقة به، والتي نستطيع الآن مقاطعتها مع أحداث تاريخية معروفة مثل حرب ملك الأنباط الحارثة الثاني مع هيرود أنتيباس ملك الجليل. وقد بدأ التبشير في السنة الخامسة عشرة من حكم تيبيريوس (لوقا، 3: 1) أي عام 29م.
وقد ذكرت أسفار العهد الجديد عددا من الأباطرة الرومان ممن تعيننا فترات حكمهم على رسم الإطار التاريخي لأحداث الإنجيل، ومنهم أوغسطس وكلاوديوس وتيبيريوس.
إننا لا نستطيع لوم مؤلفي الإنجيل عما لم يوردوه، لأن ما أوردوه كان في رأيهم كافيا للغرض الذي من أجله دونت الأناجيل، وهو إعلان يسوع مسيحا يفتتح بقدومه الثاني ملكوت السماوات، وبالتالي فقد أسقطوا كل ما لا يمت بصلة إلى غرضهم هذا. يضاف إلى ذلك أن هؤلاء المؤلفين كانوا يكتبون مادتهم بعد مضي أكثر من أربعين سنة على الأحداث التي يروونها، وكانت الحرب اليهودية الرومانية (66-70م) قد أدت إلى مقتل الكثيرين ممن رأوا يسوع وسمعوا منه، وإلى ضياع الوثائق المكتوبة في حال وجودها. وعلى ما يقوله يوسيفوس فإن أكثر من مليون شخص قد لقوا حتفهم أثناء حصار أورشليم، ثم اقتحامها عام 70م وإحراقها وتدمير هيكلها، هذا عدا عن الذين قتلوا أثناء قيام القائد الروماني تيتوس بتمشيط الجليل وأراضي اليهودية قبل إلقائه الحصار على العاصمة. ففي الجليل موطن يسوع وتلاميذه قام الرومان بقتل كل قادر على حمل السلاح، حتى إن بحر الجليل (= طبريا) تحول إلى بركة من الدم والنار والجثث الطافية. وخلال عملية التمشيط هذه كان الناس يهربون من وجه الجيش الروماني نحو أورشليم المحصنة التي ضاقت بالعدد الكبير من النازحين إليها، وهذا هو السبب وراء ذلك العدد الكبير من القتلى الذي خلفه اقتحام المدينة. وأما الذين نجوا بحياتهم فقد بيعوا في أسواق النخاسة، حتى صار سعر العبد اليهودي أرخص من سعر الحمار، وبما أن المسيحيين في ذلك الوقت لم يكونوا قد تميزوا عن اليهود، فلا بد من أن عددا كبيرا منهم قد لقي حتفه، لا سيما وأن الوفيات كانت مرتفعة في صفوف العجز وكبار السن، وبينهم العديد ممن عاصروا أحداث الإنجيل. وأما من نجا بحياته من هؤلاء فقد صار إلى حالة من الشرود وبلبلة الذهن وضعف الذاكرة، لا تسمح له بتقديم شهادة متماسكة يركن إليها.
إن قليل المعلومات الذي حفظه لنا الإنجيليون قد لا يكفي في حد ذاته لوضع إطار تاريخي وكرونولوجي دقيق لسيرة يسوع، ولكنه يصلح لرسم شبكة من التقاطعات بين المفاصل الرئيسة للرواية الإنجيلية والمصادر الخارجية، تقودنا إما إلى إثبات هذه الرواية أو إلى نفيها. وهذا ما سنعمد إليه فيما يلي بعد استبعاد قصة الميلاد العذري وبقية الغيبيات الواردة في الأناجيل، لأنها تنتمي إلى مجال العقيدة والتقوى الدينية لا إلى مجال التاريخ. وقد اخترنا ثلاثة مفاصل رئيسة من أجل مقاطعتها مع ما صرنا نعرفه من أحداث تلك الفترة، وهي: الصلب، والظهور العلني بعد المعمودية، والميلاد.
ومصدرنا التاريخي الرئيس هو كتاب «عاديات اليهود
Antiquities of the Jews » للمؤرخ اليهودي يوسيفوس. (1) الصلب
نفهم من الرواية الإنجيلية أن نشاط يسوع التبشيري ابتدأ قبل زمن قصير من قيام هيرود أنتيباس بسجن يوحنا المعمدان، وأن صلبه حدث بعد زمن ليس بالبعيد من إعدام يوحنا، عندما كان بيلاطس واليا على اليهودية وقيافا رئيسا للكهنة. وهذا ما يعطينا شيئا ملموسا ننطلق منه. فلقد ابتدأت فترة ولاية بيلاطس على اليهودية والسامرة عام 27م، وانتهت إما في أواخر عام 36م أو في أوائل عام 37م، عندما أمره المفوض الروماني العام في سوريا المدعو فيتيليوس بالتوجه إلى روما من أجل استجوابه من قبل الإمبراطور تيبيريوس بخصوص التهم الموجهة إليه من قبل اليهود والسامريين بالقسوة والظلم وسوء استخدام السلطة. وبعد ذلك حضر فيتيليوس بنفسه إلى أورشليم في عيد الفصح من عام 37م، بعد أن وصلته أخبار عن تململ اليهود وإمكانية حدوث فتنة عامة نتيجة لفساد حكم بيلاطس، وهناك قام بعزل قيافا من منصب الكاهن الأعلى وعين آخر بدلا عنه. من هنا نستطيع تحديد آخر تاريخ ممكن لصلب يسوع وهو عيد الفصح من عام 36م.
ومن الممكن أيضا وجود صلة بين صلب يسوع وعزل الشخصيتين الرئيستين المسئولتين عن ذلك، أي بيلاطس وقيافا، وذلك مقارنة مع ما حدث بعد ذلك عام 62م، عندما جرى عزل رئيس كهنة آخر لأنه عقد اجتماعا غير قانوني للسنهدرين، واستصدر منه حكما بالموت رجما على يعقوب الأخ الأكبر ليسوع وأحد أعمدة كنيسة أورشليم، مستغلا فترة الفراغ الواقعة بين سفر الوالي القديم ووصول الوالي الجديد الذي يفترض به إعطاء الموافقة على أي اجتماع للسنهدرين.
1 (2) المعمودية والظهور العلني
يورد لنا مرقس الخبر التالي عن اعتقال يوحنا ومقتله: «كان هيرود (أنتيباس) قد أرسل إلى يوحنا من أمسكه وأوثقه في السجن، من أجل هيروديا امرأة أخيه فيلبس لأنه تزوجها (في حياة أخيه). فكان يوحنا يقول له: لا يحق لك أن تأخذ امرأة أخيك. وكانت هيروديا ناقمة عليه تريد قتله فلا تستطيع، لأن هيرود كان يهاب يوحنا لعلمه أنه رجل قديس وبار، وكان يحميه. وجاء يوم مؤات لها إذ أقام هيرودوس مأدبة في ذكرى مولده للأشراف والقواد وأعيان الجليل. فدخلت ابنة هيروديا ورقصت فأعجبت هيرود والمدعوين. فقال الملك للفتاة: سلي ما شئت أعطيك. وأقسم لها. فخرجت وسألت أمها ماذا أطلب؟ فقالت: رأس يوحنا المعمدان على طبق. فاغتم الملك، ولكنه من أجل الأيمان التي أقسمها بمسمع من المدعوين لم يشأ أن يرد طلبها. فأرسل الملك من ساعته حاجبا وأمره بأن يأتي برأسه، فمضى وضرب عنقه في السجن وأتي بالرأس على طبق» (مرقس، 6: 16-29 قارن مع متى 14: 3-12).
يورد لنا يوسيفوس خبرا مشابها للرواية الإنجيلية، ولكنه يضيف إليه أحداثا تساعدنا في مهمتنا الاستقصائية هذه. فبعد زواج هيرود من امرأة أخيه فيلبس (الابن الثالث لهيرود الكبير)، لم تقبل زوجته الأولى ابنة الحارثة (الرابع) ملك الأنباط (9ق.م.-40م) بهذا الوضع، وفرت عائدة إلى عاصمة أبيها في البتراء. وردا على هذه الإهانة قرر الحارثة شن الحرب على هيرود وراح يعد العدة لذلك وينتظر الظروف المؤاتية، وعندما سمع هيرود بخروج الحارثة إليه، دفع قواته إلى قلعة مخايروس الواقعة إلى الشرق من البحر الأحمر على الحدود الفاصلة بين ممتلكاته وممتلكات الحارثة، واتخذ منها مقرا لقيادته. وإلى هذه القلعة ساق يوحنا سجينا لخوفه من تأليب الشعب عليه خلال هذه المرحلة، ثم أمر بإعدامه. في شتاء عام 35-36م وقع الصدام بين الجانبين ومني هيرود بهزيمة منكرة أمام قوات الحارثة، فعاد إلى الجليل وأرسل إلى راعيه الإمبراطور تيبيريوس يطلب منه عونا على الحارثة. فأمر الإمبراطور مفوضه العام على سوريا فيتيليوس (الذي استلم مهام منصبه عام 35م) أن يجرد حملة ضد الأنباط ويأتي بالحارثة مكبلا بالأصفاد أو يبعث إليه بخبر مقتله. وعندما استكمل فيتيليوس استعداداته من أجل الخروج إلى الحارثة، جاءه خبر وفاة الإمبراطور تيبيريوس التي حصلت في شهر آذار/مارس من عام 37م. فتريث في انتظار تعليمات جديدة.
2
اعتمادا على رواية يوسيفوس هذه، وما زودنا أحداثها بتواريخ مما صرنا نعرفه الآن، نستطيع وضع مقتل يوحنا في عام 35م وعلى الأرجح في أواخر الربيع قبل بضعة أشهر من المعركة التي جرت في شتاء 35-36م بين الحارثة وهيرود. وعليه فإن معمودية يسوع (وظهوره العلني) قد جرت إما في أواخر عام 34م أو في مطلع ربيع عام 35م. وهذا ما يتفق والتاريخ الذي استنتجناه لصلبه وهو ربيع عام 36م. (3) الميلاد
يقول لنا متى إن يسوع قد ولد في عهد الملك هيرود الكبير في بيت لحم، وإن يوسف النجار قد هرب مع أسرته إلى مصر؛ لأن هيرود كان يطلب قتل الطفل يسوع. وعندما سمع بخبر وفاة هيرود عاد إلى اليهودية ليجد أرخلاوس بن هيرود حاكما على اليهودية. وبما أن هيرود قد توفي عام 4ق.م. فإن مدة سفر العائلة المقدسة إلى مصر وإقامتها فيها ثم العودة إلى اليهودية قد استغرقت على أقل تقدير عامين من الزمان، وعليه تكون ولادة يسوع قد وقعت عام 6ق.م. وهذا يعني اعتمادا على استنتاجاتنا السابقة، أن يسوع قد باشر كرازته وهو في سن الواحدة والأربعين (6ق.م. + 35م)، وأنه صلب وهو في سن الثانية والأربعين. وهذا مستبعد لأنه حينها كان على أبواب الكهولة، بينما تكشف لنا سيرته عن شباب متدفق وحيوية بالغة، ولأن لوقا يقول لنا: «وكان يسوع في بدء رسالته في نحو الثلاثين من عمره» (لوقا، 3: 23). فهل سنجد عند لوقا ما يؤيد استنتاجاتنا؟
يقول لنا لوقا: إن يسوع ولد في سنة الإحصاء العام الذي أمر به القيصر أوغسطس عندما كان كيرينيوس مفوضا عاما في سوريا. ونحن نعلم سواء من يوسيفوس أم من المصادر الرومانية أن هذا الإحصاء كان يجري كل أربع عشرة سنة من أجل تحديث قوائم المكلفين بالضريبة، وأن الإحصاء المذكور عند لوقا قد جرى نحو عام 6م. وهذا يعني أن يسوع في بدء رسالته عام 35م كان له تسع وعشرون سنة، وأنه صلب وهو في نحو الثلاثين، الأمر الذي يأتي في اتفاق مع روح النص الإنجيلي ومع نتائجنا.
ولدينا في الإنجيل أحداث تدل على أن السنة التي بشر بها يسوع كانت سنة التحصيل الضرائب على إجمالي الدخل (= ضريبة مقطوعة) من المكلفين الذين وردت أسماؤهم في قوائم الإحصاء الذي كان يتم كل 14 سنة، وكانت هذه الضريبة تدعى بضريبة القيصر. فإذا كانت سنة الإحصاء التي ولد فيها يسوع تؤرخ ب 6م على ما أوردناه أعلاه، فإن سنة الإحصاء التالية ستكون في عام 20م (6 + 14)، والتي تليها في عام 34م (20 + 14). وبناء على ذلك يكون عام 35م هو عام تحصيل الضرائب التي أعدت قوائمها في العام السابق.
من هذه الأحداث الدالة على سنة الإحصاء، أن الكهنة أرسلوا إلى يسوع جواسيس ليأخذوه بكلمة ضد روما فيسلمونه إلى المحكمة. فجاءوا وسألوه: يا معلم، أيحل لنا أن ندفع الجزية إلى قيصر؟ ففطن لمكرهم فقال لهم: أروني دينارا! لمن الصورة التي عليه والكتابة؟ فقالوا: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذن لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله (لوقا، 20: 20-26 قارن مع مرقس 12: 13-17 ومع متى 22: 15-22). وقبل ذلك حصل لغط بين اليهود؛ لأن يسوع اختار في مدينة أريحا أن يبيت في منزل عشار (= جابي ضريبة) اسمه زكا، وقالوا إنه يحب مخالطة الخاطئين وحثالة الناس (لوقا، 19: 1-7). ومن الأقوال المبكرة ليسوع التي لا يمكن فهمها إلا في ضوء سنة الإحصاء وتحصيل الضريبة، إعلانه في نهاية خطابه الأول في مجمع الناصرة أنه «يركز بسنة مقبولة للرب» (لوقا، 4: 16-19). أي أنه أعلن سنته هذه سنة مقدسة في مقابل إعلانها من قبل السلطات الرومانية سنة إحصاء ضريبي وتحصيل. ومما يدل على أن الناس في تلك السنة قد رزحوا تحت أثقال ضرائب باهظة، أن المفوض الروماني فيتيليوس عندما قدم إلى أورشليم في السنة التالية (راجع أعلاه) قد أعفى المواطنين من ضريبة الثمار والخضار، في محاولة منه للتخفيف من تذمر الناس. ومثل هذا الإجراء كان من صلاحياته على عكس ضريبة القيصر.
لقد ترافقت سنة كرازة يسوع مع فترة تميزت بالاضطراب والغليان. فهيرود أنتيباس المكروه من قبل الجليليين كان في حالة حرب مع الحارثة، وقد حرك قواته العاملة في شرقي الأردن، وهو يخشى من انتفاضة شعبية ضده لا سيما بعد إعدامه ليوحنا المعمدان. وكانت تصله أخبار كرازة يسوع وتبشيره بقرب حلول ملكوت الرب، الأمر الذي ضاعف من قلقه من تأثير هذا المبشر الجديد الذي خلف يوحنا، وكان يفكر جديا بالتخلص منه.
أما بيلاطس فقد أثار نقمة اليهود عليه عندما استخدم أموال الهيكل المقدسة لتمويل مشروع جر مياه الشرب إلى أورشليم، فخرجت الحشود تندد بهذا الانتهاك لحرمة الهيكل، ولكن بيلاطس دس بينهم شرطته السريين الذين انقضوا عليهم طعنا بالخناجر عندما رفضوا الأوامر بالتفرق، وقتلت منهم خلقا كثيرا ويوسيفوس الذي ينقل لنا هذا الخبر، ينتقل بعده مباشرة إلى القول: «في ذلك الزمان عاش إنسان حكيم اسمه يسوع ...» ويبدو أن عددا من الجليليين كانوا بين المحتجين وأوقع جنود بيلاطس بينهم إصابات قاتلة. ولدينا في إنجيل لوقا خبر مقتضب وغامض لا يمكن تفسيره إلا على ضوء هذه الواقعة: «وكان حاضرا في ذلك الوقت قوم يخبرونه عن الجليليين الذين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم» (لوقا، 13: 1).
ولم تكن علاقة بيلاطس مع السامريين أفضل حالا. فقد كان اليهود السامريون في ذلك الوقت يتوقعون أيضا شخصية مسيحانية يدعى الطاحب، سوف يستخرج لهم تابوت العهد ومحتوياته من تحت جبل جرزيم حيث دفن هناك منذ زمن بعيد. ثم ظهر رجل ادعى أنه الطاحب المنتظر تبعه خلق كثير سار بهم إلى جبل جرزيم. ولكن بيلاس رأي في هذه الدعوة الدينية بداية فتنة سياسية، فأرسل قوة عسكرية لقمعها وقتل الكثيرين من أتباع الطاحب ثم حاكم قادة الحركة وأعدمهم. فكتب مجلس السامريين إلى المفوض فيتيليوس يتهمون بيلاطس بقتل الأبرياء. هذه الحادثة التي يرويها يوسيفوس تلقي ضوءا على موقف يسوع الحذر من لقب المسيح، نقرأ في إنجيل لوقا: «فقال لهم: وأنتم من تقولون إني أنا؟ فأجاب بطرس: مسيح الله. فانتهرهم وأوصى ألا يقولوا ذلك لأحد» (لوقا، 9: 20-21). وفي إنجيل متى: «حينئذ أوصى تلاميذه ألا يقولوا لأحد عنه أنه يسوع المسيح» (متى، 16: 20).
إن هذا العرض السريع للأوضاع العامة في فلسطين خلال حياة يسوع، وما بيناه من تقاطع أحداث تلك الفترة وشخصياتها مع المفاصل الرئيسة وبعض الأحداث العابرة وغير المفهمة أحيانا في الرواية الإنجيلية، يجعل حياة يسوع ترتسم أمام أعيننا على خلفية تاريخية واضحة كل الوضوح، كما يجعل من القول بلا تاريخية يسوع أطروحة لا يمكن الدفاع عنها.
بقي علينا أن نوضح واحدة من مفارقات التاريخ، وهي ولادة يسوع المسيح وفق تقويمنا السائد (الذي يستند إلى قصة الميلاد عند متى) قبل سنوات من بداية التاريخ الميلادي، لا في اليوم الأول من السنة الميلادية المتعارف عليها. فهذه المفارقة راجعة إلى خطأ ارتكبه أول من خطرت له فكرة تقسيم التاريخ إلى ما قبل ميلاد يسوع وما بعده، وهو الراهب
Dionysius Exigus
الذي عاش في روما في القرن السادس الميلادي ووضع أول تقويم يقوم على سنة ميلاد يسوع، والتي اعتبرها متطابقة مع سنة وفاة الملك هيرود الكبير، ولكنه أخطأ في حساب تاريخ وفاة هيرود ودفعه إلى الأمام أربع سنوات. وعندما قامت الدراسات اللاحقة بتصحيح تاريخ وفاة هيرود وجعلته عام 4ق.م. بقي التقويم على حاله.
لغز إخوة يسوع
كانت أسرة يوسف ومريم تضم إلى جانب يسوع البكر أربعة إخوة له وأختين. عن هؤلاء الإخوة لا نعرف إلا أقل من القليل؛ فقد أشار إليهم مرقس ومتى مرتين بشكل عابر، المرة الأولى في معرض تعجب أهل الناصرة عندما سمعوا كلمات الحكمة التي تخرج من فم يسوع، فقالوا: «أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان؟ أوليست أخواته ها هنا عندنا» (مرقس، 6: 3). وفي الموضع المقابل عند متى نقرأ: «أليس هذا ابن النجار؟ أليست أمه تدعى مريم وإخوته يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا؟ أوليست أخواته جميعا عندنا» (متى، 13: 55). ويرد ذكر الإخوة عند مرقس ومتي مرة ثانية عندما جاءت أم يسوع وإخوته يطلبونه وهو يكلم الجموع: «فجاء حينئذ إخوته وأمه ووقفوا خارجا وأرسلوا إليه يدعونه. وكان الجمع جالسا حوله، فقالوا له : هو ذا أمك وإخوتك خارجا يطلبونك. فأجاب قائلا: من أمي ومن إخوتي؟ ثم نظر حوله إلى الجالسين وقال: ها أمي وإخوتي. لأن من يصنع مشيئة الله، هو أخي وأختي وأمي» (مرقس، 3: 31-35. قارن مع متى، 12: 46-50). وعلى الرغم من أن متى ومرقس لم يذكرا لنا عدد الأخوات أو أسماءهن، إلا أن المؤلفين المسيحيين في القرون الأولى للميلاد، مثل إبيفانوس، قالوا: بأنهن اثنتان واحدة تدعى مريم والأخرى سالومي.
1
أما لوقا ثالث الإزائيين، فقد تجاهل قائمة الأسماء التي أوردها مرقس ومتى، ولا نستخلص منه إشارة ولو عابرة إلى وجود إخوة ليسوع أو أخوات.
فإنا انتقلنا إلى يوحنا وجدنا لديه إشارتين إلى إخوة يسوع؛ الأولى عندما قال بشكل عابر إن يسوع بعد عرس قانا الذي حول فيه الماء إلى خمر: «انحدر إلى كفر ناحوم هو وأمه وإخوته وتلاميذه وأقاموا هناك» (يوحنا، 2: 12). أما الإشارة الثانية فتستحق أن نتوقف عندها لأنها تقدم لنا مدخلا لفهم موقف إخوة يسوع منه، فهم إلى جانب عدم الإيمان برسالته قد سعوا إلى وقوعه في أيدي السلطات اليهودية: «وكان عيد الخطال عند اليهود قريبا. فقال له إخوته: انتقل من هنا واذهب إلى اليهودية لكي يرى تلاميذك أيضا أعمالك التي تعمل، لأنه ليس أحد يعمل شيئا في الخفاء وهو يريد أن يكون علانية. إن كنت تعمل هذه الأشياء فأظهر نفسك للعالم. لأن إخوته لم يكونوا يؤمنون به. فقال لهم يسوع: إن وقتي لم يحضر بعد أما وقتكم ففي كل حين حاضر. لا يقدر العالم أن يبغضكم ولكنه يبغضني أنا لأني أشهد عليه بأن أعماله شريرة. اصعدوا أنتم إلى هذا العيد، أنا لست أصعد بعد» (يوحنا، 7: 2-8). هذا الموقف الذي يعبر عنه يوحنا أوضح تعبير في هذا الخبر، يأتي في انسجام مع ما أورده مرقس من أن أسرة يسوع جاءت للقبض عليه لأنهم اعتبروه فاقد الرشد: «ولما سمع أقرباؤه خرجوا ليمسكوه لأنهم قالوا إنه مختل» (مرقس، 3: 21).
إن عقيدة العذرية الدائمة لمريم لا تجد سندا لها في الأناجيل الأربعة، كما أن لقب «العذراء» بالمعنى اللاهوتي اللاحق لم يسبغ على مريم في أي من أسفار العهد الجديد. فهذه العقيدة لم تترسخ إلا بعد أن قال بها اللاهوتي أبيفانوس في أواخر الرابع الميلادي، وقبل ذلك كان المؤلفون المسيحيون يشيرون إلى إخوة يسوع على أنهم «إخوة الجسد»، وهذا يعني أنهم أشقاؤه من نفس الأب والأم.
2
بعد تبني هذه العقيدة كان على الكنيسة أن تخرج بتفسير لوجود إخوة ليسوع؛ فقال فريق من اللاهوتيين إن صفة «الإخوة» كانت تشمل عند اليهود أبناء العمومة أو أبناء الخئولة، فهم والحالة هذه إما أولاد أخت مريم أو أولاد أخي يوسف. وقد شاع بين مؤرخي الكنيسة الأوائل اعتمادا على أخبار متداولة أن أخا يوسف النجار كان يدعى كلوبا. وفي الحقيقة فقد كان الشائع بين اليهود إطلاق صفة الإخوة على أبناء العمومة أو أبناء الخئولة، ولكن هذه الحالة لا تنطبق على إخوة يسوع لأننا نراهم على الدوام في صحبة مريم أو في صحبة مريم ويسوع، على ما ورد لدى متى ومرقس: «فبينما هو يكلم الجموع إذا أمه وإخوته خارجا يطلبون أن يكلموه» (متى، 12: 46. قارن مع مرقس، 3: 31)، وعلى ما ورد أيضا لدى يوحنا: «وبعد هذا انحدر إلى كفر ناحوم هو وأمه وإخوته وأقاموا هناك» (يوحنا، 2: 12). وهذا يعني أن هؤلاء الإخوة كانوا جزءا من أسرة يسوع يقيمون معه في بيت واحد، ولم يكونوا أبناء عمومة أو أبناء خئولة.
وقال فريق آخر من اللاهوتيين في إخوة يسوع بأنهم كانوا أولاد يوسف النجار من زواج سابق. ويبدو أنهم في اجتهادهم هذا قد استلهموا أناجيل الطفولة المنحولة التي يظهر فيها يوسف كرجل عجوز وله أولاد من زوجة متوفاة. فعندما استدعى الكاهن الأكبر زكريا كل الرجال الأرامل وأجرى القرعة بينهم على من يكفل مريم التي أنهت فترة إقامتها في الهيكل كمنذورة للرب، ثم يتزوجها بعد ذلك، وقعت القرعة على يوسف، ولكن يوسف تخوف من حمل هذه المسئولية وقال لزكريا: «إنني شيخ وعندي أولاد أما هي فعذراء فتية، وأخشى أن أصبح موضع سخرية بين أبناء إسرائيل.»
3
وقال فريق ثالث بأن هؤلاء الإخوة قد ولدتهم مريم ليوسف بعد يسوع، وهم إخوته الأشقاء بالجسد. وهذا الرأي يجد سندا له من إنجيل متى الذي قال: «إن يوسف النجار لم يعرف مريم حتى وضعت ابنها البكر» (متى، 1: 25). أي إن الخلوة الزوجية لم تحصل بين الطرفين قبل ولادة يسوع وإنما بعدها. وقد أخذت الكنيسة الغربية بالرأي الأول الذي يقول بأن إخوة يسوع هم أبناء خئولة أو عمومة له، بينما أخذت الكنيسة الشرقية بالرأي الثاني القائل بأنهم أولاد يوسف وإخوة غير أشقاء ليسوع. أما الرأي الثالث فقد أسقطته الكنيسة ولا يأخذ به الآن إلا الباحثون العلمانيون.
ولكن هنالك مفاجأة أخرى تنتظرنا فيما يتعلق بإخوة يسوع. فمؤلف إنجيل لوقا الذي تجاهل وجود إخوة ليسوع مثلما تجاهل أي دور لمريم في حياة يسوع التبشيرية، يقول لنا في الإصحاح الأول من سفر أعمال الرسل المنسوب إليه إن أم يسوع وإخوته كانوا بين تلاميذ يسوع الذين كانوا يجتمعون معا للصلاة بعد أن صعد عنهم يسوع إلى السماء: «وهؤلاء كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة مع النساء، ومريم أم يسوع، ومع إخوته» (أعمال، 1: 14). فأين كانت مريم قبل ظهورها الفجائي هذا؟ وكيف تحول إخوة يسوع إلى الدين الجديد، وهم الذين لم يؤمنوا برسالته (يوحنا، 7: 5)، والذين حاولوا وضعه تحت الحجر لأنهم اعتبروه مختل العقل (مرقس، 3: 21)، ولماذا غابت أم يسوع بعد هذه الإشارة العابرة إليها، ولم يأت مؤلف أعمال الرسل على ذكرها مرة أخرى؟
إن ظهور أم يسوع المفاجئ في سفر الأعمال يمكن قبوله مع كثير من التحفظ، وذلك اعتمادا على إنجيل يوحنا؛ حيث ظهرت أم يسوع فجأة أيضا عند صليبه بعد غيابها عن جميع أحداث الإنجيل عقب قصة عرس قانا التي جرت في مطلع الأحداث، والروايتان تؤيدان بعضهما بعضا على الرغم مما فيهما من غرابة. أما ظهور إخوة يسوع بين التلاميذ في سفر أعمال الرسل، فلا يمكن تفسيره بسبب موقفهم الذي أوضحه النص من يسوع خلال السنة التي سبقت صلبه. فمن هم أولئك الذي دعاهم لوقا بإخوة يسوع في أعمال الرسل بعد أن تجاهل في إنجيله وجود إخوة له؟ من أجل حل هذا اللغز سوف نلتفت إلى حل لغز آخر هو لغز مريم الأخرى التي ورد ذكرها بين النساء اللواتي رافقن يسوع وحضرن واقعة صلبه.
في مشهد الصلب نقرأ عند مرقس ما يلي: «وكانت نساء ينظرن من بعيد، بينهن: مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وسالومة، اللواتي تبعنه وخدمنه حين كان في الجليل» (مرقس، 15: 40-41). وفي السياق نفسه، نقرأ عند متى: «وكانت هناك نساء كثيرات ينظرن من بعيد، وهن كن قد تبعن يسوع من الجليل يخدمنه، وبينهن: مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وأم ابني زبدي» (متى، 27: 55-56). وبعد أن أودع جثمان يسوع في القبر يقول لنا متى: «وبعد السبت جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظرا القبر، وإذا زلزلة عظيمة حدثت ... إلخ» (متى، 28: 1-2).
ولنقارن الآن قائمتي الأسماء في الروايتين بعد تغيير ترتيب الأسماء في كل قائمة:
مرقس:
سالومة - مريم المجدلية - مريم أم يعقوب ويوسي.
متى:
أم ابني زبدي - مريم المجدلية - مريم أم يعقوب ويوسي (= الأخرى).
إن المقارنة بين القائمتين تقودنا إلى الاستنتاج بأن مريم أم يعقوب ويوسي هي نفسها مريم الأخرى، وأن سالومة هي نفسها أم ابني زبدي، أي يعقوب ويوحنا صيادي السمك.
لوقا لم يذكر لنا أسماء النساء اللواتي كن ينظرن واقعة الصلب، واكتفى بالقول: «وكان جميع معارفه ونساء كن قد تبعنه من الجليل واقفين من بعيد ينظرون ذلك» (لوقا، 23: 49). أما يوحنا فيقدم لنا قائمة جديدة بأسماء النسوة؛ حيث يقول: «وكانت واقفات عند صليب يسوع: أمه، وأخت أمه مريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية» (يوحنا، 19: 25). إن قائمة يوحنا هذه قد تبدو لأول وهلة مختلفة تماما عن قائمة مرقس ومتى، إلا أننا بعد المقارنة وإنعام النظر سنجد أنها لا تختلف إلا في إحلال أم يسوع محل سالومة (أم ابني زبدي)، لأن زوجة كلوبا المدعوة أيضا مريم هي نفسها مريم الأخرى أم يعقوب ويوسي، على ما تبينه المقارنة التالية:
مرقس:
سالومة - مريم المجدلية - مريم أم يعقوب ويوسي.
متى:
أم ابني زبدي - مريم المجدلية - مريم أم يعقوب ويوسي (الأخرى).
يوحنا:
أم يسوع - مريم المجدلية - مريم زوجة كلوبا.
وكما نلاحظ فقد حلت أم يسوع في قائمة يوحنا محل سالومة أم ابني زبدي، وبقيت مريم الأخرى أم يعقوب ويوسي التي عرفها لنا بأنها أخت أم يسوع زوجة كلوبا.
ولكن من هو كلوبا (= كليوباس/
Cleophas
في الأصل اليوناني)؟ في غير هذا الموضع من إنجيل يوحنا لم يرد في بقية الأناجيل اسم كلوبا إلا مرة واحدة عند لوقا باعتباره أحد تلاميذ يسوع. ففي اليوم الثاني للصلب كان اثنان من التلاميذ منطلقين إلى قرية قريبة من أورشليم: «وكانا يتكلمان بعضهما مع بعض عن جميع هذه الحوادث، وفيما هما يتحاوران اقترب إليهما يسوع نفسه وكان يمشي معهما، ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته. فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسان؟ فأجاب أحدهما الذي اسمه كليوباس وقال له ... إلخ» (لوقا، 24: 13-19). ولكن التاريخ الكنسي أورد معلومات عن كلوبا هذا، وقال بأنه أخ ليوسف النجار. وهذه المعلومة جاءتنا من الكاتب المسيحي هيجسبوس الذي عاش في أواسط القرن الثاني الميلادي، وجمع في مؤلف له ما استطاع جمعه واستقصاءه عن المسيحيين الأوائل، ولكن مؤلفه قد ضاع وبقيت منه شذرات وردت بشكل رئيسي في كتاب تاريخ الكنيسة لأوزيب القيساري من القرن الرابع الميلادي.
4
كما نقل لنا أوزيب هذا عن هيجسبوس أيضا أن كلوبا عم يسوع هذا كان له ابن يدعى سمعان استلم قيادة كنيسة أورشليم عام 62م.
5
وبذلك نحصل على قائمة بأولاد كلوبا عم يسوع وزوجته مريم تضم كلا من: يعقوب ويوسي وسمعان. وهؤلاء أولاد عم يسوع، أي إخوته بالمفهوم اليهودي لذلك الزمان.
إلا أن هذه القائمة بأولاد أخت مريم زوجة كلوبا تبدي لنا بعض الغرابة لأنها تحتوي على ثلاثة من أسماء أولاد يوسف النجار ومريم أم يسوع، وهم: يعقوب ويوسي وسمعان (راجع القائمة الأولى عند مرقس، 6: 3؛ ومتى، 13: 55) أي إن مريم زوجة يوسف وأختها زوجة كلوبا أخي يوسف وتدعى مريم أيضا هما سلفتان متزوجتان من أخين، وأنجبت كل منهما ثلاثة أولاد يدعون بالأسماء نفسها. من أجل حل هذه المعضلة، اقترح البعض قراءة نص إنجيل يوحنا المتعلق بأسماء النسوة اللواتي كن حاضرات في مشهد الصلب ليغدو على الشكل التالي: «وكانت واقفات عند صليب يسوع: أمه، وأخت أمه، ومريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية»
6
وبذلك يكون عدد الحاضرات هو أربع نساء بدلا من ثلاثة على ما تبينه المقارنة التالية:
النص الأصلي:
أم يسوع - أخت أمه مريم زوجة كلوبا - مريم المجدلية.
القراءة المقترحة:
أم يسوع - أخت أمه - مريم زوجة كلوبا - مريم المجدلية.
هذا الاستنتاج المنطقي هو الذي يقودنا إلى إلغاء التعارض بين الأناجيل التي بينت لنا بوضوح الموقف السلبي لإخوة يسوع منه ومن رسالته، وبين سفر أعمال الرسل الذي يفاجئنا في إصحاحه الأول بوجود إخوة ليسوع مع التلاميذ بعد أن ارتفع عنهم. فهؤلاء الإخوة المذكورون في سفر الأعمال ليسوا أولاد مريم امرأة يوسف بل أولاد مريم زوجة كلوبا عم يسوع.
على أن بعض المؤلفين المعاصرين اليهود ممن كتبوا في سيرة يسوع لهم رأي آخر في حل مشكلة تشابه أسماء أولاد مريم زوجة يوسف وأسماء أولاد مريم زوجة كلوبا، مفاده أن المريمتين هما في حقيقة الأمر واحدة، وأن في القصة سرا حاولت الأناجيل إخفاءه. ولنتابع هذا الرأي المتطرف لدى الكاتب جيمس طابور الذي ناقش المشكلة على الوجه التالي:
لدينا سبب وجيه للافتراض بأن يوسف النجار قد مات في وقت مبكر من حياة يسوع. فبعد قصص الميلاد يختفي يوسف ولا يظهر ثانية في أي حدث من أحداث الإنجيل. فعندما جاءت أم يسوع وإخوته ووقفوا خارجا يطلبونه (متى، 12: 46-50) لم يكن يوسف بينهم، وعندما انتقل يسوع مع أمه وإخوته ليقيم في كفر ناحوم (يوحنا، 2: 12) لم يكن يوسف معهم، وكذلك الأمر خلال الأحداث العاصفة للأسبوع الأخير من حياة يسوع، وعند اجتماع التلاميذ بعد صعوده عنهم ومعهم إخوة يسوع وأمه (أعمال، 1: 12-14). وعلى الأرجح فإن يوسف قد مات دون أولاد لأنه لم يكن الأب الجسدي ليسوع. وبناء عليه، ووفق شريعة التوراة، كان على الأخ الأعزب أن يتزوج امرأة أخيه المتوفى لكيلا ينقطع نسله. وهذه القاعدة الشرعية موضحة في سفر التثنية 25: 5-10. كما جرت الإشارة إليها في إنجيل مرقس 12: 18-23. ثم يخلص المؤلف من مناقشته الطويلة لبعض نصوص الإنجيل إلى أن أخا يوسف المدعو كلوبا قد تزوج أم يسوع وأنجب منها يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا، الوارد ذكرهم في الأناجيل على أنهم إخوة يسوع. وبالتالي لا يوجد لدينا قائمتان بأسماء أولاد المريمتين وإنما قائمة واحدة بأسماء أولاد مريم أم يسوع من زوجها الثاني كلوبا.
7
من بين إخوة يسوع أولاد كلوبا، هنالك شخصية تستحق أن نتوقف عندها، وهو يعقوب الذي دعاه بولس بأخي الرب، في معرض حديثه عن زيارته لأورشليم ولقائه لبعض المسئولين عن الجماعة المسيحية الأولى فيها. (1) لغز يعقوب أخو الرب
في سفر أعمال الرسل الذي يروي عن نشاط أتباع يسوع بعد صعوده. يقول لنا لوقا في الإصحاح الأول: إن الرسل الأحد عشر بعد أن ارتفع يسوع عنهم، «رجعوا إلى أورشليم من جبل الزيتون وصعدوا إلى العلية التي كانوا يقيمون فيها، وكانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة مع النساء اللواتي تبعن يسوع، ومع مريم أم يسوع ومع إخوته» (أعمال، 1: 9-14)، ثم يقول لنا إنه بعد بضعة أيام دعا بطرس جميع أتباع يسوع من التلاميذ وكان عددهم نحو مائة وعشرين من أجل اختيار رسول ثاني عشر ليحل محل يهوذا الإسخريوطي الذي مات بعد خيانته ليسوع، فوقع الاختيار على متياس فحسب مع الأحد عشر رسولا (أعمال، 1: 15-26). في هذا الخبر، يبدو لنا بطرس كرئيس الكنيسة أورشليم الناشئة، على الرغم من أن الكاتب لا ينص صراحة على ذلك. وهذا الاستنتاج تدعمه حقيقة أن بطرس كان أبرز الرسل الاثني عشر خلال حياة يسوع، وكان مع يوحنا ويعقوب (ابنا زبدي) الأقرب إليه من البقية. كما تدعمه مسيرة أحداث سفر الأعمال حيث نجد بطرس في أكثر من موضع يقف ويخطب في التلاميذ ويعطي تعليماته إليهم. وهو يظهر مع يوحنا ابن زبدي في بعض المفاصل الرئيسية من حياة الجماعة المسيحية الأولى. فقد شفيا مقعدا باسم يسوع الناصري (3: 1-10). وكانا يخطبان في الشعب عندما أرسل الكهنة وقبضوا عليهما وأودعا في السجن (4: 1-22). وتوجها معا إلى السامرة للتبشير بين أهلها (8: 14-25).
في سياق رواية أعمال الرسل نتعرف على اثنين من التلاميذ يحملان اسم يعقوب، الأول يعقوب ابن زبدي أخو يوحنا الذي قتله الملك أغريبا الأول الذي عينه الرومان حاكما على اليهودية والسامرة من عام 40 إلى عام 44م: «وفي ذلك الوقت مد هيرودوس (أغريبا) يديه ليسيء إلى أناس من الكنيسة، فقتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف. وإذ رأى أن ذلك يرضي اليهود عاد فقبض على بطرس أيضا» (12: 1-3). ولدينا تلميذ آخر يدعى يعقوب أشار إليه مؤلف سفر الأعمال ثلاث مرات؛ المرة الأولى بعد خروج بطرس من السجن عندما جاء إلى بيت مرقس حيث كان عدد من التلاميذ مجتمعين هناك، فقال لهم: «أخبروا يعقوب والإخوة بهذا. ثم خرج وذهب إلى موضع آخر» (12: 11-17). وفي المرة الثانية عندما وقف شخص اسمه يعقوب وتكلم في اجتماع للتلاميذ فحدد واجبات المنتمين إلى المسيحية من الوثنيين تجاه الشريعة، وحصرها بالامتناع عن السجود للأصنام، وعن الزنا، وعن أكل الدم ولحم الحيوانات المخنوقة (15: 13-21). وفي المرة الثالثة عندما عاد بولس إلى أورشليم من رحلته التبشيرية: «ولما وصلنا إلى أورشليم قبلنا الإخوة بفرح، وفي الغد دخل بولس معنا إلى يعقوب وحضر جميع المشايخ» (أعمال، 21: 17-18). فمن هو يعقوب الذي يبدو في هذه الإشارات على اقتضابها شخصية قيادية في الحركة المسيحية الناشئة؟
إن الاعتماد على سفر أعمال الرسل من أجل تحديد هوية يعقوب، يقودنا إلى القول بأنه يعقوب بن حلفي الوارد ذكره في قائمة أسماء الرسل الاثني عشر لدى كل من مرقس 3: 16-19 ومتى 10: 2-4 ولوقا 6: 13-16. ولكن بولس في رسالته إلى أهالي غلاطية يقول: إنه في زيارته الأولى لأورشليم بعد ثلاث سنوات من اهتدائه، زار بطرس لكي يتعرف عليه ومكث عنده خمسة عشر يوما، ولكنه لم ير غيره من الرسل إلا يعقوب أخا الرب (غلاطية، 1: 18-19). وفي الإصحاح الثاني من الرسالة نفسها يقول بأنه زار أورشليم للمرة الثانية بعد أربع عشرة سنة، حيث التقى «يعقوب وصفا (= بطرس) ويوحنا، المعتبرين أنهم أعمدة» (غلاطية، 2: 1-10). وهذا ما يقودنا إلى التأكد من هوية يعقوب سفر الأعمال على أنه يعقوب ابن كلوبا ، ابن عم يسوع أو أخوه بالمعنى المجازي السائد. وقد كان واحدا من الهيئة القيادية العليا إلى جانب بطرس ويوحنا.
وتتأكد لدينا هوية يعقوب سفر الأعمال من خلال شهادة خارجية. فقد روى المؤرخ يوسيفوس أن المجلس اليهودي في عام 62م اتهم يعقوب أخا يسوع (هكذا وردت تسميته في النص) بالهرطقة وحكم عليه بالموت رجما بالحجارة.
8
وقد أورد لنا أوزيب القيساري في تاريخه الكنسي نبذة مقتبسة عن هيجيسبوس من أواسط القرن الثاني الميلادي يتحدث فيها عن يعقوب. فقد كان نذيرا للرب من بطن أمه، لم يأكل اللحم ولم يشرب الخمر ولم يحلق شعر رأسه ولم يضمخ جسده بالعطور. وكان يصلي من أجل غفران خطايا الشعب. وعندما حكم عليه اليهود بالموت رجما ركع على ركبتيه وطلب من الرب أن يغفر لقاتليه. وبعد موت يعقوب اجتمع الرسل وبقية التلاميذ واختاروا ابنا آخر لكلوبا أخي يوسف يدعى سمعان ليحل محل يعقوب. وقد عاش سمعان هذا حتى سن متأخرة وحكم عليه الرومان بالصلب في عهد الإمبراطور تراجان (98-117).
9
إن خلاصة ما توصلت إليه بخصوص إخوة يسوع، هي أنهم ينتظمون في مجموعتين؛ الأولى هم إخوته بالجسد من يوسف ومريم، والثانية هم أولاد عمه كلوبا. وإلى هذه المجموعة الثانية ينتمي من دعاه بولس ومؤلفو التاريخ الكنسي بيعقوب أخي الرب، كما ينتمي إليها سمعان بن كلوبا الذي حل محل أخيه يعقوب في مجلس الرسل الاثني عشر. وقد كان لهاتين الشخصيتين دور قيادي بارز في توجيه الحركة المسيحية المبكرة. هذه الخلاصة لا تتفق مع التفسير الكنسي ولا مع تفسير بقية الباحثين، ولكنها تقوم على استقراء دقيق لمعطيات الأناجيل.
مشكلة الرسل الاثني عشر
كانت المهمة الأولى التي اضطلع بها يسوع بعد اعتماده على يد يوحنا المعمدان وسماعه للصوت الإلهي، هي دعوته التلاميذ للانضمام إليه. نقرأ في إنجيل مرقس: «وبعدما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ... وفيما هو يمشي عند بحر الجليل أبصر سمعان وأندراوس أخاه يلقيان شباكا في البحر لأنهما كانا صيادين، فقال لهما يسوع: هلم ورائي فأجعلكما تصيران صيادي الناس. فللوقت تركا شباكهما وتبعاه. ثم اجتاز من هناك قليلا فرأى يعقوب بن زبدي ويوحنا أخاه وهما في السفينة يصلحان الشباك، فدعاهما للوقت فتركا أباهما زبدي في السفينة مع الأجراء وذهبا وراءه» (مرقس، 1: 14-20). وللوقت شرع يسوع في مهامه التبشيرية وراح يجول في القرى والبلدات المجاورة ويشفي المرضى والمقعدين ومن بهم مس. «ثم خرج إلى البحر فأتاه كل الجمع فأخذ يعلمهم. وفيما هو مجتاز رأى لاوي بن حلفى جالسا عند مكان الجباية (لأنه كان عشارا، أي جابي ضريبة)، فقال له اتبعني، فقام وتبعه» (مرقس، 2: 13-14). وبذلك يغدو عدد التلاميذ المباشرين خمسة؛ أربعة صيادي سمك هم الأخوان سمعان (= بطرس) وأندراوس، والأخوان يعقوب ويوحنا ابنا زبدي، والخامس عشار يدعى لاوي بن حلفي.
أما عن الظروف التي أحاطت بدعوة بقية التلاميذ المباشرين الذين جعلهم يسوع رسلا فغير واضحة عند مرقس، ولكننا في الإصحاح الثالث نجد عددهم قد بلغ اثني عشر: «ثم صعد إلى الجبل ودعا الذين أرادهم فذهبوا إليه، وأقام اثني عشر ليكونوا معه وليرسلهم ليكرزوا ويكون لهم سلطان على شفاء الأمراض. وجعل لسمعان اسم بطرس، ويعقوب بن زبدي ويوحنا أخاه، وجعل لهما اسم بوانرجس أي ابني الرعد، وأندراوس، وفيلبس، وبرثولماوس، ومتى، وتوما، ويعقوب بن حلفي، وتداوس، وسمعان القانوي، ويهوذا الإسخريوطي» (مرقس، 3: 13-19). ونلاحظ في هذه القائمة أن مرقس لم يذكر اسم لاوي بن حلفي العشار الذي جعله في الإصحاح الأول خامس التلاميذ الذي تبعوا يسوع منذ البداية.
يسير متى على خطى مرقس في قصة دعوة التلاميذ الأربعة الأوائل: «ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم انصرف إلى الجليل، وترك الناصرة وأتى فسكن في كفر ناحوم ... وإذ كان يسوع ماشيا عند بحر الجليل أبصر الأخوين: سمعان الذي يقال له بطرس، وأندراوس أخاه، يلقيان شباكا في البحر لأنهما كانا صيادين، فقال لهما هلم ورائي فأجعلكما صيادي الناس، فللوقت تركا الشباك وتبعاه، ثم اجتاز من هناك فرأى أخوين آخرين، يعقوب بن زبدي ويوحنا أخاه في السفينة مع زبدي أبيهما يصلحان شباكهما فدعاهما، فللوقت تركا السفينة وأباهما وتبعاه » (متى، 4: 13-22). أما عن دعوة التلميذ الخامس الذي أطلق عليه مرقس اسم لاوي بن حلفي، فلمتى فيه رواية أخرى: «وفيما هو مجتاز من هناك رأى إنسانا جالسا عند مكان الجباية اسمه متى، فقال له: اتبعني. فقام وتبعه» (متى، 9: 9). وعلى هذا يكون التلميذ الخامس الذي يعمل عشارا هو متى لا لاوي بن حلفي كما هو الحال عند مرقس. فيما يتعلق بهذه النقطة يقول المفسرون الكنسيون بأن متى هو اسم آخر للاوي بن حلفي. ولكن لو كان الأمر كذلك لكان من السهل على مؤلف إنجيل متى أن يقول: «وفيما هو مجتاز من هناك رأى إنسانا جالسا عند مكان الجباية اسمه متى الذي هو لاوي بن حلفي» لا سيما إذا كان متى العشار هذا هو نفسه مؤلف إنجيل متى، وهو أدرى الناس باسمه وبلقبه الآخر إذا كان له مثل هذا اللقب أو الاسم البديل. وفي الحقيقة فقد كان مرقس واضحا عندما دعا التلميذ الخامس لاوي ثم أضاف إليه اسم أبيه حلفي على سبيل توكيد هويته، وذلك على عكس معظم بقية أسماء قائمته؛ حيث اكتفى بالاسم الأول، فقال: فيلبس، برثلماوس، توما ... إلخ. والتفسير الأقرب إلى المنطق هو أن كلا من متى ومرقس قد تلقى خبرا مخالفا للخبر الذي تلقاه زميله، وأن الغموض يحيط بهوية رسل يسوع، وحتى بعددهم كما سنرى لاحقا.
وكما هو الحال عند مرقس فإن الظروف المحيطة بدعوة بقية التلاميذ غير واضحة أيضا عند متى. وهو في الإصحاح العاشر يعطينا قائمة بأسمائهم بعد أن بلغ عددهم اثني عشر: «ثم دعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطانا يطردون به الأرواح النجسة ويشفون الناس من كل مرض وعلة. وهذه أسماؤهم: أولهم سمعان الذي يقال له بطرس (= صخر)، وأندراوس أخوه، يعقوب بن زبدي ويوحنا أخوه. فيلبس وبرثلماوس. توما ومتى العشار. يعقوب بن حلفي ولباوس الملقب تداوس. سمعان القانوي ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه. هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا: ... اشفوا مرضى، طهروا برصا، أقيموا موتى، أخرجوا شياطين. مجانا أخذتم مجانا أعطوا. لا تقتنوا ذهبا ولا نحاسا في مناطقكم، ولا مزودا للطريق، ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا، لأن العامل يستحق طعامه» (متى، 10: 1-10). وكما نلاحظ من قراءة هذه القائمة فإن متى قد أعطى للتلميذ العاشر اسمين عندما قال «لباوس الملقب تداوس». وهذا يعني أن متى قد تلقى خبرين متناقضين بخصوص هذا التلميذ؛ الأول تلقاه من مرقس الذي دعاه في قائمته تداوس، والثاني جاءه من مصدر آخر دعاه لباوس. هذا الغموض الذي يحيط بالتلميذ العاشر يزداد عندما نرى أن لوقا قد دعاه في قائمته باسم ثالث هو يهوذا بن يعقوب.
في رواية لوقا لدعوة التلاميذ هنالك بعض الاضطراب. فبعد الظهور العلني الأول ليسوع عندما دخل المجمع في الناصرة وما جرى هنالك من جدال بينه وبين اليهود، نجده دون مقدمات يأتي إلى بيت بطرس الذي لم يكن بعد تلميذا: «ولما قام من المجمع دخل بيت سمعان (= بطرس)، وكانت حماة سمعان قد أخذتها حمى شديدة فسألوه من أجلها، فوقف عند رأسها وانتهر الحمى فتركتها، وفي الحال قامت وصارت تخدمهم» (لوقا، 4: 38-39). في الإصحاح التالي ينتقل المؤلف إلى رواية دعوة التلاميذ. فقد خرج يسوع ووقف عند بحيرة جنيسارت (= طبريا) فازدحمت حوله الجموع لتسمع منه. فدخل سفينة راسية هناك كانت لبطرس وصار يعلم الجموع من السفينة، ولما فرغ من الكلام قال لبطرس أن يبعد سفينته إلى العمق ويلقي مع النوتية شباكهم للصيد، فأمسكوا سمكا كثيرا حتى صارت شباكهم تتمزق، فدعوا شركاءهم في السفينة الأخرى أن يأتوا ويساعدوهم فملئوا السفينتين. فلما رأى بطرس هذه المعجزة: «خر عند ركبتي يسوع قائلا: أخرج من سفينتي يا رب لأني رجل خاطئ. إذ اعترته وجميع الذين معه دهشة على صيد السمك الذي أخذوه، وكذلك أيضا يعقوب ويوحنا ابنا زبدي اللذان كانا شريكي سمعان (بطرس). فقال يسوع لسمعان: لا تخف، من الآن تكون تصطاد الناس. ولما جاءوا بالسفينتين إلى البر تركوا كل شيء وتبعوه» (لوقا، 5: 1-11).
إلى جانب اختلاف تفاصيل رواية لوقا عن رواية متى ومرقس، والذي يعزى إلى تفرد كل منهما بأسلوب أدبي خاص استعمله في صياغة الخبر، فإن ما يلفت نظرنا في هذه الرواية هو انفرادها بمعجزة تكثير السمك، إضافة إلى غياب اسم أندراوس أخي بطرس عن مسرح الحدث. ولولا الشهادة السابقة لمرقس ومتى لما كان باستطاعتنا أن نعرف بوجود صلة الأخوة بين بطرس وأندراوس الذي يرد اسمه لاحقا في قائمة الرسل.
وكما هو الحال عند مرقس ومتى فإن دعوة التلميذ الخامس تتأخر قليلا عند لوقا، وهو يتبع مرقس في تسميته ولكنه يدعوه لاوي فقط بدلا من لاوي بن حلفي: «وخرج بعد ذلك فأبصر عشارا اسمه لاوي جالسا في بيت الجباية، فقال له اتبعني، فترك كل شيء وقام فتبعه. وأقام له لاوي مأدبة عظيمة في داره. وكان على المائدة معهم جماعة كبيرة من العشارين وغيرهم، فقال الفريسيون وكتبتهم لتلاميذه متذمرين: لماذا تؤاكلون وتشاربون العشارين والخاطئين؟ فأجاب يسوع: ليس الأصحاء بمحتاجين إلى طبيب بل المرضى. ما جئت لأدعو الأبرار إلى التوبة بل الخاطئين» (لوقا، 5: 27-32).
ثم إن المسألة تنعقد أكثر عندما يورد لنا لوقا بعد ذلك قصة مشابهة بطلها أيضا عشار اختار يسوع أن يضيف عنده عندما دخل أريحا في طريقه إلى أورشليم: «ودخل يسوع أريحا وراح يجتازها. فإذا رجل من رؤساء العشارين غني اسمه زكا قد جاء طالبا أن يرى يسوع، فلم يستطع لكثرة الزحام لأنه كان قصيرا. فأسرع إلى جميزة فصعدها ليراه. فلما وصل يسوع إلى ذلك المكان رفع بصره وقال له: يا زكا، انزل على عجل لأني سأقيم اليوم في بيتك. فنزل على عجل وأضافه مسرورا. فلما رأوا ذلك قالوا كلهم متذمرين: دخل بيت رجل خاطئ ليقيم عنده. فوقف زكا فقال: سيدي، سأتصدق على الفقراء بنصف أموالي، وإذا كنت قد ظلمت أحدا شيئا أرده عليه أربعة أضعاف. فقال له يسوع: اليوم نال الخلاص هذا البيت. لأن ابن الإنسان جاء ليبحث عن الهالك فيخلصه» (لوقا، 19: 1-10).
بعد دعوة لاوي نجد عدد التلاميذ قد تكاثر، فدعاهم يسوع واختار منهم اثني عشر سماهم رسلا، وهم: «سمعان ودعاه صخرا (= أي بطرس باليونانية) وأندراوس أخوه، ويعقوب، ويوحنا، وفيلبس، وبرتلماوس، ومتى، وتوما، ويعقوب بن حلفي ، وسمعان الملقب بالغيور، ويهوذا بن يعقوب، ويهوذا الإسخريوطي» (لوقا، 6: 14-16). ونلاحظ في هذه القائمة أن لوقا قد دعا التلميذ المدعو تداوس (عند مرقس) ولباوس (عند متى) بالاسم يهوذا بن يعقوب. كما أنه سار على خطى مرقس عندما أسقط من قائمته اسم لاوي الذي جعله في الإصحاح السابق خامس التلاميذ.
ولننظر الآن إلى قوائم أسماء الرسل لدى الإزائيين الثلاثة في سياق مقارن:
قائمة مرقس 3: 16-19
قائمة متى 10: 2-4
قائمة لوقا 6: 13-16 (1)
سمعان بطرس
سمعان بطرس
سمعان بطرس (2)
أندراوس
أندراوس
أندراوس (3)
يعقوب
يعقوب
يعقوب (4)
يوحنا
يوحنا
يوحنا (5)
متى (لاوي بن حلفي؟)
متى
متى (لاوي؟) (6)
فيلبس
فيلبس
فيليبس (7)
برتلماوس
برتلماوس
برتلماوس (8)
توما
توما
توما (9)
يعقوب بن حلفي
يعقوب بن حلفي
يعقوب بن حلفي (10)
تداوس
لباوس الملقب تداوس
يهوذا بن يعقوب (11)
سمعان القانوي
سمعان القانوي
سمعان الغيور (12)
يهوذا الإسخريوطي
يهوذا الإسخريوطي
يهوذا الإسخريوطي
من تأمل هذه القوائم ومقارنتها بالروايات المتعلقة بدعوة التلاميذ الخمسة الأوائل لدى الإزائيين الثلاثة تواجهنا ثلاث مشكلات، وهي: (1)
في رواية دعوة التلاميذ، دعي التلميذ الخامس الذي يعمل عشارا بالاسم لاوي بن حلفي عند مرقس، وبالاسم لاوي عند لوقا، وبالاسم متى عند متي. أما في قائمة أسماء الرسل فيدعى متى لدى الإزائيين الثلاثة. وهذا يعني أن الإنجيليين قد تلقوا أخبارا متناقضة بخصوص اسم هذا العشار، أو أنه كان هناك عشاران دعاهما يسوع واستجابا لدعوته، أحدهما يدعى لاوي بن حلفي والثاني يدعى متى، أو أن هذا العشار كان يحمل اسمين في الوقت نفسه. ولكني أميل إلى القول بوجود عشارين اثنين أسقطت القوائم اسم واحد منهما من أجل الحفاظ على الرقم 12. فهذا الرقم ذو طبيعة رمزية، ولا يعني بالضرورة وجود اثني عشر رسولا؛ فهو أولا رقم مقدس لدى جميع الثقافات لأنه يعكس حركة الشمس السنوية خلال مرورها بالأبراج السماوية الاثني عشر، وفيما يتعلق بالمسيحية فإن يسوع هو الشمس وتلاميذه هم الأبراج؛ وثانيا فإن عدد التلاميذ يقابل عدد أسباط إسرائيل الاثني عشر، وهو بدوره كان رقما رمزيا لا يعكس في الواقع عدد الأسباط. وقد ألمح يسوع نفسه إلى هذه المقابلة عندما قال: «متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده، تجلسون أنتم أيضا على اثني عشر كرسيا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر» (متى، 19: 28). (2)
دعي التلميذ العاشر بالاسم تداوس عند مرقس، ولباوس عند متى، ويهوذا بن يعقوب عند لوقا. ونحن هنا مرة أخرى أمام ثلاثة تلاميذ لا تلميذ واحد يحمل ثلاثة أسماء. وقد اختار كل إنجيلي واحدا من هؤلاء التلاميذ وأسقط البقية، وذلك من أجل الحفاظ على الرقم 12. (3)
فيما يتعلق بالتلميذ الحادي عشر الذي دعي عند مرقس ومتى بسمعان القانوي وعند لوقا بسمعان الغيور، فإن كلمة القانوي هي كلمة آرامية وتعني الغيور، أي المنتمي إلى جماعة الغيورين على الدين، وهي جماعة دينية متطرفة كانت تسبب المتاعب للحكم الروماني في اليهودية. وعليه فإن الاسمين هما لشخص واحد.
إن خلاصة ما تقودنا إليه هذه المقارنة، هو أن قائمة الرسل لدى الإزائيين يجب أن تحتوي على 15 رسولا بعد إضافة كل من لاوي بن حلفي، ولباوس ، ويهوذا بن يعقوب. ولكن المفاجأة التي تنتظرنا في رواية يوحنا لدعوة التلاميذ، هي ظهور تلميذين جديدين لم يرد ذكرهما لدى الإزائيين. وهذا ما يرفع عدد الرسل إلى 17.
في إنجيل يوحنا لدينا مسرح مختلف وسيناريو مختلف لرواية دعوة التلاميذ. فهنا لا نرى التلاميذ الأوائل يصطادون السمك في بحيرة طبريا أو يصلحون شباكهم، وإنما نراهم في عبر الأردن تجاه أريحا حيث كان يوحنا يعمد بالماء لمغفرة الخطايا، وكان اثنان منهما قد تحولا بعد العماد إلى تلميذين ليوحنا، وهما أندراوس أخو بطرس وتلميذ آخر لم يفصح المؤلف عن اسمه، ولكننا نفهم من السياق اللاحق لأحداث الإنجيل أنه «التلميذ الذي أحبه يسوع» مع بقاء اسمه مغفلا.
نقرأ في الإصحاح الأول: «وفي الغد أيضا كان يوحنا واقفا واثنان من تلاميذه، فنظر إلى يسوع ماشيا، فقال: هو ذا حمل الله. فسمعه التلميذان يتكلم فتبعا يسوع. فالتفت يسوع ونظرهما يتبعان فقال لهما: ما تطلبان؟ فقالا: رابي، الذي تفسيره يا معلم، أين تقيم؟ فقال لهما تعالا وانظرا. فأتيا ونظرا أين كان يقيم، ومكثا عنده ذلك اليوم. وكانت الساعة نحو العاشرة (= الرابعة بعد الظهر). كان أندراوس أخو سمعان بطرس واحدا من الاثنين اللذين سمعا يوحنا وتبعاه. هذا وجد أخاه سمعان فقال له: قد وجدنا مسيا، الذي تفسيره المسيح. فجاء به إلى يسوع، فنظر إليه يسوع وقال: أنت سمعان بن يونا، أنت تدعى صفا الذي تفسيره بطرس. «في الغد أراد يسوع أن يخرج إلى الجليل، فوجد فيليبس فقال له اتبعني. وكان فيليبس من بيت صيدا مدينة أندراوس وبطرس. فيليبس وجد نثنائيل وقال له: وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء: يسوع بن يوسف الذي من الناصرة. فقال له نثنائيل: أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟ فقال له فيليبس: تعال وانظر. ورأى يسوع نثنائيل مقبلا إليه، فقال عنه: هو ذا إسرائيلي لا غش فيه. فقال له نثنائيل: من أين تعرفني؟ أجاب يسوع وقال له: قبل أن دعاك فيليبس وأنت تحت التينة رأيتك. أجاب نثنائيل وقال له: يا معلم أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل» (يوحنا، 1: 35-49).
نلاحظ من قراءة هذا النص أن عدد التلاميذ الأوائل الذين دعاهم يسوع هو خمسة تلاميذ، كما هو الحال لدى الإزائيين الثلاثة، ولكن مع اختلاف الأسماء.
فهم عند الإزائيين:
بطرس - أندراوس - يعقوب - يوحنا - متى (أو لاوي بن حلفي).
وهم عند يوحنا:
بطرس - أندراوس - التلميذ المجهول - فيليبس - نثنائيل.
لم يورد لنا يوحنا بعد ذلك قائمة كاملة بأسماء الرسل، على الرغم من إشارته إلى الاثني عشر في موضع واحد فقط (يوحنا، 20: 24). ولكنه ذكر منهم في سياقات مختلفة إضافة إلى أولئك الأربعة المدعوين أولا، كلا من: توما ويهوذا بن يعقوب الذي دعاه يهوذا غير الإسخريوطي تمييزا له عن الإسخريوطي، ثم يهوذا الإسخريوطي. كما ذكر ابني زبدي (أي يعقوب ويوحنا) مرة واحدة فقط دون الإفصاح عن اسميهما. أي أن القائمة الكاملة تحتوي على عشرة رسل فقط، هم:
بطرس، أندراوس، فيليبس، توما، يهوذا غير الإسخريوطي، يهوذا الإسخريوطي، ابنا زبدي، التلميذ المجهول، نثنائيل.
بناء على ما تقدم فإن قائمة الرسل الوارد ذكرهم في الأناجيل الأربعة، يجب أن تحتوي في رأينا على 17 رسولا بدلا من 12 وفق ما يلي، بعد تغيير موضع اسم متى ليغدو التلميذ الخامس، وذلك وفق ترتيب دعوته الذي جاء بعد الأربعة الأوائل: (1) بطرس (2) أندراوس (3) يعقوب (4) يوحنا (5) متى (6) لاوي بن حلفي (7) فيليبس (8) برتلماوس (9) توما (10) يعقوب بن حلفي (11) تداوس (12) لباوس (13) يهوذا بن يعقوب (14) سمعان الغيور (15) يهوذا الإسخريوطي (16) نثنائيل (17) التلميذ المجهول.
إن خلاصة ما يمكن قوله بخصوص الرسل هو أن تعبير «الاثنا عشر» هو تعبير عام للدلالة على الحلقة الداخلية الضيقة من تلاميذ يسوع وهم الذين أرسلهم أمامه للتبشير. ويبدو أن عدد هؤلاء لم يكن معروفا ولا ثابتا، ولكنهم بالتأكيد لم يكونوا اثني عشر على وجه التحديد. ويزداد الأمر تعقيدا عندما يقول لنا لوقا بأن يسوع أرسل سبعين آخرين للتبشير في المدن والقرى: «وبعد ذلك أقام الرب سبعين آخرين، ثم أرسلهم اثنين اثنين يتقدمونه إلى كل مدينة أو موضع كان مزمعا أن يذهب إليه، وقال لهم: ... اذهبوا. ها أنا ذا أرسلكم كالحملان بين الذئاب، لا تحملوا صرة ولا مزودا ولا نعلين، ولا تسلموا على أحد. وأي بيت دخلتم إليه فقولوا السلام على هذا البيت؛ فإن كان فيه ابن سلام فسلامكم يحل به وإلا عاد إليكم ... وأية مدينة دخلتم ولم يقبلوكم فاخرجوا إلى ساحاتها وقولوا: حتى الغبار الذي علق بأقدامنا من مدينتكم ننفضه لكم. ولكم اعلموا بأن ملكوت الله قد اقترب» (لوقا، 10: 1-11). وهذه التعليمات التي يعطيها يسوع للسبعين كان قد أعطاها سابقا للاثني عشر، الأمر الذي يدل على أن لوقا اعتبر هؤلاء السبعين رسلا أيضا وأن العدد عنده قد ارتفع إلى 82 رسولا!
أين اختفى الرسل؟
فيما عدا بطرس الذي تمتع في الأناجيل الأربعة وفي أعمال الرسل بشخصية واضحة، فإن بقية التلاميذ يبدون كشخصيات باهتة أشبه بالكومبارس في مسرحية فخمة، والعديد منهم يختفي بعد ورود اسمه في قائمة الرسل ولا نكاد نعثر له على أثر. وقد قمت بتتبع آثار هؤلاء عبر أحداث الإنجيل، ورصدت الدور الذي لعبه كل منهم في هذه الأحداث، وإليكم النتيجة: (1) بطرس: ورد اسمه 25 مرة لدى الإزائيين، وست مرات لدى يوحنا. وهو الوحيد الذي كان يجرؤ على الدخول في حوارات مباشرة مع يسوع (مرقس، 8: 31-33). وقد أثنى عليه يسوع في إحدى المرات ووصفه بأنه الصخرة التي ستقوم عليها الكنيسة (متى، 6: 18-20). (2) أندراوس: فيما عدا رواية دعوة التلاميذ وقائمة الرسل، لا يظهر أندراوس لدى الإزائيين الثلاثة إلا مرتين وبشكل عابر. في المرة الأولى يرد اسمه باعتباره أخا بطرس ويسكن معه في البيت نفسه: «ولما خرجوا من المجمع جاءوا للوقت إلى بيت سمعان وأندراوس مع يعقوب ويوحنا، وكانت حماة سمعان مضطجعة محمومة ... إلخ» (مرقس، 1: 29-31. قارن مع متى، 8: 14-15؛ ولوقا، 4: 38-39). وفي المرة الثانية عندما توجه بالسؤال إلى يسوع مع عدد آخر من التلاميذ، وقالوا له: «قل لنا متى يكون هذا (أي خراب الهيكل)؟ وما هي العلامة؟» (مرقس، 13: 3-4. قارن مع متى، 24: 4-14؛ ولوقا، 21: 8-19).
وفي إنجيل يوحنا يظهر أندراوس مرتين أيضا وبشكل عابر؛ الأولى في قصة معجزة إطعام خمسة آلاف شخص من خمسة أرغفة وسمكتين: «فقال له واحد من تلاميذه وهو أندراوس أخو سمعان بطرس: هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان» (يوحنا، 6: 8). والثانية عندما أتى يهود يونانيون إلى فيليبس وسألوه أن يجمعهم بيسوع، «فأتي فيليبس وقال لأندراوس ثم ذهب أندراوس وفيليبس وأخبرا يسوع» (يوحنا، 12: 20-23). (3) و(4) يعقوب ويوحنا:
في معظم الأحيان يظهر هذان الرسولان في الرواية الإنجيلية معا، وذلك إما باسميهما أو تحت اسم ابني زبدي. وقد أعطى الباحثون الكنسيون ليعقوب بن زبدي لقب «الكبير» لتمييزه عن الرسول التاسع يعقوب بن حلفي الذي دعي أحيانا بيعقوب الصغير (راجع مرقس، 15: 40). وهذه هي المواضع التي ظهر فيها هذان التلميذان لدى الإزائيين، فيما عدا القائمة والدعوة:
في قصة إحياء ابنة يائير رئيس المجمع، عندما دخل يسوع بيت يائير، ولم «يدع أحدا يصحبه إلا بطرس ويعقوب ويوحنا أخا يعقوب» (لوقا، 8: 40-56؛ ومرقس، 5: 21-43. قارن مع متى، 9: 18-26).
عندما قال يوحنا ليسوع: «يا معلم، رأينا رجلا يطرد الشياطين باسمك فمنعناه لأنه لا يتبعك معنا، فقال يسوع: لا تمنعوه» (لوقا، 9: 49-50).
في مشهد التجلي: «وبعد ستة أيام مضى يسوع ببطرس ويعقوب ويوحنا فانفرد بهم على جبل عال، وتجلى بمرأى منهم فتلألأت ثيابه ناصعة البياض ... إلخ» (مرقس، 9: 2-7. قارن مع متى، 17: 1-8؛ ولوقا، 9: 28-36).
عندما دنا إليه يعقوب ويوحنا ابنا زبدي فقالا له: «امنحنا أن يجلس أحدنا عن يمينك والآخر عن شمالك في مجدك» (مرقس، 10: 35-37. قارن مع متى، 20: 20-23).
بينما هو جالس على جبل الزيتون عندما انفرد به بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس وسألوه: «متى يكون هذا؟ (أي دمار الهيكل الذي تنبأ به)» (مرقس، 13: 3-4؛ متى، 24: 4-14).
عندما لم يسمح السامريون ليسوع وتلاميذه أن يمروا في أرضهم، قال له يعقوب ويوحنا: «أتريد أن تقول إن تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل النبي إيليا أيضا؟» فأجابهم: «ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص» (لوقا، 9: 54).
عندما أرسل بطرس ويوحنا قائلا: «اذهبا وأعدا لنا الفصح لنأكل» (لوقا، 22: 8).
وكان يعقوب ويوحنا مع يسوع في بستان جتسماني على جبل الزيتون في ليلة القبض على يسوع عندما مضى بهم بعيدا عن التلاميذ: «وجعل يستشعر حزنا وكآبة. وقال لهم: نفسي حزينة حتى الموت، امكثوا هنا واسهروا. ثم أبعد قليلا ووقع على الأرض يصلي ...» (مرقس، 14: 32-35. قارن مع متى، 26: 36-38؛ ولوقا، 22: 40-45).
عندما هذا أظهر يسوع نفسه للتلاميذ بعد قيامته على بحيرة طبريا. وكان ذلك أمام سمعان بطرس، وتوما الذي يقال له التوءم، ونثنائيل الذي من قانا الجليل، وابني زبدي، واثنين آخرين من تلاميذه مع بعضهما (يوحنا، 21: 1-3). (5) متى (لاوي + لاوي بن حلفي): بعد رواية دعوته وورود اسمه في القائمة لا يعود إلى الظهور لدى الإزائيين في بقية أحداث الإنجيل، وكذلك الأمر لدى يوحنا الذي لم يورد أصلا رواية عن دعوته. وهذا أمر في غاية الغرابة لا سيما إذا كان هذا العشار هو مؤلف إنجيل متى، لأنه يكون قد ساهم مع بقية الإنجيليين في التعتيم على أخباره. (6) فيليبس: فيما عدا ذكره في قائمة الرسل، لا يعود إلى الظهور عند الإزائيين. أما عند يوحنا فيظهر ثلاث مرات؛ الأولى في قصة معجزة تكثير الخبز والسمك: «فرفع يسوع عينيه فرأى جمعا كبيرا، فقال لفيليبس: من أين نشتري خبزا لنطعمهم؟ فأجابه فيليبس: لو اشترينا خبزا بمائتي دينار لما كفى» (يوحنا ، 6: 4-7). والثانية عندما جاء يهود يونانيون قاصدين يسوع: «فعمدوا إلى فيليبس فقالوا ملتمسين: سيدي، نريد أن نرى يسوع. فذهب فيليبس فأخبر أندراوس» (يوحنا، 12: 20-23). والثالثة عندما قال ليسوع: «يا سيد أرنا الأب وكفانا. فقال له يسوع: أنا معكم زمانا هذه مدته ولم تعرفني يا فيليبس؟ الذي رآني فقد رأى الأب»
(7) برتلماوس: بعد قائمة الرسل يختفي هذا الرسول عن أحداث الإنجيل. (8) توما: بعد قائمة الرسل لا يعود إلى الظهور في الأناجيل الإزائية. أما عند يوحنا فيظهر أربع مرات:
عندما قال يسوع لتلاميذه: إن لعازر قد مات «قال توما الذي يقال له التوءم للتلاميذ من رفقائه: لنذهب نحن أيضا لكي نموت معه» (يوحنا، 11: 14-16).
عندما قال يسوع للتلاميذ: «تعلمون حيث أنا أذهب وتعلمون الطريق» قال له توما: «يا سيد، لسنا نعلم أين تذهب فكيف نعرف الطريق؟» قال له يسوع: «أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الأب إلا بي» (يوحنا، 14: 4-6).
عندما ظهر يسوع للتلاميذ بعد قيامته وهم مجتمعون في بيت، وأراهم أثر المسامير في يديه وأثر الحربة التي طعنوه بها في جنبه. ثم قال لتوما هات إصبعك إلى هنا وأبصر يدي وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنا» (يوحنا، 20: 26-27).
عندما ظهر يسوع للمرة الأخيرة لتلامذته عند بحيرة طبريا كان توما أيضا بينهم (يوحنا، 21: 1-2). (9) يعقوب بن حلفي: بعد قائمة الرسل لا يظهر في بقية أحداث الإنجيل. وهناك احتمال في أن يكون هو يعقوب الصغير الذي ورد اسمه مرة واحدة عند مرقس: «وكانت نساء ينظرن من بعيد، بينهن: مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب الصغير، وسالومة» (مرقس، 15: 40). (10) تداوس (+ لباوس + يهوذا بن يعقوب): لا يظهر أي من هذه الأسماء لدى الإنجيليين الأربعة بعد ورودها في قوائم الإزائيين. وهناك احتمال في أن يكون يهوذا بن يعقوب هو من ذكره يوحنا تحت اسم يهوذا غير الإسخريوطي: «قال له يهوذا ليس الإسخريوطي: يا سيد، ماذا حدث حتى إنك مزمع أن تظهر نفسك لنا وليس للعالم؟ أجاب يسوع ... إلخ» (يوحنا، 14: 22-23). (11) سمعان القانوي أو الغيور: لا يظهر بعد القائمة في بقية أحداث الإنجيل. (12) يهوذا الإسخريوطي: لا يظهر عند الإزائيين بعد القائمة إلا في ليلة العشاء الأخير والقبض على يسوع عندما جاء بجند الهيكل إلى حيث كان يسوع وتلاميذه في بستان جتسماني على جبل الزيتون. أما عند يوحنا فيظهر مرة أخرى قبل ذلك، عندما جاءت امرأة بزجاجة عطر ثمين وسكبتها على قدمي يسوع. فقال يهوذا: «لماذا لم يبع هذا الطيب بثلاثمائة دينار ويعط للفقراء» (يوحنا، 12: 1-6). (13) نثنائيل: لا يظهر في قوائم الإزائيين ولا فيما تلى ذلك من الأحداث. أما عند يوحنا فيظهر مرة واحدة فقط بعد رواية دعوة التلاميذ. (14) التلميذ المجهول: تجاهل الإزائيون هذا التلميذ بشكل كامل. أما عند يوحنا فيظهر 7 مرات بعد رواية دعوة التلاميذ. ونحن لن نفصل هنا في الأخبار التي ذكرته، لأننا سنعود إليه بالتفصيل عندما نتحدث عن مشكلة إنجيل يوحنا.
والآن سوف نختصر هذا العرض لأحوال الرسل في جدول يبين عدد ظهورات كل منهم في الأناجيل الأربعة بعد الظهور الأول في القائمة ورواية دعوة التلاميذ:
الاسم
عدد مرات الظهور
في الأناجيل الإزائية
في إنجيل يوحنا (1)
بطرس
25
6 (2)
أندراوس
2
2 (3)-(4)
يعقوب ويوحنا
9
1 (ابنا زبدي) (5)
متى (+ لاوي + لاوي بن حلفي)
غائب
غائب (6)
فيليبس
غائب
3 (7)
برتلماوس
غائب
غائب (8)
توما
غائب
4 (9)
يعقوب بن حلفي
غائب
غائب (10)
تداوس/لباوس/يهوذا بن يعقوب
غائب
غائب (11)
سمعان الغيور
غائب
غائب (12)
يهوذا الإسخريوطي
1
2
تلاميذ مذكورون عند يوحنا فقط: (13)
نثنائيل
غائب
1 (14)
التلميذ المجهول
غائب
7
من دراسة هذا الجدول نلاحظ أن سبعة من أصل اثني عشر رسولا تضمنتهم القائمة الإزائية قد غابوا عن بقية أحداث الإنجيل بعد ظهورهم في القائمة. وربما أوحى لنا عدد المرات التي ورد فيها ذكر بطرس والأخوين يعقوب ويوحنا في الأناجيل الإزائية، بأنهم كانوا الأقرب إلى يسوع وبأنهم لعبوا دورا مميزا في الأحداث، إلا أنه تقلص دورهم في إنجيل يوحنا (حيث ورد اسم بطرس 6 مرات في مقابل 25 عند الإزائيين، وغاب الأخوان يعقوب ويوحنا تقريبا؛ حيث ورد اسمهما مرة واحدة على أنهما ابنا زبدي دون الإشارة إلى اسميهما)، من شأنه أن يعدل هذه الفكرة المبدئية. وفيما يتعلق بيهوذا فإنه لم يظهر في أي حدث من أحداث الإنجيل لدى الإزائيين إلا عشية الفصح عندما تناول العشاء الأخير مع البقية، ثم خرج وجاء بجند الهيكل للقبض على يسوع. أما أندراوس فقد ورد ذكره مرتين بشكل عابر عند الإزائيين ومثلها عند يوحنا.
كل هذا يوصلنا إلى حقيقة في غاية الأهمية، وهي أن مؤلفي الأناجيل وبقية أسفار العهد الجديد لم تصلهم إلا أخبار شحيحة وغامضة عن تلاميذ يسوع وأسمائهم الحقيقية، وكان عليهم أن يجدوا دورا لهؤلاء في أخبار يسوع، وحشرهم في مناسبات لم يكن لهم فيها دور أصلا.
ويتفاقم لغز اختفاء التلاميذ عندما ننتقل إلى سفر أعمال الرسل، وهو السفر المخصص لأخبار الرسل بعد غياب يسوع، ونشاطاتهم في التبشير وفي ترسيخ دعائم الكنيسة الناشئة. ففي الإصحاح الأول من السفر يجتمع أتباع يسوع وينتخبون رسولا يأخذ مكان يهوذا الإسخريوطي بين الاثني عشر ويقع خيارهم على رجل لا نعرف سوى أن اسمه متياس (وهو صيغة أخرى للاسم متى). ويورد لنا كاتب السفر قائمة بأسماء الرسل تقابل قائمة لوقا بعد تعديل مواقع الأسماء، وهم: بطرس ويوحنا، ويعقوب وأندراوس، وفيليبس وتوما، وبرتلماوس ومتى، ويعقوب بن حلفي وسمعان الغيور، ويهوذا بن يعقوب (تداوس؟) ومتياس.
ولكن ثمانية من هؤلاء الرسل يختفون فورا بعد ذكر أسمائهم في هذه القائمة، وهم: أندراوس، متى، برتلماوس، توما، يعقوب بن حلفي، يهوذا بن يعقوب (تداوس)، سمعان الغيور، متياس. وبذلك لا يبقى من الاثني عشر سوى بطرس، ويعقوب ويوحنا (ابني زبدي) وفيلبس. وبعد أن حكم الملك هيرود على يعقوب بن زبدي بالموت (أعمال، 12: 1-3)، لا يبقى من الرسل على مسرح أحداث سفر الأعمال سوى بطرس ويوحنا بن زبدي وفيليبس. وقد لعب هؤلاء دورا بارزا في الأعمال التنظيمية للكنيسة وفي التبشير داخل فلسطين وخارجها. ولا ندري متى وكيف انضم يعقوب الآخر الملقب بأخي الرب إلى هؤلاء، ولكن بولس في الرسالة إلى أهالي غلاطية يعده بين أعمدة كنيسة أورشليم، ويعدد أسماء هؤلاء الأعمدة على أنهم: يعقوب أخو الرب، وصفا (= بطرس)، ويوحنا (غلاطية، 2: 9. قارن مع غلاطية، 1: 19).
ومع اختفاء القسم الأعظم من رسل يسوع، يظهر في سفر أعمال الرسل تلاميذ جدد لم يروا يسوع، لعبوا الدور الأهم داخل كنيسة أورشليم وخارجها. من هؤلاء رجل قبرصي اسمه يوسف ولقبه الرسولي برنابا، أي ابن الوعظ، باع حقله وأتى بثمنه فألقاه عند أقدام الرسل (أعمال، 4: 36-37). وعندما زار بولس أورشليم بعد اهتدائه إلى المسيحية تفاداه الرسل غير مصدقين اهتداءه، ولكن برنابا رحب به وقدمه إلى التلاميذ ودافع عنه (أعمال، 9: 26-29). وبعد ذلك أوفد إلى أنطاكية من أجل التبشير فيها، ومن أنطاكية توجه إلى طرسوس في كيليكيا واجتمع ببولس ثم عاد الاثنان وعملا معا مدة سنة في أنطاكية (أعمال، 11: 22-26). ومن أنطاكية توجه الاثنان إلى قبرص.
ومن التلاميذ الجدد اسطفانوس (استيفانوس) الذي استفز اليهود بكرازته بيسوع، فجيء به إلى محكمة السنهورين. وعندما لم يجد دفاعه عن نفسه شيئا رفع صوته في وجه قضاته من اليهود قائلا: «يا غلاظ القلوب، ويا غلف القلوب والآذان ، ما زلتم تقاومون الروح القدس، وكما كان آباؤكم كذلك أنتم، أي نبي لم يضطهده آباؤكم؟ فقد قتلوا الذين أنبئوا بمجيء البار (يسوع المسيح) الذي أسلمتموه آنفا وقتلتموه. أنتم أخذتم الشريعة من يد الملائكة ولم تحفظوها» (أعمال، 7: 51-53). فأخرجوه خارج المدينة ورجموه حتى الموت.
ومن التلاميذ الجدد مرقس، واسمه الكامل يوحنا مرقس، الذي أوفد إلى أنطاكية حيث التحق ببولس وبرنابا (أعمال، 12: 24-25). ومن هناك سافر مع برنابا إلى قبرص، وبعد ذلك رافق بولس في عدد من رحلاته التبشيرية (كولوسي، 4: 10؛ وفيلمون: 24). ومنهم تيموثاوس وسيلا اللذان التحقا ببولس في أثينا (أعمال، 17: 14-15). وقد كانت أم تيموثاوس يهودية، أما أبوه فكان يونانيا. وقد آمن على يد بولس الذي تبناه كابن، وإليه وجه رسالته المعروفة بالرسالة إلى تيموثاوس. وبدءا من الإصحاح 16 في سفر الأعمال، يتفرغ كاتب السفر إلى إخبار بولس وحده.
والسؤال الذي نطرحه مجددا: أين اختفى رسل يسوع؟ وكيف حل محلهم في سفر الأعمال المخصص أصلا لأخبار الرسل، رسل لم يروا يسوع وكان بعضهم من اليهود اليونانيين؟
شخصية يسوع وطباعه
صحيح أننا لا نعرف شيئا عن شكل يسوع وهيئته وطول قامته ولون شعره وبشرته وعينيه. والسبب في ذلك لا يرجع إلى أن أحدا لم ير يسوع ليصفه لنا، على ما يقول من ينفي وجود يسوع كشخصية تاريخية، وإنما إلى التغيرات اللاهوتية المبكرة التي كانت تسير بشكل حثيث نحو تقديس هذا المعلم، وصرف الأنظار عن جانبه البشري. وهذا ما حصل من قبل لكثير من المعلمين الروحيين، لأن البشر لم يقبلوا حكمة الإنسان وفضلوا عليها حكمة تأتي من عالم الغيب، ولم ينصتوا لحكيم إلا بعد أن ألبسوه رداء القداسة ووضعوا في فمه كلام الآلهة.
ومع ذلك، فإن كل ما في الأناجيل يرسم لنا صورة واضحة المعالم عن يسوع الإنسان. فقد نشأ في أسرة جليلية متواضعة تضم سبعة أولاد؛ خمسة من الذكور، واثنتين من الإناث. وكان على معيلها الذي يعمل في مهنة النجارة أن يكدح من أجل إعالة تسعة أفواه، يساعده في ذلك ابنه البكر يسوع، وهذا ما أسبغ على يسوع لقب النجار الذي وصفه به إنجيل مرقس (6: 3). ويبدو أن يسوع قد حمل عبء إعالة الأسرة بعد وفاة أبيه يوسف، الذي لا نعثر له على ذكر في الأناجيل بعد القصة التي رواها لوقا عن رحلة العائلة المقدسة إلى أورشليم بمناسبة الفصح عندما كان يسوع في سن الثانية عشرة (لوقا، 2: 41-50).
وكأي إنسان طبيعي آخر فقد كان يسوع مقبلا على الحياة مستمتعا بلذائذها، يحب الطعام والخمر ويشارك في حفلات الأعراس البهيجة. وفي عرس قانا الذي دعي إليه مع تلاميذه، وبعد أن شرب المدعوون كل ما جاء به العريس من شراب وأرادوا المزيد، قام يسوع بتحويل ستة أجران من الماء إلى خمر سائغة (يوحنا، 2: 1-10). ولم يعرف عنه أنه رفض دعوة إلى مأدبة؛ حيث كان يتكئ ليأكل مع شتى شرائح الشعب. وفي إحدى المرات دعاه أحد العشارين من جباة الضرائب المتعاونين مع السلطة الرومانية فلبى الدعوة مع تلاميذه، وجلس معهم كثير من العشارين والخاطئين: «فلما رأى الكتبة من الفريسيين أنه يؤاكل الخاطئين والعشارين قالوا لتلاميذه: لم يؤاكل العشارين والخاطئين؟ فسمع يسوع كلامهم فقال لهم: ليس الأصحاء بحاجة إلى طبيب بل المرضى. ما جئت لأدعو الأبرار بل الخاطئين» (مرقس، 2: 13-17).
وفي مناسبة أخرى لم ينتظر يسوع دعوة أحد العشارين بل لقد دعا نفسه للإقامة عنده: «ثم دخل واجتاز أريحا. فإذا رجل من رؤساء العشارين اسمه زكا، وكان غنيا. فجاء يطلب أن يرى يسوع فلم يستطع لكثرة الزحام لأنه كان قصيرا. فأسرع إلى جميزة فصعدها ليراه، وكان لا بد ليسوع أن يمر بها. فلما وصل يسوع نظر إلى فوق فرآه وقال له: يا زكا، انزل على عجل لأني سأقيم عندك اليوم. فنزل على عجل وأضافه مسرورا» (لوقا، 19: 1-7).
وكان يقبل دعوات الطعام حتى من خصومه من الفريسيين: «ودخل في يوم السبت بيت أحد رؤساء الفريسيين ليتناول الطعام، وكانوا يراقبونه. وإذا إنسان مصاب بالاستسقاء قدامه. فقال يسوع لعلماء الشريعة والفريسيين: أيحل الشفاء في يوم السبت أم لا؟ فلزموا السكوت. فأخذ بيده وشفاه وصرفه، ثم قال لهم: من منكم يقع حماره أو ثوره في بئر ولا ينشله حالا في يوم السبت؟ فلم يجدوا جوابا» (لوقا، 14: 1-6). ولدينا أخبار أخرى عن قبول يسوع لدعوة فريسيين آخرين: «ودعاه أحد الفريسيين إلى الطعام عنده، فدخل بيت الفريسي وجلس إلى المائدة» (لوقا، 7: 39). وأيضا: «وبينما هو يتكلم دعاه أحد الفريسيين إلى الغداء عنده، فدخل إلى بيته وجلس إلى الطعام» (لوقا، 11: 37). وخلال فترة وجوده في أورشليم كان يصعد إلى ضاحية بيت عنيا على جبل الزيتون من أجل المبيت في بيت لعازر وتناول الطعام: «ثم قبل الفصح بستة أيام أتى يسوع إلى بيت عنيا حيث كان لعازر الذي أقامه من بين الأموات، فصنعوا له هناك عشاء. وكانت مرتا تخدم، أما لعازر فكان أحد المتكئين معه ...» (يوحنا، 12: 1-2).
وكان خصومه يأخذون عليه ميله للطعام والشراب، ويقارنونه بيوحنا المعمدان «الذي كان لباسه من وبر الإبل وطعامه جرادا وعسلا بريا» (متى، 3: 4). فاشتكى يسوع قائلا: «جاء يوحنا المعمدان لا يأكل ولا يشرب فقالوا إن به مسا من الشيطان، جاء ابن الإنسان (= يسوع) يأكل ويشرب فقالوا هو ذا رجل أكول وشريب خمر، محب للعشارين والخطاة» (متى، 11: 19).
كما وحبب إلى يسوع من متع الدنيا الطيب والروائح العطرة، على ما تبينه قصة المرأة التي دخلت إلى حيث كان يجلس على المائدة في بيت عنيا وسكبت على رأسه حقة من طيب الناردين الخالص الغالية الثمن، فقبل يسوع هذه البادرة عن طيب خاطر وعنف من وجه إليها اللوم. ولكي نأخذ فكرة عما كلفت المرأة بادرتها هذه، نقول بأن عطر الناردين كان أغلى العطور، وكانت الحقة منه تتسع لما مقداره 300 غرام من الطيب بلغ ثمنها وفق النص 300 دينار. ومع ذلك لم ير يسوع ضيرا فيما فعلت، وقال معليا من شأن المرأة: «الحق أقول لكم: حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضا بما فعلته هذه تذكارا لها» (مرقس، 14: 3-9).
وعلى الرغم من أن أحدا لم يصف لنا الثياب التي كان يسوع يرتديها والقماش الذي صنعت منه، إلا أن لباسه لم يكن بالتأكيد من وبر الإبل على طريقة يوحنا المعمدان ، بل من النوع الفاخر الغالي الثمن، وكان يتألف من عدة قطع لا من قطعة بسيطة واحدة. وهذا ما أغرى الجنود القائمين على عملية الصلب باقتسامها فيما بينهم، وأجروا القرعة عليها منعا للاختلاف على ما يأخذه كل واحد: «ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ماذا يأخذ كل واحد» (مرقس، 15: 24). «ثم إن الجنود لما صلبوا يسوع، أخذوا ثيابه وجعلوها أربعة أقسام، لكل جندي نصيب» (يوحنا، 19: 23). ولكنهم بعد ذلك تنازعوا على قميصه النادر الذي كان مصنوعا من قماش غير مخيط منسوجا كله من أعلاه إلى أسفله.
وكانت نفس يسوع تضطرم بالعواطف الإنسانية المعهودة في البشر، فكان يظهر الشفقة والحنو اللذين يدفعانه إلى مد يد العون للمرضى وأصحاب العاهات والممسوسين: «وجاء إليه أبرص وجثا وقال له: إن شئت فأنت قادر على أن تبرئني. فحن عليه يسوع ومد يده فلمسه وقال له: قد شئت فابرأ. فزال عنه المرض من ساعته وبرئ» (مرقس، 1: 40-41). ولم يكن يتصرف تصرف فيلسوف رواقي لا تهزه الأفراح أو الأتراح، بل إن التأثر كان يبلغ به أحيانا حد البكاء، كما حصل عندما وقف أمام قبر صديقه لعازر: «فلما رآها (أي أخت العازر) تبكي ويبكي معها اليهود الذين رافقوها، ارتعشت نفسه واضطرب وقال: أين وضعتموه؟ فقالوا: تعال يا سيدي وانظر. فبكى يسوع» (يوحنا، 11: 33-36).
وتميز سلوكه وردود أفعاله أحيانا بالنزق ونفاد الصبر. فعندما لم يفهم تلاميذه مثله المعروف عن الطاهر والنجس وسألوه أن يفسره لهم بعد انفضاض الجمع: قال لهم: «أحتى الآن أنتم لا تفهمون» (متى، 15: 13-16). وفي مناسبة مماثلة قال لهم: «أما تفهمون هذا المثل؟ فكيف إذن تفهمون غيره من الأمثال» (مرقس، 4: 13). وهناك أمثلة على إظهاره الحنق والغيظ: «وقدموا إليه أولادا لكي يلمسهم، وأما التلاميذ فانتهروا الذين قدموهم. فلما رأى ذلك يسوع اغتاظ وقال لهم: دعوا الأولاد يأتون إلي ولا تمنعوهم» (مرقس، 10: 13-14). وأيضا: «ثم دخل إلى المجمع وكان هناك رجل يده يابسة، فصاروا يراقبونه هل يشفيه في السبت لكي يشتكوا عليه ... فقال لهم: هل يحل في يوم السبت فعل الخير أم فعل الشر؟ ونظر حوله إليهم بغضب وقال للرجل: مد يدك. فمدها فعادت صحيحة كالأخرى» (مرقس، 3: 1-6). ويظهر نزق يسوع ونفاد صبره في قصة لعنه للتينة العجفاء: «وفي الصبح إذ كان راجعا إلى المدينة جاع. فنظر شجرة تين على الطريق وجاء إليها فلم يجد إلا ورقا فقط. فقال لها: لا يكن منك ثمر بعد. فيبست التينة في الحال» (متى، 21: 18-19).
هذا النزق كان يتحول أحيانا إلى ثورات غضب عارم. ولطالما احتدم غضبا على محاوريه من مثقفي اليهود. فعندما دعاه أحد الفريسيين إلى الغداء عنده: «دخل بيته وجلس إلى الطعام. فعجب الفريسي منه لأنه لم يغسل يديه قبل الغداء. فقال له يسوع: ألا أيها الفريسيون، إنكم تطهرون ظاهر الكوب والصحفة وباطنكم ممتلئ نهبا وفسقا. أيها الجهال، أليس الذي صنع الظاهر قد صنع الباطن أيضا. فتصدقوا بما لديكم يكن كل شيء طاهرا لكم ... الويل لكم أيضا يا علماء الشريعة. تحملون الناس أحمالا ثقيلة وأنتم لا تمسون هذه الأحمال بإحدى أصابعكم. الويل لكم، تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم هم الذين قتلوهم. فأنتم الشهود وأنتم على أعمال آبائكم توافقون» (لوقا ، 11: 37-48)، وفي مناسبة أخرى يقول لهم: «الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون. تقفلون باب ملكوت السماوات في وجوه الناس، فلا أنتم تدخلون ولا تدعون الذين يريدون الدخول يدخلون. الويل لكم، تجوبون البحر والبر لتكسبوا دخيلا واحدا (إلى الدين اليهودي)، فإذا هودتموه جعلتموه يستحق جهنم ضعف ما أنتم تستحقون» (متى، 23: 13-23).
ولم ينج تلاميذه أنفسهم من نوبات غضبه: «ودنا منه رجل فجثا وقال له: سيدي، أشفق على ابني فإنه يصرع (تأتيه نوبات صرع) ويتألم شديدا. وقد جئت به إلى تلاميذك فلم يستطيعوا أن يشفوه. فأجاب يسوع: أيها الجيل غير المؤمن الملتوي إلى متى أكون معكم، إلى متى أحتملكم؟ (والخطاب هنا إلى تلاميذ يسوع). قدموه إلى ها هنا. فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان فشفي من ساعته. ثم تقدم التلاميذ إلى يسوع على انفراد وقالوا: لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه؟ فقال لهم: لعدم إيمانكم» (متى، 17: 14-20). وفي إحدى المرات صعدوا إلى السفينة ونسوا أن يتزودوا بالخبز . وكان ذلك بعد قيام يسوع بمعجزة تكثير الخبز والسمك وإطعام أربعة آلاف شخص من سبعة أرغفة وبضع سمكات صغار: «وكان يسوع يعلمهم قائلا: احذروا من خمير الفريسيين وخمير هيرودوس (يعني بذلك الرياء والخبث). فقال بعضهم لبعض أن لا خبز لديهم. فقال لهم يسوع: لماذا تقولون أن لا خبز لديكم؟ ألم تعقلوا حتى الآن وتفهموا؟ ألكم قلوب عمية أم لكم عيون ولا تبصرون وآذان ولا تسمعون» (مرقس، 8: 11-18). وحتى بطرس الذي كان يتلقى من معلمه معاملة تفضيلية، نال نصيبه الخاص من غضب يسوع عندما قال له: «اذهب عني يا شيطان، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس» (مرقس، 8: 33).
وقال لليهود الذين كانوا يجادلونه في الهيكل عندما تباهوا بأنهم أولاد إبراهيم: «لو كنتم أبناء إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم. ولكنكم تريدون قتلي أنا الذي قال لكم الحق الذي سمعه من الله، وهذا ما لم يفعله إبراهيم. أنتم تعملون أعمال أبيكم ... إنكم أولاد إبليس وأنتم تريدون إتمام شهوات أبيكم ... من كان من الله سمع كلام الله، ولكنكم لستم من الله» (يوحنا، 8: 39-47).
وها هو يصب جام غضبه على مدن الجليل التي لم تؤمن به على الرغم مما صنعه فيها من معجزات: «ثم أخذ يعنف المدن التي جرت فيها أكثر معجزاته وما تابت، فقال: الويل لك يا كورزين، الويل لك يا بيت صيدا. فلو جرى في صور وصيدا ما جرى فيكما من معجزات لأظهرتا التوبة بالمسح والرماد من زمن بعيد. على أني أقول لكم إن صور وصيدا سيكون مصيرهما يوم الدين أخف وطأة من مصيركما. وأنت يا كفر ناحوم، أتحسبين أنك ترتفعين إلى السماء؟ ستهبطين إلى الجحيم ... إلخ» (متى، 11: 20-24).
ويتجلى غضب يسوع في أعنف أشكاله في مشهد طرد الصيارفة والباعة من باحة الهيكل «واقترب فصح اليهود، فصعد يسوع إلى أورشليم فرأى في الهيكل باعة البقر والغنم والحمام، والصيارفة جالسين إلى مناضدهم. فجدل سوطا من حبال وطردهم جميعا من الهيكل مع الغنم والبقر، ونثر دراهم الصيارفة وقلب مناضدهم» (يوحنا، 2: 13-15).
ويظهر مشهد طرد الصيارفة والباعة من باحة الهيكل مدى ما تمتع به يسوع من جرأة في مواجهة خصومه. وقد بلغت جرأته على السلطة السياسية والدينية مبلغا لا يتفق وقلة حيلته في مواجهتها. فعندما جاء إليه من يخبروه بأن هيرود أنتيباس ملك الجليل يطلب قتله، ونصحوه بالاختفاء في المواطن التي لا سلطة لهيرود عليها، قال لهم: «اذهبوا فقولوا لهذا الثعلب إني أطرد الشياطين وأجري الشفاء اليوم وغدا ... إلخ» (لوقا، 13: 31-32). وعندما جرى القبض على يسوع وسيق إلى المحاكمة أمام الوالي بيلاطس أحاله هذا إلى ملك الجليل الذي كان يزور أورشليم في ذلك الوقت للمشاركة بعيد الفصح، باعتبار أن يسوع مواطن جليلي. ولكن يسوع رفض التحدث إلى «الثعلب» ولم يجبه على أي من أسئلته، فأعاده هيرود إلى بيلاطس (لوقا، 23: 5-11). وعندما مثل أمام بيلاطس لم يجبه إلا على اثنين من أسئلته باقتضاب ثم لزم الصمت. فقال له بيلاطس: «أما تكلمني؟ ألست تعلم أن لي سلطانا أن أصلبك وسلطانا أن أطلقك؟ فأجابه يسوع: لم يكن لك سلطان علي البتة لو لم تكن أعطيت (هذا السلطان) من فوق» (يوحنا، 19: 8-10).
ولم تكن جرأته على السلطة الدينية بأقل من جرأته على السلطة السياسية. فقد انتهك الشريعة التوراتية عندما كان يجري الشفاء يوم السبت وعندما كان تلاميذه يقطفون من السنابل ويأكلون في السبت، وعندما برر عدم التزام تلاميذه بالصيام اليهودي، وعندما أعلن عدم التزامه بالطاهر والنجس في المأكل والمشرب وجعل كل الأطعمة طاهرة، وعندما عفا عن المرأة الزانية التي تأمر الشريعة برجمها، وعندما لم يكن يصلي في هيكل أورشليم ولا قرب قربانا واحدا فيه، وأعلن عن سدى العبادة في الهيكل عندما قال: «ستأتي ساعة تعبدون فيها الآب لا في هذا الجبل (= جبل جرزيم في السامرة) ولا في أورشليم. أنتم تعبدون ما لا تعلمون ونحن نعبد ما نعلم. لأن الخلاص هو آت من اليهود» (يوحنا، 4: 21-22).
وفي قصة عفوه عن الزانية، يظهر يسوع إلى جانب رفضه للجوانب غير الإنسانية في الشريعة اليهودية، تعاطفا مع الضعف الإنساني قل مثيله: «فأتاه الفريسيون بامرأة أخذت في زنا وقالوا له: يا معلم، إن هذه المرأة أخذت في الزنا المشهود، وقد أوصانا موسى برجم أمثالها، فماذا تقول أنت؟ وإنما قالوا ذلك ليحرجوه فيتهموه. فأكب يسوع يخط بإصبعه على الأرض. فلما ألحوا عليه في السؤال جلس وقال لهم: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولا بحجر. ثم أكب ثانية يخط في الأرض. فلما سمعوا هذا الكلام انصرفوا واحدا بعد واحد مبتدئين بالشيوخ إلى الآخرين، ولبث يسوع وحده والمرأة في مكانها. فجلس يسوع وقال لها: أين هم أيتها المرأة؟ أما أدانك أحد؟ فأجابت: لا يا سيدي. فقال لها يسوع: ولا أنا أيضا أدينك. اذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة» (يوحنا، 8: 1-11). ولعل في قول يسوع هنا: «ولا أنا أيضا أدينك» ما يشير إلى أن يسوع قد عرف الخطيئة مثله مثل سائر البشر؛ ولذلك فإنه لم يدن المرأة.
وكان يسوع عازفا عن إظهار التواضع الزائف الذي يسم سلوك الفلاسفة والمتفلسفين، شديد الفخر بنفسه مؤكدا على علو مكانته. فقد شبه نفسه في هذه الدنيا بالعريس الذي هو مركز الحدث والشخصية الرئيسية في الحفل: «فجاء بعض الناس وقالوا ليسوع: لماذا يصوم تلاميذ يوحنا وتلاميذ الفريسيين ولا يصوم تلاميذك؟ فقال لهم: أيستطيع أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم؟» (مرقس، 2: 18-19). وعندما انتهر البعض المرأة التي سكبت على رأسه حقة العطر، بحجة أن الفقراء أولى بثمنها، قال لهم: «الفقراء عندكم في كل حين، أما أنا فلست عندكم في كل حين» (متى، 26: 11).
وقد بلغ من فخره بنفسه أنه اعتبر كل من سبقه في التاريخ النبوي اليهودي لصوصا وسارقين، وذلك بالمعنى المجازي لا الحرفي: «أنا الراعي الصالح، أعرف خرافي وخرافي تعرفني» (يوحنا، 10: 14). «الحق أقول لكم، من لم يدخل حظيرة الخراف من الباب بل تسلق إليها من طريق آخر كان لصا سارقا، ومن يدخل من الباب كان راعي الخراف، البواب يفتح له والخراف تصغي إلى صوته وتتبعه لأنها تعرف صوته أما الغريب فلا تتبعه. الحق أقول لكم: أنا باب الخراف. جميع الذين جاءوا قبلي لصوص سارقون ولكن الخراف لم تصغ إليهم» (يوحنا، 10: 1-8). وقد قارن نفسه ببعض أنبياء إسرائيل وبأعظم ملوكهم، وأعلن أنه أعلى منهم شأنا: «أهل نينوى سيقومون مع أهل هذا الجيل ويحكمون عليه لأنهم تابوا بإنذار النبي يونان، وها هنا أعظم من يونان. ملكة الجنوب ستقوم يوم الدين مع هذا الجيل وتحكم عليه، لأنها جاءت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وها هنا أعظم من سليمان» (متى، 12: 41-43). وهو أعلى شأنا من إبراهيم الأب الأعلى لليهود وأعظم الأنبياء: «ابتهج أبوكم إبراهيم على رجاء أن يرى يومي، ورآه ففرح. قال له اليهود: أرأيت إبراهيم وما بلغت الخمسين؟ فقال لهم يسوع: الحق، الحق أقول لكم: كنت قبل أن يكون إبراهيم» (يوحنا، 8: 56-58). وهو أعظم من هيكل أورشليم محور التاريخ الديني والدنيوي لليهود. فعندما شغب عليه اليهود لانتهاكه حرمة السبت قال لهم: «أوما قرأتم في التوراة أن الكهنة في السبت يستبيحون حرمة الهيكل ولا حرج عليهم؟ فأقول لكم: ها هنا أعظم من الهيكل» (متى، 12: 5-6). والمقصود من استباحة الكهنة للسبت في الهيكل، هو ما نصت عليه الشريعة من تقديم قرابين معينة في يوم السبت (راجع سفر العدد، 28: 9).
وقد تمتع يسوع بأهم خصيصة في المعلم الروحي، ألا وهي قوة الشخصية والجاذب الطبيعي أو الكاريزما. وكان يتحدث دوما كمن له سلطان، على حد تعبير الأناجيل: «فلما أكمل يسوع هذه الأقوال بهتت الجموع من تعليمه، لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة» (متى، 7: 29). «فتحيروا كلهم حتى سأل بعضهم بعضا قائلين: ما هذا؟ وما هو هذا التعليم الجديد؟ لأنه يأمر حتى الأرواح النجسة فتطيعه» (مرقس، 1: 27). «ولما جاء إلى الهيكل، تقدم إليه رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب وهو يعلم قائلين: بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن أعطاك هذا السلطان» (لوقا، 20: 1-2). وعلى الرغم من عدم امتلاكه لأي حق في التدخل بالأنظمة المتبعة في الهيكل، فقد ألقى الرعب في قلوب الصرافين وباعة حيوانات قرابين الهيكل ففروا من أمامه مذعورين عندما انقض عليهم وفرقهم بسوطه. وهذه الهيبة التي تمتع بها يسوع منعت حراس الهيكل من القبض عليه عندما أمروا بذلك: «فأرسل الفريسيون والأحبار خداما ليمسكوه ... فعاد الخدام إلى الأحبار والفريسيين، فقال لهم هؤلاء: لماذا لم تأتوا به؟ أجاب الخدام: لم يتكلم إنسان هكذا مثل هذا الإنسان. فأجابهم الفريسيون: «ألعلكم أنتم أيضا قد ضللتم»» (يوحنا، 7: 32-47). وغالبا ما كان تلاميذه يهابون أن يسألوه شرح ما غمض عليهم من أقواله. فعندما قال لهم: «إن ابن الإنسان سوف يسلم إلى أيدي الناس فيقتلونه، وبعد أن يقتل يقوم في اليوم الثالث، لم يفهموا القول وخافوا أن يسألوه» (لوقا، 9: 44-45). وعندما قال لهم في جلسة العشاء الأخير إن واحدا منهم سيسلمه، تردد الجميع في سؤاله عن هوية الخائن، ولم يجرؤ على ذلك سوى التلميذ المحبوب (يوحنا، 13: 21-26). وفي ظهوره الأخير لهم عند بحيرة طبريا، عندما جلس معهم بعد انتهاء الصيد وأكل: «لم يجرؤ أحد أن يقول له: من أنت؟ لعلمهم أنه الرب» (يوحنا، 21: 4-13).
ولقد جزع يسوع من الموت كما يجزع بقية البشر. فبعد العشاء الأخير عندما مضى مع تلاميذه إلى جبل الزيتون ودخل بستان جتسيماني، شعر بقرب وصول الخائن يهوذا مع جند الهيكل، فمضى ببطرس ويعقوب ويوحنا وراح يستشعر حزنا وكآبة، وقال لهم: «نفسي حزينة حتى الموت، امكثوا هنا واسهروا. ثم أبعد قليلا ووقع على الأرض يصلي لتبتعد عنه الساعة إن يستطاع. قال: يا أبتا، إنك على كل شيء قدير فاصرف عني هذه الكأس. ولكن لا كما أنا أشاء بل كما أنت تشاء. وأخذه الجهد فأمعن في الصلاة وكان عرقه كقطرات دم تتساقط على الأرض» (مرقس، 14: 32-42؛ + لوقا، 22: 39-45). وفي الدقائق الأخيرة على الصليب بلغ به اليأس الإنساني ذروته فصاح بأعلى صوته: إلهي، إلهي لماذا تركتني (متى، 27: 46).
هل أفلح يسوع خلال حياته؟
إن الإجابة على هذا السؤال المطروح في العنوان، هي مسألة حيوية لفهم ما وراء السطور في الرواية الإنجيلية، لا سيما فيما يتعلق بأحداث الأسبوع الأخير من حياة يسوع.
غالبا ما يحدثنا الإنجيليون عن الجموع التي كانت تتقاطر إلى يسوع لتسمع كلامه أو لتحصل على الشفاء منه: «وابتدأ يعلم عند البحر، فاجتمع إليه جمع كثير حتى إنه صعد إلى سفينة في البحر وجلس فيها، والجمع كله كان عند البحر على الأرض» (مرقس، 4: 1). «فمضوا في السفينة إلى موضع خلاء منفردين، فرآهم الجموع منطلقين وعرفه كثيرون فتراكضوا إلى هناك من جميع المدن مشاة وسبقوهم واجتمعوا إليه» (مرقس، 6: 32-33). «ولما رجع الرسل أخبروه بكل ما عملوا، فاقتادهم واعتزل بهم عند مدينة تدعى بيت صيدا، فعلم الجموع بما جرى وتبعوه» (لوقا، 9: 10-11). «فلما رأى الجمع أن يسوع ليس هناك ولا تلاميذه ركبوا السفن وساروا إلى كفر ناحوم يطلبون يسوع» (يوحنا، 6: 24). فإلى أي حد ساعد هذا الهوس العام بيسوع على انتشار تعاليمه بين الناس، وخلق حركة دينية جمعت حولها الآلاف من المؤمنين، أو حتى من المتعاطفين؟
إن قراءة ما وراء السطور في الأناجيل الأربعة تفيدنا بأن يسوع قد فشل على كل صعيد خلال حياته التبشيرية القصيرة. فالجموع التي كانت تتقاطر إليه من كل حدب وصوب كانت ساعية وراء الشفاء من أمراض مختلفة، أو مدفوعة بما في داخل النفس من افتتان بكل ما هو معجز وخارق للطبيعة. ومثل هذه الجموع من الممكن أن تتجمع حول أي مشعوذ أو ساحر مثلما تجمعت حول يسوع، وهي بالتأكيد لم تكن تستمع إلى كلماته بالتوق الذي كان يشدها لرؤية أعماله، والقلة التي أصغت له لم تستجب ووقعت كلماته في آذان صماء.
كان أول الرافضين ليسوع هم أهل الناصرة، البلدة التي نشأ فيها وعاش وعمل حتى بلغ الثلاثين من العمر. فبعد جولة في أنحاء الجليل أجرى يسوع خلالها الكثير من المعجزات وشفى مرضى كثيرين، يقول لنا مرقس: «وانصرف من هناك وجاء إلى وطنه يصحبه تلاميذه. ولما أتى السبت أخذ يعلم في المجمع، فدهش أكثر الناس حين سمعوه، وقالوا: من أين له هذه؟ وما هذه الحكمة التي أوتيها وهذه المعجزات التي تجري على يديه؟ أما هو النجار ابن مريم، وأخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان؟ أوليست أخواته عندنا ها هنا؟ وأخذتهم الحيرة فيه. فقال لهم يسوع: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته. ولم يمكنه أن يصنع هناك شيئا من المعجزات وتعجب من قلة إيمانهم، ثم سار في القرى المجاورة يعلم » (مرقس، 6: 1-6). ويضيف لوقا إلى هذه القصة جوابا ليسوع يفهم منه أنه يفضل التبشير بين الوثنيين على التبشير بين أهل جلدته وهذه حالهم: «الحق أقول لكم لا يقبل نبي في وطنه. وبحق أقول لكم كان أرامل كثيرات في إسرائيل زمن النبي إيليا حين احتبست السماء ثلاث سنوات وستة أشهر فأصابت الأرض كلها مجاعة شديدة، ولم يرسل إيليا إلى واحدة منهن وإنما أرسل إلى أرملة في صرفة صيدا. وكان برص كثيرون في إسرائيل على عهد النبي أليشع، فلم يبرأ (على يديه) واحد منهم وإنما برئ نعمان السوري (وردت هاتان القصتان في سفري الملوك الأول والثاني من العهد القديم). فلما سمع أهل المجمع هذا الكلام ثار ثائرهم جميعا، فقاموا ودفعوه إلى خارج المدينة وساقوه على حرف الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه حتى يطرحوه إلى أسفل، ولكنه جاز في وسطهم ومضى. وانحدر إلى كفر ناحوم وهي مدينة في الجليل وكان يعلمهم في السبوت» (لوقا، 4: 24-31).
ويسوع عندما شمل الأقارب وأهل البيت مع مواطنيه غير المؤمنين عندما قال: «ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته.» إنما كان يلمح إلى أفراد أسرته عندما جاءوا في إحدى المرات يطلبونه بقصد وضعه تحت الحجر لأنهم اعتبروه مختلا، على ما يخبرنا مرقس: «فاجتمع أيضا جمع حتى إنهم لم يقدروا ولا على أكل الخبز. ولما سمع ذووه خرجوا ليمسكوه لأنهم قالوا إنه مختل» (مرقس، 3: 20-21). ولم يكن يسوع أفضل حالا في كفر ناحوم التي استقر فيها بعد الناصرة (لوقا، 4: 31؛ ويوحنا، 2: 13). فعلى الرغم من المعجزات الكثيرة التي أجراها في هذه المدينة فإن أهلها لم يقبلوا تعاليمه، وكذلك الأمر في مدن الجليل الأخرى. فراح يتوعد هذه المدن بأسوأ مصير: «الويل لك يا كورزين، الويل لك يا بيت صيدا. فلو جرى في صور وصيدا ما جرى فيكما من المعجزات لأظهرتا التوبة بالمسح والرماد من زمن بعيد. على أني أقول لكم إن صور وصيدا سيكون مصيرهما يوم الدين أخف وطأة من مصيركما. وأنت يا كفر ناحوم، أتحسبين أنك ترتفعين إلى السماء ؟ ستهبطين إلى الجحيم. فلو جرى في سدوم ما جرى فيك من المعجزات لبقيت إلى اليوم. على أني أقول لكم: إن أرض سدوم سيكون مصيرها يوم الدين أخف وطأة من مصيرك» (متى، 11: 20-24. قارن مع لوقا، 10: 12-15). وفي موضع آخر يتحدث عن هذا الجيل الفاسق قائلا: «بمن أشبه هذا الجبل؟ يشبه أولادا جالسين في الأسواق ينادون إلى أصحابهم ويقولون: زمرنا لكم فلم ترقصوا، نحنا لكم فلم تلطموا» (متى، 11: 16-17). وقال في موضع آخر: «جيل فاسق يطلب آية ولا تعطى له سوى آية النبي يونان. فكما بقي يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، فكذلك يبقى ابن الإنسان في جوف الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال. أهل نينوى سيقومون يوم الدين مع هذا الجيل ويحكمون عليه لأنهم تابوا بإنذار يونان، وها هنا أعظم من يونان. ملكة الجنوب (= سبأ) ستقوم يوم الدين مع هذا الجيل وتحكم عليه، لأنها جاءت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وها هنا أعظم من سليمان» (متى، 12: 39-42).
وحتى التلاميذ الذين لصقوا بيسوع وساروا معه انفض منهم كثيرون عنه في إحدى المراحل عندما صاروا لا يفهمون أقواله: «قال هذا في كفر ناحوم. فقال كثير من تلاميذه لما سمعوه: هذا كلام عسير من يطيق سماعه؟ فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون، فقال لهم: أهذا يبعث الشك فيكم؟ فكيف لو رأيتم ابن الإنسان يصعد على حيث كان قبلا. ألا إن الروح هو الذي يحيا وأما الجسد فلا يجدي نفعا، والكلام الذي كلمتكم به روح وحياة، ولكن فيكم من لا يؤمنون ... فتولى عنه عندئذ كثير من تلاميذه وانقطعوا عن مصاحبته. فقال يسوع للاثني عشر: أفتريدون أنتم أن تذهبوا مثلهم؟ فأجابه سمعان بطرس: رب، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك» (يوحنا، 6: 59-68).
وقد عبر يسوع عن مرارته وخيبة أمله من خلال عدد من الأمثال. فقد قال في مثل المدعوين إلى المأدبة: «صنع رجل عشاء فاخرا ودعا إليه كثيرا من الناس، ثم أرسل عبده في ساعة العشاء ليقول للمدعوين تعالوا لأن كل شيء قد أعد لكم. فأجمعوا كلهم على الاعتذار. قال له الأول: قد اشتريت حقلا وأنا مضطر أن أخرج فأنظره، أسألك أن تعفيني. وقال آخر: اشتريت خمسة أزواج بقر وأنا ذاهب لأمتحنها، أسألك أن تعفيني. وقال آخر: قد اتخذت امرأة فلا أقدر أن أجيء. فرجع ذلك العبد وأخبر سيده بذلك، حينئذ غضب رب البيت وقال لعبده: اخرج عاجلا إلى شوارع المدينة وأزقتها وأدخل إلى هنا المساكين والزمنى والكسحان والعرج ... إني أقول لكم: لن يذوق عشائي واحد من أولئك المدعوين» (لوقا، 14: 16-24). وقال في موضع آخر قولا يؤدي معنى هذا المثل: «إن المدعوين كثير، وأما المختارون فقليل» (متى، 22: 14).
وقال في مثل وليمة الملك: «مثل ملكوت السماوات كمثل ملك أولم في عرس ابنه، فأرسل عبيده ليدعو المدعوين إلى العرس فأبوا أن يأتوا ... فمنهم من ذهب إلى حقله، ومنهم من ذهب إلى تجارته، والآخرون أمسكوا عبيده فشتموهم وقتلوهم. فغضب الملك وأرسل جنوده فأهلك هؤلاء القتلة وأحرق مدينتهم، ثم قال لعبيده: الوليمة معدة ولكن المدعوين غير مستحقين» (متى، 22: 1-8).
وقال في مثل الكرامين القتلة: «غرس رجل كرما وسيجه وحفر فيه معصرة وبنى برجا، وسلمه إلى كرامين وسافر. ولما حان وقت الثمر أرسل عبدا إلى الكرامين ليأخذ منهم نصيبه من ثمر الكرم، فأمسكوه وضربوه وأرجعوه فارغ اليدين، فأرسل عبدا آخر فرجموه وشجوا رأسه وشتموه. فأرسل آخر وهذا قتلوه، ثم أرسل كثيرين غيرهم فضربوا فريقا وفريقا قتلوا. فبقي عنده واحد وهو ابنه الحبيب، فأرسله إليهم آخر الأمر، وقال: سيهابون ابني. فقال أولئك الكرامون بعضهم لبعض: هو ذا الوارث، هلم نقتله فيعود الميراث إلينا. فأمسكوه وقتلوه وألقوه خارج الكرم. فماذا يفعل صاحب الكرم؟ يأتي ويهلك الكرامين ويعطي الكرم إلى آخرين. أما قرأتم هذا المكتوب: الحجر الذي رفضه البناءون هو الذي صار رأس الزاوية» (مرقس، 12: 1-10).
ولم يكن حظ يسوع في أورشليم بأفضل من حظه في الجليل: «ومع أنه قد صنع أمامهم آيات هذا عددها لم يؤمنوا به، ليتم قول إشعيا النبي الذي قاله: يا رب من الذي آمن بكلامنا ولمن ظهرت ذراع الرب؟ لهذا لم يستطيعوا أن يؤمنوا، لأن إشعيا قال أيضا: قد أعمى عيونهم وأغلظ قلوبهم لئلا يبصروا بعيونهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم» (يوحنا، 12: 37-40). وقال يسوع لتلامذته في المعنى نفسه: «إن أبغضكم العالم فاعلموا أنه أبغضني قبل أن يبغضكم، لو كنتم من العالم لأحب العالم من كان منه، ولكن أبغضكم العالم لأنكم لستم منه ... فإذا اضطهدوني يضطهدونكم أيضا، وإذا حفظوا كلامي يحفظون كلامكم. سينزلون بكم ذلك كله لأنهم لا يعرفون الذي أرسلني. لو لم آت وأكلمهم لما كتبت عليهم خطيئة، ولكن لا عذر لهم اليوم من خطيئتهم. فلو لم أعمل بينهم أعمالا لم يأت بمثلها أحد لما كتبت عليهم خطيئة، ولكن اليوم رأوا وهم مع ذلك يبغضوني ويبغضون أبي» (يوحنا، 15: 18-24).
وفي إحدى المرات عندما كان يتكلم في الهيكل حمل أهل أورشليم الحجارة ليرجموه. فقال لهم: «أريتكم عدة أعمال صالحة من لدن الآب، فلأي عمل منها ترجموني؟ قال اليهود: لا نرجمك للعمل الصالح ولكن للكفر» (يوحنا، 10: 31-33). وفي مرة ثانية عندما أنهى يسوع جداله معهم بقوله: «الحق، الحق أقول لكم: كنت قبل أن يكون إبراهيم.» أخذوا حجارة ليرجموه فتوارى يسوع وخرج من الهيكل (يوحنا، 8: 58-59). «فعزموا منذ اليوم على قتله، فصار يسوع لا يظهر بين اليهود واعتزل في الناحية المتاخمة للبرية في مدينة تدعى أفرام، فأقام فيها مع تلاميذه» (يوحنا، 11: 53-54).
وقد بادل يسوع أورشليم هذا الموقف العدائي: «أورشليم، أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها. كم مرة أردت أن أجمع أبناءك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فلم تريدوا. هو ذا بيتكم يترك لكم، وإني أقول لكم: لا تروني حتى يأتي يوم تقولون فيه: تبارك الآتي باسم الرب» (لوقا، 13: 34-35). «ليتك عرفت في هذا اليوم طريق السلام، ولكنه حجب عن عينيك. فسوف يأتي زمن يحيطك أعداؤك بالمتاريس ويحاصرونك، ويضيقون عليك الخناق من كل جهة ويدمرونك وأبناءك الذين هم فيك، ولا يتركون فيك حجرا على حجر، لأنك لم تعرفي الزمن الذي كنت فيه مفتقدة» (لوقا، 19: 41-44).
كل ذلك يقودنا على الاستنتاج بأن يسوع لم يفلح خلال حياته في خلق حركة دينية قوية لا في موطنه ولا في اليهودية. وحتى تلاميذه الاثنا عشر لم يستوعب جميعهم مغزى رسالته، وظهر أخيرا بينهم خائن أسلمه إلى أعدائه. وعندما ألقي القبض عليه انفضوا عنه وهربوا كل يطلب سلامة روحه، أما رئيسهم بطرس الذي كان موضع ثقة المعلم فقد أنكره ثلاث مرات قبل أن يصيح الديك مرتين. وأثناء المحاكمة العلنية ليسوع كانوا في مخابئهم يتلقطون الأخبار من بعيد. وعندما علق معلمهم على الصليب لم يكن حاضرا واقعة الصلب منهم إلا النساء اللواتي تبعنه من الجليل وخدمنه بعرقهن وأموالهن، حتى بدا ليسوع أخيرا أن إلهه نفسه قد تخلى عنه أيضا عندما صاح: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني!»
وعلى الرغم من أن الأناجيل لا تسعفنا في معرفة العدد الدقيق لأتباع يسوع بين تلاميذ ورسل، إلا أن الوقائع تدل على أنهم لم يتجاوزوا بضع عشرات بين رجال ونساء. وهذا ما يثبته لنا سفر أعمال الرسل الذي يقول مؤلفه في وصفه للاجتماع الأول للتلاميذ بعد صعود معلمهم: «وفي تلك الأيام قام بطرس في الإخوة، وكان عدد المجتمعين يناهز مائة وعشرين ، فقال: أيها الإخوة ... إلخ» (أعمال، 1: 15-16). ولكن هذه القلة التي اجتمعت في غرفة علوية في أحد بيوت أورشليم، قد قيض لها بعد ذلك أن تغير تاريخ العالم، وتحمل تعاليم يسوع إلى أربعة أطراف الأرض. لقد أفلح يسوع ولكن ليس في حياته، وتحققت نبوءته القائلة: «سوف يأتي الناس من المشرق والمغرب، ومن الشمال والجنوب، فيجلسون على المائدة في ملكوت الله» (لوقا، 13: 29).
هل تنبأ بموته وقيامته؟
سيرة يسوع والنبوءات التوراتية
منذ الأشهر الأولى لكرازته، وبعد سماعه خبر مقتل يوحنا المعمدان، ابتدأ يسوع يتنبأ أمام تلامذته بأنه سوف يعاني آلاما شديدة في أورشليم ويقتل وبعد ثلاثة أيام يقوم. وقد كانت النبوءة الأولى في مدينة قصيرية فيلبس بعد أن تعرف عليه بطرس على أنه المسيح: «فسأل في الطريق تلاميذه: من أنا على حد قول الناس؟ فأجابوه: يوحنا المعمدان وبعضهم يقول إيليا وآخرون أحد الأنبياء. فسألهم: ومن أنا على حد قولكم أنتم؟ فأجاب بطرس: أنت المسيح. فنهاهم أن يخبروا أحدا بأمره. ثم بدأ يعلمهم أن ابن الإنسان يجب عليه أن يعاني آلاما شديدة، وأن يرذله الشيوخ والأحبار والكتبة، وأن يقتل وبعد ثلاثة أيام يقوم. وكان يقول هذا القول صراحة، فانفرد به بطرس وراح يعاتبه (وفي ترجمة أخرى ينتهره). فالتفت فرأى تلاميذه فزجر بطرس قائلا: اذهب عني يا شيطان، لأنك لا تهتم بما لله بل بما للناس» (مرقس، 8: 27-33). هذه القصة التي رواها مرقس تتكرر عند متى ولكن مع إضافة ثناء يسوع على بطرس بعد أن شهد أنه المسيح: «فأجابه يسوع: طوبى لك يا سمعان بن يونا، إن لحما ودما لم يعلن لك لكن أبي الذي في السماوات. وأنا أقول لك أيضا: أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي ... إلخ» (متى، 16: 17-19). أما لوقا فقد حذف ما أورده متى من ثناء يسوع على بطرس، كما حذف أيضا ما أورده متى ومرقس من معاتبة بطرس ليسوع على ما سمعه منه وزجر يسوع له: «واتفق أنه كان يصلي في عزلة والتلاميذ معه، فسألهم: من أنا على حد قول الجموع؟ فأجابوه: يوحنا المعمدان، وبعضهم يقول إيليا، وآخرون نبي من الأولين قام. فقال لهم: ومن أنا على حد قولكم أنتم؟ فأجاب بطرس: مسيح الله. فنهاهم بشدة أن يخبروا أحدا بذلك. وقال: يجب على ابن الإنسان أن يعاني آلاما شديدة وأن يرذله الشيوخ والأحبار والكتبة، وأن يقتل وفي اليوم الثالث يقوم» (لوقا، 9: 18-22).
في هذه القصة برواياتها الثلاث يتنبأ يسوع بموته وقيامته، ولكنه يتردد في قبول لقب المسيح لما لهذا اللقب من تداعيات سياسية في ذلك الزمن المشحون بتوقعات ظهور المسيح السياسي، ملك اليهود، الذي يعيد الملك إلى إسرائيل ويحرر الشعب من نير الحكم الروماني. وفي الحقيقة فإننا لن نعرف قط ما إذا كان يسوع قد قبل لقب المسيح. فالشهادات الإنجيلية متضاربة بهذا الخصوص ولا نستطيع الركون إلى واحدة منها في مقابل الأخرى، كما أن إجابات يسوع على أسئلة قضاته خلال المحاكمة عما إذا كان المسيح أو ملك اليهود أو ابن الله، كانت غامضة وملتوية ولا تقطع بشيء. وعلى الرغم من أن يسوع كان مدركا للدور الموكل إليه من العناية الإلهية، إلا أنه كان مدركا في الوقت نفسه أن دوره هذا لا علاقة له بالهموم السياسية والنزعات القومية لليهود. وقد أوضح تدريجيا لتلامذته مفهومه الخاص عن ملكوت الله وميزه بحدة عن مفهوم ملكوت يهوه الذي كان اليهود يتطلعون إليه. فملكوت الله هو ملكوت روحاني يجمع جميع الأمم والشعوب إلى بعضهم وإلى خالقهم، بعد عصور الظلام التي باعدت بينهم، عصر تتم فيه معرفة الآب، أبي البشر الذي لم يعرفه اليهود قط. في هذا الملكوت الذي افتتحه يسوع، يعقد الله صلحا مع البشرية ويمد لها يد الخلاص من الخطيئة الأولى ومن الموت، ومن سلطان أمير الظلام الذي كان سيد هذا العالم قبل البشارة، ويعقد معها عهدا جديدا هو عهد الله مع الإنسانية يحل محل عهد يهوه مع شعب إسرائيل. ولهذا قال يسوع عندما قدم نفسه لأول مرة في مجمع الناصرة: «روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي منكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية» (لوقا، 4: 18). فإذا كان يسوع قد قبل لقب المسيح، فبهذا المعنى قبله لا بأي معنى آخر.
بعد ذلك يكرر يسوع عبر مسيرته التبشيرية النبوءة نفسها وصولا إلى الأسبوع الأخير من حياته: «فسأله التلاميذ: فلماذا يقول الكتبة: إنه يجب أن يأتي إيليا أولا؟ فأجابهم: يجب أن يأتي إيليا أولا ويصلح كل شيء. ولكن أقول لكم: إن إيليا قد أتى فلم يعرفوه وفعلوا به ما أرادوا. وكذلك ابن الإنسان سيلقى منهم الآلام. ففهم التلاميذ أنه عنى بكلامه يوحنا المعمدان» (متى، 17: 10-13). «ومضوا من هناك ومروا بالجليل، ولم يرد أن يعلم به أحد، لأنه كان يعلم تلاميذه فيقول لهم: إن ابن الإنسان سيسلم إلى أيدي الناس فيقتلونه، وبعد قتله بثلاثة أيام يقوم، فلم يفهموا هذا الكلام، وهابوا أن يسألوه» (مرقس، 9: 30-32). ومن الغريب هنا ألا يفهم تلاميذه قوله هذا على الرغم مما حدث بينه وبين بطرس من مشادة كلامية أمامهم بعد أن تنبأ بموته في المرة الأولى (مرقس، 8: 27-30). وربما هذا ما حدا بمتى إلى إدخال بعض التعديل على رواية مرقس؛ حيث قال: «فحزنوا حزنا شديدا» (متى، 17: 22-23) بدل «فلم يفهموا هذا القول وهابوا أن يسألوه» أما لوقا فقد حافظ على رواية مرقس دون تغيير (لوقا، 9: 44-45). «ودنا حينئذ بعض الفريسيين فقالوا له: اذهب من هنا لأن هيرودس يريد أن يقتلك. فقال لهم: اذهبوا فقولوا لهذا الثعلب: إني أطرد الشياطين وأجري الشفاء اليوم وغدا، وفي اليوم الثالث يتم بي كل شيء. فعلي أن أسير اليوم وغدا والذي بعدهما، لأنه لا ينبغي لنبي أن يهلك خارج أورشليم» (لوقا، 13: 31-33). «وكانوا سائرين في الطريق صعودا إلى أورشليم ... فخلا بالاثني عشر مرة أخرى وأخذ ينبئهم بما سيحدث له قائلا: إنا لصاعدون إلى أورشليم، وسيسلم ابن الإنسان إلى الأحبار والكتبة فيحكمون عليه بالموت ويسلمونه إلى الوثنيين فيسخرون منه ويبصقون عليه ويجلدونه ويقتلونه، وبعد ثلاثة أيام يقوم» (مرقس، 10: 32-34. قارن مع متى، 20: 17-19؛ ولوقا، 18: 31-34).
وعلى مائدة العشاء الأخير قال لتلاميذه: «سوف تشكون في بأجمعكم هذه الليلة. فقد كتب: سأضرب الراعي فتتبدد الخراف. ولكن بعد قيامتي أسبقكم إلى الجليل. فقال له بطرس: لو شكوا بأجمعهم فأنا لا أشك. فقال له يسوع: الحق أقول لك: اليوم في هذه الليلة قبل أن يصبح الديك مرتين سوف تنكرني ثلاث مرات» (مرقس، 14: 27-30. قارن مع متى، 26: 31-34؛ ولوقا، 22: 31-34).
في إنجيل يوحنا يشير يسوع إلى موته القريب ولكن بشكل أكثر إلغازا. فقد قال لليهود في إحدى مجادلاته معهم: «أنا باق معكم زمنا قليلا ثم أذهب إلى الذي أرسلني، ستطلبوني فلا تجدوني، وحيث أكون أنا لا تستطيعون أن تجيئوا أنتم» (يوحنا، 7: 33-34). وقال: «اليوم دينونة هذا العالم، اليوم يطرح سيد هذا العالم خارجا وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع. قال هذا مشيرا إلى أية ميتة كان مزمعا أن يموت» (يوحنا، 12: 31-33).
فهل تنبأ يسوع فعلا بموته وقيامته من الموت؟ إن مسار أحداث ما بعد الصلب يشير إلى أن التلاميذ لم يسمعوا من يسوع مثل هذه النبوءة قط، ولم يخطر ببال أحدهم ولو على سبيل الأمنية أن يسوع قد يقوم من بين الأموات. ولا أدل على ذلك من أن من اكتشف القبر الفارغ لم يخطر له أن يسوع قد قام حقا وصدقا، ومن سمع بقصة القبر الفارغ منهم لم يصدق الخبر ولم يفسره بقيامة يسوع وإنما بدا له هذا القول نوعا من الهذيان. وعندما ظهر للرسل جميعا وهم مختبئون في غرفة محكمة الإغلاق، جزعوا وخافوا وظنوا أنهم يرون روحا ولم يصدقوا حتى أكل أمامهم. ويلفت نظرنا بشكل خاص في قصص ظهورات يسوع، ما قاله يسوع للتلميذين اللذين لم يتعرفا عليه عند ظهوره لهما: «أيها الغبيان والبطيئا القلب عن الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء. أما كان ينبغي على المسيح أن يعاني هذا الآلام فيدخل في مجده؟» ثم يستطرد مؤلف الإنجيل قائلا: ثم أخذ يفسر لهما الأمور المختصة بما ورد في جميع الكتب من موسى إلى سائر الأنبياء (لوقا، 24: 25-27). فيسوع هنا لم يوجه أنظار التلميذين إلى أقواله السابقة بخصوص قيامته في اليوم الثالث، وإنما إلى ما ورد في النبوءات التوراتية بخصوص آلام المسيح وقيامته. كما نلاحظ الشيء نفسه في تفسير مؤلف إنجيل يوحنا لعدم تصديق التلاميذ قيامة يسوع عندما قال: «لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من بين الأموات» (يوحنا، 20: 9).
والآن إذا لم يكن التلاميذ قد تلقوا من يسوع تعليما بخصوص موته في أورشليم ثم قيامته في اليوم الثالث، فكيف تكونت هذه العقيدة وما هو أصلها؟
للإجابة على هذا السؤال علينا أن نلفت النظر إلى أن مؤلفي الأناجيل الأربعة كانوا ذوي خلفية ثقافية توراتية، وأن أحدا منهم لم ير يسوع أو يسمع منه، على ما يقول به المفسرون غير الكنسيين من هنا فقد كانت المهمة المطروحة عليهم والتي وجدوا أنفسهم ملتزمين بها، هي أن يفسروا لمستمعيهم ما وصلهم من سيرة يسوع بما يتفق والنبوءات التوراتية بخصوص المسيح القادم المنتظر. وفي غمرة حماسهم وجدوا من المناسب أحيانا أن يضعوا على لسان يسوع أقوالا وأن يبتكروا أحداثا من شأنها تفسير هذه الأقوال وإيجاد المناسبات الملائمة لها. وعلى الرغم من أن المسيح الذي آمنوا به لم يكن يشبه في شيء المسيح اليهودي المنتظر، لأن مملكته على ما صرح في المحاكمة ليست من هذا العالم (يوحنا، 18: 36)، إلا أنهم وجدوا ضالتهم في عدد من المقاطع التوراتية، التي فسروها على أنها استباق رؤيوي لحياة يسوع ومصيره.
لقد كان في حوزة مؤلفي الأناجيل المتضلعين في الأسفار التوراتية مجموعة كبيرة من المقاطع الكتابية، التي كان الاعتقاد في زمنهم سائدا بأنها نبوءات عن مسيح آخر الأزمنة، حاولوا من خلالها رسم سيرة ليسوع تنطبق عليها هذه النبوءات، ولو على حساب ابتكار بعض الأقوال المنسوبة إليه أو بعض الأحداث في سيرته. وإليكم فيما يلي قائمة بأهم النبوءات وكيف طبقها الإنجيليون على حياة يسوع: (1)
سيكون وارثا لعرش داود أبيه: ⋆ «لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنا، وتكون الرياسة على كتفيه، ويدعى اسمه عجيبا، مشيرا، أبا أبديا، رئيس السلام. لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد» (إشعيا، 9: 6-7).
«لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة عند الله. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيما وابن العلي يدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد» (لوقا، 1: 30-33). (2)
يولد في بيت لحم: ⋆ «أما أنت يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة أن تكوني في ألوف يهوذا فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطا على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل» (ميخا، 5: 2).
«وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا، لست الصغرى بين رؤساء يهوذا لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل» (متى، 2: 6). (3)
يولد من عذراء: ⋆ «ولكن يعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل» (إشعيا، 7: 14).
«يا يوسف بن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك؛ لأن الذي تحمله هو من الروح القدس ... وكان هذا كله ليتم ما قيل بالنبي القائل: هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنا ... وتدعو اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا» (متى، 1: 20-23). (4)
مذبحة الأطفال: ⋆ «هكذا قال الرب : صوت سمع في الرامة (قرية على مسافة 5 كم إلى الشمال من أورشليم)، نوح بكاء مر. راحيل (زوجة يعقوب الثانية) تبكي على أولادها وتأبى أن تتعزي عن أولادها لأنهم ليسوا موجودين» (إرميا، 31: 15).
«حينئذ لما رأى هيرودوس أن المجوس سخروا به غضب جدا، فأرسل وقتل جميع الصبيان في بيت لحم وفي كل تخومها ... حينئذ تم ما قيل بإرميا النبي القائل: صوت سمع في الرامة ... إلخ» (متى، 2: 16-18). (5)
الهروب إلى مصر والعودة: ⋆ «لما كان إسرائيل غلاما أحببته، ومن مصر دعوت ابني» (هوشع، 11: 1).
«فقام (يوسف) وأخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف إلى مصر وكان هناك إلى وفاة هيرودوس. لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: من مصر دعوت ابني» (متى، 2: 14-15). (6)
يحل عليه روح الرب: ⋆ «ويخرج قضيب من جذع يسي (= والد داود) وينبت غصن من أصوله، ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب» (إشعيا، 11: 1-2).
«وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السماوات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلا عليه» (مرقس، 1: 10). (7)
نشاط يسوع في الجليل (= زبولون ونفتالي): ⋆ «كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالي، يكرم (الزمن) الأخير طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم. الشعب السالك في الظلمة أبصر نورا عظيما، الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور» (إشعيا، 9: 1-2).
«ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم انصرف إلى الجليل، وترك الناصرة وأتى فسكن في كفر ناحوم التي عند البحر في تخوم زبولون ونفتالي، لكي يتم ما قيل بإشعيا النبي القائل: أرض زبولون وأرض نفتالي طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم ... إلخ» (متى، 4: 12-16). (8)
رفض اليهود له: ⋆ «تآمر الرؤساء معا على الرب وعلى مسيحه قائلين: لنقطع قيودهما ولنطرح عنا ربطهما. الساكن في السماوات يضحك، الرب يستهزئ بهم. حينئذ يتكلم عليهم بغضبه ويرجفهم بغيظه. أما أنا فقد مسحت ملكي على صهيون جبل قدسي» (المزمور، 2: 1-6). «محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن. وكمستر عنه وجوهنا محتقر فلم نعتد به» (إشعيا، 53: 3-4).
«وقال لهم: ألحق أقول لكم إنه ليس نبي مقبولا في وطنه» (لوقا، 4: 22). «فقاموا وأخرجوه خارج المدينة وجاءوا به إلى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه حتى يطرحوه إلى أسفل. أما هو فجاز في وسطهم ومضى» (لوقا، 4: 29-30). «ولكن ينبغي أولا أن يتألم ابن الإنسان ويرفض من هذا الجيل» (لوقا، 17: 25). «جاء إلى أهل بيته فما قبله أهل بيته» (يوحنا، 1: 11). (9)
الملك الوديع: ⋆ «ابتهجي جدا يا ابنة صهيون، اهتفي يا أورشليم. هو ذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور ووديع ... ويتكلم بالسلام للأمم» (زكريا، 9: 9-10).
«احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا الراحة لنفوسكم» (متى، 11: 28-29). (10)
الملك يدخل أورشليم: ⋆ «قولوا لابنة صهيون: هو ذا مخلصك آت، ها أجرته معه وجزاؤه قدامه» (إشعيا، 62: 11) ... «هو ذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور ووديع، وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان» (زكريا، 9: 9).
«ولما قربوا من أورشليم ووصلوا إلى بيت فاجي عند جبل الزيتون، أرسل يسوع تلميذين قائلا لهما: اذهبا إلى القرية التي أمامكما تجدان أتانا مربوطة وجحشا معها فحلاهما وأتياني بهما ... فكان هذا كله لكي يتم ما قيل بالنبي القائل: قولوا لابنة صهيون هوذا ملكك يأتيك وديعا وراكبا على أتان وجحش ابن أتان» (متى، 21: 1-5). (11)
خيانة يهوذا: ⋆ «رجل سلامتي الذي وثقت به، الذي أكل خبزي، رفع عقبه علي» (المزمور، 41: 9).
«إن واحدا منكم يسلمني، الآكل معي» (مرقس، 14: 18). (12)
ثمن الخيانة ثلاثون من الفضة: ⋆ «فأخذت عصاي وقصفتها لأنقض عهدي الذي قطعته مع كل الأسباط، فنقض في ذلك اليوم ... فقلت لهم: إن حسن في أعينكم فأعطوني أجرتي وإلا فامتنعوا. فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة ... ثم قصفت عصاي الأخرى حبالا لأنقض الإخاء بين إسرائيل ويهوذا» (زكريا، 11: 10-14).
«فذهب أحد الاثني عشر، وهو يهوذا الإسخريوطي، إلى الأحبار وقال لهم: ماذا تعطوني لأسلمه إليكم؟ فجعلوا له ثلاثين من الفضة. وأخذ منذ ذلك الحين يترصد فرصه ليسلمه» (متى، 26: 14-16). (13)
شهود الزور في محاكمة يسوع: ⋆ «علمني يا رب طريقك واهدني في سبيل مستقيم بسبب أعدائي ... لأنه قد قام علي شهود زور ونافث ظلم، لولا أنني آمنت أن أرى جود الرب في أرض الأحياء» (المزمور، 27: 11-13). «شهود زور يقومون وعما لا أعلم يسألونني . يجازوني عن الخير شرا ثكلا لنفسي» (المزمور، 35: 11-12).
«وكان الأحبار والمجلس كافة يطلبون شهادة زور على يسوع ليقتلوه فلم يجدوا، مع أنه مثل بين أيديهم من شهود الزور عدد كبير» (متى، 26: 59-60). «فقام بعضهم وشهدوا عليه زورا، فقالوا: قد سمعناه يقول: سأنقض هذا الهيكل الذي صنعته الأيدي وأبني في ثلاثة أيام هيكلا آخر لم تصنعه الأيدي» (مرقس، 14: 57-58). (14)
صمت يسوع في المحكمة: ⋆ «ظلم، أما هو فتذلل ولم يفتح فاه. كشاة تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه» (إشعيا، 53: 7). «وأما أنا فكأصم لا أسمع، وكأبكم لا يفتح فاه، وأكون مثل إنسان لا يسمع وليس في فمه حجة» (المزمور، 38: 13-14).
«فقام رئيس الكهنة، وقال: أما تجيب بشيء؟ ماذا يشهد به هذان عليك؟ وأما يسوع فقد كان ساكتا» (متى، 26: 62-63). «وبينما كان الأحبار والشيوخ يشتكون عليه لم يجب بشيء. فقال له بيلاطس: أما تسمع كم يشهدون عليك؟ فلم يجبه عن كلمة واحدة حتى تعجب الوالي جدا» (متى، 27: 12-14). (15)
يبغض بلا سبب: ⋆ «وأكثر من شعر رأسي الذين يبغضونني بلا سبب» (المزمور، 69: 4). «تكلموا علي بلسان كذب، بكلام بغض أحاطوا بي وقاتلوني بلا سبب. بدل محبتي يخاصمونني. وضعوا علي شرا بدل خير وبغضا بدل حبي» (المزمور، 109: 2-5).
«وأما الآن فقد أبغضوني أنا وأبي، لكي تتم الكلمة المكتوبة في شريعتهم إنهم أبغضوني بلا سبب» (يوحنا، 15: 24-25). (16)
يضرب ويبصق عليه: ⋆ «بذلت ظهري للضاربين وخدي للناتفين، وجهي لم أستر عن العار والبصق» (إشعيا، 50: 6).
«فابتدأ قوم يبصقون عليه ويغطون وجهه ويلكمونه ويقولون له تنبأ. وكان الخدام يلطمونه» (مرقس، 14: 65). «ولما قال هذا لطم يسوع واحد من الخدام كان واقفا قائلا: أهكذا تجاوب رئيس الكهنة» (يوحنا، 18: 22). «وضفر العسكر إكليلا من شوك ووضعوه على رأسه وألبسوه ثوب أرجوان، وكانوا يقولون: السلام يا ملك اليهود، وكانوا يلطمونه» (يوحنا، 19: 2-3). (17)
يتألم نيابة عن البشر: ⋆ «لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصابا مضروبا من الله ومذلولا، وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا ... والرب وضع عليه إثم جميعنا» (إشعيا، 53: 4-6).
«بلغت إليكم قبل كل شيء ما تلقيته، وهو أن المسيح مات من أجل خطايانا كما جاء في الكتب، وأنه دفن وقام في اليوم الثالث كما جاء في الكتب» (رسالة بولس الأولى إلى أهالي كورنثة، 15: 3-4). «إن يسوع سيموت فدى الأمة. وليس فدى الأمة فحسب بل يموت ليجمع شمل أبناء الله» (يوحنا، 11: 51-52). «فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم» (متى، 1: 21). (18)
يتلقى الهزء والإهانة: ⋆ «أما أنا فدودة لا إنسان، عار عند البشر ومحتقر من الشعب. كل الذين يرونني يستهزئون بي، يفغرون الشفاه وينغصون الرأس قائلين: اتكل على الرب فلينجه، لينقذه لأنه سر به» (المزمور، 22: 6-8).
«وكان المجتازون يجدفون عليه قائلين: إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب. وكذلك الأحبار يسخرون مثلهم ويقولون مع الكتبة والشيوخ: اتكل على الله فلينقذه الآن إن كان راضيا عنه» (متى، 27: 39-43). (19)
يصلب مع أثمة: ⋆ «من أجل أنه سكب نفسه للموت وأحصي مع أثمة، وهو حمل خطيئة كثيرين وشفع في المذنبين» (إشعيا، 53: 12).
«وصلبوا معه لصين؛ واحدا عن يمينه وآخر عن يساره. فتم الكتاب القائل: وأحصي مع أثمة» (مرقس، 15: 27-28). (20)
يقدم له مرارة مع خل ليشرب: ⋆ «العار قد كسر قلبي فمرضت . انتظرت رقة فلم تكن ومعزين فلم أجد. ويجعلون في طعامي علقما وفي عطشي يسقونني خلا» (المزمور، 69: 20-21).
«بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمل. فلكي يتم الكتاب قال: أنا عشطان. وكان إناء موضوعا مملوءا خلا، فملئوا إسفنجة من الخل ووضعوها على قضيب من نبات الزوفا وقدموها إلى فمه. فلما أخذ يسوع الخل قال: قد كمل. ونكس رأسه وأسلم الروح» (يوحنا، 19: 28-30). (21)
تثقب يداه وقدماه: ⋆ «جماعة من الأشرار اكتنفتني. ثقبوا يدي ورجلي، أحصي كل عظامي» (المزمور، 22: 16).
«أما توما فلم يكن معهم حين جاء يسوع. فقال له التلاميذ: قد رأينا الرب. فقال لهم: إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع إصبعي في أثر المسامير لا أومن» (يوحنا، 20: 24-25). (22)
يطعن في جنبه: ⋆ «ويكون في ذلك اليوم أني ألتمس هلاك كل الأمم الآتين على أورشليم، وأفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات، فينظرون إلي أنا الذي طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيد له» (زكريا، 12: 10). «كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب. يحفظ جميع عظامه، واحد منها لا ينكسر» (المزمور، 34: 19-20).
«فجاء الجنود فكسروا سيقان الأول والآخر اللذين صلبا معه، أما يسوع فلم يكسروا ساقيه لأنهم لما وصلوا إليه رأوه قد مات. فطعنه أحد الجنود بحربة فخرج على إثرها دم وماء ... وحدث هذا لكي يتم الكتاب القائل: عظم لا يكسر له. وجاء في كتاب آخر: سينظرون إلى الذي طعنوه» (يوحنا، 19: 33-37). (23)
إلقاء القرعة على ثيابه: ⋆ «جماعة من الأشرار اكتنفتني ... يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون» (المزمور، 22: 16-18).
«ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ماذا يأخذ كل واحد» (مرقس، 15: 24). «ليتم الكتاب القائل: اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا قرعة» (يوحنا، 19: 24). (24)
يدفن مع غني عند موته: ⋆ «ضرب من أجل ذنب شعبي، وجعل مع الأشرار قبره ومع غني عند موته» (إشعيا، 53: 8-9).
«ولما كان المساء جاء رجل غني من الرامة اسمه يوسف، وكان هو أيضا تلميذا ليسوع، فتقدم إلى بيلاطس وطلب جسد يسوع ... فأخذ يوسف الجسد ولفه بكتان نقي ووضعه في قبره الجديد الذي كان قد نحته في الصخرة» (متى، 27: 57-60). (25)
يقوم في اليوم الثالث: ⋆ «لأنك لن تترك نفسي في الهاوية (= القبر أو العالم الأسفل) لن تدع قدوسك يرى فسادا. تريني طريق الحياة» (المزمور، 16: 10-11). «إنما الله يفدي نفسي من يد الهاوية لأنه يأخذني» (المزمور، 49: 15). «هلم نرجع إلى الرب، لأنه هو افترس فيشفينا، ضرب فيجبرنا، بعد يومين يحيينا، وفي اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه» (هوشع، 6: 1-2).
«قام يسوع صباح الأحد (اليوم الثالث للصلب) فتراءى أولا لمريم المجدلية، تلك التي أخرج منها سبعة شياطين، فمضت وأخبرت التلاميذ» (مرقس، 16: 9). (26)
ابن الله: ⋆ «إني أخبر (والكلام هنا للملك داود) من جهة قضاء الرب، قال لي: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك» (المزمور، 2: 7). «أنا (والكلام هنا ليهوه) أكون له (أي للملك سليمان) أبا، وهو يكون لي ابنا» (صموئيل، 7: 14).
«فرأى (يسوع) روح الله نازلا مثل حمامة وآتيا عليه، وصوت من السماء قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت» (متى، 3: 16-17).
في البدء كان الكلمة
أضواء على مقدمة إنجيل يوحنا
تتميز أقوال يسوع في الأناجيل الإزائية بأنها تدور حول الآب السماوي، وقرب حلول ملكوت السماء والمتطلبات الأخلاقية لدخوله. وهذا يعني أن تعاليمه لم تكن تتمركز حول ذاته بل حول الآب، وغالبا ما كان يصوغ تعاليمه على شكل أمثال أو أقوال قصيرة، وذلك استجابة لأسئلة يوجهها إليه التلاميذ أو آخرون من الجمع الفضولي الذي كان يلتئم حوله، ونادرا ما كان يلجأ إلى الخطب الطويلة المعدة بعناية مسبقا. أما خطبة الجبل الواردة في إنجيل متى: 5، فإن الباحثين في العهد الجديد اليوم متفقون على أنها من ترتيب مؤلف الإنجيل، الذي جمع أقولا أصلية ليسوع قيلت في مناسبات متفرقة، ثم رتبها في نص مطرد ما زالت علائم الخلل واضحة فيه. فإذا انتقلنا إلى إنجيل يوحنا وجدنا أن تعاليم يسوع تأتي غالبا على شكل خطب طويلة مفككة الأجزاء، وتتضمن أقوالا ذات طابع رمزي ومجازي، موضوعها الأساسي يسوع الابن وعلاقته بالآب ودوره المرسوم في خطة الخلق. وغالبا ما كانت هذه الأقوال على درجة من الصعوبة بحيث إن تلاميذه أنفسهم لم يقدروا على فهمها. فعندما قال في إحدى خطبه: «أنا الخبز الحي الذي نزل من السماء، من يأكل هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أعطيه هو جسدي الذي أبذله ليحيا العالم.» تذمر عليه اليهود وقالوا: «أليس هذا يسوع بن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه؟ فكيف يقول الآن إني نزلت من السماء؟ أما تلاميذه فقال كثير منهم: هذا كلام عسير من يطيق سماعه» (يوحنا: 6).
إن صورة يسوع في إنجيل يوحنا هي من التركيب والتعقيد بحيث إن الإنجيل كان بحاجة إلى مقدمة مكثفة ومختصرة إلى أبعد الحدود، من شأنها عون القارئ على فك شيفرات لا حصر لها مبثوثة في ثناياه. وهذا ما أنجزه المؤلف في الآيات من 1 إلى 18 من الإصحاح الأول بأسلوب يوناني رفيع ذي طابع فلسفي مغرق في التجريد. هذه المقدمة على اختصارها وإيجازها تحولت إلى حجر الأساس الذي قام عليه فيما بعد البناء السامق للاهوت المسيحي.
لقد زودنا كل من الإنجيليين الأربعة بفاتحة لكتابه. وبينما اختار مرقس أن يبدأ إنجيله بفاتحة تاريخية تتعلق بالظهور الأول ليسوع عندما جاء للاعتماد على يد يوحنا المعمدان، فإن متى ولوقا اختارا فاتحة ملحمية تتعلق بالميلاد الإعجازي ليسوع وطفولته المبكرة. أما يوحنا فإنه يحلق بنا في فاتحته إلى السماوات العلا لنواجه «الكلمة» (أو اللوغوس باليونانية) التي كانت عند الله منذ البدء، والتي كانت وسيلته لخلق العالم قبل أن تتحد في رحم مريم بجسد يسوع المسيح. وهي التي جلبت معها إلى العالم النور والنعمة والحق. وعلى الرغم من أن «اللوغوس» في اللغة اليونانية يعني «الكلمة» إلا أنه بالمعنى الفلسفي يعني «العقل» بالمفهوم الكوني الكلي. وبما أن الكلام عند الإنسان ينقسم إلى نوعين، نوع نفسي هو عبارة عن تصورات ذهنية لا يجري التعبير عنها في الخارج بأصوات، ونوع خارجي يعبر عنه في الخارج باللفظ والصوت، كذلك الحال فيما يتعلق بكلام الله الذي ينقسم إلى كلام نفسي هو اللوغوس باعتباره صفة من صفات الله، وكلام خارجي هو اللوغوس باعتباره الصورة المعقولة التي هي نموذج للأشياء. وعلى هذا يكون الله وكلامه شيئا واحدا ، وهنالك وحدة في الهوية بين الطرفين على ما يبدو من استقلالهما. وعلى حد تعبير يوحنا:
في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله.
هذا في البدء كان عند الله.
به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان.
فيه كانت الحياة، والحياة نور الناس.
والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لا تقوى عليه.
كان إنسان مرسل من لدن الله اسمه يوحنا (المعمدان).
هذا جاء شاهدا ليشهد للنور لكي يؤمن على يده جميع الناس.
لم يكن هو النور بل ليشهد للنور.
النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان كان آتيا إلى العالم.
كان في العالم، وبه كان العالم، ولم يعرفه العالم.
جاء إلى بيته فما قبله أهل بيته.
أما الذين قبلوه فقد أولاهم سلطانا أن يصيروا أبناء الله.
وهم الذين ولدوا لا من دم، ولا من مشيئة جسد،
ولا من مشيئة رجل، بل من الله.
والكلمة صار جسدا وحل بيننا ،
فرأينا مجده مجدا كما لوحيد من الآب مملوءا. نعمة وحقا.
يوحنا شهد له ونادي قائلا: هذا هو الذي قلت فيه إن الذي يأتي بعدي قد تقدمني لأنه كان قبلي. ومن ملئه نلنا بأجمعنا نعمة على نعمة. لأن الشريعة أتتنا على يد موسى، وأما النعمة والحق فقد بلغا إلينا على يد يسوع المسيح.
الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي حضن الأب هو الذي أخبر عنه.
هنالك مفهومان يتحكمان بهذه المقدمة الفخمة؛ المفهوم الأول هو «اللوغوس» والثاني هو «التجسد». فاللوغوس الذي هو كلام الله موجود معه منذ الأزل. وعلى الرغم من أنه صدر عنه، إلا أن هذا الصدور ليس زمانيا بمعنى أنه حدث في وقت معين، وإنما هو صدور وجودي يتضمن معنى الاختلاف في المرتبة بين الاثنين. فالله هو الآب واللوغوس هو الابن المتولد عن الله. الله هو المتكلم واللوغوس هو كلامه، وما الاثنان في المحصلة إلا هوية واحدة: «وكان الكلمة الله». وعند الحد الفاصل بين السرمدية والزمن الدنيوي، لما قرر الله أن يخلق العالم، كان اللوغوس أو الكلمة وسيلته إلى ذلك: «به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان». وفي لحظة معينة من التاريخ الدنيوي هبط اللوغوس من عليائه وتجسد في رحم مريم إنسانا من لحم ودم: «والكلمة صار جسدا وحل بيننا». ولكن العالم لم يعرفه، و: «جاء إلى بيته فما قبله أهل بيته» من اليهود، أما الذين قبلوه من الأمم: «فقد أولاهم سلطانا أن يصيروا أبناء الله» من خلال المعمودية التي تهبهم الولادة الثانية. وهذه الولادة ليست: «من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل، بل من الله». «لأن الشريعة أتتنا على يد موسى»، أما يسوع المسيح الذي حررنا من الشريعة، فقد جاءنا: «بالنعمة والحق» وأخبرنا عن الله الذي: «لم يره أحد قط، ولكن الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه». وهذا الابن هو النور الذي قهر ظلام الجهل الذي كان اليهود يعمهون به قبل مجيء يسوع، الجهل بالله الحق: «والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لا تقوى عليه».
وفي الحقيقة، فإن مفهوم اللوغوس باعتباره صلة وصل بين الله والعالم والوسيط الذي به جرى خلق هذا العالم، ليس من ابتكار مؤلف إنجيل يوحنا، بل له تاريخ شيق نستطيع متابعته في الفكر التوراتي كما في الفكر الفلسفي اليوناني السابق على المسيحية. ففي كتاب التوراة يتحدث سفر الأمثال وسفر الحكمة عن «الحكمة» التي خلقها الرب قبل كل شيء لتكون صلة وصل بينه وبين العالم والوسيط الذي أوكلت إليه مهمة الخلق. نقرأ في سفر الأمثال: «طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة ... لأن تجارتها خير من تجارة الفضة وربحها خير من الذهب الخالص ... هي شجرة الحياة لممسكها، والمتمسك بها مغبوط. الرب بالحكمة أسس الأرض، أثبت السماوات بالفهم. بعلمه انشقت اللجج وتقطر السحاب ندى» (الأمثال، 3: 13-20).
وها هي تتحدث عن نفسها: «الرب حازني أول طريقه، من قبل أعماله منذ القدم. منذ الأزل مسحت، منذ البدء منذ أوائل الأرض. إذ لم يكن غمر أبدئت، إذ لم تكن ينابيع غزيرة المياه. من قبل أن تقررت الجبال، قبل التلال أبدئت، إذ لم يكن قد صنع الأرض ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة. لما ثبت السماء كنت هناك أنا، لما رسم دائرة على وجه الغمر، لما أثبت السحاب من فوق، لما تشددت ينابيع الغمر، لما وضع للبحر حده فلا تتعدى المياه تخمه، لما رسم أسس الأرض، كنت عنده صانعا وكنت كل يوم لذته فرحة دائما قدامه، فرحة في مسكونة أرضه، ولذاتي مع بني آدم.» (الأمثال، 8: 22-31)
ونقرأ في سفر الحكمة: «إن الحكمة أسرع حركة من كل متحرك. وهي لطهارتها تلج وتنفذ في كل شيء. فإنها بخار قوة الله وصدور مجد القدير الخالص. فلذلك لا يشوبها شائبة ولا يشوبها شيء نجس، لأنها ضياء النور الأزلي مرآة عمل الله النقية وصورة جودته. تقدر على كل شيء وهي واحدة، وتجدد كل شيء وهي ثابتة في ذاتها. وفي كل جيل تحل في النفوس القديسة فتنشئ أحباء لله وأنبياء ... إنها أبهى من الشمس وأسمى من كل مركز للنجوم. وإذا ما قيست بالنور تقدمت عليه.» (سفر الحكمة، 7: 24-27)
وهي محبوبة الرب وتسكن عنده: «فإن في نسبها مجدا لأنها تحيا عند الله، ورب الجميع قد أحبها. فهي صاحبة أسرار علم الله والمتخيرة لأعماله.» (سفر الحكمة، 8: 3-4)
ويتحدث سفر أخنوخ الثاني (أو أسرار أخنوخ)، وهو من الأسفار غير القانونية، عن الحكمة كوكيل للخلق: «وفي اليوم السادس أمرت حكمتي أن تخلق الإنسان من سبعة عناصر: فلحمه من تراب الأرض، ودمه من الندى ومن الشمس، وعيناه من العمق السحيق للبحر، وعظامه من الصخور، وفكره من حركة الملائكة ومن الغيوم، وشرايينه وشعره من عشب الأرض، وروحه من روحي ومن الريح.» (أخنوخ الثاني، 30: 8)
1
فإذا جئنا إلى الفلسفة اليونانية التي كان مؤلف إنجيل يوحنا على معرفة جيدة بها، لوجدنا أنها عالجت مفهوم اللوغوس منذ بداياتها المبكرة. فقد قال هيراقليطس صاحب فلسفة الجدل والتغيرات: إن اللوغوس هو القانون الكوني الذي تجري على أساسه أنواع التغيرات في الوجود. وقال الرواقيون: إنه القوة التي تسود الموجودات جميعا وتحفظها، والعلة المشتركة المقومة لجميع الأشياء. وهذه القوة هي التي تربط بين جميع الأجزاء المنفصلة للوجود وتجمع بينها في وحدة مترابطة. وفي العصر الهيلينستي قال فيلون الإسكندري: إن اللوغوس هو الأداة التي خلق الله بواسطتها العالم، وهو الوسيط بين الله والعالم. وقالت الرسائل الهرمزية المعزوة لهرمز المثلث العظمة
2
إن اللوغوس هو المبدأ الذي يجلب النظام إلى العالم، وهو ابن الله.
وقد كان لفيلون الإسكندري على ما يبدو الأثر الأقوى على فكر مؤلف إنجيل يوحنا، فهو الأقرب إليه زمنيا، ونظرا لكونه يهوديا إسكندرانيا فقد شاعت أفكاره بين مثقفي اليهود سواء في فلسطين أم في آسيا الصغرى وبقية المغتربات اليهودية في العالم اليوناني. كان فيلون، المتوفى سنة 50م، مثقفا يونانيا أكثر منه مثقفا عبرانيا، فكان يأخذ معارفه الدينية اليهودية عن التراجم اليونانية للأسفار التوراتية لا عن الأصول العبرية نفسها. ولكنه في الوقت نفسه كان مؤمنا عميق التدين، كرس قسما كبيرا من فلسفته من أجل التوفيق بين ما جاء في التوراة وبين الفلسفة اليونانية، معتمدا على التفسير الرمزي والمجازي للنص المقدس، فكان بذلك أول من أسس لمنهج التأويل في الفكر الديني، وهو المنهج الذي اتبعه بعد ذلك المفكرون الإسلاميون من علماء كلام وفلاسفة ومتصوفة، إضافة إلى مفكري الطوائف الإسلامية التي يغلب عليها الطابع الفلسفي، والمفكرين الأفذاذ الذين كتبوا رسائل إخوان الصفاء.
ينطلق فكر فيلون من تصوره لمفهوم الله. فالله هو اللا متناهي؛ ولذلك فإن عقل المتناهي غير قادر على إدراكه، وكل ما نستطيع القول بشأنه يتخذ طابع السلب لا طابع الإيجاب. فهو ليس كذا وكذا، بل هو ليس بكذا وليس بكذا. ونحن في النهاية لا نستطيع أن نثبت له من صفات إيجابية إلا صفة الوجود. إننا نعرف أن الله موجود ولكننا لا نعرف مطلقا كيفية هذا الوجود. فهو وجود بلا كيف. ولذلك فإن فيلون لا يثبت من أسماء الرب إلا اسما واحدا وهو الاسم الدال على الوجود: يهوه
3 (راجع سفر الخروج، 3: 13-15). ولما كان المتناهي لا يتصل بالمتناهي فإن فعل الله في العالم لا يتم إلا من خلال وسيط هو اللوغوس الذي يعبر الهوة الفاصلة بين الله وخلقه . فاللوغوس هو باطن في الكون وهو علة الموجودات والقوة الحالة فيها والتي بها يتم كل تغير وحركة في الوجود، وهو يجمع إلى نفسه كل القوى الإلهية.
وبما أن غاية الفلسفة عند فيلون هي تحقيق الخلاص للإنسان وذلك بتجاوزه لحالة المتناهي إلى حالة اللا متناهي، فإن الطريق الذي يرسمه لتحقيق الخلاص هو التصوف الذي به تعرف نفسك، وتعرف أن العالم زائل وفان ومتناه، ولا قيمة إطلاقا لأي شيء موجود فيه. عند ذلك تتجه إلى معرفة الله حدسا وإلهاما والفناء عن نفسك فيه.
4
مشكلة إنجيل يوحنا
وعودة إلى التلميذ المحبوب
يعتبر إنجيل يوحنا ظاهرة متفردة بين الأناجيل الأربعة. فهو يمتلك رؤية خاصة، وبنية عامة، وتحقيبا زمنيا، وأسلوبا في أقوال يسوع، لا يوازيها شيء في الأناجيل الأخرى. كما ويقدم لنا لاهوتا مختلفا عن لاهوت الأناجيل الإزائية. فرسالة يسوع في الأناجيل الإزائية هي رسالة أخروية، تركز على قرب حلول ملكوت الله والمطالب الأخلاقية اللازمة لدخوله، عندما ينتهي الزمن والتاريخ وينتزع الله العالم من سلطة الشيطان، ويرسل ابنه في قدومه الثاني ديانا ينهي العالم القديم ويقيم على أنقاضه عالما جديدا يرثه المؤمنون. وقد ورد تعبير ملكوت الله في الأناجيل الإزائية نحو ثمانين مرة، أما إنجيل يوحنا الذي لم يرد فيه هذا التعبير إلا مرة واحدة، فإن طريقة تعامله معه توضح لنا مراميه اللاهوتية المختلفة: «ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلا إذا ولد من عل. فقال له نيقوديموس: كيف يسع الإنسان أن يولد وهو شيخ؟ أيستطيع أن يدخل في بطن أمه ثانية ثم يولد؟ أجاب يسوع: الحق، الحق أقول لك: ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله إلا إذا ولد وكان مولده من الماء والروح. فمولود الجسد يكون جسدا ومولود الروح يكون روحا» (يوحنا، 3: 3-6). أي إن دخول الملكوت لا يكون في زمان مقبل، بل هو متيسر هنا والآن إذا مات الإنسان عن نفسه وعاش في الله. فرسالة يسوع ليست رسالة أخروية وإنما هي رسالة عرفان روحي يتحقق من خلال معرفة الابن الذي حمل الخلاص للعالم بموته على الصليب.
يتميز إنجيل يوحنا بأسلوب أدبي يوناني رفيع المستوى، وتتخلله أفكار فلسفية تنتمي إلى الأفلاطونية الوسيطة التي كان فيلون الإسكندري واحدا من أبرز ممثليها، إضافة إلى أفكار غنوصية تشكل الأساس اللاهوتي الذي يقوم عليه هذا الإنجيل. وهذا ما دعا الباحثين في السابق إلى اعتباره مصدرا للبحث عن يسوع اللاهوتي أكثر منه مصدرا للبحث عن يسوع التاريخي. ولكن كثيرا من الباحثين في العهد الجديد اليوم يرون أن مؤلف إنجيل يوحنا قد زودنا بتفاصيل صحيحة عن جغرافية وطبوغرافية فلسطين في أيام يسوع (لا سيما أورشليم) وعن العادات اليهودية وطقوس الهيكل. الأمر الذي يرجح في رأيهم أن مؤلفه كان شاهد عيان على حياة يسوع، وأن الأحداث التي يرويها تتمتع بقدر كبير من المصداقية.
إن أقدم الشذرات التي وصلتنا من إنجيل يوحنا ترجع إلى زمن ما بين عام 125 وعام 150م، كما أن أقدم الإشارات إلى هذا الإنجيل قد جاءتنا من أواسط القرن الثاني الميلادي. وهذا يعني أن الإنجيل قد دون قبل عام 125م. والرأي الغالب لدى الباحثين اليوم أنه قد دون بين عام 100 وعام 110م.
1
ولكن من هو مؤلفه؟ إن مقدمة الإنجيل تقول: «الإنجيل بحسب يوحنا». ولكن أي يوحنا هو؟
بعد وفاة بولس الرسول عام 63م، وهو الذي قدم لنا أول أدبيات مسيحية مدونة، لم يمارس أحد تأثيرا كبيرا على العقيدة المسيحية يعادل التأثير الذي مارسه مؤلف إنجيل يوحنا. وهذا ما دعا الكنيسة المبكرة إلى اعتباره واحدا من الاثني عشر، والمطابقة بينه وبين يوحنا بن زبدي صياد السمك الذي كان مع أخيه يعقوب من التلاميذ المقربين إلى يسوع. فهو التلميذ الذي أحبه يسوع، والذي أغفل الإنجيل ذكر اسمه، ولكنه أراد إفهامنا في الإصحاح الأخير بأنه كاتبه. أو أن شهاداته كانت وراء تدوينه.
ولكن المشكلة التي يواجهها دارس إنجيل يوحنا، هي غياب أي إشارة في الإنجيل يمكن أن توحي بالمطابقة بين يوحنا بن زبدي والتلميذ الذي أحبه يسوع. والمؤلف قد تجاهل تقريبا وجود يوحنا وأخيه في حياة يسوع، ولم يأت على ذكرهما إلا مرة واحدة عندما أشار إليهما كابني زبدي دون ذكر اسميهما (يوحنا، 21: 1-2). يضاف إلى ذلك أنه من المستبعد جدا، إن لم يكن من المستحيل، أن يكون يوحنا صياد السمك المتواضع وغير المتعلم هو كاتب الإنجيل الرابع بأسلوبه الأدبي الراقي وطابعه الفلسفي. وقد سبقنا سفر أعمال الرسل إلى الإقرار بعامية وسذاجة يوحنا بن زبدي عندما وصفه مع بطرس بأنهما أميان. فبعد أن أجرى هذان التلميذان إحدى معجزات الشفاء وقاما بعد ذلك يخطبان في الشعب، استدعاهما الكهنة وراحوا يستجوبونهما: «فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا تعجبوا وقد عرفوهما أميين (أو عاميين في ترجمة أخرى) ولا علم عندهما. ولكنهم عرفوا أنهما كانا قبلا من صحابة يسوع. وهم إلى ذلك يرون الرجل الذي شفي واقفا قربهما، فلم يكن لديهم ما يجيبونهم عنه، فأمروهما بالانصراف من المجلس» (أعمال، 4: 13-15). فهل هنالك يوحنا آخر يمكن أن يكون كاتب الإنجيل الرابع؟ وما هي علاقة هذا اليوحنا بالتلميذ المحبوب؟
لقد ورد في بعض الأخبار المتداولة لدى المسيحيين الأوائل، ومنها ما ورد عند إيرنايوس أسقف ليون نحو عام 180م: أن يوحنا الرسول قد انتقل إلى مدينة إفسوس بآسيا الصغرى وعاش عمرا مديدا هناك. وفي أواخر أيامه أقنعه البعض بأن يدون ذكرياته عن يسوع، فأنجز الإنجيل الرابع. ولكن لا يوجد لدينا شواهد من القرن الأول الميلادي على أن يوحنا الرسول (ابن زبدي) قد رحل إلى آسيا الصغرى، وكل ما لدينا من أخباره في العهد الجديد يعود إلى ما قبل عام 60م. فقد ذكر لآخر مرة في سفر أعمال الرسل 8: 14 عندما ذهب مع بطرس من أجل التبشير في منطقة السامرة، كما ذكره بولس في رسالته إلى أهالي غلاطية مع بطرس ويعقوب أخي الرب باعتبارهم أعمدة كنيسة أورشليم (غلاطية، 2: 9) وذلك نحو عام 50م، كما أن سفر الأعمال يخبرنا عن مقتل أخيه يعقوب على يد هيرود أغريبا الأول عام 41م (أعمال، 12: 1-2)، وذكرت أخبار متداولة أخرى أن اليهود قد قتلوا يوحنا نفسه بعد ذلك بفترة وجيزة.
2
ومن الملفت للنظر أن أغناطيوس أسقف أنطاكية في رسالته المعروفة إلى أهالي إفسوس عام 110م، قد خاطبهم بقوله: «يا أهل بولس»، مشيرا بذلك إلى إقامة بولس بينهم منذ عدة عقود ورسالته الموجهة إليهم (الرسالة إلى أهالي إفسوس). ولو أن يوحنا الرسول كان مقيما في إفسوس بين عام 100 و110م عندما أنجز إنجيله هناك، لما تردد أغناطيوس في ذكر ذلك، وكان أحرى به أن يناديهم بيا أهل يوحنا الرسول؛ لأنهم كانوا أقرب عهدا إلى يوحنا منهم إلى بولس.
3
على أن شخصية مسيحية مهمة أخرى كانت نشطة في آسيا الصغرى خلال مطلع القرن الأول الميلادي، يدعوها بابياس في كتابه الذي ظهر عام 144م بيوحنا الشيخ (أو يوحنا القس). وقد التقى بابياس بيوحنا هذا قبل وفاة الأخير عام 130م، عندما كان يجمع مادة كتابه باحثا عن أي شخص عرف أحد التلاميذ المباشرين ليسوع، عله يحصل من هؤلاء على شهادات مباشرة على أحداث الإنجيل. ولكنه لم يشر من قريب أو بعيد إلى أن يوحنا الشيخ هذا يمكن أن يكون هو نفسه التلميذ المحبوب.
4
على أن شخصية يوحنا الشيخ ليست غائبة عن أسفار العهد الجديد، لأنه في اثنتين من الرسائل الثلاث المعزوة إلى شخص اسمه يوحنا، نجد أن الكاتب قد قدم نفسه في البداية تحت لقب «الشيخ» (رسالة يوحنا الثانية: 1؛ والرسالة الثالثة: 1). فهل كان يوحنا آسيا الصغرى المعروف بالشيخ أيضا هو مؤلف رسائل يوحنا؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل له صلة بكتابة الإنجيل الرابع؟ وما هي صلته بالتلميذ المحبوب؟ قبل التعامل مع هذه الأسئلة سوف نتوقف لنبحث في ثنايا الإنجيل الرابع عن التلميذ المجهول الذي دعاه المؤلف بالتلميذ الذي أحبه يسوع دون أن يفصح عن اسمه. أم هل لعله أفصح ولكن الباحثين حتى اليوم قد أغمضوا أعينهم عما هو تحت أبصارهم، وذلك بتأثير الأفكار المسبقة المسيطرة؟
هنالك ملاحظتان في غاية الوضوح تركهما لنا المسئول عن الصياغة النهائية للإنجيل، نستشف منهما وجود شخصين مسئولين عن إنجاز هذا العمل، الأول هو التلميذ الحبيب الذي كان يملي ذكرياته عن يسوع، والثاني هو الذي كان يدون هذه الذكريات ويعيد صياغتها بأسلوبه ومن خلال فهمه وتفسيره للوقائع، بطريقة اختلطت معها الواقعة بالتفسير الذاتي للمدون. وإليكم هاتين الملاحظتين: (1)
عندما تلقى الجنود الأمر بكسر سيقان المصلوبين من أجل التعجيل بموتهم، قاموا بكسر ساقي اللص الأول والثاني، وعندما وصلوا إلى يسوع وجدوه ميتا فطعنه أحدهم بحربة في جنبه فخرج على الإثر دم وماء. وهنا يقول مؤلف الإنجيل: «يشهد بذلك الذي رأى، وشهادته صحيحة ويعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا مثله» (19: 31-35). ومن الواضح هنا أن المؤلف لا يقدم لنا شهادته الخاصة وإنما شهادة شخص آخر. (2)
يختم المؤلف إنجيله بالجملة التالية التي يعزو فيها إلى التلميذ الحبيب كل ما دونه عن يسوع من شهادات، فيقول: «وهذا التلميذ هو الذي يشهد بهذه الأمور ويدونها.» ثم يميز المؤلف نفسه عن صاحب الشهادات ويتابع قائلا: «ونحن نعلم أن شهادته حق» (21: 24).
ولنتابع الآن ظهورات هذا التلميذ من البداية إلى النهاية في سياق الأحداث، ونلاحظ كيف أن مدون الإنجيل لم يشأ لنا أن نفترض بأن التلميذ الذي أحبه يسوع هو يوحنا بن زبدي، وأن كل ما أورده بشأنه ينطبق على شخص مختلف تماما. ولسوف نعيد هنا ذكر بعض ما أوردناه في بحث «الإنجيل السري ولغز التلميذ الحبيب»، متوسعين في الموضوع ومضيفين إليه عناصر جديدة. (1)
يظهر التلميذ الحبيب للمرة الأولى في رواية دعوة التلاميذ، حيث نجد اثنين من أتباع يوحنا المعمدان وقد التحقا بيسوع وصارا أول أتباعه، وهما أندراوس أخو بطرس وآخر لم يذكر لنا المؤلف اسمه: وفي الغد أيضا كان يوحنا واقفا هو واثنان من تلاميذه، فنظر إلى يسوع ماشيا، فقال: هو ذا حمل الله. فسمعه التلميذان يتكلم فتبعا يسوع. فالتفت يسوع ونظرهما يتبعانه، فقال لهما: ماذا تطلبان؟ فقالا: رابي (الذي تفسيره يا معلم) أين تقيم؟ فقال لهما: تعالا وانظرا. فأتيا ونظرا أين يقيم ومكثا عنده ذلك اليوم. وكانت الساعة نحو العاشرة (= الرابعة بعد الظهر). وكان أندراوس أخو سمعان بطرس واحدا من الاثنين اللذين سمعا يوحنا وتبعاه. فلقي عند الصباح أخاه سمعان، فقال له: وجدنا ماشيحا، أي المسيح. وجاء به إلى يسوع. فنظر إليه يسوع وقال: أنت سمعان بن يونا، أنت تدعى صفا، الذي تفسيره بطرس (1: 35-42). بعد ذلك يدعو يسوع تلميذين آخرين هما فيلبس ونثنائيل، وبذلك يغدو عدد التلاميذ الأوائل الذين تبعوا يسوع خمسة، هم: أندراوس وسمعان بطرس أخوه، وفيلبس ونثنائيل، والتلميذ المغفل الاسم. وعلى عكس رواية دعوة التلاميذ لدى الإزائيين، فإن يعقوب ويوحنا ابني زبدي غائبان عن رواية التلاميذ الأوائل عند يوحنا ولا ندري متى وأين التحقا به بعد ذلك. (2)
لا يظهر هذا التلميذ المغفل الاسم بعد ذلك في إنجيل يوحنا إلا خلال الأسبوع الأخير من حياة يسوع، وبعد أن أضاف إليه المؤلف لقب «التلميذ الذي أحبه يسوع». وبما أن مؤلف الإنجيل قد أشار في إصحاحه الأخير إلى أن شهادات تلميذ مغفل الاسم تكمن وراء إنجاز إنجيله الذي تلقاه المسيحيون الأوائل تحت عنوان «الإنجيل بحسب يوحنا»، فقد شاع منذ البداية أن مؤلف هذا الإنجيل هو يوحنا الرسول أخو يعقوب. هذه الفكرة المسيطرة قد حجبت عن الجميع حقيقة في غاية الوضوح، وهي أن التلميذ الوحيد الذي أكن له يسوع حبا خاصا هو لعازر من بيت عنيا أخو مريم ومرتا. وقصة إحياء لعازر التي يظهر فيها التلميذ المغفل الاسم للمرة الثانية، ولكن باسمه الصريح هذه المرة، تثبت صحة ما نذهب إليه: «وكان إنسانا مريضا وهو لعازر من بيت عنيا من قرية مريم وأختها مرتا. ومريم هي التي دهنت الرب بالطيب ومسحت قدميه بشعرها، وكان لعازر المريض أخاها. فأرسلت الأختان إلى يسوع تقولان: يا سيد هو ذا الذي تحبه مريض ... وكان يسوع يحب مرتا وأختها ولعازر، على أنه لبث في مكانه يومين بعدما عرف أنه مريض» (يوحنا، 11: 1-6). نلاحظ في هذا المقطع أن المؤلف أكد مرتين على حب يسوع للعازر، فالأختان قالتا له: «الذي تحبه مريض»، وقال المؤلف: «وكان يسوع يحب مرتا وأختها ولعازر». وفيما يلي من هذه القصة هناك توكيدات أخرى على هذه المحبة التي جمعت بين الطرفين. فبعد يومين من تلقيه الخبر قال يسوع لتلاميذه: «لعازر حبيبنا قد نام، لكني أذهب لكي أوقظه» (11: 11). وعندما وصل إلى بيت عنيا واستقبلته مريم وهي تبكي ويبكي معها من تبعها من المعزين «بكى يسوع. فقال اليهود: انظروا كيف كان يحبه» (11: 35-36). وفي إنجيل مرقس السري (راجع بحثنا السابق: إنجيل مرقس السري ولغز التلميذ المحبوب) نجد يسوع وقد اختلى بالتلميذ الحبيب بعد إحيائه الليل بطوله وهو «يعلمه أسرار ملكوت الله»، أي أنه كان يفضي إليه بتعاليم خاصة كانت وقفا على المقربين منه.
هذا الظهور الثاني للتلميذ المحبوب في آخر حياة يسوع التبشيرية، لا يعني أن يسوع لم يجتمع به منذ الظهور الأول في رواية دعوة التلاميذ. وسوف نرى لاحقا كيف أن يسوع خلال إقامته الطويلة في أورشليم والتي سبقت الفصح الأخير وأسبوع الآلام، كان في كل يوم ولمدة ثلاثة أشهر يترك أورشليم حيث كان يعلم في النهار، ويتوجه إلى بيت عنيا في جبل الزيتون لقضاء الليل هناك. وقد حفظت لنا الأناجيل الإزائية التي أغفلت ذكر التلميذ المحبوب أثرا من هذه العلاقة المميزة التي جمعت بين يسوع وأسرة بيت عنيا: «وبينما هم سائرون دخل قرية فأضافته امرأة اسمها مرتا، وكان لها أخت تدعى مريم جلست عند قدمي يسوع تستمع إلى كلامه. وكانت مرتا مشغولة بأمور كثيرة من الضيافة فأقبلت وقالت: يا رب، أما تبالي أن تتركني أختي أخدم وحدي؟ فقل لها أن تعينني. فأجاب يسوع وقال لها ... إلخ» (لوقا، 10: 38-42). (3)
في زيارته الأخيرة لأورشليم، وصل يسوع قادما من الجليل قبل الفصح بستة أيام وتوقف في بيت عنيا؛ حيث بات ليلته هناك. فأعدت له الأسرة عشاء، «وأخذت مرتا تخدم، أما لعازر فكان في جملة المتكئين معه. فأخذت منا من طيب ناردين خالص كثير الثمن ودهنت قدمي يسوع ثم مسحتهما بشعرها، فعبق البيت بالطيب ... إلخ» (يوحنا، 12: 1-8). (4)
ويبدو أنه كان للعازر دور مهم في الترتيبات التي أعدها يسوع لدخوله أورشليم. والشهادة هنا تأتينا من إنجيل لوقا: «وإذا قرب من بيت فاحي وبيت عنيا عند الجبل الذي يدعى جبل الزيتون، أرسل اثنين من تلاميذه قائلا: اذهبا إلى القرية التي أمامكما، وحين تدخلانها تجدان جحشا مربوطا لم يركبه أحد من الناس قط، فحلاه وأتيا به. وإن سألكما أحد لماذا تحلانه فقولا له إن السيد محتاج إليه ... فأتيا به إلى يسوع وطرحا ثيابهما على الجحش وأركبا يسوع ...» (لوقا، 19: 28-36). من الواضح هنا أن يسوع قد عهد إلى شخص من بيت عنيا مهمة تأمين الجحش الذي سيركب عليه وهو داخل إلى أورشليم، وهذا الشخص ليس سوى لعازر الذي يثق به يسوع، وقد أعطاه كلمة السر التي سيقولها من يأتي لاستلام الجحش، وهي: «الرب محتاج إليه». (5)
خلال الأيام الخمسة الأخيرة التي قضاها يسوع في أورشليم قبل القبض عليه كان ينسحب من المدينة في المساء ليبيت في بيت عنيا. نقرأ في إنجيل مرقس: «فدخل يسوع أورشليم والهيكل، وتفقد كل شيء فيه. وكان الوقت قد أمسى فخرج إلى بيت عنيا مع الاثني عشر» (مرقس، 11: 11). وفي إنجيل متى: «ثم تركهم وخرج من المدينة إلى بيت عنيا فبات فيها. وبينما هو راجع إلى المدينة صباحا ... إلخ» (متى، 21: 17-18). ومن المؤكد هنا أن يسوع كان يبيت في دار لعازر وأختيه لا في أي مكان آخر. (6)
بعد أن أفصح مؤلف إنجيل يوحنا عن اسم التلميذ الآخر الذي أغفل ذكر اسمه في رواية دعوة التلاميذ، وعرفنا أنه لعازر الذي أحبه يسوع، يعود إلى ذكره في قصة العشاء الأخير تحت لقب «التلميذ الذي أحبه يسوع». فأثناء العشاء قال يسوع لتلاميذه: «الحق، الحق أقول لكم إن واحدا منكم سيسلمني. فكان التلاميذ ينظرون إلى بعضهم بعضا وهم محتارون فيمن قال عنه. وكان أحد التلاميذ متكئا على حضن يسوع وهو الذي كان يسوع يحبه. فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه. فاتكأ على صدر يسوع، وقال له: يا سيد من هو؟ أجاب يسوع: هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه» (يوحنا، 13: 21-26).
ويبدو أن هذا الاجتماع للعشاء الأخير قد حدث في بيت بأورشليم يملكه التلميذ الغني لعازر، وأن يسوع قد أوكل إليه أمر ترتيب هذا العشاء بسرية تامة كي لا يعرف اليهود مكانه. هذه الترتيبات السرية يتحدث عنها إنجيل مرقس حيث نقرأ: «فأرسل اثنين من تلاميذه وقال لهما: اذهبا إلى المدينة فيلاقيكما إنسان حامل جرة ماء فاتبعاه، وحيثما يدخل فقولا لرب البيت: إن المعلم يقول أين غرفتي التي آكل فيها عشاء الفصح مع تلاميذي؟ فيريكما في أعلى البيت غرفة واسعة مفروشة، فهيئاه لنا هناك» (مرقس، 14: 12-15). يتضح لنا من قول يسوع للتلميذين: «فيريكما في أعلى البيت غرفة ... إلخ»، أن يسوع قد رتب مسبقا للعشاء، وتفقد المنزل الذي اختاره للعشاء واتفق مع صاحبه بخصوص الموضع الذي سيتم فيه الاجتماع.
ولعل مما يؤكد لنا أن العشاء قد حصل في بيت لعازر، هو جلوسه إلى جانب يسوع في صدر المائدة كما يجلس المضيف إلى جانب ضيفه الرئيس. كما تفصح جلسة لعازر وهو يتكئ بمرفقه على ساق يسوع المطوية تحته، عن مدى قربه من معلمه وغياب الرسميات في العلاقة بينهما. من هنا فقد كان الأجرأ على طرح أسئلة لا يجرؤ الآخرون على طرحها. وهذا ما حفز بطرس وهو رئيس الاثني عشر على الإيماء له لكي يسأل يسوع عن هوية الخائن. فقام لعازر بحركة تدل ثانية على دفء العلاقة بينهما عندما اتكأ على صدر يسوع وهو يوجه السؤال إليه.
ولكي نأخذ فكرة واقعية عن مشهد العشاء الأخير، يجب أن ننسى لوحات عصر النهضة الأوروبية التي تصور يسوع والاثني عشر جالسين على كراسي إلى طاولة مستطيلة عليها عدد من الصحفات الحاوية على أطعمة متنوعة يسكب منها في صحون إفرادية، ونتصور بدلا من ذلك جلسة على الأرض حيث يتربع التلاميذ حول غطاء مفروش أو طبلية قليلة الارتفاع عليها صحفة واحدة أو اثنتان يغمس فيها الجلوس بقطع صغيرة من الخبز المرقوق دون ملاعق أو شوكات وسكاكين. وهذا ما يدل عليه جواب يسوع عندما قال: «هو ذاك الذي أغمس اللقمة وأعطيه.» وفي إنجيل مرقس: «هو واحد من الاثني عشر، الذي يغمس معي في الصحفة» (مرقس: 14-20). (7)
في قصة القبض على يسوع وسوقه إلى دار رئيس الكهنة من أجل استجوابه، يعود مؤلف الإنجيل إلى استخدام لقب «التلميذ الآخر» الذي استخدمه في مطلع الإنجيل بدلا من لقب التلميذ الذي أحبه يسوع. فقد تفرق التلاميذ بعد القبض على يسوع مثل خراف ضرب راعيها، ولم يتبعه إلى دار رئيس الكهنة إلا اثنان: «وكان سمعان بطرس والتلميذ الآخر يتبعان يسوع. وكان ذلك التلميذ معروفا عند رئيس الكهنة فدخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة، وأما بطرس فكان واقفا عند الباب خارجا. فخرج التلميذ الآخر الذي كان معروفا عند رئيس الكهنة وكلم (الجارية) البوابة فأدخل بطرس» (يوحنا، 18: 15-16). فمن من بين تلاميذ يسوع «كان معروفا عند رئيس الكهنة» على حد قول المؤلف، ويملك حق إدخال من شاء إلى بيته؟ هل هو يوحنا بن زبدي صياد السمك المتواضع من الجليل، أم لعازر الأورشليمي ابن الأسرة الغنية التي تقيم في ضاحية بيت عنيا ولها بيت آخر في أورشليم؟
ويبدو أن صداقة لعازر الشاب مع رئيس الكهنة لم تكن صداقة شخصية، وإنما صداقة عائلية تقليدية ورثها لعازر عن أبيه الذي كان رئيس الكهنة يحمل له مودة شخصية قبل وفاته، ثم تابع بعد ذلك اهتمامه بلعازر وأختيه وفاء لذكرى والدهم. وقد كشفنا سابقا عن شخصية أبي لعازر باعتباره سمعان الأبرص من بيت عنيا، والذي جرت في بيته بعد وفاته قصة قيام امرأة بسكب زجاجة عطر على يسوع (راجع مرقس، 14: 3-9؛ ومتى، 26: 6-13؛ ويوحنا، 12: 1-8)، وذلك في بحثنا «لغز مريم المجدلية»، فليراجع في موضعه. (8)
وقد سمح القائمون على عملية الصلب للتلميذ الحبيب ومعه أم يسوع وامرأتان من التلاميذ بالوقوف تحت صليب يسوع، أما الباقون فكانوا ينظرون من بعيد: «فلما رأى يسوع أمه وإلى جانبها التلميذ الذي كان يحبه قال لأمه: يا امرأة هو ذا ابنك، ثم قال للتلميذ: هو ذا أمك. فأخذها التلميذ إلى بيته من تلك الساعة» (يوحنا، 19: 25-27). هذا التلميذ الذي أخذ أم يسوع إلى بيته، لا يمكن أن يكون إلا لعازر، لأنه الوحيد بين تلاميذ يسوع الذي يملك بيتا في ضواحي المدينة، وربما بيتا آخر في أورشليم نفسها على ما استنتجنا أعلاه. (9)
عندما طعن يسوع بحربة في جنبه فظهر على إثرها دم وماء، يقول مؤلف الإنجيل: «يشهد بذلك الذي رأى، وشهادته صحيحة، ويعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا مثله» (يوحنا، 19: 35). والمقصود ب «الذي رأى» في هذا الخبر هو التلميذ الحبيب لأنه الوحيد من بين التلاميذ الذي كان حاضرا واقعة الصلب وعاينها عن قرب. (10)
في قصة ظهور يسوع للمجدلية بعد قيامته، يستخدم المؤلف لقب «التلميذ الآخر» مضافا إليه لقب «الذي أحبه يسوع». فعندما جاءت المجدلية لتتفقد القبر فوجدته فارغا وقد أزيح الحجر عن مدخله: «ركضت وجاءت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذي أحبه يسوع وقالت لهما: أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه. فخرج بطرس والتلميذ الآخر وأتيا إلى القبر، وكان الاثنان يركضان معا فسبق التلميذ الآخر بطرس، وجاء إلى القبر فانحنى فنظر الأكفان موضوعة ولكنه لم يدخل، ثم جاء بطرس يتبعه ودخل القبر ... فحينئذ دخل التلميذ الآخر الذي جاء أولا ورأى فآمن» (يوحنا، 20: 1-10). (11)
في آخر ظهور ليسوع بعد قيامته، وفق إنجيل يوحنا، يرد ذكر التلميذ الآخر أو الذي أحبه يسوع ثلاث مرات في المرة الأولى نفهم أنه واحد من اثنين لم يذكر المؤلف اسميهما: «بعد هذا أظهر يسوع نفسه للتلاميذ على بحيرة طبرية. ظهر هكذا: كان سمعان بطرس، وتوما الذي يقال له التوءم، ونثنائيل الذي من قانا الجليل، وابنا زبدي (= يوحنا، ويعقوب)، واثنان آخران من تلاميذه مع بعضهما» (يوحنا، 21: 1-2). لمعرفة هوية التلميذين اللذين لم يذكر المؤلف اسميهما، علينا أن نرجع إلى رواية دعوة التلاميذ، إلى أول تلميذين استجابا ليسوع؛ أحدهما ذكر لنا المؤلف اسمه على أنه أندراوس أخو سمعان بطرس، والثاني ترك اسمه مغفلا ودعاه فيما بعد التلميذ الآخر، أو الذي أحبه يسوع، أو باللقبين معا: «وفي الغد أيضا كان يوحنا واقفا هو واثنان من تلاميذه. فنظر إلى يسوع ماشيا، فقال: هو ذا حمل الله. فسمعه التلميذان يتكلم فتبعا يسوع ... وكان أندراوس أخو سمعان بطرس واحدا من الاثنين اللذين سمعا يوحنا وتبعاه» (يوحنا، 1: 35-40). وبالطريقة نفسها فإن المؤلف في قصة الظهور الأخير يغفل اسم أندراوس، وفي المشهد التالي يفصح عن هوية الثاني باعتباره التلميذ المحبوب. وفي كلتا الحالتين فإن التلميذين المقصودين هما أندراوس ولعازر، أما يوحنا بن زبدي فقد أشار المؤلف إلى وجوده مع أخيه يعقوب عندما أشار إلى وجودهما معا كابني زبدي دون ذكر اسميهما، وبالتالي فإن التلميذ المحبوب لا يمكن أن يكون يوحنا بن زبدي.
ثم إن بطرس قال لزملائه: أنا ذاهب لأتصيد. فقالوا له: نذهب نحن أيضا معك. فدخلوا السفينة وألقوا بشباكهم ولكنهم لم يمسكوا شيئا. فلما طلع الصباح وقف يسوع على الشاطئ ولكن التلاميذ لم يعرفوه. فقال لهم: أيها الفتيان، أعندكم شيء يؤكل؟ أجابوه: لا. فقال لهم: ألقوا الشبكة إلى يمين السفينة تجدوا. فألقوا ولم يقدروا على سحبها من كثرة السمك. عند ذلك: «قال التلميذ الذي كان يسوع يحبه لبطرس: هو الرب. فلما سمع بطرس أنه الرب ائتزر بثوبه لأنه كان عريانا وألقى نفسه في البحر.» ولما وصلوا إلى الشاطئ، وكانوا قريبين منه نحو مائتي ذراع، قال لهم يسوع: هلموا إلى الطعام ثم أكل معهم. وبعد الطعام قال يسوع لبطرس: «يا سمعان بن يونا، أتحبني أكثر من هؤلاء؟ فأجابه: نعم يا رب. أنت تعرف أني أحبك. فقال له: ارع غنمي ... ثم قال له اتبعني. فالتفت بطرس فرأى التلميذ الذي كان يسوع يحبه يسير خلفهما، ذاك الذي اتكأ على صدر يسوع وقت العشاء وقال: يا سيد من هو الذي يسلمك؟ فلما رآه بطرس قال ليسوع: وهذا ما هو مصيره؟ فأجابه يسوع: لو شئت أن يبقى إلى أن أعود فماذا يعنيك؟ فشاع بين الإخوة أن هذا التلميذ لا يموت، مع أن يسوع لم يقل لبطرس أنه لا يموت، بل قال له: لو شئت أن يبقى إلى أن أعود فماذا يعنيك، وهذا التلميذ هو الذي يشهد بهذه الأمور ويدونها، ونحن نعلم أن شهادته صادقة» (يوحنا: 21). (1) التلميذ الذي لا يموت
وصناعة الإنجيل الرابع
إن الجملة التي قالها مؤلف الإنجيل في سطوره الأخيرة: «فشاع بين الإخوة أن هذا التلميذ لا يموت» لذات أهمية في استقصائنا هذا. فهذا التلميذ قد عاش حياة مديدة، وأدرك مطلع القرن الثاني الميلادي، وفق ما نقله إلينا مصدر مسيحي موثوق وهو بوليكراتيس أسقف إفسوس، في رسالة له موجهة إلى أسقف روما في أواخر القرن الثاني الميلادي، لم تصلنا ولكنها وردت مقتبسة من قبل أوزيب القيساري في كتابه «التاريخ الكنسي». وقد أمضى هذا التلميذ وفق بوليكراتيس العقود الأخيرة من حياته في مدينة إفسوس اليونانية بآسيا الصغرى ودفن فيها بعد موته. وفي سنيه الأخيرة أقنعه داعية مسيحي كان ناشطا في مطلع القرن الثاني يدعى يوحنا الشيخ (أو القس) بأن يملي عليه ذكرياته باعتباره آخر تلاميذ يسوع الأحياء والشاهد المتبقي على أحداث الإنجيل.
5
وهكذا ظهر الإنجيل الرابع الذي جاء نتيجة لتلاقي ذكريات التلميذ الحبيب وأسلوب يوحنا الشيخ في صياغتها وطريقة فهمه لما سمعه من أحداث وأقوال. ولكن بوليكراتيس يدعو هذا التلميذ يوحنا، وذلك انسجاما مع الفكرة المسيطرة آنذاك بأن مؤلف الإنجيل الرابع هو يوحنا بن زبدي، ولكننا ندعوه لعازر وأثبتنا وجهة نظرنا بالقرائن.
كان التلميذ الحبيب يملي ذكرياته على يوحنا الشيخ بعد مضي نحو 65 عاما على الأحداث المروية. ولهذا يجب أن نتوقع أنه عانى بعض الصعوبة وعدم اليقين التام في تذكر وقائع معينة وفي التحديد الدقيق للأزمنة والأمكنة. ومع ذلك فقد أبدى في سرده معرفة صحيحة بطبوغرافية أورشليم وفلسطين لا تجدها عند غيره، وأورد لنا أحداثا مهمة لم ترد في بقية الأناجيل، وأتى على ذكر شخصيات ذات شأن لم يتعرض لها الآخرون. والأهم من ذلك أنه كان يتحدث في كثير من الأحيان كشاهد عيان على ما يروي، وأنه أوصل إلى يوحنا الشيخ الكثير من التعاليم السرية التي كان يسوع يبيحها للحلقة الداخلية الضيقة من تلاميذه. وهذا هو السبب في احتواء الإنجيل الرابع على ملامح عامة من هذه التعاليم التي توضحت فيما بعد بشكل أكثر دقة في فكر مرقيون مؤسس الكنيسة البديلة (راجع بحثنا السابق عن مرقيون). وفي الحقيقة فإن هنالك ما يشير إلى صلة غامضة بين التلميذ الحبيب ومرقيون. وبعض الموروثات المسيحية تقول: إن مرقيون كان المبادر إلى الاتصال بالتلميذ الحبيب، وأنه أخذ بالفعل بتدوين ذكرياته عن يسوع قبل أن يختلف الاثنان، ويقرر التلميذ إيقاف تعاونه معه وقبول يوحنا الشيخ بدلا عنه.
6
هذا التلميذ الذي نقل إلينا تعاليم يسوع السرية، كان واحدا من القلة التي اطلعت على الأسرار بعد المرور بطقس استسراري عظيم كان يسوع يقوده من أجل المختارين من تلاميذه، وهو طقس الموت الرمزي الذي يليه الانبعاث إلى حياة لا ترى الموت، طقس موت التلميذ عن نفسه ثم الحياة الأبدية في يسوع المسيح. وقد كان تلاميذ يسوع تواقين إلى ممارسة هذا الطقس، ولهذا قال توما لزملائه عندما قال لهم يسوع بأن لعازر قد مات: «لنذهب نحن أيضا ونمت معه» وهذا ما سوف نبسطه في البحث المقبل عن: «طقوس الاستسرار ولغز إحياء لعازر».
على أن السؤال المحير الذي قد لا نستطيع إيجاد جواب شاف عليه هو: لماذا تجاهلت الأناجيل الإزائية وجود التلميذ الحبيب على الرغم من دوره البارز في إنجيل يوحنا، لا سيما إنجيل مرقس الذي كان المصدر الرئيس للإنجيلين الآخرين؟ فمرقس كان مقربا من بطرس وعلى يديه تتلمذ وسمع من فمه أخبار يسوع وأقواله، حتى إنه كان يدعوه ابني مرقس (رسالة بطرس الأولى، 5: 13). وعندما هرب بطرس من السجن لم يجد مكانا آمنا يلجأ إليه سوى بيت مريم أم مرقس (أعمال، 12: 12-17). وقد رافق مرقس بطرس في بعض رحلاته. ويؤكد الموروث المسيحي على أن مرقس كان مترجما لبطرس وأنه كتب إنجيله بإشرافه وتوجيهه. فكيف لم يرو له عن أحداث الأسبوع الأخير من حياة يسوع الواردة في إنجيل يوحنا، حيث نجد بطرس والتلميذ الحبيب معا في أربعة مواقف مهمة. فهو الذي أومأ للتلميذ الحبيب أثناء العشاء الأخير ليسأل يسوع عن هوية الخائن. وبعد القبض على يسوع تبعه الاثنان معا إلى بيت الكاهن الأعلى حيث توسط له التلميذ بالدخول. وإليهما جاءت مريم المجدلية تخبرهما بفقدان جثمان يسوع من القبر، فركضا معا وسبقه التلميذ الآخر إليه. وفي آخر ظهور ليسوع بعد قيامته يسأله بطرس عن الدور الذي سيلعبه التلميذ في المستقبل. فهل كان التلاميذ وعلى رأسهم بطرس يغارون من محبة يسوع للعازر وتفضيله عليهم؟ وهل كانت هذه الغيرة وراء تعمية بطرس على شخصية التلميذ الحبيب وإسقاطه له من روايته؟ أسئلة تبقى مفتوحة على المجهول.
طقوس الاستسرار
ولغز إحياء لعازر «الأسرار» أو
Mysteria
باللغة اليونانية، و
Mysteries
بالإنكليزية، هي العبادات السرية التي تمارس طقوسها في الخفاء. وهي تختلف عن العبادات التقليدية الظاهرية، سواء في ممارساتها الشعائرية، أم في مفاهيمها اللاهوتية التي لا تكشف إلا للمريدين الذين تم قبولهم فيها وتعديتهم إلى أسرارها بعد المرور بالطقوس الإدخالية، أو طقوس الاستسرار (Initiation =) . وهذه الطقوس هي التي تعبر بالمريد إلى الحلقة الداخلية للعارفين بالألوهة المعبودة، وذلك على عدة مراحل ترتقي بالمنتسب الجديد تدريجيا، وعبر فترات زمنية تطول أو تقصر تبعا لاستعداده الروحي، حتى تصل به إلى الدرجة العليا التي تكتمل عندها معارفه ويغدو حكيما. وعلى المنتسب بعد عبوره إلى أسرار العبادة ألا يبوح بمعارفه التي اكتسبها لمن هم من خارج أو لمن هم دونه في المرتبة. ومثل هذا الارتقاء عبر درجات المعرفة ما زال معمولا به لدى الجماعات السرية الحديثة مثل الماسونية والصليب الوردي.
وعلى الرغم من قدم عبادات الأسرار، إلا أنها لم تبلغ أوج قوتها وازدهارها إلا في القرن الأول الميلادي حيث شاعت في جميع أصقاع الإمبراطورية الرومانية، ومنها أسرار ديمتر المعروفة بأسرار إيليوسيس، وأسرار ديونيسيوس، وإيزيس، وسيرابيس، وميترا. وكانت بعض هذه العبادات تحظى بتعاطف شعبي واسع، مثل أسرار إيليوسيس التي كان جمهور كبير من اليونانيين غير المنتسبين يشاركون في الجزء الظاهري من احتفالاتها الدورية. كما كانت تحظى أحيانا بتأييد إمبراطوري عندما كان بعض الأباطرة يميلون إلى واحدة من هذه العبادات أو تلك.
ونظرا للطابع السري لطقوس الأسرار، فإن أحدا لم يعطنا صورة دقيقة عنها، واكتفى المؤلفون القدماء بإيراد ما سمعوه عنها، أو بتقديم القليل العام إذا كان أحدهم قد اطلع على جوانب منها أو جرى تنسيبه إليها. فالمؤرخ الإغريقي هيرودوتس الذي يدعي اطلاعه على أسرار أوزوريس وأسرار إيليوسيس يكتب ما يلي: «في ذلك الزمان، وعلى تلك البحيرة في الدلتا، يقيم المصريون طقوسهم المكرسة لإلههم الذي لن أنطق اسمه. وعلى الرغم من شهودي لكل ما جرى في ذلك المكان، فإني لن أزيد في الكلام عنه شيئا وأمسك لساني عن البوح بما رأيت، كما أمسكته عن البوح بما رأيت من طقوس الإلهة ديمتر في إيليوسيس. ولكني أستطيع القول فقط، ودون أن أقع في التجديف، إن بنات دناوس (وهو سلف سكان آرجوس في اليونان، وجاء إليها من مصر) هن من آتي بهذه الطقوس من مصر ودربن نساء بيلاسيان عليها».
1
وهيرودوتس هنا يؤسس للفكرة القائلة بأن عبادات الأسرار قد جاءت إلى اليونان من أقطار الشرق القديم، وهذا ما يتبناه اليوم العديد من الباحثين في تاريخ الأديان.
على أننا نستطيع الكلام بشكل عام عن نوعين من الطقوس كانا غالبين في عملية تنسيب المريدين الجدد والعبور بهم إلى أسرار العبادة، وهما طقس العماد بالماء وطقس الموت الرمزي، وكلاهما يتضمن مفهوم الفناء عن الذات القديمة المنذورة للموت، والانبعاث إلى حياة جديدة تقهر الموت. وهذان الطقسان يلتقيان أحيانا في طقس العماد بالدم، كما هو الحال في أسرار ديونيسيوس؛ حيث يوضع المريد في حفر تمثل القبر تختم فوهتها بغطاء شبكي، ثم يؤتى بثور يمثل الإله ديونيسيوس الذي قتل في هيئة الثور، فيذبح عند فوهة الحفرة وتترك دماؤه لتسيل على المريد الذي يدهن نفسه بها ويأخذ بعضها في فمه، ثم يخرج وكأنه قام من بين الأموات.
ويصف لنا الكاتب الروماني أبوليوس في روايته المعروفة «الحمار الذهبي» طقوس الاستسرار في عبادة الإلهة إيزيس السرية في روما، وصف شاهد عيان لأنه مر بها هو نفسه عندما جرى تنسيبه إلى العبادة وصار بعد ذلك كاهنا للإلهة.
فبعد وصفه للطقوس الاستهلالية التي تتضمن العماد بالماء، مما اقتبسناه في دراستنا السابقة عن معمودية يسوع، ينتقل إلى القسم الثاني وهو طقس الموت والانبعاث، فيقول دون الدخول في التفاصيل السرية: «وعندما حل مساء اليوم الأخير وأنا في موضعي، رأيت الكهان يتقاطرون علي من كل زوايا المعبد وفي يد كل منهم هدية تهنئة لي، ثم جاء الكاهن الأعظم وألبسني عباءة قطنية وقادني إلى قدس أقداس المعبد. وإني لأعتقد الآن بأن قارئ كلماتي هذه قد هاجه الشوق لمعرفة ما جرى لى هناك. ولكني لو سمحت للساني بالنطق وسمحت أنت لأذنك بالسمع، سيلقى لساني جزاء بما نطق وتلقى أذنك جزاء بما سمعت، ومع ذلك فإنني أستطيع الإفضاء بما هو مسموح لي بإفضائه، شريطة أن تكون مستعدا لتصديق كل كلمة مما أقول. لقد دنوت من حافة الموت الفعلي ووضعت قدمي على عتبة بيرسيفوني (إلهة العالم الأسفل)، ثم سمح لي أن أعود سابحا عبر العناصر كلها. في منتصف الليل شهدت الشمس ساطعة كوقت الهاجرة. مثلت في حضرة آلهة العالم الأسفل؛ حيث كان آلهة العالم الأعلى يقدمون لهم الولاء. وعندما انتهى الطقس الجليل، خرجت من قدس الأقداس وعلي اثنا عشر ثوبا، فأمرني الكاهن أن أرتقي المنبر القائم في وسط المعبد أمام تمثال الإلهة، وأمسكني مشعلا بيدي اليمنى ووضع إكليلا على رأسي من أغصان النخيل.»
2
في هذا المناخ الديني الذي كان يموج بعبادات الأسرار، ظهرت الكنيسة المسيحية الأولى التي أسسها يسوع. وفي الحقيقة، فإن قراءة ما وراء السطور في أسفار العهد الجديد، تدلنا على أن أتباع يسوع الأوائل كانوا يشكلون حلقة مغلقة من المريدين لا يمكن دخولها إلا لمن يمتلك الرغبة والقدرة على الارتقاء الروحي، وذلك بعد مروره بطقوس استسرار وتنسيب تعبر به إلى تلك الحلقة.
هذه الطبيعة السرانية للجماعة المسيحية الأولى، هي التي تفسر لجوء يسوع إلى التعبير عن أفكاره من خلال الأمثال التي غمضت أحيانا حتى على تلاميذه أنفسهم. نقرأ في إنجيل متى: «ثم دعا الجموع وقال لهم: اسمعوا وافهموا: ما يدخل الفم لا ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هو الذي ينجسه. فدنا منه التلاميذ وقالوا له: أتعلم أن الفريسيين استاءوا عندما سمعوا هذا الكلام؟ فأجابهم: كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يقلع. دعوهم وشأنهم إنهم عميان يقودون عميانا. وإذا كان الأعمى يقود أعمى سقطا معا في حفرة. فقال له بطرس: فسر لنا المثل. فأجابه: أوأنتم حتى الآن لا فهم لكم ...» (متى، 15: 11-16). وعندما قال للجموع مثله المعروف عن الزارع، انفرد به تلاميذه وسألوه عن مغزى المثل، قال لهم: «أنتم أعطيتم سر ملكوت الله، وأما الذين من خارج فيسمعون كل شيء بالأمثال، حتى إنهم مهما نظروا لا يبصرون ومهما سمعوا لا يفهمون» (مرقس، 4: 10-13). ويسوع يستخدم هنا تعبيرين مهمين يدلان على الطبيعة المغلقة والاقتصارية للجماعة المسيحية الأولى. فقد وصف مريديه بأنهم «قد أعطوا أسرار ملكوت الله» أي أنهم قد عبروا إلى أسرار الدين، ووصف الآخرين بأنهم «من خارج» أي من خارج حلقة العارفين. وهؤلاء الذين «من خارج» هم موتى مقارنة بالذين هم «من داخل». فعندما اختار تلميذا جديدا ليضمه إلى جماعته قال له التلميذ: «يا سيد، ائذن لي أن أمضي أولا وأدفن أبي. فقال له يسوع: دع الموتى يدفنون موتاهم، وأما أنت فاذهب وناد بملكوت الله» (لوقا، 9: 59-60). وقال بعدم إفشاء أسرار الدين إلى الذين هم من خارج: «لا تعطوا الكلاب ما هو مقدس، ولا تلقوا بدرركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأقدامها ثم ترتد إليكم فتمزقكم» (متى، 7: 6).
ويقول في اقتصار المعرفة الحقة على حلقة المريدين الذين عبروا إلى الأسرار: «كل شيء قد دفع إلي من أبي. وليس أحد يعرف من هو الابن إلا الآب، ولا من هو الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يكشف له» (لوقا، 10: 22). ويقول بالمعنى نفسه في إنجيل توما: «أكشف أسراري لمن هو أهل لأسراري» ثم يوصي من كشفت له الأسرار بحفظها قائلا: «لا تدع يدك اليسرى تعلم بما تفعله يدك اليمنى» (إنجيل توما، الفقرة 62).
3
ويتحدث بولس الرسول في رسائله عن الحكمة الخفية التي لا تعطى إلا للناضجين في الروح، أي لمن هم «من داخل»: «هنالك حكمة نتكلم عليها بين الناضجين في الروح، وهي غير حكمة هذا العالم ... بل هي حكمة الله السرية الخفية التي أعدها الله قبل الدهور في سبيل مجدنا ... الذي ما رأته عين ولا سمعت به أذن ولا خطر على قلب بشر أعده الله للذين يحبونه وكشفه لنا بالروح. لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله ... وما نلنا نحن روح هذا العالم، بل نلنا الروح الذي أرسله لنا الله لنعرف ما وهبه الله» (1 كورنثة، 2: 6-13).
ويميز بولس بين ما يدعوه بالإنسان البشري الذي لم يتهيأ بعد لتلقي حكمة الله، وما يدعوه بالإنسان الروحاني المستعد لتلقي هذه الحكمة: «ونحن لا نتكلم عن حكمة الله بكلام تعلمه حكمة البشرية بل بكلام يعلمه الروح القدس، فنشرح الحقائق الروحانية بعبارات روحانية. فالإنسان البشري لا يقبل ما هو من روح الله لأنه يعتبره حماقة، ولا يقدر أن يفهمه لأن الحكم فيه لا يكون إلا بالروح» ثم يلتفت بولس إلى مستمعيه ممن لم يتعمقوا بعد في أسرار الدين، فيشبه خطابه إليهم بالحليب الذي يقدم للصغار لا بالطعام الذي يقدم للكبار، لأنهم غير مستعدين بعد للفهم: «ولكنني أيها الإخوة ما تمكنت أن أكلمكم مثلما أكلم أناسا روحانيين، بل مثلما أكلم أناسا جسديين هم أطفال بعد في المسيح. غذيتكم باللبن الحليب لا بالطعام لأنكم كنتم لا تطيقونه ولا أنتم تطيقونه الآن. فأنتم بعد جسديون» (1 كورنثة، 2: 13-14، و3: 1-3).
إن الاطلاع على الأسرار هو الذي ينقل الفرد من حالة دنيا من الوجود يكون فيها جاهلا بطبيعة روحه التي هي قبس من نور الله، إلى حالة عليا من الوجود تتحقق فيها معرفة الفرد بمن هو ومن هو ربه. وهذا الانتقال يعريه من جسد الموت ويلبسه جسد الحياة الخالدة. ومع تحقق هذه الحالة من العرفان، ليس علينا أن ننتظر واقعة الموت حتى نبعث إلى حياة جديدة، بل إننا نبعث هنا والآن ونلبس الجسد الروحاني فوق الجسد الأرضي، ونكتشف «طبيعة المسيح» فينا، وهي طبيعة لم تفارقنا قط ولكنها كانت بحاجة إلى تلمس وإيقاظ. وفي هذا يقول بولس: «فمع أن الإنسان الظاهر فينا يسير إلى الفناء، إلا أن الإنسان الباطن يتجدد يوما بعد يوم ... ونحن نعرف أنه إذا تهدمت خيمتنا الأرضية التي نحن فيها (= الجسد)، فلنا في السماء بيت أبدي من بناء الله غير مصنوع بالأيدي. وكم نتأوه أن نلبس فوق خيمتنا الأرضية هذه بيتنا السماوي، لأننا متى لبسناه لا نكون عراة، وما دمنا في هذه الخيمة الأرضية فنحن نئن تحت أثقالنا، لا لأننا نريد أن نتعرى من جسدنا الأرضي بل لأننا نريد أن نلبس فوقه جسدنا السماوي إلى أن تبتلع الحياة ما هو زائل فينا» (2 كورنثة، 5: 1-4).
وقد طبق يسوع على تلاميذه نوعين من طقوس الاستسرار، النوع الأول هو طقس العماد بالماء من أجل الولادة الثانية. فكل إنسان يولد ولادة بشرية من جسد بشري آخر، ولكن الساعين إلى الكمال عليهم أن يولدوا مرة ثانية ولادة روحية قوامها الماء والروح القدس ليكونوا مستعدين لتلقي أسرار حكمة الله. وهذا هو مؤدى قول يسوع لواحد من معلمي اليهود، وهو نيقوديمس الذي صار فيما بعد تلميذا سريا ليسوع: «الحق، الحق أقول لك. ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلا إذا ولد من عل، فقال له نيقوديمس: كيف يمكن للإنسان أن يولد وهو شيخ كبير؟ أيستطيع أن يدخل في بطن أمه ثانية ثم يولد؟ أجاب يسوع: الحق، الحق أقول لك. ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله إلا إذا ولد وكان مولده من الروح والماء. فمولود الجسد يكون جسدا ومولود الروح يكون روحا» (يوحنا، 3: 3-6).
أما النوع الثاني فهو طقس محاكاة الموت، حيث يدفن المريد في قبر لفترة من الزمن ثم يقوم منه إلى حياة جديدة. ويبدو أن قلة فقط من تلاميذ يسوع قد خضعوا لهذا الطقس. ولكننا لا نملك عنه إلا شاهدا واحدا في قصة إحياء لعازر، التي أوردها لنا إنجيل يوحنا وإنجيل مرقس السري. ولنبدأ بإنجيل يوحنا ونقرأ بين سطور القصة. «وكان رجل مريض يدعى لعازر من بيت عنيا، من قرية مريم وأختها مرتا. ومريم هي التي دهنت الرب بالطيب ومسحت قدميه بشعرها، وكان لعازر المريض أخاها. فأرسلت أختاه إلى يسوع تقولان: يا سيد إن الذي تحبه مريض. فقال يسوع حين بلغه الخبر: ليس هذا مرض الموت بل مآله إلى مجد الله ليتمجد ابن الله» (يوحنا، 11: 1-4) نلاحظ هنا كيف نفى يسوع أن يكون مرض لعازر هو مرض الموت، وكيف وجه أنظار مستمعيه إلى وجود خطة ما وراء ما يجري. «وكان يسوع يحب مرتا وأختها ولعازر. على أنه لبث في مكانه يومين بعدما عرف أنه مريض، ثم قال لتلاميذه: لنعد إلى اليهودية (وكانوا حينها في عبر الأردن). فقال له تلاميذه: يا معلم، أتعود إلى هناك وقد أراد اليهود رجمك منذ قريب؟ ... فقال لهم: إن حبيبنا لعازر قد نام وأنا ذاهب لأوقظه. فقال له تلاميذه: يا سيد إن كان قد نام فسيشفى. وكان يسوع يعني موته وهم ظنوا أنه يقول عن رقاد النوم. فقال لهم يسوع علانية: لعازر مات. ويسرني لأجلكم أني لم أكن هناك لتؤمنوا، فلنمض إليه. فقال توما الذي يقال له التوءم لإخوانه التلاميذ: لنذهب نحن أيضا لكي نموت معه» (يوحنا، 11: 5-16).
على عكس ما هو متوقع، فقد تلكأ يسوع في التوجه إلى بيت عنيا لشفاء لعازر مدة يومين، وهذا يدل على عدم شعوره بالقلق حيال مرض لعازر. ثم ألمح ثانية لتلاميذه بأن اضطجاع لعازر ليس اضطجاع موت عندما قال لهم إنه نائم. وعندما لم يفهم التلاميذ قصده قال لهم: لعازر مات. وهنا فهم واحد من التلاميذ ما كان يجري فقال لزملائه: لنذهب نحن أيضا لكي نموت معه. وبالطبع فإن توما في قوله هذا لم يكن يدعو رفاقه إلى القيام بعملية انتحار جماعي من أجل اللحاق بلعازر، وإنما كان يعبر عن رغبة في المرور بالطقس نفسه لكي يغدو أقرب إلى معلمه. وصل يسوع إلى بيت عنيا في اليوم الرابع لموت لعازر ودفنه في قبر منحوت في الصخر قرب بيت الأسرة. وعندما استقبلته الأختان عند مشارف البيت، طلب منهما أخذه إلى موضع الدفن: «وكان القبر مغارة وعلى مدخلها حجر. فقال يسوع: أزيحوا الحجر ... وصاح بأعلى صوته لعازر، اخرج. فخرج الميت مشدود اليدين والرجلين بالأكفان معصوب الوجه بمنديل. فقال لهم يسوع: حلوه ودعوه يذهب» (يوحنا، 11: 17-45).
إن ما حدث في بيت عنيا لم يكن سوى مرحلة متقدمة من طقوس الاستسرار خص بها يسوع تلميذه الحبيب لعازر. ولكن القصة بعد أن جرى تداولها فيما بعد تحولت إلى معجزة إحياء حقيقي لتلميذ ميت. ولعل رواية إنجيل مرقس السري للقصة نفسها (راجع ما أوردناه عن هذا الإنجيل في بحث سابق) تؤيد ما نذهب إليه هنا، لأنها تصف لنا استمرار طقس الاستسرار بعد الخروج من القبر، عندما بقي يسوع مع التلميذ يعلمه أسرار ملكوت الله. وفي الروايتين عدد من نقاط الاختلاف، لعل أهمها ما ورد في الإنجيل السري عن سماع صيحة عالية من القبر لدى اقتراب يسوع منه، الأمر الذي يدل على أن المدفون كان حيا: «ثم جاءوا إلى بيت عنيا، فحضرت إليه امرأة هناك مات أخوها وسجدت أمامه قائلة: يا ابن داود، ارحمني، فانتهرها التلاميذ، ولكن يسوع غضب ومضى معها إلى البستان حيث القبر الذي دفن فيه. ولدى اقترابه صدرت من داخل القبر صيحة عظيمة، فدنا يسوع ودحرج الحجر عن مدخل القبر وتوجه لفوره إلى حيث كان الفتى، فمد ذراعه إليه وأقامه ممسكا بيده. ولما رآه الفتى أحبه وتوسل إليه البقاء معه. وبعد خروجهما توجهوا إلى بيت الفتي لأنه كان غنيا. وبعد ستة أيام لقنه يسوع ما يتوجب عليه فعله. وفي المساء جاء إليه الفتي يرتدي إزارا من الكتان على جسده العاري وبقي معه تلك الليلة، لأن يسوع كان يعلمه أسرار ملكوت الله. وعندما قام عاد إلى الجهة الأخرى من نهر الأردن.»
4
بعد وفاة يسوع غاب طقس الموت الرمزي والانبعاث منه إلى حياة جديدة لا خطيئة فيها ولا موت، واندمج بطقس المعمودية في مضمونه البولسي الجديد، طقس المعمودية بدم يسوع والاتحاد به. فيسوع قد مات نيابة عن البشرية جمعاء ثم قام من بين الأموات من خلال طقس استسراري ذي طبيعة كونية. وطقس المعمودية يجعلنا مشاركين ليسوع في موته وبعثه، ويجعلنا أحرارا من الخطيئة والموت وسلطة الشيطان سيد هذا العالم. نقرأ في الرسالة إلى أهالي غلاطية: «فقبل أن يأتي الإيمان، كان مغلقا علينا بحراسة الشريعة (التوراتية) إلى أن يتجلى الإيمان المنتظر. فالشريعة كانت مؤدبة لنا إلى مجيء المسيح لننال البر بالإيمان، فلما جاء الإيمان لم نبق في حراسة المؤدب لأنكم جميعا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. فإنكم وقد اعتمدتم جميعا في المسيح قد لبستم المسيح. فلم يبق بعد من يهودي أو يوناني، عبد أو حر، ذكر أو أنثى، لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع» (غلاطية، 3: 23-28).
وفي الرسالة إلى أهالي روما: «أوتجهلون أنا وقد اعتمدنا في يسوع المسيح إنما اعتمدنا في موته، فدفنا معه بالمعمودية لنموت فنحيا حياة جديدة كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب. فنحن إذا اتحدنا به بموت يشبه موته فكذلك تكون حالنا في قيامته. وإنا نعلم أن إنساننا القديم (= الخاطئ) قد صلب معه ليزول هذا البشر الخاطئ، فلا نظل عبيدا للخطيئة لأن الذي مات تحرر من الخطيئة. فإذا كنا قد متنا مع المسيح فإنا نؤمن بأننا سنحيا معه. ونعلم أن المسيح بعدما أقيم من بين الأموات لن يموت ثانية ولن يكون للموت عليه من سلطان، لأنه بموته قد مات عن الخطيئة مرة واحدة، والحياة التي يحياها فيحياها لله. كذلك أنتم أيضا احسبوا أنفسكم أمواتا عن الخطيئة ولكن أحياء لله في يسوع المسيح» (روما، 6: 3-11). «فليس بعد الآن من هلاك للذين هم في يسوع المسيح؛ لأن شريعة الروح الذي يهب الحياة في يسوع المسيح قد حررتني من شريعة الخطيئة والموت (= شريعة التوراة). فالذي لم تستطعه الشريعة، والجسد قد أوهنها، حققه الله بإرسال ابنه في جسد يشبه جسدنا الخاطئ كفارة للخطيئة، فحكم على الخطيئة في الجسد ليتم ما تقتضيه منا الشريعة، نحن الذين لا يسلكون سبيل الجسد بل سبيل الروح» (روما، 8: 1-4).
وفي الرسالة إلى أهالي كولوسي: «ففي المسيح يحل جميع كمال الألوهية حلولا جسديا، وفيه تدركون الكمال. إنه رأس كل صاحب رئاسة وسلطان، وفيه اختتنتم ختانا لم يكن من فعل الأيدي وإنما هو خلع الجسد البشري، إنه ختان المسيح. ذلك أنكم دفنتم معه في المعمودية وأقمتم معه أيضا لأنكم آمنتم بقدرة الله الذي أقامه من بين الأموات. كنتم أمواتا بزلاتكم وقلف أجسادكم فأحياكم الله معه وصفح لنا عن جميع زلاتنا، ومحا ما كان علينا من صك للفرائض (= الشريعة التوراتية)، وألغاه مسمرا إياه على الصليب، وخلع أصحاب الرئاسة والسلطة (= ملائكة الشيطان أمير هذا العالم)، وعاد بهم في ركبه ظافرا ... فأما وقد قمتم مع المسيح فاسعوا إلى الأمور التي في العلى حيث المسيح جالس عن يمين الله، ارغبوا في الأمور التي في العلى لا في الأمور التي على الأرض، لأنكم قد متم وحياتكم محتجبة مع المسيح في الله. فإذا ظهر المسيح الذي هو حياتكم تظهرون أنتم أيضا عندئذ معه في المجد» (كولوسي، 2: 9-15، و3: 1-4).
وكما نلاحظ من هذه المقاطع ومن غيرها في رسائل بولس، فإن طقس المعمودية الذي يحرر المتعمد من الموت بعد اتحاده بالمسيح، يحرره أيضا من شريعة وفرائض إله التوراة حاكم هذا العالم. وعلى عكس الرأي السائد بين الباحثين في تاريخ العقيدة المسيحية والذي يعزو إلى بولس ابتكار هذه الأفكار، فإننا نستبعد أن يكون بولس الذي نشأ وتربى على الثقافة الفريسية ودرس الشريعة على يد واحد من أهم معلميها، هو مصدرها، بل لا بد أن يكون قد تلقاها عندما تعمد ودخل الجماعة المسيحية الأولى عقب وفاة يسوع ببضعة أعوام، واطلع على تعاليم يسوع السرية التي كان يبيحها لمن عبر إلى الأسرار.
على أننا لسنا بحاجة إلى البحث في تعاليم يسوع السرية لنعثر على فكرة التحرر من الشريعة لمن آمن بيسوع واتحد به. فقصص الإنجيل حافلة بمواقف وأقوال ليسوع يعلن فيها حريته وحرية تلاميذه من فرائض الشريعة: «بقيت الشريعة وكتب الأنبياء إلى يوحنا المعمدان، ثم ابتدأت البشارة بملكوت الله، فأخذ كل امرئ يبذل جهده ليدخله عنوة ...» (لوقا، 16: 16). ورسالة يسوع أشبه بقطعة قماش جديدة لا يمكن خياطتها على قماش قديم لكيلا تنتزع الرقعة الجديدة شيئا من الثوب القديم. أو مثل خمر جديدة لا يمكن صبها في زقاق (جمع زق وهو وعاء جلدي) قديمة لكيلا تتلف الخمر والزقاق معا (مرقس، 2: 21-22). والسبت جعل لأجل الإنسان وما جعل الإنسان لأجل السبت، ويسوع هو سيد السبت (مرقس، 2: 27-28). وفي مقابل شريعة التوراة التي لا يطيق حملها إنسان، فإن تعاليم يسوع تنسجم مع طبيعة الإنسان وعبؤها خفيف الحمل: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم. لأن نيري هين وحملي خفيف» (متى، 11: 28-30). والتاريخ النبوي اليهودي لم يقل للناس كلمة حق من الله ولكن يسوع فعل: «أنا الذي قال لكم الحق الذي سمعه من الله، وهذا لم يفعله إبراهيم» (يوحنا، 8: 40).
التحقيب الزمني لكرازة يسوع
لا تقدم لنا الأناجيل الإزائية تحقيبا زمنيا واضحا للمدة الفاصلة بين أول ظهور علني ليسوع وزيارته الأولى والأخيرة لأورشليم حيث حوكم وصلب. ولكننا نستنتج من سياق الأحداث ومقاطعتها مع المصادر الخارجية، أن الفترة التي نشط فيها يسوع دامت سنة واحدة تقريبا (راجع بحثنا السابق: الإطار التاريخي للإنجيل). وقد دامت زيارته لأورشليم ستة أيام فقط، فقد دخلها في يوم الأحد وصلب في يوم الجمعة أول أيام عيد الفصح اليهودي. وخلال هذه المدة قصد الهيكل في ثلاثة أيام، هي: الأحد والإثنين والثلاثاء؛ حيث كان يعلم ويجادل اليهود ثم يعود للمبيت في قرية بيت عنيا. وهذه المدة القصيرة لم تكن كافية في اعتقادنا لكي يتمكن يسوع من إبلاغ رسالته إلى أهالي أورشليم، مثلما لم تكن كافية لكي ينتبه المجلس اليهودي (السنهدرين) إلى خطورة هذا المبشر الجديد ويتخذ قرارا بتصفيته.
أما إنجيل يوحنا فيمد فترة كرازة يسوع إلى سنتين، ويقدم لنا عددا من العلامات الزمنية نستطيع من خلالها متابعة التحقيب الزمني لحياته التبشيرية. وهذه العلامات عبارة عن أربع زيارات قام بها يسوع لأورشليم في ثلاثة أعياد فصح وفي عيد المظال مرتبة زمنيا وفق ما يلي: (1) فصح أول (2) فصح ثان (3) عيد المظال (4) الفصح الأخير، وخلال هذه الزيارات التي دامت إحداها ثلاثة أشهر، كان يسوع يعلم في الهيكل ويحاور الشيوخ والكتبة والفريسيين وجواسيس الهيكل الذين كان المجلس يدسهم بين الجمهور لكي يوقعوا بيسوع. وهذا التحقيب هو الذي سنتابعه فيما يلي باعتباره الأقرب إلى حقيقة ما جرى.
جاءت زيارة يسوع الأولى لأورشليم بعد وقت قصير من ظهوره العلني وقبل القبض على يوحنا المعمدان: «وانحدر إلى كفر ناحوم بعد ذلك ومعه أمه وإخوته وتلاميذه، وأقاموا هناك أياما ليست كثيرة. وكان فصح اليهود قريبا فصعد يسوع إلى أورشليم، فرأى في الهيكل باعة البقر والغنم والحمام والصيارفة جالسين إلى مناضدهم، فجدل سوطا من حبال وطرد الجميع من الهيكل» (يوحنا، 2: 12-17). على الرغم من أن هذه الزيارة المبكرة ليسوع إلى أورشليم محتملة جدا، إلا أنه من المستبعد أن يكون قد قام بهذا الفعل الاستفزازي الجريء بعد فترة قصيرة من ظهوره العلني، عندما لم تكن شهرته قد ذاعت ولم يكن مستعدا بعد للدخول في مواجهة مباشرة مع السنهدرين. كما أنه من المستبعد أن يكون السنهدرين قد غض الطرف، كما فعل، عن مثل هذا الشغب في الهيكل يقوم به جليلي متحمس لا يعرف أحد عنه شيئا. من هنا نرجح أن هذه الحادثة قد وقعت خلال زيارة عيد المظال، أو الزيارة الأخيرة على ما رواه لنا الإزائيون الثلاثة. وأغلب الظن أن هذا التقديم الزمني للحادثة يرجع إلى اضطراب ذاكرة التلميذ الحبيب الذي كان يملي ذكرياته وهو في نحو التسعين من عمره على يوحنا الشيخ.
على أن زيارته الأولى لأورشليم هذه لم تأت له بما كان يتوقعه، ولم يكن مطمئنا إلى الناس الذين أظهروا ميلا لتعاليمه، لما يعرفه من خبث اليهود ونفاقهم: «ولما كان في أورشليم مدة الفصح آمن باسمه كثير من الناس لما رأوا من الآيات التي يأتي بها (والنص هنا لا يخبرنا عن ماهية هذه الآيات)، لكن يسوع لم يطمئن إليهم لأنه كان يعرفهم كلهم ولا يحتاج إلى من يخبره عن أحد. فقد كان يعلم ما في الإنسان» (يوحنا، 2: 23-25). ومن الأحداث البارزة في هذه الزيارة ذلك الحوار بين يسوع وواحد من الفريسيين اسمه نيقوديمس، تخلله خطاب طويل ليسوع كشف فيه عن جانب مهم من تعاليمه (يوحنا، 3: 1-21). وسوف نلتقي بنيقوديمس هذا مرتين بعد أن صار تلميذا سريا ليسوع. فقد دافع عن يسوع أمام السنهدرين عندما كانوا يدرسون إمكانية التخلص منه في زيارته الثالثة لأورشليم (يوحنا، 7: 50-53). وبعد صلب يسوع عندما جاء التلميذ السري الآخر يوسف الرامي لاستلام جثمان يسوع وكان نيقوديمس معه وشارك في عملية الدفن (يوحنا، 19: 39-40).
بعد ذلك ترك يسوع أورشليم ونزل إلى حوض الأردن مع تلاميذه حيث كان يوحنا يعمد قبل أن يلقى في السجن، فأقام في المنطقة أياما حيث كان يعمد هو أيضا ويجمع حوله التلاميذ (يوحنا، 3: 22-24). ثم قفل عائدا إلى الجليل مرورا بأراضي السامرة. وفي مدينة سيخارة عند البئر جرى الحوار الشهير بينه وبين المرأة السامرية، وقوله لها: «صدقيني يا امرأة إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل (أي جبل جرزيم المقدس عند السامريين) ولا في أورشليم (حيث الهيكل) تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو آت من اليهود» (يوحنا، 4: 21-23).
لا يذكر لنا مؤلف الإنجيل من أعمال يسوع بعد عودته إلى الجليل من رحلته الأولى إلا شفاءه لابن عامل الملك هيرود أنتيباس بعد أن كان مشرفا على الموت (يوحنا، 4: 43-54). ثم ينتقل بعد ذلك مباشرة للحديث عن رحلته الثانية؛ حيث يقول: «وبعد هذا كان عيد لليهود (وفي بعض الأصول: كان عيد اليهود)، فصعد يسوع إلى أورشليم» (يوحنا، 5: 1). وعلى الرغم من أن المؤلف لم يسم لنا هذا العيد إلا أنه على الأرجح عيد فصح ثان يقصده يسوع ليلتقي بالناس هناك. ومرة أخرى لا نحصل إلا على قصة واحدة مما فعله يسوع في زيارته الثانية؛ فقد شفى رجلا مقعدا منذ ثمان وثلاثين سنة وكان ذلك في يوم السبت. وكأنه كان يتعمد دائما أن يقوم بعمليات الشفاء في يوم السبت الذي لا يحل فيه عمل من أي نوع. وعندما شغب الشعب عليه لاستباحته السبت قال لهم قوله الشهير الذي ينطوي على هزء مبطن من معتقداتهم الجامدة: «إن أبي ما يزال يعمل (في السبت) وأنا أيضا أعمل» (يوحنا، 5: 17). ثم أتبع ذلك بخطبة طويلة نقتبس منها قوله: «من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله الحياة الأبدية ولا يصير إلى الهلاك ... هذه الأعمال الذي أعملها تشهد لي بأن الآب أرسلني ... أنتم لم تسمعوا صوته ولا رأيتم وجهه، فكلامه لا يستقر فيكم لأنكم لا تصدقون من أرسل. تتصفحون الكتب (أي الأسفار التوراتية) تحسبون أن لكم فيها الحياة الأبدية. هي تشهد لي وأنتم لا تريدون المجيء إلي فتكون لكم الحياة» (يوحنا، 5: 19-47). فاشتد سعي اليهود لقتله ولكنه ترك أورشليم وعاد إلى الجليل.
وكما لاحظنا الآن وسنلاحظ فيما بعد، فإن مؤلف إنجيل يوحنا لم يتوقف كثيرا عند معجزات يسوع ولا عند شفائه للمرضى وطرده للشياطين من أجساد الممسوسين، بقدر ما توقف عند أقواله وخطبه الطويلة التي أوضح فيها علاقته المميزة بالآب السماوي ودوره في دراما الخلاص الإنسانية. وهذه الخطب تشغل الجزء الأكبر من إنجيل يوحنا.
بعد عودته إلى الجليل اجترح يسوع معجزة تكثير الخبز والسمك وبعدها معجزة السير على الماء. فقد عبر يسوع بحر الجليل من كفر ناحوم إلى الجهة الأخرى، فتبعه جمع كبير فصعد إلى الجبل وراح يعلمهم. وعندما تأخر الوقت قال يسوع لفيليبس: «من أين نشتري الخبز لنطعمهم؟» فأجابه فيليبس: «لو اشترينا خبزا بمائتي دينار لما كفى أن يحصل الواحد منهم على كسرة صغيرة» وهنا قال أندراوس: «هنا صبي معه خمسة أرغفة من شعير وسمكتان. ولكن ما نفعها لمثل هذا الجمع؟» فقال يسوع: «اجعلوا الناس يقعدون» وكان هناك عشب كثير فقعدوا نحو خمسة آلاف رجل. فأخذ يسوع الخبز وشكر ثم وزع الأرغفة على الحاضرين بقدر ما أرادوا، وفعل الشيء نفسه بالسمكتين، فأكلوا جميعا ولما شبعوا جمع التلاميذ ما زاد عنهم فملأ قفة من الكسر. فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: «حقا إن هذا هو النبي الآتي إلى العالم» وعرف يسوع أنهم يهمون باختطافه ليجعلوه ملكا، فابتعد وانصرف إلى الجبل وحده. ولما جاء المساء ركب التلاميذ السفينة وعادوا إلى كفر ناحوم، وبعدما قطعوا نحو ستة كيلومترات رأوا يسوع وقد أدركهم ماشيا على الماء فخافوا. فقال لهم: أنا هو لا تخافوا. وعندما أرادوا أن يصعدوه إلى القارب وجدوا أن القارب وصل إلى الشاطئ في لمح البصر. وفي الغد تبعه الجمع الذي بات على الشاطئ الآخر بعد المائدة التي أنزلها يسوع من السماء. وهنا قال لهم جملة تفصح عن فهمه لطبيعة انجذاب الجموع إليه، عندما قال لهم بمرارة: «الحق، الحق أقول لكم، أنتم لا تطلبوني لأنكم رأيتم الآيات بل لأنكم أكلتم الخبز وشبعتم» وتلا ذلك حوار بين الطرفين نقتبس منه ما يلي: «لا تعملوا للقوت الفاني بل اعملوا للقوت الباقي في الحياة الأبدية. هذا الخبز يهبه لكم ابن الإنسان لأن الله الآب ختمه بختمه. قالوا له: كيف نعمل ما يريده الله؟ فأجابهم: أن تؤمنوا بمن أرسله. هذا ما يريده الله. فقالوا له: أرنا آية حتى نؤمن بك، ماذا تقدر أن تعمل؟ آباؤنا أكلوا المن في البرية كما جاء في الكتاب. فأجابهم يسوع: الحق، الحق أقول لكم، لم يعطكم موسى خبز السماء بل أبي يعطيكم خبز السماء الحق ... قالوا له: يا سيد أعطنا من هذا الخبز في كل حين. فقال لهم يسوع: أنا خبز الحياة من يأتني لا يجوع أبدا، ومن يؤمن بي لا يعطش ... آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا. هو ذا الخبز النازل من السماء ليأكل منه الإنسان فلا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء» (6: 1-60). وبهذه الطريقة فقد ألغى يسوع شريعة موسى القديمة باعتبارها شريعة موت، وأسس لشريعة الحياة الجديدة.
زيارة يسوع الثالثة لأورشليم جاءت في عيد المظال الذي يقام في الخريف. وقد دامت هذه الزيارة ثلاثة أشهر وذلك فيما بين شهر تشرين الأول/أكتوبر وشهر كانون الثاني/يناير. وكان اليهود يطلبونه في العيد ويقولون: أين هو. وعندما بلغ العيد أواسطه ظهر يسوع في باحة الهيكل وراح يعلم. فتعجب اليهود وقالوا: كيف يعرف هذا الكتب ولم يتعلم؟ فأجابهم: ليس تعليمي من عندي بل من عند الذي أرسلني. فقال أناس من أورشليم: أليس هذا الذي يطلبون قتله؟ وها هو يتكلم جهارا ولا يقولون له شيئا. في آخر يوم من أيام العيد أرسل الأحبار والفريسيون ثلة من حرس الهيكل للقبض على يسوع، وكان يعلم في الهيكل وبعد أن انتهى صاح بأعلى صوته: من كان عطشان فليأتني ليشرب، ومن آمن بي تفيض من بطنه أنهار ماء حي كما قال الكتاب. فقال بعض الجمع الذين سمعوا كلامه: هذا هو النبي حقا. وقال غيرهم: هذا هو المسيح. وقال آخرون: أمن الجليل يأتي المسيح؟ ألم يقل الكتاب إن المسيح يأتي من نسل داود من بيت لحم؟
1
ووقع بين الجمع خلاف بشأنه وأراد بعضهم أن يمسكوه ولكن لم يلق أحد عليه يدا لأن ساعته لم تكن قد حانت بعد. أما حراس الهيكل فرجعوا إلى أسيادهم، فقال لهم هؤلاء: لماذا لم تأتوا به؟ فأجاب الحرس: ما تكلم إنسان قط مثل هذا الرجل. فقال لهم الفريسيون: أخدعكم أنتم أيضا؟ أرأيتم أحدا من الرؤساء أو الفريسيين آمن به؟ أما هؤلاء العامة من الناس الذين يجهلون الشريعة فهم ملعونون. فقال لهم نيقوديمس وكان منهم: أتحكم شريعتنا على أحد قبل أن تسمعه وتعرف ما فعل؟ ثم انصرف كل واحد إلى بيته. أما يسوع فخرج إلى جبل الزيتون حيث بات الليل وعاد في صباح اليوم التالي (يوحنا: 7). وعلى الرغم من أن المؤلف لا يقول لنا عن المكان الذي كان يبيت فيه يسوع على جبل الزيتون، إلا أننا نعرف من مجريات الأحداث اللاحقة أنه كان يبيت في بيت الإخوة الثلاث مريم ومرتا ولعازر. في اليوم التالي جاء الكتبة والفريسيون إلى الهيكل بامرأة أمسكت بالزنا المشهود، وذلك في القصة التي أوردناها في بحثنا السابق «شخصية يسوع وطباعه».
ورأى وهو سائر أعمى منذ يوم مولده، فصنع عجينة من تراب ممزوجة بلعابه وطلى بها عيني الأعمى وقال له: اذهب فاغتسل في بركة سلوام. فذهب واغتسل فارتد بصيرا، وكان ذلك في يوم سبت. وعندما رجع الرجل إلى يسوع وهو مبصر قال له يسوع: أتؤمن بابن الإنسان؟ أجاب: ومن هو يا سيدي حتى أومن به؟ فقال يسوع: قد رأيته وهو الآن يكلمك. قال: قد آمنت يا سيدي. وسجد له، فقال يسوع: جئت إلى العالم لإمضاء الحكم، حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون. فسمعه بعض الفريسيين فقالوا له: أفنحن عميان أيضا؟ فقال لهم: لو كنتم عميانا لما كان عليكم خطيئة ولكنكم تقولون إننا نبصر، فخطيئتكم ثابتة. فقال بعضهم: ليس هذا الرجل من الله لأنه لا يراعي السبت. وقال آخرون: كيف يستطيع خاطئ أن يقوم بمثل هذه الآيات؟ ووقع الخلاف بينهم بشأنه (يوحنا، 9: 1-41).
مضى على يسوع حتى الآن شهران وهو يعلم في الهيكل ويلقي خطبه الطويلة التي اقتبسنا نتفا عديدة منها في الأبحاث السابقة. وفي أواخر شهر كانون الأول/ديسمبر: «أقيم عيد تجديد الهيكل في أورشليم وذلك في الشتاء. وكان يسوع في الهيكل تحت رواق سليمان، فأحدق به اليهود وقالوا له: إلى متى تترك نفوسنا معلقة؟ إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهرا. فأجابهم يسوع: إني قلت لكم ولكنكم لا تؤمنون لأنكم لستم من خرافي، فخرافي تسمع صوتي وأعرفها فتتبعني وأنا أهب لها الحياة الأبدية فلا تهلك أبدا ولا يختطفها من يدي أحد. إن الآب الذي وهبها لي أعظم من كل موجود. ما من أحد يستطيع أن يختطف من يد الآب شيئا. أنا والآب واحد. فأتى اليهود بالحجارة ليرجموه، فقال لهم يسوع: أريتكم عدة أعمال صالحة من لدن الآب، فلأي منها ترجمونني؟ قال اليهود: لا نرجمك للعمل الصالح ولكن للكفر، لأنك وأنت إنسان تجعل من نفسك إلها. فأجاب يسوع: ألم يكتب في شريعتكم: أنا قلت إنكم آلهة؟ (والمتكلم هنا هو الرب) فإذا كانت الشريعة تدعو من نزل عليهم وحي الله آلهة، ولا ينسخ الكتاب، فكيف تقولون للذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم: أنت تكفر لأني قلت أنا ابن الله؟ ... فأرادوا أن يمسكوه فأفلت من أيديهم ومضى إلى عبر الأردن إلى المكان الذي كان يوحنا يعمد فيه أولا وأقام هناك» (يوحنا، 10: 22-42).
وهكذا بلغت الأزمة بين يسوع واليهود في أورشليم أوجها، وكان لا بد له من مغادرة المدينة الخطرة فلجأ إلى بيت عبرة على الضفة الشرقية للأردن مع بداية شهر كانون الثاني/يناير، وذلك بعد قضائه ثلاثة أشهر متواصلة في أورشليم. ولكن إقامته في بيت عبرة قطعتها أخبار من الأختين مرتا ومريم تنبئه بأن صديقه لعازر مريض جدا. فلبث في مكانه يومين ثم قال لتلاميذه: لنعد إلى اليهودية لأن صديقنا لعازر راقد وأنا ذاهب لأوقظه. فقالوا له: يا معلم، أتعود إلى هناك وقد أراد اليهود رجمك من قريب؟ (يوحنا، 11: 1-8).
بعد حادثة إحياء لعازر في بيت عنيا ووصول أخبارها إلى أسماع السنهدرين، عقد المجلس اجتماعا وتشاوروا لقتله، ولم يبق إلا انتظار الفرصة المناسبة لذلك فابتعد يسوع عن أورشليم ثانية، وأقام مع تلاميذه في بلدة أفرايم الواقعة على مسافة 20 كم إلى الشمال من أورشليم داخل حدود منطقة السامرة (يوحنا، 10: 17-54).
نحن الآن في النصف الأخير من شهر كانون الثاني/يناير، وقد بقي على عيد الفصح ثلاثة أشهر. فهل بقي يسوع في أفرايم خلال هذه المدة أم أنه عاد إلى أورشليم وتهيأ لرحلة الفصح الثالث؟ إن النص غير واضح بهذا الخصوص، والمؤلف يقول لنا بعد أن أخبرنا بانتقال يسوع إلى أفرايم: «وكان فصح اليهود قريبا فصعد كثير من أهالي القرى إلى أورشليم ليطهروا أنفسهم. فكانوا يطلبون يسوع ويقولون فيما بينهم وهم واقفون في الهيكل: ماذا تظنون؟ هل يأتي إلى العيد أم لا يأتي؟ وكان الأحبار والفريسيون قد أصدروا أمرا أنه إن عرف أحد أين هو فليدل عليه لكي يمسكوه» (يوحنا، 11: 55-57).
ولكن الأرجح أن يسوع قد توجه من أفرايم بعد إقامة قصيرة إلى موطنه في الجليل حيث قضي المدة المتبقية لحلول فصح اليهود. ومما يؤيد هذا الرأي ما أورده لنا متى من تأدية يسوع لضريبة الهيكل وهو في الجليل. وهذه الضريبة كانت تجبى خارج أورشليم قبل شهر واحد من عيد الفصح. نقرأ في إنجيل متى: «ولما جاءوا إلى كفر ناحوم دنا جباة الدرهمين إلى بطرس وقالوا له: أما يؤدي معلمكم الدرهمين؟ فقال بلى. فلما دخل بطرس إلى البيت بادره يسوع قائلا: ما رأيك يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الجزية أو الخراج؟ أمن بنيهم أم من الغرباء؟ فقال: من الغرباء. فقال له يسوع: إذن فالبنون معفون. ولكن لا أريد أن أريبهم، فاذهب إلى البحر وألق الصنارة وأمسك أول سمكة تخرج وافتح فاها تجد إستارا (= قطعة عملة تعادل أربعة دراهم) فخذه وأد لهم عني وعنك» (متى، 17: 24-27).
وعلى الرغم من أن الإزائيين قد تجاهلوا هذه الزيارات والإقامة الطويلة ليسوع في أورشليم خلال الزيارة الثالثة، إلا أنهم أوردوا عرضا إشارات نفهم منها أن يسوع قد قضى وقتا لا بأس به في أورشليم قبل الفصح الأخير. فعندما جاء حرس الهيكل للقبض على يسوع في بستان جتسماني عقب العشاء الأخير، قال لهم يسوع وفق ما ورد في إنجيل مرقس: «كنت كل يوم أعلم في الهيكل بينهم فلم تأخذوني. وإنما حدث هذا لكي تتم الكتب» (مرقس، 14: 49). وتعبير «كل يوم» الذي استخدمه مرقس هنا لا يدل على اليومين أو الثلاثة التي كان يسوع يعلم خلالها في الهيكل قبل القبض عليه وإنما يدل على إقامة طويلة في أورشليم. كما استخدم لوقا تعابير مشابهة تعطينا الإيحاء نفسه، مثل قوله: «وكان ذات يوم يعلم الشعب في الهيكل ... إلخ» (لوقا، 20: 1). وقوله: «ثم خرج فذهب كعادته إلى جبل الزيتون» (لوقا، 22: 9). وعلى الرغم من أن لوقا قد تجاهل كل ما يمت بصلة إلى التلميذ الذي أحبه يسوع، إلا أنه أورد ما يدل على معرفة يسوع بمريم ومرتا وتردده على بيتهما في بيت عنيا عندما يقول: «وبينما هم سائرون دخل القرية فأضافته امرأة اسمها مرتا، وكان لها أخت تدعى مريم جلست عند قدمي يسوع تستمع إلى كلامه ... إلخ» (لوقا، 10: 38-42).
هذا التحقيب الزمني الذي قدمه لنا إنجيل يوحنا لحياة يسوع التبشيرية، هو الذي يزودنا بالمقدمة المنطقية لما جرى في أسبوع الآلام.
هل دخل يسوع أورشليم كملك؟
من أجل الإجابة على السؤال المطروح في عنوان هذا البحث، ينبغي علينا أولا أن نجيب على سؤال آخر، وهو: هل اعتبر يسوع نفسه ملكا؟
تقوم فكرة ملوكية يسوع على النبوءات التوراتية بظهور ملك مسيح للرب من نسل داود في نهاية الزمن، يعيد الملك إلى إسرائيل، ويحارب أعداءها في كل مكان، ويحقق ملكوت يهوه على الأرض، وهو مملكة دنيوية يحكمها الرب بنفسه. وقد قام الإنجيليون كل على طريقته بتطبيق هذه النبوءات على يسوع لكي يثبتوا أنه ذلك المسيح المنتظر. فهو «ابن داود» (متى، 1: 1)، و«يعطيه الرب كرسي داود أبيه» (لوقا، 1: 32)، وهو «ملك اليهود» (متى، 2: 1)، وهو «ملك إسرائيل» (يوحنا، 12: 13).
استنادا إلى هذه الإشارات الإنجيلية وغيرها، نشأ اتجاه لدى بعض الباحثين اليهود في كتاب العهد الجديد يركز أصحابه على البرنامج السياسي لحركة يسوع، وذلك انطلاقا من أن يسوع لم يكن صاحب رسالة روحية جديدة بل ثائرا يهوديا دعا إلى تحقيق مملكة الرب على الأرض من خلال حكومة دنيوية. وفي هذا الموضوع يقول جيمس طابور في كتابه «سلالة يسوع» ما يلي: «كان يسوع الابن البكر لأسرة ملكية متحدرة من داود الملك القديم لإسرائيل. وقد نودي به ملكا وأعدمه الرومان بسبب هذا الادعاء وليس بسبب دعوته لكنيسة جديدة أو ديانة جديدة كما هو شائع. فيسوع لم يكن مؤسسا لكنيسة وإنما مطالبا بعرش يتولاه ... وقد أنشأ يسوع قبل موته حكومة إقليمية مؤلفة من اثني عشر مسئولا مناطقيا، كل واحد منهم رئيس على سبط من أسباط إسرائيل. وقد ترك بعد موته أخاه يعقوب على رأس هذه الحكومة الوليدة ، فغدا القائد الذي لا منافس له للحركة المسيحية المبكرة. هذه الحقيقة التاريخية قد نسيت والأكثر احتمالا أنها قد أخفيت».
1
وأيضا: «نحن لسنا متأكدين من كيف ومتى طور يسوع فهمه الذاتي لدوره، ولمهمته فيما اعتقد أنه كان خطة للرب. من المؤكد أنه عرف وهو يترعرع أنه وإخوته كانوا ورثة ذكورا من الذرية الداودية الملكية، وكان مدركا تمام الإدراك للمعاني المسائحية لهذا الميراث. والأسفار المقدسة اليهودية مليئة بالوعود بأن الرب سوف يقيم في الأيام الأخيرة ملكا من ذرية داود، سوف يكون أداة الإطاحة بالحكم الأجنبي وتأسيس مملكة مستقلة لإسرائيل مدشنا بذلك عصرا جديدا.»
2
وأيضا: «وانتقل يسوع كملك مستقبلي لإسرائيل لإقامة حكومة مؤقتة تتشكل من هيئة داخلية أو مجلس الاثني عشر. فقد اختار من بين أتباعه اثني عشر رجلا سماهم نوابا أو مبعوثين. وهذا هو معنى الكلمة اليونانية التي ترجمت إلى رسل. وكان مقصده الأخير هو أنه عندما تصبح هناك حكومة فعلية، فإن كل واحد من هؤلاء سوف يجلس على عرش واحد من أسباط إسرائيل الاثني عشر ... وكانت رؤيا يسوع للمستقبل تتضمن دعوة جميع الإسرائيليين الموزعين في العالم للعودة إلى البلاد، فهذا جميعه قد توقع الأنبياء حدوثه في الأيام الأخيرة، حتى إن يسوع قال بأن خروجا جديدا للإسرائيليين من أراضي شتاتهم سوف يكون بحجم يعادل الخروج من مصر أيام موسى.»
3
وهكذا يتحول يسوع في الفكر اليهودي الحديث من مؤسس للكنيسة المسيحية: «على هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقدر عليها» (متى، 16: 18)، إلى داعية للصهيونية سبق مؤسسها تيودور هرتزل بألفي عام. أما عن قول الباحث في المقطع الثالث الذي اقتبسناه أعلاه بأن يسوع قد تنبأ بخروج جديد للإسرائيليين من أراضي شتاتهم، فقد بحثت عن مثل هذه النبوءة في كتاب العهد الجديد ولم أعثر لها على أثر في كل أقوال يسوع. ولعل باحثنا يلمح إلى قول يسوع: «إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية» (متى، 8: 11-12). وبنو الملكوت هنا هم اليهود الذين رفضوا بشارة يسوع بينما قبلها الوثنيون الذين سيدخلون ملكوت الله، أما اليهود فيطرحون إلى الظلمة الخارجية بعيدا عن رحمة الله.
ويقول مؤلفو كتاب «الكأس المقدسة والدم المقدس» الذين ناقشنا أفكارهم في بحثنا السابق «هل كان يسوع متزوجا؟» ما يلي: «ينص إنجيل متى بشكل واضح على أن يسوع كان ملكا أصيلا يجري في عروقه الدم الملكي، وهو السليل المباشر لداود وسليمان. وإذا كان الأمر كذلك فإنه كان يتمتع بحق شرعي في عرش فلسطين الموحدة. من هنا يجب ألا ننظر إلى النقش الذي كتبه الوالي الروماني على الصليب: «يسوع ملك اليهود» على أنه مجرد سخرية لأن يسوع ربما كان في الحقيقة ملك اليهود الذي قاد بالفعل حركة معارضة استنادا إلى دوره هذا، دور الملك الكاهن الذي سيوحد البلاد والشعب اليهودي. ولهذا فقد شكل يسوع تهديدا خطيرا لهيرود أنتيباس ملك الجليل وللسلطة الرومانية على حد سواء ... وخلال المحاكمة التي أجراها الوالي بيلاطس دعي يسوع مرارا بملك اليهود، وبيلاطس نفسه أمر أن ينقش هذا اللقب على الصليب. وهذا النقش، على ما يقول البروفيسور براندون من جامعة مانشستر، يجب اعتباره صحيحا كأي شيء آخر في العهد الجديد. فلقد ورد لقب ملك اليهود في الأناجيل الأربعة، ومن غير الممكن أن يكون مؤلفو الأناجيل قد ابتكروا أمرا كهذا.»
4
في ردنا على مثل هذه الطروحات نقول ما يلي:
في البحث عن يسوع التاريخي تتخذ أقوال يسوع نفسه مصداقية أعلى من الأقوال المنسوبة إلى معاصريه، لأن أقوال يسوع التي وضعت في مجموعة أو أكثر (على ما شرحنا في أبحاث سابقة) هي أقدم سجل مكتوب عن يسوع، وقد كانت متداولة قبل تدوين وتداول الأناجيل بعدة عقود، وصارت بعد ذلك مصدرا رئيسا لمؤلفي الأناجيل عندما كتبوا سيرة مطردة ليسوع تحتوي على أكثر من الأقوال. فهل ادعى يسوع أنه ملك أو أنه ابن داود ووريثه على عرش إسرائيل؟
إذا تابعنا ورود هذين اللقبين في الأناجيل الأربعة، لوجدنا أن يسوع لم يستخدم أيا منها في الإشارة إلى نفسه بينما استخدمها الآخرون في الإشارة إليه؛ فمؤلف إنجيل متى يقول في مطلع الإصحاح الأول: «كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود». ويقول لوقا في قصة الميلاد على لسان ملاك البشارة: «ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه» (لوقا، 1: 32). كما يرد هذا اللقب على لسان أناس عاديين: «وفيما هو مجتاز من هناك تبعه أعميان يصرخان ويقولان: ارحمنا يا ابن داود» (متى، 9: 27). «وفيما هو خارج من أريحا مع تلاميذه كان بارتيماوس الأعمى جالسا على الطريق يستعطي، فلما سمع أنه يسوع الناصري ابتدأ يصرخ ويقول: يا يسوع يا ابن داود ارحمني» (مرقس، 10: 46-47). أما يسوع فلم يكتف بتجنب هذا اللقب وإنما قال صراحة: إن المسيح ليس ابنا لداود: «وبينما الفريسيون مجتمعون سألهم يسوع: ما قولكم في المسيح، ابن من هو؟ قالوا له: ابن داود. فقال لهم: فكيف يدعوه ربا وهو (أي داود) يقول بوحي من الروح: قال الرب (= يهوه) لربي (= المسيح) اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك. فإذا كان داود يدعوه ربا فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة» (متى، 22: 41-46). ويسوع يشير هنا إلى ما ورد في المزمور 109: 1 على لسان داود: «قال الرب لربي ... إلخ».
وفيما يتعلق بلقب الملك فقد وضع متى على لسان المجوس في قصة الميلاد قولهم: «أين هو ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق ... إلخ» (متى، 2: 2). وفي قصة الميلاد عند لوقا قال ملاك البشارة لمريم: «ويملك على بيت يعقوب ولا يكون لملكه نهاية» (لوقا، 1: 33). وعندما جاء اليهود بيسوع إلى بيلاطس طالبين محاكمته قالوا له: «وجدنا هذا يفسد الأمة ويمنع أن تعطى جزية لقيصر قائلا إنه مسيح ملك» (لوقا، 23: 2). ولكن يسوع لم يدع الملوكية لا قولا ولا فعلا، فبعد معجزة تكثير الخبز والسمك التي شهدها عدة آلاف من الناس على شاطئ طبريا، يقول لنا مؤلف إنجيل يوحنا: «فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم. وأما يسوع فإذا علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكا ابتعد عنهم وعاد وحده إلى الجبل» (يوحنا، 6: 14-15). وعندما سأله الوالي بيلاطس عما إذا كان ملك اليهود كما يدعي متهموه، أوضح يسوع بكل جلاء مفهومه عن مملكة الله التي يبشر بحلولها، فهي مملكة سماوية لا علاقة لها بممالك الأرض السياسية: «ليست مملكتي من هذا العالم. ولو كانت مملكتي من هذا العالم لدافع عني رجالي لكيلا أسلم إلى اليهود. ولكن مملكتي ليست من ها هنا» (يوحنا، 18: 33-36). وفي قول آخر لافت للنظر يوضح يسوع لتلاميذه طبيعة هذا الملكوت الروحاني الذي ينمو في داخل النفس الإنسانية قبل أن يتجلى في خارجها: «وسأله الفريسيون: متى يأتي ملكوت الله؟ فأجابهم: لا يأتي ملكوت الله بمراقبة، ولا يقولون لكم هوذا هنا أو هوذا هناك، لأن ملكوت الله فيكم» (لوقا، 17: 20-21).
وفي الحقيقة لو أن يسوع كان يملك طموحات سياسية من أي نوع لتجلى ذلك في تعاليمه لتلاميذه وفي مواعظه وخطبه العامة. ولكننا لا نعثر على أي أثر لتحريض سياسي علنيا كان أم مبطنا في كل ما قاله يسوع، والهموم السياسية الآنية غائبة تماما عن تفكيره، وبدلا من التفكير في مقاومة السلطة الزمنية والدينية المتمثلة بسلطة روما وسلطة الهيكل، فقد انصب اهتمامه على مقاومة الشيطان الذي كان يرى فيه سيد هذا العالم (يوحنا، 12: 31). ولم يكن إخراجه للشياطين من أجساد الممسوسين إلا مقدمة للقضاء على حكم الشيطان: «إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله» (متى، 12: 28). والجمع الذي التأم حول يسوع وسار معه إلى أورشليم لم يكن تجمعا سياسيا بل تجمعا روحانيا حول معلم روحاني. وقد وصف يسوع جماعته بالكلمات المعبرة التالية: «لا أدعو لهم وحدهم (أي التلاميذ)، بل أدعو أيضا للذين سيسمعون كلامهم فيؤمنون بي، فليكونوا بأجمعهم واحدا، وكما أنت أيها الآب في وأنا فيك، كذلك فليكونوا فينا واحدا ليؤمن العالم بأنك الذي أرسلني. المجد الذي أوليتني أوليتهم إياه ليكونوا واحدا كما نحن واحد؛ أنا فيهم وأنت في لتكون وحدتهم كاملة ويعرف العالم أنك أرسلتني وأنك تحبهم مثلما تحبني» (يوحنا، 17: 20-23).
5
فأين هذا الكلام المغرق بالصوفية الشرقية من الهموم السياسية لليهود في ذلك الوقت؟
ولدينا ما يشير إلى التزام يسوع بواجباته المدنية وتأديته الضريبة المفروضة من الهيكل والأخرى المفروضة من السلطة الرومانية (متى، 17: 24-27). كما أعلن يسوع في باحة الهيكل أمام الجميع أنه ليس خصما للسلطة الرومانية عندما أفتى بدفع الجزية لها، قائلا: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» (مرقس، 12: 17).
وفي مقابل ذلك فإن السلطة السياسية لم تجد في تحركات يسوع ما يريبها. فعلى مدى عام أو أكثر من قيام يسوع بالتبشير في منطقة الجليل لم يجد هيرود أنتيباس ملك الجليل وشرقي الأردن سببا لاعتقال يسوع وهو الذي لم يتردد في اعتقال يوحنا المعمدان وإعدامه وذلك لأسباب شخصية لا علاقة لها بالسياسة، فما بالك إذا كان الأمر متعلقا بالتعدي على سلطة قيصر ولي نعمته وحاميه؟ مما لا شك فيه هو أن هيرود شعر بالقلق من نشاطات يسوع وخاف من حدوث شغب بين تلك الجماعات التي كان تلتئم حوله من أجل الشفاء غالبا ومن أجل الاستماع إلى مواعظه أحيانا؛ ولهذا قال البعض ليسوع: إن هيرود يطلب قتله (لوقا، 13: 31). ولكن قلق هيرود لم يترجم إلى فعل، وعندما سمع بمعجزاته وصفه بأنه خليفة يوحنا المعمدان الناسك لا بأنه محرض سياسي: «ولما سمع هيرودوس قال: هذا يوحنا المعمدان الذي قطعت رأسه. إنه قام من بين الأموات» (مرقس، 6: 16). بل إنه كان متشوقا لرؤيته على ما يقول لوقا في روايته للخبر نفسه (لوقا، 9: 9). وعندما تم القبض على يسوع وأرسله بيلاطس إليه لينظر في أمره باعتباره من رعايا الجليل، تحققت أمنية هيرود وفرح لأنه سيرى يسوع أخيرا: «فلما رأى هيرودوس يسوع فرح جدا لأنه كان يتمنى أن يراه لما يسمع عنه، ويرجو أن يشهد آية يأتي بها» (لوقا، 23: 8).
أما عن الوالي الروماني بيلاطس، فنحن نعرف الكثير عن قسوته وإدارته الحازمة لمقاطعتي اليهودية والسامرة، وعدم تهاونه مع مثيري الشغب، وعن شرطته السرية التي كانت منتشرة في كل مكان تراقب أي بادرة عصيان أو احتجاج. وقد كان منذ فترة قصيرة قد قمع بوحشية بالغة ظاهرة احتجاج على استخدامه أموال الهيكل في مشروع لتزويد أورشليم بمياه الشرب، عندما انقضت شرطته السرية التي دسها بين المتظاهرين وهم يخبئون الخناجر تحت ثيابهم، وقتلوا منهم خلقا كثيرا. ومما لا شك فيه لو أن جواسيسه اشتموا أي بادرة من يسوع وأتباعه توحي بالعداء لروما أو بالدعاية لنفسه كملك شرعي، لما تردد في التعامل معهم بالقسوة نفسها، ولكن مثل هذا لم يحدث. ولسوف نرى في حينه أن كل الدعاوى التي أثارها اليهود ضد يسوع أثناء المحاكمة لم تقنع هيرود الذي بقي مصرا على براءته.
فإذا كان يسوع لم يعتبر نفسه ملكا بالمعنى السياسي، فإنه لم يدخل إلى أورشليم كملك في نهاية القصة الإنجيلية، والجموع الحاشدة التي رافقته في الدخول وهي تهتف وتحيي ابن داود الآتي باسم الرب ملك إسرائيل، ليست إلا تضخيما لحدث عادي. وفي الحقيقة لو أن هذا الحدث وقع بالطريقة التي صوره بها بعض الإنجيليين، لوصلت أخباره إلى بيلاطس الذي لم يكن ليتردد في اعتقال يسوع وجماعته فورا، لا سيما وأن دخول يسوع جرى في مطلع أسبوع احتفالات عيد الفصح اليهودي عندما كانت أورشليم تستقبل الآلاف المؤلفة من الحجاج القادمين من مناطق فلسطين الكبرى ومن خارجها، والمناخ مهيأ لإشعال نار الفتنة السياسية بين اليهود. فما هي الصورة الأقرب إلى الواقع لما يدعى عادة بالدخول الظافر ليسوع إلى أورشليم؟ (1) رواية مرقس
لما اقترب الركب من أورشليم ووصلوا إلى قريتي بيت فاجي وبيت عنيا عند جبل الزيتون، أرسل يسوع اثنين من تلاميذه لجلب الجحش الذي سيركب عليه، فأتيا به وألقيا عليه ثيابهما فركبه: «وكثيرون فرشوا ثيابهم في الطريق، وآخرون قطعوا أغصانا من الشجر وفرشوها في الطريق. والذين تقدموا والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين: أوصنا (= هتاف للتمجيد)، مبارك الآتي باسم الرب، مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب، أوصنا في الأعالي. ثم وصلوا إلى أورشليم» (مرقس، 11: 1-11).
ونحن إذا حذفنا من هذا المشهد الهتافات غير المنطقية التي نستبعد أن تكون قد صدرت عن تلاميذ يسوع، لصرنا أمام مشهد واقعي إلى حد كبير. فمرقس لا يتحدث عن جموع غفيرة رافقت موكب يسوع، وليس «الذين تقدموا» و«الذين تبعوا» و«الذين فرشوا ثيابهم في الطريق» إلا تلاميذ يسوع الذين رافقوه من الجليل. وكما أوضحنا في بحث سابق تحت عنوان «هل أفلح يسوع خلال حياته» فإن عدد هؤلاء لم يكن يزيد عن المائة شخص وفق أعلى التقديرات. (2) رواية متى
لما اقترب الركب من أورشليم أرسل يسوع اثنين من تلاميذه لجلب جحش وأتان معا معدين مسبقا ليركب عليهما يسوع. «فأتيا بالجحش والأتان ووضعا عليهما ثيابهما فركب عليهما، وكان هذا لكي يتم ما قيل بالنبي القائل: قولوا لابنة صهيون هوذا ملكك قادما إليك وديعا وراكبا على أتان وجحش ابن أتان. والجمع الأكثر فرشوا ثيابهم في الطريق، وآخرون قطعوا أغصانا من الشجر وفرشوها في الطريق، والجموع الذين تقدموا والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين: أوصنا لابن داود، مبارك الآتي باسم الرب، أوصنا في الأعالي. ولما دخل المدينة ارتجت المدينة كلها قائلة: من هذا؟ فقالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل» (متى، 21: 1-11).
يقتفي مؤلف إنجيل متى هنا أثر مرقس في جميع عناصر هذا المشهد مع استبدال الجحش بأتان وجحش ابن أتان، بعد أن فهم المقطع الشعري في سفر زكريا حرفيا ولم ينتبه إلى مبدأ التوازي الذي يقوم عليه الشعر العبري في التوراة، مثلما يقوم عليه الشعر الكنعاني بشكل عام من أجل تحقيق الإيقاع المطلوب، نظرا لغياب الوزن الشعري والقافية في هذا الشعر. فوفق مبدأ التوازي يتم توسيع فكرة واحدة عن طريق التكرار وإعادة الصياغة أو حتى التضاد أحيانا. ولنقرأ على سبيل المثال المقطع التالي من أسطورة البعل الأوغاريتية:
دعني أخبرك أيها الأمير بعل،
دعني أكرر يا راكب الغيوم.
ونلاحظ كيف تم تطوير الفكرة الواردة في البيت الأول عن طريق التكرار وإعادة الصياغة في البيت الثاني، حيث استبدلت جملة: دعني أخبرك. بجملة: دعني أكرر. كما استبدلت جملة أيها الأمير بعل. بجملة: يا راكب الغيوم.
هذا الأسلوب الغالب على الشعر الكنعاني قد غلب على المقاطع الشعرية في التوراة على ما نبينه في الأمثلة التالية:
يمينك يا رب معتزة بالقدرة،
يمينك يا رب تحطم العدو. (سفر الخروج، 15: 6)
كيف ألعن من لم يلعنه الله،
وكيف أشتم من لم يشتمه الرب. (سفر العدد، 23: 8)
يهطل كالمطر تعليمي،
ويقطر كالندى كلامي؛
كالطل على العشب،
وكالوابل على الكلأ. (سفر التثنية، 32: 2)
وفي سفر زكريا الذي اقتبس منه متى يستخدم المؤلف الأسلوب نفسه عندما يوازي بين الأتان والجحش ابن أتان. فهما واحد لا اثنان على ما فهم متى فجعل يسوع يركب على الحيوانين معا في مشهد غير واقعي؛ وذلك لاستحالة امتطاء راحلتين ناهيك عن سوقهما معا. (3) رواية يوحنا
يوحنا لم يرقه مشهد يسوع وهو راكب على حمارين في آن معا وفضل على ذلك جحش مرقس، ودعاه جحش أتان أي ابن أتان: «وفي الغد سمع الجمع الكثير الذي جاء إلى العيد أن يسوع آت إلى أورشليم، فأخذوا سعوف النخل وخرجوا للقائه وكانوا يصرخون: أوصنا، مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل. ووجد يسوع جحشا فجلس عليه كما هو مكتوب: لا تخافي يا ابنة صهيون، هوذا ملكك يأتي جالسا على جحش أتان» (يوحنا، 12: 12-15). (4) رواية لوقا
لوقا وحده يعطينا الصورة الأقرب إلى الواقع. فليس هناك من جموع ولا حشود، ولم يكن في موكب يسوع سوى تلاميذه: «وأتيا بالجحش إلى يسوع وطرحا ثيابهما عليه وأركبا يسوع. وفيما هو سائر فرشوا ثيابهم في الطريق، ولما قرب عند منحدر جبل الزيتون ابتدأ كل جمهور التلاميذ يفرحون ويسبحون الله بصوت عظيم لأجل جميع القوات التي نظروا قائلين: مبارك الملك الآتي باسم الرب، سلام في السماء ومجد في الأعالي» (لوقا، 19: 35-38). ونلاحظ هنا غياب لقب «ابن داود» ذي الطابع السياسي عن هتافات التلاميذ، وكذلك الإشارة إلى «مملكة أبينا داود»، كما نلاحظ اقتران لقب «الملك» بسلام السماء ومجد الأعالي لا بأي مملكة أرضية.
لقد دخل يسوع إلى أورشليم كمعلم روحي يريد إسماع صوته في عاصمة الجهل والغطرسة، برفقة مجموعة من أتباعه البسطاء الذين ينتمون إلى الشرائح الفقيرة في المجتمع. ولكن وعلى ما يقوله مؤلف إنجيل يوحنا في مقدمته: «لقد جاء إلى بيته فما قبله أهل بيته. أما الذين قبلوه فقد أولاهم سلطانا أن يصيروا أبناء الله» (يوحنا، 1: 11-12).
الأيام الستة الأخيرة
أو أسبوع الآلام
تدعى الأيام الستة الأخيرة التي قضاها يسوع في أورشليم بأسبوع الآلام. وهي تمتد من يوم الأحد الواقع في 10 نيسان/أبريل إلى يوم الجمعة الواقع في 15 نيسان/أبريل، وهو أول أيام عيد الفصح اليهودي. في مساء اليوم السابق للعيد أي يوم الخميس الواقع في 14 نيسان/أبريل، وهو وقفة العيد، يتناول اليهود في بيوتهم عشاء طقسيا يدعى عشاء الفصح. فما الذي قام به يسوع خلال هذه الأيام الستة التي انتهت بموته على الصليب؟ إن الأناجيل الأربعة ليست على اتفاق فيما يتعلق بأحداث هذه الفترة. فشهادة إنجيل يوحنا تعارض شهادات الأناجيل الإزائية، وهذه بدورها غير متفقة فيما بينها.
فيما يلي من هذا البحث سوف نستعرض الروايات الإنجيلية الأربعة ونقارن فيما بينها، لكي نصل إلى نتيجة مرجحة بخصوص ما حدث، لا سيما فيما يتعلق بيوم العشاء الأخير ويوم الصلب؛ لما لهذين التاريخين من أثر على العقيدة المسيحية. (1) رواية يوحنا
وصل ركب يسوع إلى أطراف أورشليم في يوم الأحد 10 نيسان. ويبدو أن الوصول كان في وقت متأخر من النهار؛ لأن يسوع توقف في بيت عنيا للمبيت. وعند المساء أعدت له الأسرة المضيافة عشاء. وبينما كانت مرتا تخدم ولعازر متكئا إلى المائدة بجوار يسوع، دخلت أختهما مريم وبيدها حقة من عطر الناردين الغالي الثمن فدهنت به قدمي يسوع وراحت تمسحهما بشعرها ... إلى آخر القصة التي عرضناها وعلقنا عليها في مواضع سابقة (يوحنا، 12: 1-8). في صباح اليوم التالي، الإثنين 11 نيسان، خرج يسوع في موكبه ودخل أورشليم حيث راح يعلم في الهيكل، وفي المساء عاد إلى بيت عنيا (يوحنا، 12: 20-49). وبما أن المؤلف لا يخبرنا عما فعله يسوع بعد ذلك عدا اجتماعه مع الاثني عشر لتناول العشاء الأخير مساء الأربعاء 13 نيسان، فإن المرجح أنه بقي في بيت عنيا يوم الثلاثاء وقبل ظهر الأربعاء. في وقت متأخر من مساء الأربعاء بعد العشاء الأخير تم القبض على يسوع وسيق إلى بيت رئيس الكهنة حيث جرى استجوابه وجمع الشهادات ضده ، وعندما أشرقت الشمس أخذوه إلى قصر الوالي الروماني من أجل المحاكمة الرسمية التي انتهت بإدانته وصلبه عند ظهر يوم الخميس 14 نيسان، أي وقفة عيد الفصح. ويغدو الجدول الزمني لأسبوع الآلام على الشكل التالي:
الأحد 10 نيسان
الإثنين 11 نيسان
الثلاثاء 12 نيسان
الأربعاء 13 نيسان
الخميس 14 نيسان
الجمعة 15 نيسان
مبيت في بيت عنيا
دخول أورشليم
إقامة في بيت عنيا
إقامة في بيت عنيا
المحاكمة
يسوع في القبر منذ البارحة
قصة حقة الطيب
تعليم في الهيكل
العشاء الأخير
الصلب والدفن
مبيت في بيت عنيا
الاستجواب (2) رواية مرقس
وصل يسوع إلى أورشليم قادما من أريحا في غور الأردن عصر يوم الأحد 10 نيسان دون التوقف في بيت عنيا، وتوجه من فوره إلى الهيكل حيث قام مع تلاميذه بجولة فيه. ولما وجد أن النهار قد تأخر ترك المدينة قاصدا بيت عنيا لقضاء الليل (مرقس، 11: 1-11). في صباح اليوم التالي، الإثنين 11 نيسان، عاد إلى أورشليم فدخل الهيكل وراح يطرد الذين يبيعون ويشترون في فنائه ، وقلب مناضد الصيارفة وكراسي باعة الحمام. فسمع الأحبار والكتبة وجعلوا يبحثون كيف يهلكونه. وفي المساء خرج من المدينة وبات في بيت عنيا (مرقس، 11: 12-19). في اليوم الثالث، الثلاثاء 12 نيسان، رجع إلى أورشليم وراح يعلم في الهيكل ويجادل الأحبار والشيوخ والكتبة، وجواسيس الهيكل الذين كانوا يحاولون اصطياده بكلمة. وعندما حل المساء غادر الهيكل ولم يعد إليه ثانية (مرقس، 11: 15-33، و12: 1-44، و13: 1-37). في يوم الأربعاء بقي يسوع في بيت عنيا. وفي المساء أعدت له وليمة في بيت سمعان الأبرص، عندما دخلت امرأة مجهولة ومعها حقة من عطر الناردين الغالي الثمن فسكبتها على رأس يسوع
1 (مرقس، 14: 3-9). بعد ظهر يوم الخميس ترك يسوع بيت عنيا ليتناول عشاء الفصح مع تلاميذه في أورشليم ولم يعد إلى بيت عنيا أبدا. فبعد العشاء تم القبض عليه وسيق إلى بيت رئيس الكهنة. وفي يوم الجمعة أول أيام عيد الفصح حوكم ثم صلب. ويغدو جدول مرقس الزمني على الوجه التالي:
الأحد
الإثنين
الثلاثاء
الأربعاء
الخميس
الجمعة
وصول إلى أورشليم وجولة في الهيكل
أحداث شغب في الهيكل
تعليم في الهيكل
إقامة في بيت عنيا
إقامة في بيت عنيا
المحاكمة
مبيت في بيت عنيا
تعليم
مبيت في بيت عنيا
مائدة مسائية
عشاء الفصح في أورشليم
الصلب والدفن
مبيت في بيت عنيا
قصة حقة الطيب
الاستجواب (3) رواية متى
تختلف رواية متى عن رواية مرقس فيما يتعلق باليوم الأول فقط. فيسوع في رواية متى يحدث الشغب في الهيكل حال وصوله في يوم الأحد، لا في اليوم الثاني كما هو الحال في رواية مرقس. وفيما عدا ذلك فإن متى يتبع بدقة رواية مرقس، ويغدو جدوله الزمني على الوجه التالي:
الأحد
الإثنين
الثلاثاء
الأربعاء
الخميس
الجمعة
وصول إلى أورشليم
تعليم في الهيكل
تعليم في الهيكل
إقامة في بيت عنيا
إقامة في بيت عنيا
المحاكمة
إحداث الشغب في الهيكل
مبيت في بيت عنيا
مبيت في بيت عنيا
مائدة مسائية
عشاء الفصح في أورشليم
الصلب والدفن
مبيت في بيت عنيا
قصة حقة الطيب
الاستجواب (4) رواية لوقا
يضع لوقا أيضا حادثة الشغب في الهيكل في اليوم الأول لوصول يسوع وهو الأحد 10 نيسان. ثم ينتقل إلى القول: «وكان يعلم كل يوم في الهيكل، وكان الأحبار والكتبة مع وجوه الشعب يطلبون أن يهلكوه» (لوقا، 19: 45-47). وبعد ذلك تضيع العلامات الزمنية ولا ندري ما فعله يسوع يوما بيوم، ولا متى كان يغادر أورشليم أو يعود إليها، وكل ما يقوله لوقا بهذا الخصوص هو أن يسوع: «كان في النهار يعلم في الهيكل ثم يخرج ليبيت ليلا في الجبل الذي يقال له جبل الزيتون» (لوقا، 21: 37). وبيت عنيا غائبة تماما عن هذه الأحداث، ولا نعرف أين كان يسوع يقضي ليلته في جبل الزيتون. من هنا فلا مكان للمائدة المسائية التي أعدت هناك ليسوع مساء الأربعاء أو لقصة المرأة التي سكبت زجاجة الطيب عليه في ذلك اليوم. أخيرا وبعد أن ينتهي لوقا من سرد خطب يسوع في الهيكل وجداله مع اليهود هناك (لوقا: 20-21) نجد أنفسنا في وقفة عيد الفصح: «وجاء يوم الفطير الذي تقرب فيه ذبيحة الفصح» (لوقا، 22: 7). يلي ذلك عشاء الفصح مساء الأربعاء، ثم القبض على يسوع واستجوابه ومحاكمته صباح الخميس، ويغدو جدول لوقا المضطرب على الوجه التالي:
الأحد
الإثنين
الثلاثاء
الأربعاء
الخميس
الجمعة
وصول إلى أورشليم
تعليم في الهيكل
تعليم في الهيكل
تعليم في الهيكل
عشاء الفصح
المحاكمة
إحداث الشغب في الهيكل
الاستجواب
الصلب والدفن
وفيما يلي سوف نجمع الجداول الزمنية الأربعة في جدول واحد لتسهيل المقارنة بينها:
الجدول الزمني لأحداث أسبوع الآلام:
اليوم
إنجيل يوحنا
إنجيل مرقس
إنجيل متى
إنجيل لوقا
الأحد 10 نيسان
مبيت في بيت عنيا
وصول إلى أورشليم
وصول إلى أورشليم
وصول إلى أورشليم
جولة في الهيكل
إحداث شغب في الهيكل
إحداث شغب في الهيكل
مبيت في بيت عنيا
مبيت في بيت عنيا
الإثنين 11 نيسان
وصول إلى أورشليم
إحداث شغب في الهيكل
تعليم في الهيكل
تعليم في الهيكل
تعليم في الهيكل
تعليم
مبيت في بيت عنيا
مبيت في بيت عنيا
مبيت في بيت عنيا
الثلاثاء 12 نيسان
إقامة في بيت عنيا
تعليم في الهيكل
تعليم في الهيكل
تعليم في الهيكل
مبيت في بيت عنيا
مبيت في بيت عنيا
الأربعاء 13 نيسان
إقامة في بيت عنيا قبل الظهر
إقامة في بيت عنيا
إقامة في بيت عنيا
تعليم في الهيكل
العشاء الأخير
مائة مسائية
مائة مسائية
الاستجواب
قصة حقة الطيب
قصة حقة الطيب
الخميس 14 نيسان
المحاكمة
إقامة في بيت عنيا قبل الظهر
إقامة في بيت عنيا قبل الظهر
عشاء الفصح
الصلب والدفن
عشاء الفصح
عشاء الفصح
الاستجواب
الاستجواب
الاستجواب
الجمعة 15 نيسان
يسوع في القبر
المحاكمة
المحاكمة
المحاكمة
منذ يوم الخميس
الصلب والدفن
الصلب والدفن
الصلب والدفن
إن الاختلافات التي يظهرها هذا الجدول بين الأناجيل الأربعة بخصوص أحداث أسبوع الآلام تنقسم إلى نوعين؛ النوع الأول اختلافات غير جوهرية يمكن عزوها إلى اضطراب ذاكرة الأشخاص الذين روى عنهم الإنجيليون أحداث ذلك الأسبوع، مثل يوم دخول يسوع إلى أورشليم، وما إذا كان قد أحدث الشغب في الهيكل في اليوم الأول أم في اليوم الثاني أم لم يحدثه في ذلك الأسبوع. أما النوع الثاني فاختلافات ذات أثر بعيد على العقيدة المسيحية، ولا يمكن عزوها إلا إلى اختلاف المواقف الفكرية للمؤلفين أنفسهم. ذلك أن المضامين اللاهوتية لتناول يسوع العشاء الأخير في وقفة العيد، تختلف عن المضامين اللاهوتية لتناوله ذلك العشاء في اليوم السابق للوقفة. وكذلك الحال فيما يتعلق بموته على الصليب عشية اليوم الذي يضحي به بحمل الفصح، أم في اليوم الأول للفصح.
سوف نبحث موضوع يوم موت يسوع في وقت لاحق، ونتفرغ في البحث التالي ليوم العشاء الأخير وهل كان عشاء فصح أم لا. ولكن بعد الاستطراد التالي:
العشاءات الثلاث
في الأسبوع الأخير لدينا ثلاثة عشاءات تناولها يسوع مدعوا تتداخل فيها الأحداث، وهي: (1)
العشاء في بيت عنيا مساء الأحد قبل الدخول إلى أورشليم، عندما جاءت مريم وسكبت الطيب على قدمي يسوع (إنجيل يوحنا). (2)
العشاء في بيت سمعان الأبرص مساء الأربعاء، عندما دخلت امرأة مجهولة وسكبت الطيب على رأس يسوع (مرقس، ومتى). (3)
العشاء الأخير مساء الأربعاء عند يوحنا، ومساء الخميس عند الإزائيين .
إن التدقيق في أخبار هذه العشاءات يقودنا إلى ملاحظة ما يلي: (أ)
يشترك عشاء مساء يوم الأحد في بيت عنيا (يوحنا) مع العشاء في بيت سمعان الأبرص مساء الأربعاء (مرقس + متى) بعنصر حقة الطيب التي سكبت على يسوع. (ب)
يشترك العشاء في بيت سمعان الأبرص (مرقس + متى) مع العشاء الأخير عند يوحنا في أن كليهما حدثا مساء يوم الأربعاء. (ج)
ويشترك العشاء في بيت سمعان الأبرص مساء الأربعاء (مرقس + متى)، مع العشاء الأخير مساء الأربعاء (يوحنا)، في أن يهوذا الإسخريوطي غادر العشاء في نهايته من أجل تنفيذ خطته الرامية إلى تسليم يسوع. نقرأ في إنجيل يوحنا: «ثم غمس يسوع اللقمة ورفعها وناولها يهوذا بن سمعان الإسخريوطي، فدخل فيه الشيطان بعد اللقمة. فقال يسوع: افعل ما أنت فاعل ولا تبطئ ... فتناول اللقمة وخرج من وقته» (يوحنا، 13: 26-30). ونقرأ عند متى في نهاية قصة العشاء عند سمعان الأبرص: «فذهب أحد الاثني عشر وهو يهوذا الإسخريوطي إلى الأحبار وقال لهم: ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه لكم؟ فجعلوا له ثلاثين من الفضة » (متى، 26: 14-16. قارن مع مرقس، 14: 10-11). (د)
يتحول عنصر قيام مريم بسكب الطيب على قدمي يسوع ومسحهما بشعرها في عشاء يوم الأحد، إلى عنصر قيام يسوع بسكب الماء على أقدام تلاميذه وتجفيفها بمنديل. (ه)
لوقا لم يكن في روايته مكان لعشاء تقوم فيه امرأة بسكب حقة الطيب على يسوع؛ لأنه روى لنا قصة مماثلة حدثت في مطلع حياة يسوع التبشيرية، عندما دعاه رجل فريسي اسمه سمعان، وبينما هو جالس إلى المائدة دخلت امرأة خاطئة ومعها حقة طيب ... إلخ (لوقا، 7: 36-50). ومع ذلك فإن في قصته المبكرة زمنيا ملمحا مشتركا مع عشاء يوم الأربعاء في بيت سمعان الأبرص، وهو أن كلا الشخصين اللذين دخل يسوع بيتهما للعشاء يدعيان بالاسم سمعان.
هذه الملاحظات تعطينا نموذجا عن مدى الاضطراب في الأخبار التي حفظها لنا الموروث عن يسوع، وعن كيفية استعارة الرواة عناصر أخبارهم من بعضهم ومن مصادر أخرى، وتوظيفها في مروياتهم كل على طريقة.
هل تناول يسوع عشاء الفصح؟
في وقفة عيد الفصح تذبح كل أسرة يهودية مقتدرة خروفا أو جديا يدعى بحمل الفصح، ثم يتناولونه مساء وفق طقس خاص يدعى عشاء الفصح، وذلك احتفالا بذكرى الخروج من مصر. وقد استن الإله يهوه لموسى وشعبه هذا الطقس عشية الخروج على ما نقرأ في سفر الخروج: «وكلم الرب موسى وهارون في أرض مصر قائلا: هذا الشهر يكون لكم رأس الشهور، هو لكم أول شهور السنة. كلما كل جماعة إسرائيل قائلين: في العاشر من هذا الشهر يأخذون لهم كل واحد شاة بحسب بيوت الآباء، شاة للبيت (الواحد). وإن كان البيت صغيرا عن أن يكون كفؤا لشاة يأخذ هو وجاره القريب من بيته بحسب عدد النفوس ... تكون لكم شاة صحيحة ذكرا ابن سنة تأخذونه من الخرفان أو الماعز، ويكون عندكم تحت الحفظ إلى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر. ثم يذبحه كل جمهور جماعة إسرائيل في العشية ... ويأكلون اللحم تلك الليلة مشويا بالنار مع (خبز) فطير ... فتحفظون هذا الأمر فريضة لك ولأولادك إلى الأبد. ويكون حين تدخلون الأرض التي يعطيكم الرب أنكم تحفظون هذه الخدمة. ويكون حين يقول لكم أولادكم ما هذه الخدمة لكم؟ أنكم تقولون: هي ذبيحة فصح للرب.» (الخروج، 12: 1-8، و24-27)
فهل تناول يسوع عشاء الفصح وفق التقليد الديني اليهودي؟ الأرجح هو أنه لم يتناوله، والوجبة الأخيرة التي تناولها يسوع مع تلاميذه لم تكن عشاء فصح بل عشاء أخيرا وفق التسمية الصحيحة لها. ونحن هنا نعتمد على شهادة شاهدين، الأول هو بولس الرسول والثاني هو مؤلف إنجيل يوحنا.
إن أقدم رواية عن وجبة العشاء الأخير جاءتنا من رسائل بولس الرسول التي كانت متداولة بين المسيحيين قبل تدوين الأناجيل. فهو يقول في الرسالة الأولى إلى أهالي كورنثوس: «فإني تلقيت من الرب ما بلغته لكم، وهو أن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها، أخذ خبزا وشكر ثم كسره وقال: هذا هو جسدي إنه من أجلكم. اعملوا هذا لذكري. وكذلك أخذ الكأس بعد العشاء وقال: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. اعملوا هذا كلما شربتم لذكري» (1 كورنثوس، 11: 23-25). فهنا يصف بولس ليلة العشاء الأخير بأنها الليلة التي أسلم فيها يسوع لا بأنها ليلة الفصح. كما أن يسوع يؤسس هنا لمفهوم «العهد الجديد» الذي يوثقه الله مع البشرية، بديلا عن «العهد القديم» الذي وثقه يهوه مع شعب إسرائيل. وقد تم توثيق هذا العهد الجديد بدم يسوع الذي يرمز إليه خمر العشاء الأخير: «هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي»، أو كما ورد عند مرقس في روايته للعشاء الأخير: «هذا هو دمي الذي للعهد الجديد يسفك». ولكي نفهم ما يقصده يسوع من توثيق العهد الجديد بدمه، علينا أن نرجع إلى كتاب التوراة ونرى كيف وثق يهوه بالدم عهده مع بني إسرائيل. فبعد أن تلقى موسى الشريعة من يهوه وقرأها على أسماع الشعب، أجابه الجميع بصوت واحد وقالوا: جميع ما تكلم به الرب نعمل. عند ذلك قام موسى بناء على توجيهات إلهه ببناء مذبح في أسفل جبل حوريب الذي نزلت عليه الشريعة، وقدم عليه قرابين من الثيران كان دمها كافيا لملء عدة طسوت كبيرة، ثم رش هذا الدم الغزير على الشعب وقال: هذا هو دم العهد الذي عاهدكم به الرب (سفر الخروج، 24: 3-8). أما يسوع فقد استبدل دم القرابين، وهو الوسيلة الوحيدة للتقرب إلى يهوه، بدمه الذي سيسفك من أجل توثيق عهد جديد هو عهد الروح مقابل العهد القديم الذي كان عهد الحرف. ومن سفك دمه للعهد الجديد وأعلن سدى الطقوس القديمة، لن يحتفل بالطقس المركزي منها وهو عشاء الفصح.
الشاهد الثاني هو مؤلف إنجيل يوحنا، الذي أشار في روايته وبأكثر من طريقة إلى أن العشاء الأخير قد حدث عشية الأربعاء في اليوم السابق لعيد الفصح. فعندما ساق اليهود يسوع إلى دار الوالي بيلاطس صباح يوم الإعدام يقول المؤلف: «وجاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية، ولكنهم لم يدخلوها مخافة أن يتنجسوا فلا يتمكنوا من أكل عشاء الفصح» (يوحنا، 18: 28). وعندما جلس بيلاطس على كرسي الولاية لإصدار الحكم بحق يسوع، يقول لنا المؤلف: «وجلس على كرسي القضاء في موضع يسمى البلاط ويقال له بالعبرية جباثة. وكان ذلك يوم تهيئة للفصح» (يوحنا، 19: 13-14). وسنقدم فيما يلي قصة العشاء الأخير برواية يوحنا لنلاحظ كيف أنه لم يشأ لنا أن نعتقد بأن هذا العشاء كان عشاء فصح: «وكان يسوع يعلم وقد اقترب عيد الفصح، أن ساعة انتقاله من هذا العالم إلى الآب قد حانت. وقد أحب أصحابه الذين هم في العالم إلى المنتهى؛ فحين كان العشاء وقد ألقى الشيطان في قلب يهوذا بن سمعان الإسخريوطي أن يسلمه، قام عن العشاء فخلع رداءه وأخذ بمنشفة فائتزر بها ثم صب ماء في مطهرة وشرع يغسل أقدام تلاميذه ويمسحها بالمنشفة التي كان مؤتزرا بها. فجاء إلى سمعان بطرس فقال له سمعان: يا سيد، أأنت تغسل قدمي؟ فأجابه يسوع: أنت الآن لا تفهم ما أنا فاعل ولكنك ستفهم فيما بعد. فقال له بطرس: لن تغسل قدمي أبدا. أجابه يسوع: إذا لم أغسلك فلا حظ لك معي أبدا. فقال له سمعان بطرس: يا سيد، لا تغسل قدمي وحدهما بل أيضا يدي ورأسي. فقال له يسوع: من اغتسل لا يحتاج إلا إلى غسل قدميه لأنه كله طاهر، وأنتم طاهرون ولكن ليس كلكم. لأنه كان يعرف الذي سيسلمه. فلما غسل أقدامهم ولبس رداءه وعاد إلى المائدة قال لهم: أتفهمون ما صنعت إليكم؟ أنتم تدعونني معلما وسيدا، وحسنا تقولون لأنني كذلك. وإذا كنت أنا السيد والمعلم قد غسلت أقدامكم، فيجب عليكم أنتم أيضا أن يغسل بعضكم أقدام بعض، لأني أعطيتكم مثالا، حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضا ... واضطربت نفس يسوع عند هذا الكلام وشهد وقال: الحق، الحق أقول لكم: إن واحدا منكم سيسلمني. فنظر التلاميذ إلى بعضهم حائرين فيمن قال عنه. وكان متكئا على حضن يسوع واحد من تلاميذه الذي كان يحبه، فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه، فاتكأ ذاك على صدر يسوع وقال له: يا سيد، من هو؟ أجاب يسوع: هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه. فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا بن سمعان الإسخريوطي. فدخل فيه الشيطان بعد اللقمة. فقال له يسوع: افعل ما أنت فاعل ولا تبطئ. فلم يفهم أحد من المتكئين لماذا قال له ذلك. فظن بعضهم أن يسوع قال له اشتر ما نحتاج إليه في العيد، أو أمره بأن يعطي شيئا للفقراء لأن يهوذا كان مؤتمنا على صندوق الدراهم. فتناول اللقمة وخرج من وقته، وكان الليل قد أظلم» (يوحنا، 13: 1-30).
نلاحظ هنا غياب الإعدادات التي قام بها يسوع من أجل التهيئة للعشاء في أحد بيوت أورشليم، والمؤلف يضعنا دون مقدمات في مشهد العشاء عندما يقول: «وحين كان العشاء ... إلخ» (يوحنا، 13: 2)، كما أنه لا يحدد عدد المشاركين باثني عشر كما فعل الإزائيون، لأنهم ربما كانوا عدا يسوع ثلاثة عشر بسبب وجود التلميذ الحبيب. أما مكان العشاء فمجهول ولكن المرجح أنه كان في بيت آخر للتلميذ الحبيب في أورشليم. كما نلاحظ غياب أي إشارة من يسوع أو من تلاميذه إلى أن العشاء كان عشاء فصح، كما هو الحال في روايات الإزائيين.
إذا انتقلنا إلى التقليد المرقسي لرواية العشاء الأخير ، وهو التقليد الذي اتبعه متى ولوقا، نجد أن العشاء الأخير قد أقيم في مساء يوم الخميس، وأن يسوع قد أعد ترتيباته مسبقا من أجل الاجتماع بتلاميذه في ذلك اليوم: «في أول يوم من أيام الفطير، اليوم الذي تقرب فيه ذبيحة الفصح، قال له تلاميذه: إلى أين تريد أن نمضي فنعد لك عشاء الفصح لتأكله؟ فأرسل اثنين من تلاميذه وقال لهما: اذهبا إلى المدينة فيلقاكما رجل يحمل جرة ماء فاتبعاه، وقولا لرب البيت حيث يدخل: يقول المعلم أين غرفتي التي آكل فيها عشاء الفصح مع تلاميذي؟ فيريكما علية كبيرة مفروشة مهيأة فأعداه لنا هناك. فذهب التلميذان وأتيا المدينة فوجدا كما قال لهما وأعدا عشاء الفصح.» «ولما كان المساء جاء مع الاثني عشر. وبينما هم على الطعام يأكلون قال يسوع: الحق أقول لكم إن واحدا منكم سيسلمني، الآكل معي. فاستولى عليهم الحزن وأخذ يسأله الواحد بعد الآخر: أأنا هو؟ فقال لهم: إنه واحد من الاثني عشر، الذي يغمس معي في الصحفة. ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي يسلم ابن الإنسان، كان خيرا لذلك الرجل لو لم يولد. وفيما هم يأكلون أخذ خبزا وبارك ثم كسره وناولهم وقال: خذوا كلوا، هذا هو جسدي. ثم أخذ الكأس وشرب وناولهم فشربوا منها كلهم وقال لهم: هذا هو دمي الذي للعهد الجديد يسفك من أجل كثيرين. الحق أقول لكم إني لا أشرب بعد من نتاج الكرمة حتى يأتي يوم فيه أشربه خمرة جديدة في ملكوت الله. ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون.» «فقال لهم يسوع: ستشكون في كلكم في هذه الليلة لأنه مكتوب: «سأضرب الراي فتتبدد الخراف»،
1
ولكن بعد قيامي سأسبقكم إلى الجليل. فقال له بطرس: إن شك الجميع فأنا لا أشك. فقال له يسوع: الحق، الحق أقول لك، إنك اليوم في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات. فقال بأكثر تشديد: لست بناكرك وإن قضي علي بأن أموت معك. وهكذا قال جميعهم» (مرقس، 14: 1-31).
على الرغم من توكيد مرقس هنا على أن العشاء الأخير كان عشاء فصح، إلا أن أثرا باقيا من القصة الأصلية يتمثل في رغيف الخبز الذي كسره يسوع، يدل على أن هذا العشاء لم يكن عشاء فصح. فقد وردت الكلمة الدالة على رغيف الخبز في النص اليوناني بصيغة
Aratos
التي تدل على رغيف خبز عادي مصنوع من عجين خمير، ولم ترد بصيغة
Matzos
الدالة على رغيف فطير مصنوع من عجين غير مخمر.
2
وبما أن الخبز الذي يتناوله اليهود عشية ذبح وتناول حمل الفصح يجب أن يكون فطيرا، فإن عشاء يسوع هنا كان عشاء أخيرا وليس عشاء فصح.
كما نلاحظ وجود فارق يبدو للوهلة الأولى هاما بين رواية مرقس التي اقتفاها كل من متى ولوقا وبين رواية يوحنا، يتمثل في أن رواية يوحنا تفتقد إلى عنصر قيام يسوع بكسر الخبز وإعطائه لتلاميذه على أنه جسده، ثم إعطائهم كأس الخمر على أنها دمه. وقد توقف بعض الباحثين اليهود عند هذا الفارق
3
وخرجوا بنتيجة مفادها أن يسوع لم يؤسس لفكرة القربان المقدس وما يرتبط بها من طقس التناول،
4
وهو الطقس المركزي في المسيحية بعد طقس المعمودية. وفي الحقيقة فإن يسوع كان قد أسس لهذه الفكرة ولهذا الطقس قبل العشاء الأخير بوقت طويل (سنة على الأقل) في إنجيل يوحنا عندما قال: «أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم ... من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يوحنا، 6: 51-54).
إذا انتقلنا إلى رواية متى نجدها تكرارا لرواية مرقس مع فارقين اثنين. يتمثل الفارق الأول في غياب عنصر الرجل الحامل الجرة من توجيهات يسوع بخصوص التحضير للعشاء، وبدلا من ذلك فإن يسوع يحدد للتلميذين بيتا بعينه عليهما أن يتوجها إليه بنفسيهما: «وفي أول يوم من أيام الفطير دنا التلاميذ إلى يسوع وقالوا له: أين تريد أن نعد لك عشاء الفصح لتأكله؟ فقال: اذهبوا إلى المدينة إلى فلان وقولا له: يقول لك المعلم إن أجلي قريب وسأقيم عشاء الفصح عندك مع تلاميذي. ولما كان المساء ... إلخ» (متى، 26: 17-20). أما الفارق الثاني فيتمثل في حوار قصير بين يسوع ويهوذا الإسخريوطي بعد أن أعلن لهم يسوع أن واحدا منهم سيسلمه: «فقال يهوذا مسلمه: أأنا هو يا سيدي؟ فقال له: أنت قلت» (متى، 26: 25).
أما لوقا الذي كرر بدقة أيضا رواية مرقس، فقد حافظ على عنصر الرجل الحامل الجرة، ولكنه أقحم على الرواية مقطعين؛ واحدا في وسطها وآخر في نهايتها. فبعد أن أعلن يسوع لتلاميذه أن واحدا منهم سيسلمه، وراحوا يتساءلون عمن يكون، يضيف لوقا على رواية مرقس المقطع التالي: «ووقع جدال بينهم من يعد أكبرهم؟ فقال لهم (يسوع): إن ملوك الأمم يسودونها، والمتسلطون عليهم يدعون محسنين. أما أنتم فليس الأمر فيكم كذلك، بل ليكن الأكبر فيكم كالأصغر والمترئس كالخادم ... إلخ» (لوقا، 22: 24-26). ونلاحظ هنا أن نتفا مما قاله يسوع عندما غسل أقدام تلاميذه في رواية يوحنا قد وصلت إلى لوقا الذي بنى عليها هذا المقطع الذي يشير مؤداه إلى ما قاله يسوع في رواية يوحنا: «إذا كنت أنا السيد والمعلم قد غسلت أقدامكم، فيجب عليكم أنتم أيضا أن يغسل بعضكم أقدام بعض.»
وفي آخر الرواية يضيف لوقا بعد توكيد يسوع على نكران بطرس له المقطع التالي: «ثم قال لهم: هل أعوزكم شيء حين أرسلتكم بلا مزود ولا نعل؟ قالوا: لا. فقال لهم: أما الآن فمن لديه مال فليأخذه، ومن كان لديه مزود فليحمله، ومن لم يكن لديه سيف فليبع رداءه ويشتره، لأني أقول لكم: إنه ينبغي أن يتم في هذا المكتوب: «وأحصي مع أئمة»، فقد حان أجلي. فقالوا: يا رب، ها هنا سيفان. فقال لهم: يكفي» (لوقا، 22: 35-38).
بعد استعراض هذه الروايات الخمس ومن ضمنها رواية بولس، هل بإمكاننا أن نجيب عما إذا كان يسوع قد تناول عشاء الفصح؟ في الحقيقة نحن لا نتعامل هنا مع خمس روايات وإنما مع ثلاث فقط، هي رواية بولس ورواية مرقس ورواية يوحنا. لأن روايات متى ولوقا تقتفي عادة أثر مرقس لا سيما فيما يتعلق بالمفاصل والأحداث الرئيسة في حياة يسوع، وهي هنا لا تعدو أن تكون نقلا حرفيا عن مصدرها المشترك. هذا القاسم المشترك بين الإزائيين يدعى في البحث الأكاديمي الحديث بالتلقيد المرقسي. ونحن إذا قارنا الروايات الثلاث المتبقية نجد أن شهادة التلقيد المرقسي فيما يخص العشاء الأخير تقف وحيدة أمام شهادتي بولس ويوحنا. والعشاء الذي تناوله يسوع مع تلاميذه لم يكن عشاء فصح.
ليلة القبض على يسوع
بعد انتهاء يسوع من العشاء الأخير مع تلامذته، خرج بهم قاصدا بيت عنيا كعادته. ولكنه كان يعرف في سريرته أنه ربما لن يصل إلى هناك؛ لأن يهوذا لا بد فاعل ما هو بصدده هذه الليلة بعد افتضاح أمره. وبعد أن قطع يسوع وادي قدرون الذي يفصل أورشليم عن جبل الزيتون شرقا، توقف ودخل بستانا تعود ارتياده مع تلاميذه في ضيعة صغيرة تدعى جتسماني. وهنا يقدم لنا إنجيل يوحنا الرواية الأكثر واقعية لما حدث: «وخرج يسوع مع تلاميذه بعدما قال هذا الكلام، فعبر وادي قدرون ودخل هو وتلاميذه بستانا هناك. وكان يهوذا الذي أسلمه يعرف ذاك المكان لكثرة ما اجتمع فيه يسوع وتلاميذه. فجاء يهوذا بالجند والحرس الذين بعثهم الأحبار والفريسيون وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح، فتقدم يسوع وهو يعلم جميع ما سيحدث وقال لهم: من تطلبون؟ فأجابوه: يسوع الناصري. قال لهم: أنا هو، وكان يهوذا الذي أسلمه واقفا معهم. فلما قال لهم أنا هو، رجعوا القهقرى ووقعوا على الأرض. فسألهم يسوع ثانية: من تطلبون؟ قالوا: يسوع الناصري. فأجاب يسوع: قلت لكم إني أنا هو، فإذا كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون. فتم القول الذي قال سابقا: لم أدع أحدا من الذين وهبتهم لي يهلك. وكان سمعان بطرس يتقلد سيفا، فاستله وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمني، وكان اسم العبد ملخس. فقال يسوع لبطرس: أغمد السيف. أفلا أشرب الكأس التي جعلها لي أبي» (يوحنا، 18: 1-11).
في هذا المقطع من إنجيل يوحنا نحن أمام رواية شاهد عيان يروي تفاصيل واقعية لم يلونها خيال المؤلف بعناصر أدبية. نستثني من ذلك تفصيلا صغيرا يتعلق بوجود مجموعة من الجنود الرومان جاءوا مع يهوذا وحرس الهيكل. وهذا العنصر غير موجود في روايات التقليد المرقسي الثلاث، كما أنه لا يتفق مع مجريات الأحداث اللاحقة التي تدل على أن الوالي بيلاطس لم يكن على علم مسبق بمؤامرة القبض على يسوع. وحتى لو كان على علم مسبق ومقتنعا من ناحيته بخطر يسوع وضرورة القبض عليه، لكان أرسل من قبله مجموعة من الجنود لتنفيذ المهمة دون الاستعانة بحرس الهيكل، لأن مثل هذه المهمة كانت تتعلق بالأمن الروماني بالدرجة الأولى، لا بالقضايا الدينية اليهودية التي لم يكن يفقه منها شيئا.
ولكن روايات التقليد لمرقس أدخلت على هذه الرواية الواقعية عددا من عناصر التشويق الأدبي، وبينها قبلة يهوذا الذائعة الصيت والتي صارت رمزا للخيانة في الخيال الإنساني. فهذه القبلة لم ترد في رواية يوحنا، ولم يكن لها ضرورة من حيث الأساس ، لأن إشارة من إصبع يهوذا نحو يسوع كانت كافية للتعريف بهويته، هذا إذا افترضنا أن حرس الهيكل لم يكونوا يعرفون يسوع الذي بقي ثلاثة أشهر في الخريف الماضي يتردد على الهيكل يعلم فيه ويجادل الشيوخ والكتبة والفريسيين وجواسيس رئيس الكهنة، ثم عاد في هذا الفصح فأحدث جلبة في الهيكل عندما طهره من الصيارفة والتجار. نقرأ في إنجيل مرقس: «ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون. ووصلوا إلى ضيعة يقال لها جتسماني، فقال لتلاميذه: اقعدوا هنا ريثما أصلي. ثم مضى ببطرس ويعقوب ويوحنا، وجعل يستشعر رهبة وكآبة. فقال لهم: نفسي حزينة حتى الموت، امكثوا هنا واسهروا. ثم ابتعد قليلا وخر على الأرض يصلي لتعبر عنه الساعة إن أمكن. قال: يا أبتا، إنك على كل شيء قدير، فاصرف عني هذه الكأس. ولكن لا كما أنا أشاء بل كما أنت تشاء. ثم رجع فوجدهم نياما، فقال لبطرس: يا سمعان أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة. الروح نشيط أما الجسد فضعيف. ثم مضى أيضا يصلي ويردد الكلام عينه . ورجع أيضا فوجدهم نياما والنعاس أثقل جفونهم فلم يدروا بماذا يجيبونه. ثم رجع ثالثة وقال لهم: ناموا الآن واستريحوا، قضي الأمر وأتت الساعة. هوذا ابن الإنسان يسلم إلى أيدي الخطاة. قوموا لنذهب، هوذا الذي يسلمني قد اقترب.
وبينما هو يتكلم أقبل يهوذا أحد الاثني عشر على رأس عصابة كثيرة العدد تحمل السيوف والعصي أرسلها الأحبار والكتبة والشيوخ. وكان الذي أسلمه قد جعل لهم علامة قائلا: الذي أقبله هو هو. فأمسكوه وسوقوه محفوظا. وما إن وصل حتى دنا منه قائلا: يا سيدي، يا سيدي، وقبله. فألقوا أيديهم عليه وأمسكوه. فاستل أحد الحاضرين سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه. فقال لهم يسوع: كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني. كنت كل يوم معكم في الهيكل أعلم ولم تمسكوني، وإنما حدث هذا لكي تتم الكتب. فتركه الجميع وهربوا. وتبعه شاب لابسا إزارا على عريه فأمسكوه فتخلى عن الإزار وهرب عريانا.» (مرقس، 14: 32-52)
على الرغم مما تعرفه عن أسلوب مرقس الجاف وخلوه من الخيال الأدبي، إلا أنه يقدم لنا هنا مشهدا مشبعا بالخيال الأدبي في غاية الجمال والروعة عن محنة يسوع في بستان جتسماني عندما راح يصلي منفردا وتلاميذه نيام، ويناجي ربه بكلمات ما زالت تمس شغاف قلوب قراء الإنجيل. وقد نسخ عنه كل من متى ولوقا هذا المشهد بعناصره الرئيسية. إلا أننا نرجح أن تكون محنة يسوع في جبل الزيتون قبل القبض عليه من ابتكار مرقس، لأن يسوع كان ينطق بكلماته والجميع نيام. فمن الذي سمعه ينطق بها ثم نقلها إلى مؤلف الإنجيل؟ ومن الذي رآه يصلي ثلاث مرات وفي كل مرة يعود إلى تلاميذه ليجدهم نياما؟
يقتبس متى رواية مرقس بحذافيرها عما جرى في بستان جتسماني، ولكنه يضيف إليها ما ورد في إنجيل يوحنا من أمر يسوع لبطرس أن يغمد سيفه بعد أن استله وضرب به عبد رئيس الكهنة، ثم يتوسع في خطاب يسوع: «وإذا واحد من أصحاب يسوع مد يده واستل سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه. فقال له يسوع : أغمد سيفك، لأن من يأخذ بالسيف بالسيف يهلك. أتظن أني لا أستطيع الآن أن أسأل أبي فيمدني الساعة بأكثر من اثني عشر جيشا من الملائكة؟ ولكن كيف تتم الكتب التي تقول إن هذا ما يجب أن يحدث؟» (متى، 26: 51-54).
أما لوقا الذي يتبنى الرواية نفسها، فيضيف إليها معجزة إبراء يسوع لأذن عبد رئيس الكهنة المقطوعة، ويحذف قول يسوع: «لأن من يأخذ بالسيف بالسيف يهلك»: «فلما رأى أصحابه ما يوشك أن يحدث قالوا: يا رب أنضرب بالسيف؟ وضرب أحدهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى. فأجاب يسوع: قفوا عند هذا الحد، ولمس أذنه فأبرأها» (لوقا، 22: 49-51).
وكما نلاحظ، فإن مرقس وحده قد تفرد بذكر شاب تبع يسوع عندما سيق مخفورا، وكان شبه عار ليس عليه غير إزار، فلما أمسكوا به تخلى عن الإزار وهرب عريانا (مرقس، 14: 51-52). فمن هو هذا الشاب؟ ولماذا كان شبه عار؟ هل كان بصحبة يسوع عندما ابتعد عن جماعته وراح يصلي ؟ هل هو التلميذ الحبيب الذي كان شاهدا على محنة يسوع والبقية نيام؟ أسئلة ربما كانت الإجابة عليها كامنة في ثنايا إنجيل مرقس السري الذي لم تصلنا منه إلا نتف قليلة، إضافة إلى هذه الشذرة المعلقة في الفراغ في إنجيل مرقس القانوني.
ولكن لماذا كان على يسوع أن يعتقل بخيانة من أحد تلاميذه؟ ولماذا كان على عملية الاعتقال أن تجري سرا وفي الليل في هذا المكان المنعزل؟ ألم يكن من الممكن اعتقاله وهو يعلم في الهيكل نهارا ودون الحاجة إلى خائن من جماعته يدل عليه وعلى مكان تواجده ليلا؟ إن الجواب التقليدي على هذه الأسئلة يذهب إلى أن سلطة الهيكل كانت تخشى من وضع يدها عليه نهارا وعلى مرأى من الناس، منعا لحدوث شغب وتمرد بين صفوف الشعب. وهذا التفسير يجد سندا له فيما ورد في إنجيل مرقس: «وكان وقوع الفصح والفطير بعد يومين، وكان الأحبار يلتمسون حيلة يمسكونه بها فيقتلونه، لأنهم قالوا لا نفعل ذلك في العيد مخافة حدوث شغب في الشعب» (مرقس، 14: 1-2). وأيضا: «فسمع الأحبار والكتبة فجعلوا يبحثون كيف يهلكونه. وكانوا يخافون من ذلك لأن الجمع كان معجبا بتعليمه» (مرقس، 11: 18).
والحقيقة التي بيناها في أكثر من بحث سابق هي أن يسوع خلال زياراته السابقة لأورشليم، وفي هذه الزيارة الأخيرة، لم يفلح في استمالة عدد كبير من يهود أورشليم. وقد لخص إنجيل يوحنا موقف اليهود منه بالكلمات التالية: «أتاهم يسوع بجميع هذه الآيات فلم يؤمنوا به، ليتم ما قال النبي إشعيا: رب، من الذي آمن بكلامنا، ولمن ظهرت يد الرب» (يوحنا، 12: 37-38). أما عن «الجمع الذي كان معجبا بتعليم يسوع» وفق نص مرقس، فقد وصفهم إنجيل يوحنا بالنفاق؛ حيث قال في سياق وصفه لزيارة سابقة ليسوع: «ولما كان في أورشليم مدة الفصح، آمن باسمه كثير من الناس لما رأوا من الآيات التي يأتي بها. على أن يسوع لم يطمئن إليهم لأنه كان يعرفهم كلهم ولا يحتاج إلى من يخبره عن أحد، فقد كان يعلم ما في الإنسان» (يوحنا، 2: 23-25). يضاف إلى ذلك أن الإعجاب بالتعليم شيء، ووصول هذا الإعجاب حد التمرد والشغب والفتنة شيء آخر. ولو أن الشعب كان مستعدا للشغب من أجل اعتقال يسوع، لكان شغبه أشد من أجل صلبه. ولكن شيئا من هذا لم يحدث بل على العكس، فقد كان حشد اليهود المجتمع أمام قصر بيلاطس يهتف: «اقتله، اقتله، اصلبه» (يوحنا، 19: 15). و: «اقتل هذا وأطلق لنا براباس» (لوقا، 23: 18). و: «دمه علينا وعلى أولادنا» (متى، 27: 25).
بعد القبض على يسوع ساقوه إلى قيافا رئيس الكهنة، وكان الوقت بعد منتصف الليل وقد تفرق الرسل كل يطلب نجاته، عدا بطرس الذي تبع يسوع على ما يرويه مرقس: «فذهبوا بيسوع إلى رئيس الكهنة، فاجتمع الأحبار والشيوخ والكتبة كلهم. وتبعه بطرس عن بعد إلى دار رئيس الكهنة وقعد مع الحرس يستدفئ عند النار ... وبينما بطرس في الساحة السفلي من الدار، جاءت جارية من جواري رئيس الكهنة فتفرست فيه وقالت: أنت كنت مع الناصري مع يسوع. فأنكر قائلا: لا أدري ولا أفهم ما تقولين. ثم انسل خارجا إلى الدهليز، فصاح الديك. فرأته الجارية وأخذت تقول للحاضرين : إن هذا منهم، فأنكر أيضا. وبعد قليل قال الحاضرون لبطرس: حقا أنت منهم لأنك جليلي أيضا ولغتك تشبه لغتهم. فأخذ يلعن ويحلف إني لا أعرف الرجل الذي تقولون عنه. فصاح الديك مرة ثانية. فتذكر بطرس قول يسوع: قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات. وأخذ يبكي» (مرقس، 14: 53-72).
هذه القصة تتكرر بحذافيرها لدى كل من متى ولوقا، وهي تحتوي على مشكلتين؛ الأولى تتعلق بكيفية تعرف الجارية (أو الجاريتين على التوالي وفق رواية متى) على بطرس مع أنها لم تره من قبل ولم تكن مع الفريق الذي خرج للقبض على يسوع؟ والثانية تتعلق بكيفية دخول بطرس إلى بيت رئيس الكهنة، الذي يمثل السلطة المدنية العليا في أورشليم ومن المفترض ألا يدخل أحد بيته الذي هو مقره الإداري إلا وفق إجراءات خاصة. هاتان المشكلتان تحلهما رواية إنجيل يوحنا التي تبدو أقرب إلى الواقع. فقد تعرف على بطرس شخص كان من مجموعة القبض على يسوع. وبطرس دخل إلى بيت رئيس الكهنة بعد أن توسط له التلميذ المحبوب الذي كان مع الاثني عشر في بستان جتسماني، والذي تجاهل التقليد المرقسي على عادته وجوده. وقد كان هذا التلميذ الأورشليمي معروفا لدى رئيس الكهنة وتربطه معه أواصر صداقة عائلية قديمة، على ما أوضحنا في بحثنا السابق عن مشكلة إنجيل يوحنا. نقرأ عند يوحنا: «فقبض الجند والقائد وحرس اليهود على يسوع وأوثقوه، ومضوا به إلى دار حنان وهو حمو قيافا رئيس الكهنة في تلك السنة ... وتبع يسوع سمعان بطرس وتلميذ آخر كان معروفا عند رئيس الكهنة، فدخل دار رئيس الكهنة مع يسوع، أما بطرس فوقف عند الباب خارجا. فخرج التلميذ الآخر الذي كان معروفا عند رئيس الكهنة وكلم البوابة فأدخل بطرس. فقالت البوابة لبطرس: ألست أنت أيضا من تلاميذ هذا الرجل؟ فأجابها: لست منهم. فقال واحد من عبيد رئيس الكهنة وكان نسيبا للرجل الذي قطع بطرس أذنه: أما رأيتك معه في البستان؟ فأنكر بطرس أيضا. وعندئذ صاح الديك» (يوحنا، 18: 12-27).
يقدم يوحنا في هذه الرواية عنصرا مفقودا في بقية الروايات، وهو سوق يسوع أولا إلى دار حنان حمي قيافا رئيس الكهنة في تلك السنة. وعلى ما سنرى بعد قليل فإن مؤلف الإنجيل يطلق لقب رئيس الكهنة أيضا على حنان ويجعله يقوم بالاستجواب الأولي ليسوع قبل إرساله إلى قيافا. فمن هو حنان هذا؟ وهل كان هنالك رئيسان للكهنة لا رئيس واحد؟
كان حنان ينتمي إلى أسرة كهنوتية هي الأكثر قوة وثروة في ذلك الوقت، وذلك من خلال سيطرتها على التجارة وعمليات الصرافة التي كانت تجري في فناء الهيكل. وقد شغل منصب رئيس الكهنة منذ عام 6م إلى عام 15م عندما عزلته السطلة الرومانية وعينت بدلا عنه زوج ابنته قيافا الذي استمر في منصبه حتى عام 36م، ولكن تحت إشراف وتوجيه حنان الذي فقد سلطته الرسمية ولكن لم يفقد سلطته الفعلية التي كان يمارسها من خلال زوج ابنته الدمية قيافا، وظل يحتفظ بلقب رئيس الكهنة ويمارس الاحتكار على التجارة المرتبطة بخدمات المعبد. ولذلك فقد قرنه مؤلف إنجيل لوقا بقيافا عندما وصفهما معا برئيسي الكهنة أيام يسوع؛ حيث قال في مطلع حديثه عن ظهور يوحنا المعمدان: «وفي الخامسة عشرة من ملك القيصر طيباريوس؛ إذ كان بيلاطس البنطي واليا على اليهودية، وهيرودس أمير الربع في الجليل ... وحنان وقيافا رئيسي الكهنة، كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية» (لوقا، 3: 1-2). وقد شغل خمسة من أولاد حنان منصب رئيس الكهنة بعد قيافا، كان آخرهم حنان الثاني الذي يروي لنا المؤرخ اليهودي يوسيفوس أنه دعا لاجتماع غير قانوني للسنهدرين عام 62م مستغلا فرصة انتهاء ولاية الحاكم الروماني لليهودية الذي سافر قبل وصول الحاكم الجديد الذي كان عليه أن يعطي الموافقة على مثل هذا الاجتماع، وجعل السنهدرين ينطق بحكم الإعدام بحق يعقوب أخي يسوع بتهمة تجاهل الشريعة اليهودية، الأمر الذي أدى إلى عزله من منصبه. وفي الحقيقة، فقد كان حنان على ما يبدو هو الداعي الأول لاعتقال يسوع والمستفيد الأساسي من موته، بسبب تهديد يسوع لمصالح أسرته عندما أظهر للناس عدم شرعية تجارة الهيكل التي تحتكرها هذه الأسرة. ووفق رواية يوحنا فإن حنان هو الذي قام بالاستجواب المبدئي ليسوع، ثم أرسل به إلى قيافا الذي اقتصرت مهمته على رفع قضية يسوع رسميا إلى الوالي بيلاطس البنطي، على ما سنرى في البحث التالي.
محاكمة يسوع
مرت محاكمة يسوع بمرحلتين، المرحلة الأولى في بيت رئيس الكهنة وكان الهدف منها جمع الشهادات ضد يسوع من أجل تقديمه إلى الوالي الروماني بيلاطس بتهمة التحريض السياسي ضد روما، والمرحلة الثانية في قصر بيلاطس الذي تولى بنفسه إجراءات المحاكمة.
إن كل ما وصل إلى يدي مما كتبه الباحثون المحدثون في العهد الجديد عن محاكمة يسوع، يركز على ما ورد في التقليد المرقسي ولا يعير اهتماما لما ورد في إنجيل يوحنا. فيسوع قد اعترف أمام قضاته أخيرا بأنه المسيح وبأنه ابن الله، وملك اليهود، وحكم عليه بالموت لما تثيره هذه الألقاب من تداعيات سياسية في ذلك الوقت. ولكن أجوبة يسوع على قضاته في التقليد المرقسي ليست على هذه الدرجة من المباشرة والوضوح، على ما تبينه المقتبسات التالية: (1) في بيت رئيس الكهنة
مرقس «فذهبوا بيسوع إلى رئيس الكهنة. فاجتمع الأحبار والشيوخ والكتبة كلهم. وكان الأحبار والمجلس (= السنهدرين) كافة يطلبون شهادة على يسوع ليقتلوه فلم يجدوا. ذلك بأن أناسا كثيرين كانوا يشهدون عليه زورا فلا تتفق شهاداتهم. فقام بعضهم وشهدوا عليه زورا وقالوا: قد سمعناه يقول: سأنقض هذا الهيكل الذي صنعته الأيدي وأبني في ثلاثة أيام هيكلا لم تصنعه الأيدي. وهذا أيضا لم تتفق عليه شهاداتهم ... فقام رئيس الكهنة في وسط المجلس وسأل يسوع: أما تجيب بشيء؟ ما هذا الذي يشهد به هؤلاء عليك؟ فظل صامتا ولم يجب بشيء. فسأله أيضا رئيس الكهنة: أأنت المسيح ابن المبارك؟ فقال يسوع: أنا هو. وسترون ابن الإنسان جالسا عن يمين قدرة الله وآتيا على غمام السماء. فشق رئيس الكهنة ثيابه وقال: ما حاجتنا بعد إلى شهود وقد سمعتم التجديف؟ ما رأيكم؟ فأجمعوا على الحكم بأنه يستوجب الموت. وأخذ بعضهم يبصقون عليه ويغطون وجهه ويلكمونه ويقولون له: تنبأ. وكان الحرس يلطمونه» (مرقس ، 14: 53-65).
متى «فقال رئيس الكهنة وقال له: ما هذا الذي يشهد به هذان عليك؟ فظل يسوع صامتا. فقال له رئيس الكهنة: أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا: أأنت المسيح ابن الله؟ فأجاب يسوع: أنت قلت. وأنا أقول لكم: سترون ابن الإنسان جالسا عن يمين القدرة وآتيا على غمام السماء. فمزق رئيس الكهنة ثيابه وقال: لقد جدف فأي حاجة بنا إلى الشهود؟ ها قد سمعتم تجديفه. ماذا ترون؟ فأجابوا وقالوا: يستوجب الموت. فبصقوا في وجهه ولكموه، وآخرون لطموه قائلين: يا أيها المسيح تنبأ لنا من ضربك» (متى، 26: 63-68).
لوقا «وكان الذين يحرسون يسوع يسخرون منه ويضربونه ويغطون وجهه ويسألونه: من ضربك؟ وأوسعوه غير ذلك من الشتائم. ولما طلع الصبح اجتمع مجلس الشيوخ والأحبار والكتبة، فاستحضروه إلى مجلسهم وقالوا: إن كنت المسيح فقل لنا. فقال لهم: لو قلت لكم لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني. منذ الآن يكون ابن الإنسان جالسا عن يمين قوة الله. فقال الجميع: أفأنت ابن الله؟ فقال لهم: أنتم تقولون إني أنا هو. فقالوا: ما حاجتنا بعد إلى شهادة وقد سمعنا ما نطق به لسانه؟» (لوقا، 22: 63-71).
من قراءة هذه الروايات الثلاث نخرج بالملاحظات التالية: (1)
في رواية مرقس ومتى يساق يسوع إلى بيت رئيس الكهنة بعد منتصف ليلة وقفة عيد الفصح في الرابع عشر من نيسان. أما في رواية لوقا ففي صباح اليوم الأول من عيد الفصح في الخامس عشر من نيسان. (2)
لم تكن الأعراف اليهودية تسمح بعقد المحاكمات ليلا، ناهيك عن أن استجواب السنهدرين ليسوع قد حصل في يوم الفصح المقدس الذي ينطبق عليه ما ينطبق على يوم السبت من عدم القيام بأي عمل، ويدعى أيضا بالسبت أي يوم الراحة. (3)
انعقد مجلس السنهدرين ليلا وفي بيت رئيس الكهنة، وهذا مخالف لنظام السنهدرين الذي يجتمع نهارا وفي مكان خاص في الهيكل بعد موافقة الوالي الروماني. ولا يكون اجتماعه قانونيا خارج هذه الشروط. (4)
عندما وصل يسوع كان السنهدرين منعقدا بأعضائه البالغ عددهم نحو 70 عضوا. فكيف تسنى لرئيس الكهنة إيقاظ هؤلاء من نومهم وجلبهم إلى مقره خلال الفترة الفاصلة بين القبض على يسوع في البستان ووصوله إلى المقر؟ والرد هنا بأن المجلس قد أعلم مسبقا بالاجتماع قبل وقت كاف غير منطقي، لأن القبض على يسوع لم يكن مؤكدا وهروبه كان محتملا. (5)
في رواية مرقس ومتى لم يكن رئيس الكهنة المزمع على استجواب يسوع قد أعد شهودا يشهدون ضد يسوع، وجيء بشهود عرضيين تضاربت شهاداتهم. وهذا شيء مستغرب لأن قرار قتل يسوع قد اتخذ قبل القبض عليه بوقت كاف، وكان على الأحبار والشيوخ والكتبة تجهيز قضية محكمة قانونيا لتقديمها إلى بيلاطس، ولكن مثل هذا لم يحدث. (6)
في جواب يسوع على سؤال «هل أنت المسيح ابن الله؟» يضع مرقس على لسانه قوله: «أنا هو. وسترون ابن الإنسان ... إلخ». أما عند متى ولوقا فإن يسوع يتقدم بإجابة مخاتلة يمكن أن تفهم بأكثر من طريقة عندما يقول: «أنت قلت» عند متى، أو «أنتم تقولون إني أنا هو» عند لوقا. فهل قصد يسوع من ذلك إلى القول: «أنت قلت ما هو صواب» أو «أنت قلت ذلك لا أنا»؟ إن الباحثين في العهد الجديد ما زالوا حتى الآن في خلاف حول مؤدى إجابة يسوع. (7)
وحتى لو افترضنا جدلا بأن يسوع قبل لقب ابن الله، فإن هذا لا يعد كفرا أو تجديفا بالنسبة إلى العقيدة التوراتية. فمسيح الرب هو ابن بالتبني للإله يهوه. نقرأ في سفر المزامير على لسان داود: «إني أخبر من جهة قضاء الرب. قال لي: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك» (المزمور، 2: 7). ونقرأ في سفر صموئيل الثاني على لسان يهوه في وصف علاقته مع سليمان: «أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنا» (2 صموئيل، 7: 14).
فإذا كان يسوع هو المسيح فعلا فإن ذلك يستدعي بالضرورة أن الرب قد جعله ابنا بالتبني. وإذا لم يكن هو المسيح فإن ادعاء بنوته للرب هو ادعاء شخص فاقد الرشد يستحق الجلد والتأديب لا المحاكمة والصلب. (8)
تركز استجواب رئيس الكهنة ليسوع حول ادعائه للقب المسيح أو ابن الله، ولكنه لم يستجوبه عما إذا كان ينشط بدافع من هذا الادعاء ويدعو لنفسه كملك، أو عما إذا كان قد مارس التحريض ضد روما. والشهادة الوحيدة التي حصلوا عليها ضده وكانت شهادة ضعيفة وهي أنه قال: «سأنقض هذا الهيكل الذي صنعته الأيدي وأبني في ثلاثة أيام هيكلا آخر لم تصنعه الأيدي.» وقائل هذا الكلام إما أنه يستهزئ بعبادة الهيكل التي تقوم على تقريب الذبائح الحيوانية، ويدعو إلى عبادة الله بالروح، أو أنه شخص مختل يدعي ما لا طاقة لبشر عليه. وفي كلا الحالين فإنها مسألة لا تعني السلطة الرومانية بشيء. من هنا فإن المرء يعجب من رفع السنهدرين القضية إلى بيلاطس للفصل بها في ظل عدم وجود قضية من حيث الأساس.
يوحنا
في رواية يوحنا لا يقوم رئيس الكهنة باستجواب يسوع عما إذا كان المسيح أو ابن الله، وبالتالي لا يوجد ادعاء ليسوع بقبول هذين اللقبين أو نفيه لهما. وهذا ما يكسب رواية يوحنا مصداقية أكثر من الرواية الإزائية. والنقطة الجوهرية في جواب يسوع هنا هي أنه كان يعلم علنا ولم يقم بأي نشاط سري: «فسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه. فأجابه يسوع: كلمت الناس علانية وعلمت في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء. لماذا تسألني أنا؟ اسأل الذين سمعوني عما كلمتهم به فهم يعرفون ما قلت. ولما قال هذا لطمه واحد من الخدام كان بجانبه وقال له: أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟ فأجابه يسوع: إن كنت قد أسأت في الكلام فقل لي أين الإساءة، وإن كنت قد أحسنت في الكلام فلماذا تضربني؟ فأرسل به حنان موثقا إلى قيافا رئيس الكهنة. وذهبوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الحاكم» (يوحنا، 18: 19-28).
في هذه الرواية، وعلى عكس رواية التقليد المرقسي، فإن رئيس الكهنة لم يسأل يسوع عما إذا كان هو المسيح ابن الله، ويسوع من ناحيته لم ينطق بالتصريح المجلجل: «أنا هو» أو بالتصريح الغامض: «أنت قلت» أو «أنتم تقولون إني أنا هو». وهذا يعني أن تهمة ادعاء يسوع المسيحانية لم تكن النقطة المحورية في الاستجواب المبدئي. لقد كان رئيس الكهنة مهتما بمعرفة طبيعة تعاليم يسوع، وعندما سأله عن تلاميذه كان مهتما بمعرفة مدى انتشار دعوة يسوع وعدد الذين آمنوا به أو تبعوه. وعلى عكس التقليد المرقسي أيضا فإن رئيس الكهنة لم يحشد الشهود ضد يسوع من أجل ترتيب قضية يرفعها إلى الوالي الروماني لإدانة يسوع بتهمة التحريض ضد روما. فلماذا رفعت هذه القضية إلى بيلاطس؟ (2) في قصر بيلاطس
إن ما جرى في قصر بيلاطس هو أكثر غموضا مما جرى في بيت رئيس الكهنة. فالشهادات الإزائية هنا تناقض بعضها البعض مثلما تناقض شهادة يوحنا.
مرقس «وما إن أسفر الصبح حتى اجتمع للشورى الأحبار والشيوخ والكتبة والمجلس كله، ثم أوثقوا يسوع وساقوه وأسلموه إلى بيلاطس، فسأله بيلاطس: أأنت ملك اليهود؟ فأجابه: أنت تقول. وكان الأحبار يتهمونه اتهامات كثيرة، فسأله بيلاطس ثانية: أما تجيب بشيء؟ انظر كم يشهدون عليك. فلم يجب يسوع بشيء حتى تعجب بيلاطس. وكان يطلق لهم في كل عيد سجينا، أي واحد طلبوا. وكان المسمى براباس مسجونا مع رفقائه الذين اجترموا القتل في فتنة. فصعد الجمع وأخذوا يطلبون ما تعودوا أن يمنحهم. فأجابهم بيلاطس: أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟ لأنه كان يعلم أن الأحبار كانوا قد أسلموه حسدا. فأثار الأحبار الجمع لكي يختاروا إطلاق براباس. فخاطبهم بيلاطس ثانية وقال لهم: وأي شر عمل؟ فازدادوا صراخا: اصلبه. وأراد بيلاطس أن يرضي الجميع فأطلق لهم براباس، وبعدما جلد يسوع أسلمه للصلب» (مرقس، 15: 1-15).
لا يخبرنا نص مرقس هذا عن الاتهامات الكثيرة التي وجهها الأحبار إلى يسوع أمام بيلاطس، ولكن يبدو أنها تركزت حول نقطة هامة واحدة وهي ادعاء يسوع بأنه ملك اليهود. وهنا نجد أن الأحبار قد خاطبوا بيلاطس بما يفهمه كروماني لا يعرف شيئا عن مصطلحات الدين اليهودي، فقالوا «ملك اليهود» عوضا عن «المسيح» أو «ابن الله». وعندما سأله بيلاطس: «أأنت ملك اليهود؟» وأجابه يسوع: «أنت تقول ذلك»، فهم بيلاطس هذا الجواب على حقيقته، أي: «أنت تقول ذلك لا أنا». ولذلك لم يجد في المتهم علة، وقال للطالبين صلبه: «وأي شر عمل؟» ولو أنه فهم من إجابة يسوع ادعاءه الفعلي لملوكية اليهود لسارت المحكمة في اتجاه مختلف تماما، ولما أعلن بيلاطس عن قناعته ببراءة يسوع. وفي جميع الأحوال فإن ادعاء أي شخص بأنه ملك شيء، والعمل بموجب الادعاء شيء آخر. ومتهمو يسوع لم يقدموا لبيلاطس من البينات ما يدل على قيام يسوع بالدعاية لنفسه كملك أو بالتحريض السياسي ضد السلطة المدنية أو السلطة الرومانية، فحاول أن يجد له مخرجا بجعله السجين الذي يطلقه لليهود كل عام في عيد الفصح.
وهناك نقطة إجرائية مهمة لم تراع في هذه المحاكمة، وهي أن يسوع لم يكن خاضعا لسلطة بيلاطس ولا للسلطة المدنية في مقاطعة اليهودية، وإنما لسلطة هيرود أنتيباس ملك الجليل باعتباره مواطنا جليليا، ولهيرود وإدارته المدنية فقط الحق في محاكمته. وهذا ما يجعل محاكمة يسوع باطلة من الناحية الإجرائية. وقد انتبه لوقا وحده إلى هذا الخلل الإجرائي، فأشرك هيرود في محاكمة يسوع ولكنه جعل محكمة بيلاطس في النهاية مسئولة عن إصدار هذا الحكم الباطل.
متى
يقتفي متى أثر لوقا في جميع تفاصيل روايته، ولكنه يضيف إليها عنصرين؛ الأول تدخل زوجة بيلاطس لصالح يسوع: «وبينما هو جالس للقضاء أرسلت إليه امرأته تقول: لا تتدخل في قضية هذا البار لأني تألمت أشد الألم من أجله في الحلم.» والثاني قيام بيلاطس بغسل يديه أمام الجميع كناية عن براءته من دم يسوع: «قال لهم: وأي شر عمل؟ فكانوا يزدادون صراخا قائلين: ليصلب. فلما رأى بيلاطس أنه لم يستفد شيئا بل تفاقم الشغب، أخذ ماء وغسل يديه قدام الجميع قائلا: إني بريء من دم هذا البار. أنتم وشأنكم فيه. فأجاب الشعب بأجمعه: دمه علينا وعلى أولادنا.»
ولو أن جملة «دمه علينا وعلى أولادنا.» وردت في إنجيل يوحنا، لقلنا مع الباحثين اليهود بأنها تنسجم مع الكراهية التي يعلنها مؤلف إنجيل يوحنا لليهود، ولكن ورودها عند متى الذي يعتبر الأكثر عبرانية بين الإنجيليين، هو دلالة على أصالتها.
وهنا يقول الباحثون اليهود في العهد الجديد إن مؤلفي الأناجيل، لا سيما متى، قد بالغوا في إظهار بيلاطس بمظهر البريء من دم يسوع وحملوا اليهود وحدهم مسئولية إعدام يسوع، ممالأة لروما بعد الحروب اليهودية التي دمر فيها الرومان أورشليم وقتلوا مئات الآلاف من أهل مقاطعتها عام 70م. ولكن المسيحيين كانوا زمن تدوين الأناجيل، أي فيما بين عام 70 وعام 110م، عبارة عن جماعات سرية مضطهدة من قبل السلطات الرومانية، وبقوا على هذه الحال لأكثر من قرنين قادمين. وبالتالي لم يكن لديهم سبب لممالأة روما، وإنما العكس هو الصحيح. ولا أدل على ذلك من أن سفر الرؤيا في العهد الجديد قد أشار إلى روما تحت لقب بابل الكبرى، وأم بغايا الدنيا وأدناسها، وتنبأ بخرابها كمقدمة لحلول مملكة الرب (سفر الرؤيا: 16-18). وهناك اتجاه في البحث الحديث في تاريخ المسيحية، يقول بأن المسيحيين في روما لم يتهموا باطلا من قبل نيرون بتسبيب الحريق الهائل الذي التهم معظم أجزاء المدينة، وإنما فعلوا ذلك بدافع ما ورد في سفر الرؤيا، واعتقادهم بأن زوال مدينة روما هو مقدمة لانتصار البشارة.
لوقا «ثم قام الحضور بأجمعهم فمضوا به إلى بيلاطس، وأخذوا يتهمونه قائلين: إننا وجدنا هذا يفسد الأمة ويمنع أن تعطى الجزية لقيصر، ويزعم أنه مسيح ملك. فسأله بيلاطس: أأنت ملك اليهود؟ فأجاب: أنت تقول ذلك. فقال بيلاطس للأحبار والجموع: إني لا أجد علة في هذا الرجل. فكانوا يشددون قائلين: إنه يثير الشعب وهو يعلم في كل اليهودية من الجليل إلى هنا. فلما سمع بيلاطس ذكر الجليل سأل: هل الرجل جليلي؟ فلما عرف أنه من ولاية هيرودوس بعث به إليه وهو يومئذ نازل في أورشليم.
فلما رأى هيرودوس يسوع فرح جدا لأنه كان يريد من زمن بعيد أن يراه لما سمع عنه، ويرجو أن يرى آية يأتي بها. فسأله عن مسائل عديدة فلم يجبه عن شيء. ووقف الأحبار والكتبة يشتكون عليه باشتداد. فازدراه هيرودوس مع عسكره وسخر منه فألبسه ثوبا براقا ورده إلى بيلاطس. فصار هيرودوس وبيلاطس صديقين في ذلك اليوم وكانا قبلا متعاديين.
فدعا بيلاطس الأحبار والعظماء والشعب وقال لهم: قد قدمتم إلي هذا الرجل على أنه يفسد الشعب. وها أنا قد فحصت عن الأمر قدامكم ولم أجد في هذا علة مما تشتكون به عليه، ولا هيرودوس أيضا لأني أرسلته إليه. فهو إذن لم يقترف ما يستوجب الموت. فسأطلقه بعدما أجلده. وكان لا بد من أن يطلق لهم في كل عيد رجلا. فصاحوا بأجمعهم: اقتل هذا وأطلق لنا براباس. وكان ذاك قد وضع في السجن لفتنة حدثت في المدينة وقتل، فناداهم أيضا وهو يريد أن يطلق يسوع، فصرخوا قائلين: اصلبه، اصلبه. فقال لهم ثالثة: فأي شر عمل؟ إني لم أجد عليه ما يستحق الموت. فسأطلقه بعدما أجلده. فألحوا عليه بأعلى أصواتهم طالبين أن يصلب واشتد ضجيجهم. فقضى بيلاطس بإجابة طلبهم، فأطلق لهم الذي وضع في السجن لأجل فتنة وقتل، ذلك الذي طلبوه، وأسلم يسوع لمشيئتهم.» (لوقا، 23: 1-24)
يقتفي لوقا هنا أثر رواية مرقس بحذافيرها، ولكنه انتبه إلى ما لم ينتبه له مرقس ومتى من لا شرعية محاكمة بيلاطس ليسوع باعتباره مواطنا جليليا، فجعل بيلاطس يحيل يسوع إلى ملك الجليل هيرود أنتيباس الذي كان في أورشليم للمشاركة بعيد الفصح. لقد كان هيرود يعرف كل شيء عن يسوع وتعاليمه من خلال التقارير التي كانت ترفع إليه عن نشاطاته. وقد فكر مرة باعتقاله واستجوابه (لوقا، 13: 31-32) لما رآه من تجمع الناس حوله وتداولهم لمعجزاته، ولكنه لم يفعل بعد أن تأكد من أنه لا يشكل خطرا على سلطته. من هنا لم يكن لدى هيرود ما يستجوب يسوع عنه، بل كان تواقا لرؤية بعض معجزاته التي سمع عنها. ولكن يسوع رفض التحدث إليه. وعلى الرغم من أن متهمي يسوع قد رافقوه إلى مقر هيرود وكرروا شكاياتهم عليه، إلا أنه لم يستجوبه بشكل فعلي ورده إلى بيلاطس معتقدا ببراءته من التهم وبأنه مجرد صاحب أوهام وخيالات يستوجب السخرية والهزء أكثر مما يستوجب الإدانة والعقاب.
يوحنا
في قصر بيلاطس كما في بيت رئيس الكهنة، لم يسأل يسوع عما إذا كان المسيح أو ابن الله. أما بخصوص ادعاء الملوكية فقد لخص يسوع في جوابه الشهير: «ليست مملكتي من هذا العالم» طبيعة رسالته البعيدة عن الهم السياسي والقومي لليهود: «فخرج إليهم بيلاطس وقال: بماذا تتهمون هذا الرجل؟ فأجابوه: لو لم يكن مجرما لما أسلمناه إليك. فقال لهم بيلاطس: خذوه أنتم فحاكموه كما تقضي شريعتكم. فأجابه اليهود: لا يحق لنا أن نقتل أحدا، فعاد بيلاطس إلى دار الولاية ثم دعا يسوع، وقال له: أأنت ملك اليهود؟ أجاب يسوع: أتقول هذا من عندك أم قاله لك آخرون؟ فقال بيلاطس: أفأنا يهودي؟ إن أمتك والأحبار أسلموك إلي، فماذا فعلت؟ أجاب يسوع: ليست مملكتي من هذا العالم. ولو كانت مملكتي من هذا العالم لدافع عني رجالي لكيلا أسلم إلى اليهود. ولكن مملكتي ليست من ها هنا. فقال له بيلاطس: أفأنت ملك إذن؟ أجاب يسوع: أنت تقول إني ملك. لهذا ولدت وأتيت إلى العالم لأشهد للحق، فمن كان من أبناء الحق يصغي إلى صوتي، فقال له بيلاطس: ما هو الحق؟ وبعدما قال ذلك خرج ثانيا إلى اليهود وقال لهم: لم أجد سببا لتجريمه. وقد جرت العادة عندكم أن أطلق لكم سجينا في الفصح. أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟ فعادوا إلى الصياح: لا تطلق هذا بل براباس. وكان براباس لصا.
فأمر بيلاطس بأن يؤخذ يسوع ويجلد. ثم ضفر الجنود إكليلا من الشوك ووضعوه على رأسه، وألبسوه رداء أرجوانيا وأخذوا يدنون فيقولون وهم يلطمونه: السلام يا ملك اليهود. ثم خرج بيلاطس وقال لهم: سأخرجه إليكم لتعلموا أني لم أجد سببا لتجريمه. فخرج يسوع وعليه إكليل الشوك والرداء الأرجواني. فقال لهم بيلاطس: خذوه أنتم فاصلبوه فإني لم أجد سببا لتجريمه. فأجابه اليهود: إن لنا شريعة وهذه الشريعة تقضي عليه بالموت لزعمه أنه ابن الله. فلما سمع بيلاطس هذا الكلام اشتد خوفه، فدخل دار الولاية وقال ليسوع: من أين أنت؟ فلم يجب يسوع بشيء. فقال له بيلاطس: ألا تكلمني؟ أفلست تعلم أن لى سلطانا أن أطلقك وسلطانا أن أصلبك؟ فأجابه يسوع : لم يكن لك علي سلطان البتة إذا لم تكن قد أعطيت من فوق. فالذي أسلمني إليك له خطية أعظم من خطيتك. فحاول بيلاطس عندئذ أن يخلي سبيله، ولكن اليهود صاحوا: إن أخليت سبيله فلست محبا لقيصر لأن من يدعي الملك يعد خارجا على قيصر. فلما سمع بيلاطس هذا الكلام أمر بإخراج يسوع وجلس على كرسي القضاء في موضع يقال له البلاط وبالعبرانية جباثة. وكان ذلك اليوم يوم تهيئة للفصح والساعة نحو السادسة (= الثانية عشرة ظهرا). فقال لليهود: هوذا ملككم. فصاحوا: اقتله، اصلبه. قال لهم بيلاطس: أأصلب ملككم؟ فأجاب الأحبار: لا ملك علينا إلا قيصر. فأسلمه إليهم ليصلب.» (يوحنا، 18: 28-40، و19: 1-16)
في هذه الرواية، وأكثر من الروايات الثلاث السابقة، تبدو قضية يسوع بلا أساس يستند إليه بيلاطس في إدانة يسوع. ولم يكن استخدام بيلاطس لقب ملك اليهود في الإشارة إلى يسوع عندما قال: «أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟» أو «هوذا ملككم» إلا من قبيل السخرية المرة من المسألة برمتها. فلماذا رضخ لضغط اليهود؟ إن كل الظروف المحيطة ببيلاطس في تلك الفترة كانت تدعوه لعدم إصدار حكم إعدام في حق بريء. فلقد اشتكى عليه اليهود أمام المفوض الروماني العام في دمشق بعد المجزرة التي قام بها ضد المحتجين على استيلائه على جزء من أموال الهيكل وصرفها على جر مياه الشرب إلى أورشليم. كما اشتكى عليه السامريون بسبب مجزرة مماثلة، ورفعت هذه الشكاوى إلى القيصر الذي كان يفكر بعزله من منصبه بسبب سوء استخدام السلطة والإفراط في العنف، وبالتالي فإن بيلاطس لم يكن ينقصه شكوى أخرى بإعدام بريء تضاف إلى تلك الشكاوى. ومن الملفت للنظر أنه في نهاية عام 36م (أي بعد عام على إعدام يسوع) استدعي بيلاطس إلى روما لاستجوابه بشأن التهم الموجهة إليه ولم يعد إلى فلسطين بعد ذلك. وفي عيد الفصح من عام 37م تم عزل رئيس الكهنة قيافا من منصبه.
1
فهل كان لإعدام يسوع علاقة بذلك؟
لماذا أدين يسوع؟
بعد أن عرضنا بالتفصيل في البحث السابق كل ما ورد في الروايات الإنجيلية الأربعة عن محاكمة يسوع، والتي بدت مجرد استجواب قصير قاد إلى إصدار حكم لم يكن القاضي نفسه مقتنعا به، هناك سؤالان لا يسعفنا النص بجواب مقنع عليهما. الأول هو لماذا رفعت سلطة الهيكل قضية يسوع إلى بيلاطس بتهمة التحريض السياسي ضد روما، وهي تهمة لم تستطع إثباتها عليه ولم تقدر على حشد الشهود لها؟ والسؤال الثاني هو لماذا رضخ بيلاطس لضغط اليهود بعد أن أعلن مرارا قناعته التامة ببراءته مما يتهمونه به؟ لقد قال بيلاطس لليهود وفق رواية مرقس بعد أن انتهى من استجواب يسوع: «أي شر عمل؟» (مرقس، 15: 14). وقال لهم وفق رواية لوقا: «لم أجد في هذا الإنسان علة مما تشتكون به عليه. ولا هيرودوس أيضا» (لوقا، 23: 13). وقال في إنجيل يوحنا: «لم أجد سببا لتجريمه» (يوحنا، 18: 38). وأخيرا: «أخذ ماء وغسل به يديه قدام الجميع قائلا: إني بريء من دم هذا البار » (متى، 27: 24). فلماذا لم يحكم ببراءته بدلا من أن يغسل يديه من دمه، لا سيما وأن سلطة الهيكل لم تفلح في تقديم بينة واحدة على شكاويها المزعومة؟
ثم ما معنى قول اليهود لبيلاطس: «إن أخليت سبيله فلست محبا لقيصر»؟ (يوحنا، 19: 12). لقد أظهر بيلاطس ولاءه لقيصر قبل ذلك بأشهر قليلة، عندما هاجمت شرطته السرية المتظاهرين اليهود الذين خرجوا يحتجون على استيلائه على بعض من أموال خزينة الهيكل لتمويل مشروع لجر مياه الشرب إلى أورشليم، وقتلوا منهم عددا كبيرا. كما ارتكب قبل ذلك مجزرة في مقاطعة السامرة. فقد كان السامريون ينتظرون شخصية مسيحانية يدعونه «الطاحب»، سوف يأتي إلى جبلهم المقدس جزريم ويستخرج منه تابوت العهد المدفون هناك منذ القدم. ثم ظهر رجل ادعى بأنه الطاحب المنتظر فآمن به جمع كبير من الناس الذين توجه بهم إلى جبل جزريم لاستخراج التابوت. ولكن بيلاطس رأى في هذه الحركة بداية فتنة محتملة ووجه إليهم كتيبة من جنده هاجمت التجمع عند جبل جزريم وقتلت منهم عددا كبيرا، ثم قبضت على الطاحب المزيف وأركان دعوته وساقتهم مخفورين إلى بيلاطس الذي حاكمهم وأعدمهم.
1
ومن الملفت للنظر أن القيصر استدعى بيلاطس إلى روما لاستجوابه بشأن التهم التي وجهها إليه اليهود والسامريون بسوء استخدام السلطة والإفراط في العنف. فهل كان لإعدام يسوع علاقة بذلك أيضا؟
ولدينا جملة قالها بيلاطس في إنجيل لوقا بعد أن أعلن قناعته ببراءة يسوع وهي: «أنا أؤدبه وأطلقه» (لوقا، 23: 16). فلماذا لم يحكم عليه بالجلد ويطلقه مثلما فعل أحد خلفائه على كرسي الولاية في حادثة مشابهة؟ وملخص هذه الحادثة التي يرويها لنا المؤرخ يوسيفوس، هو أنه في عام 63 للميلاد وفي عهد الوالي الروماني ألبينوس، ظهر في أورشليم يسوع آخر يدعى يسوع بن حنانيا، راح في عيد المظال يقلد النبي إرميا في تنبؤه على أورشليم بالخراب ويرفع صوته في الهيكل قائلا: الويل لأورشليم والويل لهذا الهيكل. ولما أحست السلطة الدينية بالقلق من هذا الداعية الذي يسلك مثل نبي، قبضت عليه واستجوبته وأشبعته ضربا ثم أطلقته، ولكنه عاد سيرته الأولى . عند ذلك قررت أن ترفع عن نفسها مسئولية أي شغب يمكن أن ينتج في العيد جراء سلوك هذا الرجل، وأحالت القضية إلى الوالي ألبينوس. وعندما استجوبه الوالي بقي صامتا أمامه ولم يجبه بشيء عن أسئلته، تماما مثلما فعل يسوع المسيح قبل ذلك. وأخيرا قرر الوالي أن الشخص الماثل أمامه لا يشكل خطرا على أمن روما، وأطلقه قائلا إن سلوكه ناجم عن عدم سلامة عقله.
2
وفي واقع الأمر، فإن الرأي الذي كونه بيلاطس عن يسوع المسيح لم يكن مختلفا كثيرا عن الرأي الذي كونه ألبينوس عن يسوع بن حنانيا بعد ذلك بثلاثة عقود. فقد وجد بيلاطس نفسه أمام متصوف هو أبعد ما يكون عن الهموم السياسية لمعاصريه، تخالجه أوهام دينية عن مملكة ليست من هذا العالم سيكون ملكا عليها. وعندما قال لهم: «هل أطلق لكم ملك اليهود؟» كان يسخر من يسوع ومنهم مستخدما الذريعة التي تقدموا بها إليه قائلين: «وجدنا هذا الرجل يفسد الأمة ويمنع أن تعطى الجزية لقيصر قائلا إنه مسيح ملك» (لوقا، 23: 1). وعندما أمر بعد ذلك أن تكتب على الصليب جملة «يسوع الناصري ملك اليهود»، كان يشفي غليله منهم وكأنه يقول: إذا كان هذا هو ملككم، فليكن.
إن هذه الأسئلة المتعددة التي أثرناها حول موقف بيلاطس غير المفهوم، لتوجه أذهاننا إلى سؤال آخر على غاية من الخطورة وهو: هل هناك أدنى احتمال في أن القضية لم ترفع إلى بيلاطس، وأن يكون السنهدرين وحده هو المسئول عن محاكمة وإعدام يسوع؟
مثل هذا السؤال ليس ناجما عن خيال جامح وإنما عن استقراء لوقائع تلك الفترة من تاريخ مقاطعة اليهودية. فلقد كان كل اجتماع للسنهدرين رهنا بموافقة الوالي الروماني. وكان للسنهدرين إذا كان اجتماعه قانونيا صلاحيات عديدة تتعلق بالشئون الدينية، ومنها عقد محكمة للمتهمين بالكفر والتجديف وتعدي حدود الشريعة الموسوية والحكم عليهم بالموت رجما على ما تقتضيه الشريعة. وقد ألمح بيلاطس إلى هذه الصلاحية عندما قال لأعضاء المجلس: «خذوه فاحكموا عليه وفق ما تقتضي شريعتكم» (يوحنا، 18: 31). ولدينا أكثر من مثال على استخدام السنهدرين لصلاحياته هذه. فبعد نحو عقدين من وفاة يسوع حكم المجلس بالإعدام رجما على أحد أعمدة الكنيسة المسيحية في أورشليم وهو استيفانوس أول شهيد في المسيحية، وذلك بتهمة الإخلال بالشريعة (راجع سفر أعمال الرسل، 6: 9-15، و7: 51-60). ويخبرنا المؤرخ يوسيفوس عن مصير مشابه لقيه أخو يسوع (حول هذا اللقب راجع رسالة بولس إلى أهالي غلاطية، 1: 18-19)، عندما دعا رئيس الكهنة المدعو أيضا حنان أو حنانيا إلى اجتماع للسنهدرين في وقت كان فيه منصب الوالي شاغرا، وأصدر حكما بالرجم حتى الموت على يعقوب أخي يسوع المدعو بالمسيح (وفق تعبير يوسيفوس) بتهمة انتهاك شريعة موسى. وقد أزاحت السلطة الرومانية حنان هذا من منصبه لأنه جمع السنهدرين دون إذن مسبق من الوالي.
3
ومن الملفت للنظر أن أحد الأخبار القليلة عن يسوع التي جاءتنا من خارج أسفار العهد الجديد لا يذكر الصلب باعتباره الوسيلة التي استخدمت في إعدام يسوع، ولا يحدد الجهة المسئولة عن إعدامه. وقد أورد هذا الخبر الكاتب الروماني سيلسوس الذي عاش في أواسط القرن الثاني الميلادي، واقتبسه عنه الكاتب المسيحي أوريجين فقال: «عندما كبر يسوع سافر إلى مصر حيث عمل عاملا مياوما، وهناك تعلم فنون السحر. وعندما عاد إلى فلسطين ادعى الألوهية وجمع حوله أكثر الناس بؤسا وإحباطا، وراح يجوب أنحاء البلاد. وعندما كشف اليهود أمره طاردوه فهرب وهام متخفيا، إلى أن تم القبض عليه بخيانة من تلاميذه. وبعد أن نفذ به حكم الإعدام سرق تلاميذه جثمانه وادعوا أنه قام من بين الأموات.» وقد أورد التلمود اليهودي خبرا مشابها عن سفر يسوع إلى مصر وعودته بعد أن تعلم فنون السحر، ولكنه يضيف إلى ذلك أنه عندما عاد قبض عليه وحوكم وأعدم رميا بالحجارة، ثم علق على عمود خشبي عشية عيد الفصح اليهودي.
4
لقد كان الإعدام بواسطة الصلب وقفا على السلطة الرومانية في جميع أنحاء الإمبراطورية، وكانت هذه الطريقة في الإعدام تستخدم حصرا للمتهمين بجرائم ضد الأمن الروماني. لذلك قد لا تكون هي الطريقة التي استخدمت في إعدام يسوع لأن المحكمة الرومانية لم تثبت شيئا ضده يتعلق بالتحريض ضد روما.
وفي الحقيقة فإنه لم يكن لدى السلطة الرومانية أية مصلحة في إعدام يسوع، أما سلطة الهيكل فكان لها كل المصلحة في ذلك. فلقد ركز يسوع هجومه على ممثلي هذه السلطة من كتبة وفريسيين وعلماء شريعة، وفضح نفاقهم ورياءهم. وقد اعتبر أن رسالته قد تجاوزت شريعة العهد القديم التي هي شريعة الحرف وافتتحت شريعة العهد الجديد التي هي شريعة الروح. وأوضح ذلك عمليا من خلال سلوكه وتعاليمه، فقد انتهك قانون السبت وقال لمن شغب عليه: إن الله لا يستريح في يوم السبت، وانتهك فريضة الصيام، وقواعد الطهارة الخارجية المتزمتة وأحل محلها قواعد الطهارة الداخلية طهارة القلب واللسان، ولم يعبأ بتحريمات المأكل والمشرب وقال لتلاميذه: إن كل الأطعمة طاهرة للأكل، ونقض قانون الرجم عندما عفا عن المرأة الزانية، وأحل الأخلاق وسيلة للتقرب إلى الله محل طقوس الذبائح والمحارق التي تقام في الهيكل، لأن الله يريد الرحمة لا الذبيحة. ولم تكن العاصفة التي أثارها في الهيكل عندما قلب مناضد الصيارفة وطرد باعة حيوانات القرابين وجلدهم بالسوط، إلا هجوما مباشرا على مؤسسة القربان التي تعبر عن جوهر العبادات الشكلانية اليهودية. وبما أن أسرة رئيس الكهنة كانت هي المتحكمة بتجارة الهيكل والمستفيد الأول من عائداتها، فإن يسوع بعمله هذا قد وقع على صك إعدامه.
سؤال مهم آخر تثيره رواية محاكمة يسوع وهو: لماذا بقي يسوع صامتا في كلا الاستجوابين أمام رئيس الكهنة وأمام الوالي الروماني؟ ولماذا لم يستخدم حقه في الدفاع عن نفسه؟ هل لأنه احتقر هذه المحكمة واعتبرها غير مؤهلة لاستجوابه؟ أم لأن مؤلفي الأناجيل أرادوا أن تتحقق بخصوصه النبوءة التوراتية القائلة: «ظلم، أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه» (إشعيا، 53: 7).
إن التعامل مع هذا السؤال ليثير أمام الباحث في العهد الجديد مشكلة من أعقد المشكلات، ألا وهي تحديد الخط الفاصل بين الحدث التاريخي في سيرة يسوع والحدث الذي أضافه الموروث من أجل ملاءمة هذه السيرة مع النبوءات التوراتية . ولكي أوضح مدى جدية هذه المشكلة، أدعو القارئ إلى تأمل المقطع التالي من سفر الحكمة، وهو من الأسفار الموجودة في الترجمة اليونانية للتوراة المعروفة باسم الترجمة السبعينية، والتي كان مؤلفو الأناجيل يعتمدونها، وكذلك الكنيسة المسيحية بعد ذلك حتى الإصلاح البروتستانتي: «فإنهم بزيغ أفكارهم قالوا في أنفسهم إن حياتنا قصيرة شقية، وليس لممات الإنسان من دواء، ولم يعلم قط أن أحدا رجع من الجحيم ... فتعالوا نتمتع بالطيبات الحاضرة ونبتدر منافع الوجود ما دمنا في الشبيبة، ونترو من الخمر الفاخرة ونتضمخ بالأدهان ولا تفوتنا زهرة الأوان. لنجر على الفقير الصديق ولا نشفق على الأرملة ولا نهب شيبة الكثير الأيام ... ولنكمن للصديق فإنه ثقيل علينا يقاوم أعمالنا ويقرعنا على مخالفتنا للناموس ويفضح ذنوب سيرتنا. يزعم أنه عنده علم الله ويسمي نفسه ابن الرب. وقد صار لنا عذولا حتى على أفكارنا. بل منظره ثقيل علينا لأن سيرته تخالف سيرة الناس وسبله تباين سبلهم. وقد حسبنا كزيوف فهو يجانب طرقنا مجانبة الرجس، ويغبط موت الصديقين ويتباهى بأن الله أبوه. فلننظر هل أقواله حق ولنختبر كيف تكون عاقبته، فإنه إن كان الصديق ابن الله فهو ينصره وينقذه من أيدي مقاوميه. فلنمتحنه بالشتم والعذاب حتى نعلم حلمه ونختبر صبره، ولنقض عليه بأقبح ميتة فإنه سوف يفتقد كما يزعم. هذا ما ارتأوه فضلوا لأن شرهم أعماهم فلم يدركوا أسرار الله ولم يرجوا جزاء القداسة، ولم يعتبروا ثواب النفوس الطاهرة.» (سفر الحكمة، 2: 1-24، عن الترجمة الكاثوليكية للعهد القديم)
لقد دون سفر الحكمة قبل الميلاد بنحو قرنين، ولكنه يبدو وكأنه وصف دقيق لشخصية يسوع وحياته ومماته. فهل سنكون قادرين في يوم من الأيام على استعادة الوجه التاريخي ليسوع من تحت ركام النبوءات التوراتية؟
إلهي لماذا تركتني؟
البريء على الصليب
إن الروايات التي وصلت إلينا عما حدث في موقع الصلب المدعو بالجلجثة ليست على ما نشتهي من التوافق. فبعد مضي أكثر من أربعين سنة على الحادثة، لم يكن من السهل الوصول إلى معلومات موثوقة ومتطابقة. ولهذا فقد انفرد كل إنجيلي بإيراد تفاصيل لا نجدها لدى الآخر، واستخدم كل منهم خياله الخاص في تفضيل هذه المعلومة عن تلك، أو في ابتكار عنصر لردم هذه الفجوة في القصة أو تلك. كما عمدوا إلى استذكار النبوءات التوراتية وحشدها من أجل إضفاء الجلالة على المشهد. فبعد أن جلد بيلاطس يسوع وأسلمه للصلب، نقرأ في الروايات الأربع ما يلي: (1) رواية مرقس «فمضى به العسكر إلى الدار التي هي دار الولاية، وجمعوا كل السرية وألبسوه رداء أرجوانيا وضفروا إكليلا من الشوك ووضعوه عليه، وأخذوا يحيونه قائلين: السلام يا ملك اليهود. وكانوا يضربونه على رأسه بقصبة ويبصقون عليه ثم يسجدون له جاثين على ركبهم. وبعدما استهزءوا به نزعوا عنه الأرجوان وألبسوه ثيابه ثم خرجوا به ليصلبوه. فسخروا لحمل صليبه رجلا مجتازا كان آتيا من الحقل وهو سمعان القيرواني أبو إسكندر وروفس، وساروا به إلى المكان المعروف بالجلجثة، أي موضع الجمجمة. وأعطوه خمرا ممزوجة بمر ليشرب فلم يقبل. ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ماذا يأخذ كل واحد. وكانت الساعة الثالثة حين صلبوه (= الساعة التاسعة صباحا بتوقيتنا الحالي). وكتب في علة الحكم عليه: ملك اليهود. وصلبوا معه لصين أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، فتم الكتاب القائل: وأحصي مع أثمة. وكان المارة يشتمونه ويهزون رءوسهم ويقولون: أيا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلص نفسك وانزل عن الصليب. وكان الأحبار والكتبة يسخرون مثلهم فيقول بعضهم لبعض: خلص غيره وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها. فلينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب لنرى ونؤمن. وكان اللصان المصلوبان معه هما أيضا يعيرانه.» «ولما بلغت الساعة السادسة (= الثانية عشرة ظهرا) انتشر ظلام على الأرض كلها حتى الساعة التاسعة (= الثالثة بعد الظهر). وصرخ يسوع في الساعة التاسعة بصوت عظيم قائلا: إلوي، إلوي. لما شبقتني؟ الذي تفسيره: إلهي، إلهي. لماذا تركتني؟ فقال قوم من الحاضرين لما سمعوا: هوذا ينادي إيليا. فأسرع واحد منهم إلى إسفنجة وبللها بالخل وجعلها على قصبة وقربها ليشرب، وهو يقول: دعونا ننظر هل يأتي إيليا فينزله؟ فصرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح. فانشق حجاب الهيكل إلى شطرين من أعلى إلى أسفل. ولما رأى قائد المائة الواقف مقابله أنه صرخ هكذا وأسلم الروح قال: حقا كان هذا الإنسان ابن الله. وكانت أيضا نساء ينظرن من بعيد بينهن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وسالومة. وهن اللواتي تبعنه وخدمنه حين كان في الجليل، وغيرهن كثيرات صعدن معه إلى أورشليم.» «ولما كان المساء قد أقبل وهو وقت التهيئة، أي عشية السبت، جاء يوسف الرامي (= الذي من الرامة، وهي قرية على بعد خمسة أميال إلى الشمال من أورشليم)، وهو عضو وجيه في المجلس، وكان من الذين ينتظرون ملكوت الله، فتجاسر ودخل على بيلاطس وطلب جسد يسوع. فتعجب بيلاطس أنه مات كذا سريعا، فدعا قائد المائة وسأله: أوقد مات؟ فلما تحقق الخبر من القائد وهب الجسد ليوسف. فاشترى يوسف كتانا فأنزله وكفنه بالكتان، ووضعه في قبر كان منحوتا في الصخر ثم دحرج حجرا على باب القبر. وكانت مريم المجدلية ومريم أو يوسي تنظران أين وضع» (مرقس، 15: 16-47).
نلاحظ من قراءة نص مرقس أن المؤلف قد استند إلى عدد من النبوءات التوراتية في بناء بعض عناصر قصته : (1)
فقد أعطوه خمرة ممزوجة بمر ليشرب فلم يقبل. ثم رفعوا إلى فمه إسفنجة مبللة بالخل. وذلك تحقيقا لما ورد في المزمور 69: 20-21 «يجعلون في طعامي علقما وفي عطشي يسقونني خلا.» (2)
وصلبوا معه لصين، واحد عن يمينه وآخر عن شماله، تحقيقا لما ورد في سفر إشعيا 53: 13 «من أجل أنه سكب نفسه للموت وأحصي مع أثمة. وهو حمل خطيئة كثيرين وشفع في المذنبين.» (3)
ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ماذا يأخذ كل واحد. وذلك تحقيقا لما ورد في المزمور 22: 16-18 «جماعة من الأشرار اكتنفتني ... يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون.» (4)
وكان المارة يشتمونه ويهزون رءوسهم، والأحبار والكتبة يسخرون مثلهم قائلين: «خلص غيره ولا يقدر أن يخلص نفسه. فلينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب لنرى ونؤمن.» وذلك تحقيقا لما ورد في المزمور 22: 7-8 «كل الذين يرونني يستهزءون بي، يفغرون الشفاه وينغصون الرأس قائلين: اتكل على الرب فلينجه، لينقذه لأنه سر به.» وما ورد في سفر الحكمة: «إن كان الصديق ابن الله فهو ينصره وينقذه من أيدي مقاوميه. فلنمتحنه بالشتم والعذاب حتى نعلم حلمه ونختبر صبره. ولنقض عليه بأقبح ميتة فإنه سيفتقد كما يزعم» (2: 18-20). (5)
وصرخ يسوع في الساعة التاسعة بصوت عظيم قائلا: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ وذلك تحقيقا لما ورد في المزمور 22: 1-2 «إلهي، إلهي، لماذا تركتني، بعيدا عن خلاصي عن كلام زفيري» (1-2). (2) رواية متى
يتبع متى بدقة رواية مرقس، ولكنه لا يذكر الساعة التي صلب فيها يسوع، وهي الثالثة كما أورد مرقس. كما أنه يعود إلى أجواء قصة الميلاد وما رافقها من أحداث ميثولوجية؛ فيتحدث عن ظواهر فوق طبيعانية رافقت موت يسوع: «وصرخ يسوع أيضا بصوت عظيم وأسلم الروح. وإذا حجاب الهيكل انشق إلى شطرين من أعلى إلى أسفل، وزلزلت الأرض وتصدعت الصخور وتفتحت القبور، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين. وأما قائد المائة والذين معه يحرسون يسوع فإنهم لما رأوا الزلازل وما حدث خافوا خوفا شديدا وقالوا: حقا كان هذا ابن الله» (متى، 27: 50-54).
ويضيف في نهاية روايته المقطع التالي: «وفي الغد، أي بعد التهيئة، ذهب الأحبار والفريسيون إلى بيلاطس قائلين: سيدي، قد تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حي إني بعد ثلاثة أيام أقوم. فمر بضبط القبر إلى اليوم الثالث لئلا يأتي تلاميذه فيسرقوه ويقولوا للشعب إنه قام من بين الأموات، فتكون الضلالة الأخيرة أشد من الأولى. فقال لهم بيلاطس: عندكم حراس، اذهبوا واضبطوه كما ترون. فمضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر» (متى، 27: 62-66). (3) رواية لوقا
يتبع لوقا أيضا رواية مرقس ولكنه يضيف إليها المقطعين التاليين: «وتبعه جمع كبير من الشعب ومن نساء كن يضربن الصدور وينحن عليه. فالتفت يسوع إليهن، وقال: يا بنات أورشليم لا تبكين علي، بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن. فسوف تأتي أيام يقال فيها: طوبى للعواقر والبطون التي لم تلد والثدي الذي لم يرضع، ويقال للجبال انهدي علينا وللتلال ادفنينا. فإذا كان يفعل هذا بالعود الرطب فكيف يكون حال العود اليابس؟ وسيق معه إلى القتل أيضا مجرمان» (لوقا، 23: 27-32). «وأخذ أحد المجرمين المعلقين على الصليب يشتمه ويقول: ألست أنت المسيح؟ فخلص نفسك وخلصنا. فانتهره الآخر قائلا: أما تخاف الله وأنت تعاني العقاب نفسه؟ أما نحن فعقابنا عدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، أما هو فلم يفعل سوءا. ثم قال: اذكرني يا يسوع متى جئت في ملكوتك. فقال له يسوع: الحق أقول لك اليوم تكون معي في الفردوس» (لوقا، 23: 39-43).
كما أن لوقا يضع على لسان يسوع عندما كانوا يصلبونه قوله: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لوقا، 23: 34). وهذا القول لم يرد عند بقية الإنجيليين. ثم يغير الكلمات الأخيرة ليسوع من: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني» الواردة عند مرقس ومتى إلى: «يا أبتاه في يديك أستودع روحي» (لوقا، 23: 46). (4) رواية يوحنا «... وكان ذلك اليوم يوم تهيئة للفصح والساعة نحو السادسة. فقال بيلاطس لليهود: هوذا ملككم. فصاحوا: اقتله، اقتله، اصلبه. قال لهم بيلاطس: أأصلب ملككم؟ فأجاب الأحبار: لا ملك علينا إلا قيصر. فأسلمه إليهم ليصلب.» «فأخذوا يسوع ومضوا به. فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال له موضع الجمجمة ويقال له بالعبرية جلجثة؛ حيث صلبوه وصلبوا معه اثنين آخرين كل منهما في جهة ويسوع في الوسط. وجعل بيلاطس على الصليب رقعة مكتوبا فيها: يسوع الناصري ملك اليهود. فقرأ كثير من اليهود ما كتب في هذه الرقعة؛ لأن المكان الذي صلب فيه يسوع كان قريبا من المدينة، وكانت الكتابة بالعبرية واللاتينية واليونانية. فقال أحبار اليهود لبيلاطس: لا تكتب ملك اليهود بل اكتب هذا الرجل قال إني ملك اليهود. فأجاب بيلاطس: ما كتبت قد كتبت.» «ولما صلب العسكر يسوع أخذوا ثيابه وجعلوها أربعة أقسام، لكل عسكري نصيب. وأخذوا القميص أيضا وكان القميص بغير خياطة منسوجا كله من أعلى إلى أسفل. فقال بعضهم لبعض: لا نشقه بل نقترع عليه لمن يكون. ليتم الكتاب القائل: اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا قرعة. هذا ما فعله العسكر. وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه وأخت أمه مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية. فلما رأى يسوع أمه والتلميذ الذي كان يحبه واقفا، قال لأمه: يا امرأة هوذا ابنك. ثم قال للتلميذ: هوذا أمك. ومن تلك الساعة أخذها إلى بيته. بعد هذا رأى يسوع أن كل شيء قد كمل، فقال بعد ذلك: أنا عطشان. ليتم الكتاب. وكان إناء موضوعا مملوءا خلا، فوضعوا إسفنجة مبتلة بالخل على قضيب من الزوفى وأدنوها من فمه. فلما ذاق يسوع الخل قال: تم كل شيء، ونكس رأسه وأسلم الروح.» «وكان ذلك اليوم يوم التهيئة. فسأل اليهود بيلاطس أن تكسر سيقانهم ويرفعوا، لكيلا تبقى الأجساد على الصليب في السبت؛ لأن ذلك السبت كان عظيما عند اليهود. فأتى العسكر وكسروا ساقي الأول والآخر اللذين صلبا معه. وأما يسوع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقيه لأنهم رأوه قد مات. ولكن واحدا من العسكر طعنه بحربة في جنبه فخرج على إثرها دم وماء. يشهد بذلك الذي رأى، وشهادته صحيحة ويعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم. وحدث هذا ليتم الكتاب القائل: عظم لا يكسر منه. وأيضا يقول كتاب آخر: سينظرون إلى الذي طعنوه.» «وبعدئذ جاء يوسف الرامي ، وكان تلميذا ليسوع يخفي أمره خوفا من اليهود، فسأل بيلاطس أن يأخذ جسد يسوع، فأذن له بيلاطس. فجاءوا فأنزلوا جسد يسوع. وجاء نيقوديمس، وهو الذي ذهب إليه ليلا من قبل، وكان معه خليط من المر والعود يناهز مائة درهم، فحملوا جسد يسوع وطيبوه، وكفنوه كما جرت عادة اليهود في دفن موتاهم. وكان في الموضع الذي صلب فيه بستان، وفي البستان قبر جديد لم يدفن فيه أحد، فوضعوا يسوع فيه، مراعاة للتهيئة عند اليهود لأنه قريب» (يوحنا، 19: 38-42).
من قراءة هذه الرواية نلاحظ اختلافها عن الرواية الإزائية في النقاط التالية: (1)
يقاد يسوع إلى الصلب في الساعة السادسة، أي عند منتصف النهار وفق رواية يوحنا، بينما يقول مرقس أنه صلب في الساعة الثالثة، أي قبل ذلك بثلاث ساعات. أما متى ولوقا فلا يذكران شيئا عن ساعة الصلب. (2)
يسوع يحمل صليبه بنفسه أما في الرواية الإزائية فيحمله عنه سمعان القيرواني. (3)
لا يعطى يسوع خمرا ممزوجة بمر ليشرب منه قبل الصلب على ما ورد في الرواية الإزائية. (4)
لا تجري القرعة بين الجنود على جميع ملابس يسوع وإنما على القميص فقط. وهنا يقدم لنا النص وصفا دقيقا لهذا القميص صادرا كما يبدو عن شاهد عيان. فهو مصنوع بغير خياطة منسوج كله من أعلى إلى أسفل. أي أنه كان قطعة ثمينة مصنوعة بيد ماهرة وليست مما يلبسه عامة الناس ... (5)
وقف تحت الصليب مباشرة التلميذ الحبيب ومعه أم يسوع ومريم المجدلية. أما في الرواية الإزائية فلم يكن تحت الصليب أحد من أتباع يسوع، وكانت المجدلية مع بقية النسوة ينظرن من بعيد. ونلاحظ هنا أن أم يسوع التي لم يذكر المؤلف اسمها، قد ظهرت للمرة الثانية في الرواية بعد ظهورها الأول قبل سنتين في عرس قانا. (6)
يضع يوحنا على لسان يسوع قبل أن يسلم الروح قوله: «تم كل شيء» بدلا من: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني» عند مرقس ومتى، و: «يا أبتاه في يديك أستودع روحي» عند لوقا. (7)
ينفرد يوحنا بذكر قيام الجنود بكسر سيقان المصلوبين من أجل التعجيل بموتهم . وهو خبر واقعي إلى أبعد الحدود، ويصف إجراء كان متبعا في عمليات الصلب الرومانية، الغرض منه تقصير مدة بقاء المحكومين على الصليب. بهذه الطريقة كان ثقل الجسم كله يقع على الذراعين اللذين يضغطان بشدة على الرئتين، فيغدو التنفس أكثر صعوبة ومستحيلا بعد وقت قصير. وقد تم العثور في منطقة القدس على ضريح شاب مات مصلوبا، وعلى ذراعيه وقدميه آثار المسامير، وكانت عظام ساقيه مكسورة.
ولكن المؤلف يستثني يسوع من عملية الكسر لأن الجنود لما وصلوا إليه وجدوه قد مات. وهنا تتحقق نبوءة الكتاب القائل: «عظم لا يكسر منه»، والتي وردت في سفر المزامير بالصيغة التالية: «كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب. يحفظ جميع عظامه، وواحد منها لا ينكسر» (المزمور، 34: 19).
وبعد ذلك ينفرد يوحنا أيضا بخبر طعن يسوع بحربة في جنبه تحقيقا للنبوءة القائلة: «سينظرون إلى الذي طعنوه»، والواردة في سفر زكريا بالصيغة التالية: «فينظرون إلى الذي طعنوه، وينوحون عليه كنائح على وحيد له، ويكونون في مرارة عليه كمن هو في مرارة على بكره» (زكريا، 12: 10). (8)
لا يقوم اللصان المصلوبان مع يسوع بتعييره كما هو وارد عند مرقس ومتى، ولا يجري يسوع مع أحدهما حوارا كما هو وارد عند لوقا. (9)
في الروايات الإزائية يقوم يوسف الرامي وحده باستلام جثمان يسوع ودفنه، أما في رواية يوحنا فيساعده في عملية الدفن شخص يدعى نيقوديمس، وهو عضو في مجلس السنهدرين جاء إلى يسوع في زيارته الأولى إلى أورشليم ليلا وتحاور معه (يوحنا، 3: 1-10). ويبدو أنه آمن به سرا، لأنه دافع عنه أمام زملائه في المجلس عندما كانوا يتآمرون ضده (يوحنا، 7: 50-53).
ومن الملفت للنظر أن يوحنا لا يعطينا أي معلومات عن يوسف الرامي سوى اسمه، بينما قال مرقس إنه «عضو وجيه في المجلس، وكان من الذين ينتظرون ملكوت الله»، وقال متى إنه «غني من الرامة قد تتلمذ ليسوع»، وقال لوقا إنه «عضو في المجلس وهو رجل صالح بار لم يوافقهم على خطئهم ولا أعمالهم. وكان من الرامة»، وهذه الصفات تنطبق في رواية يوحنا على نيقوديمس الذي كان عضوا في المجلس ودافع عن يسوع أمامه، وكان تلميذا سريا له يزوره ليلا لكيلا ينكشف أمره. فمن هو إذن يوسف الرامي؟ وكيف ظهر فجأة في مشهد الصلب ثم اختفى بعد ذلك بالسرعة التي ظهر بها؟ (10)
لا يترافق صلب يسوع وموته مع حدوث ظواهر فوق طبيعانية؛ فلا الشمس احتجبت، ولا الظلام انتشر على الأرض مدة ثلاث ساعات، على ما ورد في الروايات الإزائية، ولم تتزلزل الأرض وتتصدع الصخور وتنفتح القبور على ما ورد في رواية لوقا. (11)
لا يذكر لنا يوحنا ساعة موت يسوع على الرغم من أنه حدد ساعة الصلب بالسادسة (12 ظهرا). ولكي نتوصل إلى نتيجة بخصوص المدة التي قضاها يسوع على الصليب، علينا أن نلقي نظرة مقارنة على الروايات الأربع:
ساعة الصلب
احتجاب الشمس
ساعة وفاة يسوع
مرقس
3 (9 صباحا)
من 6 إلى 9 (12 ظهرا-3 عصرا)
9 (3 عصرا)
متى ؟
من 6 إلى 9 (12 ظهرا-3 عصرا )
9 (3 عصرا)
لوقا ؟
من 6 إلى 9 (12 ظهرا-3 عصرا)
9 (3 عصرا)
يوحنا
6 (12 ظهرا) ؟ ؟
من مقارنة الأوقات في الروايات الأربع، نخرج بنتيجة مفادها أن يسوع لم يبق على الصليب أكثر من ست ساعات. وهذا لا يتفق مع الحقائق التي نعرفها عن الموت على الصليب. فقد كان الموت يأتي بطيئا بسبب صعوبة التنفس الحاصلة جراء تثبيت الذراعين وثقل الجسم على الرئتين، وكان على المحكوم أن يضغط على قدميه المثبتتين بأربطة أو مسامير لكي يخفف الضغط عن صدره. وبهذه الطريقة كان يمكن لأي محكوم أن يستمر معلقا على الصليب مدة يومين أو ثلاثة على أقل تقدير، إذا لم تكسر ساقاه من أجل التسريع بموته. ويروي لنا يوسيفوس الذي كان شاهد عيان على اجتياح الرومان لأورشليم عام 70م، أن عدد المصلوبين يوميا كان يصل إلى 500 مصلوبا، حتى إن أحراش المنطقة فرغت من أشجارها التي استخدمت كصلبان، وأن المصلوبين كانوا يبقون أحياء لعدة أيام، وتشكل معاناتهم مشهدا مرعبا للسكان اليهود وعبرة لمن يفكر بالتمرد على روما.
فكيف مات يسوع بعد ست ساعات وما هي مسببات موته؟ هذا السؤال قائم منذ ألفي عام، وكان بيلاطس أول من طرحه عندما وصله خبر موت يسوع، و«تعجب من أنه مات هكذا سريعا»، ولم يصدق إلا بعد أن أرسل قائد المائة للتحقق من موته (مرقس، 15: 44).
مرة أخرى هنالك سؤال يتعلق بيوسف الرامي الذي هو أحد أكثر الألغاز في الإنجيل إثارة للحيرة. فلماذا من بين كل الناس تقدم يوسف الرامي لطلب جسد يسوع من بيلاطس؟ لقد كان التلاميذ مختبئين خوفا من الملاحقة، ولكن التلميذ الحبيب المقرب من رئيس الكهنة كان حاضرا عملية الصلب وواقفا تحت صليب يسوع عندما أنزل. فلماذا لم يتطوع لهذه المهمة وهو أولى بها من تلميذ سري كان يخشى من افتضاح أمره ويحرص على مكانته كعضو في المجلس اليهودي؟ هل كان شخصية حقيقية أم شخصية خيالية تم ابتكارها لملء الفجوات في قصة الصلب المشوشة التي وصلت إلى الإنجيليين؟ وهل جرى استلهام هذه الشخصية من قصة أخرى يقوم فيها رجل بارز بطلب جسد مصلوب من قائد روماني؟ إن ما يثير هذا السؤال الأخير في الأذهان هو ما رواه المؤرخ يوسيفوس الذي يحمل الاسم نفسه (أي يوسف) في مذكراته، من أنه خلال الحروب اليهودية عام 70م تعرف بين المصلوبين خارج أورشليم على ثلاثة من أصدقائه، فمضى إلى القائد الروماني تيتس وطلب أجسادهم ليدفنها، فأعطاه تيتس ما طلب، وعندما أنزل الأجساد وجد أن اثنين منهم فاقدان للحياة والثالث ما زال حيا، فعمل على إنعاشه ومعالجته حتى شفي. فهل كانت هذه القصة أو ما يشبهها وراء شبح يوسف الرامي؟
لغز القبر الفارغ
ربما لن يكون باستطاعتنا أبدا أن نعرف ما جرى ليسوع بعد أن أودع على عجل في قبر مؤقت قريب من موضع الصلب في أرض يملكها يوسف الرامي. الأمر الوحيد الذي يمكننا التثبت منه وتتفق عليه الروايات الأربع، هو أن القبر وجد فارغا في صباح اليوم الثالث للصلب، وفيما عدا ذلك فإن هذه الروايات تختلف فيما بينها في معظم التفاصيل، كما تختلف مع سفر أعمال الرسل ومع أقدم رواية عن القيامة والظهورات وهي رواية بولس. وإذا كان باستطاعتنا تفسير القبر الفارغ بأن أحدا ما قد نقل جثمان يسوع إلى قبر آخر دائم في وقت ما من مساء اليوم الثاني، وهو تفسير يتفق مع منطق الأحداث، فإن ما تبقى من القصة لا يمكن إخضاعه للبرهان، لأنه ينتمي إلى مجال الإيمان والتقوى الدينية. ومع ذلك فلا بد لنا من عرض تفاصيل هذا اللغز، لا من أجل حله وإنما من أجل توضيح أبعاده.
في الرواية الإنجيلية الأقدم وهي رواية مرقس، يقدم لنا المؤلف سردا واقعيا خاليا من المعجزات والظواهر الخارقة. فعند طلوع شمس اليوم الثالث، جاءت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة إلى القبر من أجل إتمام طقوس الدفن، فوجدن الحجر مدحرجا عن مدخله. وعندما ولجن أبصرن شابا جالسا عليه ثياب بيض فاندهشن. فقال لهن: لا تندهشن. أنتن تطلبن يسوع الناصري المصلوب. قد قام، ليس هو ها هنا. لكن اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل ، هناك ترونه كما قال لكم. فخرجن سريعا وهربن من القبر لأن الرعدة والحيرة أخذتاهما، ولم يقلن لأحد شيئا لأنهن كن خائفات (مرقس، 16: 1-8).
على هذه الطريقة ينتهي إنجيل مرقس في أقدم نسخ متوفرة منه (راجع بحثنا السابق: خفايا إنجيل مرقس). ولكن بعض النساخ المتقدمين الذي لم ترضهم هذه الخاتمة المفتوحة، قاموا في زمن ما من القرن الرابع الميلادي بتدبيج خاتمة للنص، تحكي عن قيامة يسوع من بين الأموات وظهوره لتلاميذه. وهناك اتفاق عام بين الباحثين في العهد الجديد على عدم أصالة هذه الخاتمة وعدم اتفاق لغتها اليونانية مع أسلوب مرقس. وقد تعاملت الترجمات الإنكليزية الحديثة للعهد الجديد مع هذه المشكلة بطرق متنوعة. فمعظمها وضع الخاتمة المضافة مع إدخال حاشية تشير إلى أن نص مرقس الأصلي ينتهي مع الآية 8 من الإصحاح الأخير، وبعضها وضع هذه الخاتمة بين مزدوجتين مع حاشية. أما الترجمة الأكثر اعتمادا لدى الباحثين في أميركا والمعروفة بالترجمة المعيارية المنقحة، فقد حذفت في طبعتها الأولى الصادرة عام 1946م الخاتمة من المتن ووضعتها ضمن حاشية في أسفل الصفحة، ولكنها أعادتها في الطبعات اللاحقة إلى المتن مع إضافة حاشية، بعد عاصفة ثارت في الأوساط الدينية على هذا الإجراء.
ويبدو أن هذه الخاتمة المفتوحة لم ترض من قبل أيضا بقية الإنجيليين، فعملوا على تطويرها. فحتى لو كانت خاتمة مرقس الأصلية تشير ضمنا إلى أن النساء الثلاثة قد مضين إلى بقية التلاميذ وأخبرنهم بخبر القبر الفارغ، فإن مصداقية الخبر تبقى معتمدة على ما قاله شاب مجهول وجد في القبر، وما نقلته عنه ثلاث نسوة غير موثوق بشهادتهن، لأن شهادة النساء عند اليهود في تلك الأيام كانت موضع شك ولا يؤخذ بها في كثير من الأحيان. ولذلك فقد عمد متى في روايته إلى استبدال الشاب المجهول الذي تحدث إلى النسوة في القبر، بملاك هبط من السماء في زلزلة شديدة وجاء إلى الحجر فدحرجه عن المدخل وجلس عليه، ثم أخبر المرأتين اللتين جاءتا لتفقد القبر (في رواية مرقس كن ثلاث نسوة) وقال لهن إن يسوع قد قام من بين الأموات، وإن عليهما أن ينقلا هذا الخبر لبقية التلاميذ ويقولا لهم بأنه سوف يسبقهم إلى الجليل وهناك يرونه. ولكيلا يبقى خبر القيامة معتمدا على شهادة الملاك، فقد جعل متى يسوع يتراءى للمرأتين على الطريق ويقول لهما أن يذهبا إلى إخوته ويقولا لهم أن يمضوا إلى الجليل وهناك يرونه (متى، 28: 1-10).
وبعد ذلك يذهب التلاميذ إلى الجليل إلى الجبل الذي جعله لهم يسوع موعدا، فلما رأوه سجدوا له ولكن بعضهم ارتابوا (متى، 28: 16-17). أما لماذا ارتاب بعض التلاميذ فلان يسوع لم يكن يظهر بشكله الذي عهدوه في حياته، على ما سنرى في بقية الظهورات.
فإذا جئنا إلى لوقا نجده يتحدث عن عدد غير محدد من النسوة أتين لتفقد القبر بينهن نسوة مرقس الثلاث، ليجدن أن الحجر كان مدحرجا عن مدخله. ولكن ملاك متى الذي نزل في زلزلة من السماء لم يكن جالسا عليه، وبدل الملاك الواحد رأى النسوة ملاكين داخل القبر الفارغ قالا لهن: لماذا تبحثن عن الحي بين الأموات؟ إنه ليس ها هنا بل قام. فرجعن من القبر بهدوء هذه المرة على عكس حالهن في رواية مرقس، وأخبرن الأحد عشر والآخرين جميعا. ولكن على الرغم من كثرة النسوة اللواتي رأين القبر الفارغ، فقد بدا للبقية هذا الكلام «ضربا من الهذيان ولم يصدقوهن». وكان لا بد من تثبيت شهادة رجل تؤكد شهادة النساء، فأسرع بطرس إلى القبر ورأى بأم عينه القبر الفارغ. وبعد ذلك تراءى يسوع لاثنين من التلاميذ كانا ذاهبين في ذلك اليوم إلى قرية قريبة من أورشليم ومشى معهما، ولكنهما لم يعرفاه إلى أن دعياه إلى الطعام فجلس معهما وكسر الخبز وناولهما، فانفتحت أعينهما وعرفاه ولكنه توارى عنهما. فقاما ورجعا إلى أورشليم فوجدا التلاميذ مجتمعين في البيت. وبينما هما يقصان عليهما ما جرى لهما ظهر يسوع بينهم فجأة وحياهم، فخافوا وظنوا أنهم يرون روحا. فقال لهم: «ما بالكم مضطربين؟ انظروا إلى يدي ورجلي، أنا هو بنفسي. المسوني وتحققوا فإن الروح ليس له لحم ولا عظم»، ثم أكل معهم وقال لهم أن يبقوا في أورشليم ولا يغادروها. ثم خرج بهم إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم، وبينما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء (لوقا: 24).
في رواية يوحنا مريم المجدلية وحدها جاءت إلى القبر في صباح اليوم الثالث لترى الحجر مدحرجا والقبر فارغا. فهرعت إلى بطرس والتلميذ، الحبيب وقالت لهما: «أخذوا السيد من القبر ولا ندري أين وضعوه» أي أنها توقعت أن أحدا ما قام بنقل الجثمان إلى قبر آخر. فأسرع التلميذان وتأكدا من شهادة مريم ثم رجعا إلى موضعهما. أما مريم فبقيت عند القبر تبكي. ولما انحنت إلى داخل القبر رأت ملاكين بثياب بيض «فقالا لها: يا امرأة ماذا يبكيك؟ فقالت لهما: أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه». ثم شعرت بأن أحدا يقف وراءها، فالتفتت ورأت يسوع ولكنها لم تعرفه وظنت أنه البستاني الذي يعمل في أرض يوسف الرامي. فقالت له: «يا سيد، إن كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته لآخذه. قال لها يسوع: مريم. فعرفته وقالت: يا معلم. فقال لها: لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي». فسارعت المجدلية وأخبرت التلاميذ بما رأت. ولما كانت عشية ذلك اليوم، كان التلاميذ مجتمعين والأبواب مغلقة خوفا من اليهود، فظهر يسوع بينهم فألقى التحية وأراهم موضع المسامير في يديه وأثر الطعنة في جنبه، ثم اختفى. وبعد ثمانية أيام ظهر لهم بالطريقة نفسها وطلب من توما (الذي لم يكن حاضرا في المرة السابقة ولم يصدق رواية زملائه) أن يضع إصبعه في يديه وفي خاصرته ويتلمس موضع الجروح. وبعد فترة لا يحددها المؤلف ظهر يسوع للمرة الرابعة للتلاميذ ولكن في الجليل عندما كان سبعة من التلاميذ يصطادون في سفينة بطرس، ثم جلس معهم وأكل سمكا مشويا. وبعدما تغدوا ودعهم واصطحب بطرس معه إلى مكان غير محدد (يوحنا: 20-21).
من هذه الروايات الأربع نستنتج أن يسوع بقي مع تلاميذه بضعة أيام قبل أن يغادرهم. أما في سفر أعمال الرسل (المنسوب إلى لوقا) فإنه يبقى معهم مدة أربعين يوما. نقرأ في مقدمة السفر: «رويت في كتابي الأول ياثاوفيلوس جميع ما عمل يسوع وعلم منذ بدء رسالته إلى اليوم الذي رفع فيه إلى السماء، بعدما ألقى وصاياه إلى الذين اختارهم رسلا بدافع من الروح القدس. ولهم أظهر نفسه حيا بكثير من البينات وتراءى لهم مدة أربعين يوما بعد آلامه، وكلمهم عن ملكوت الله. وبينما هو يأكل معهم أوصاهم ألا يبرحوا أورشليم بل عليهم أن ينتظروا فيها ما وعد الآب به ... وما إن قال هذا حتى رفع بمرأى منهم وأخذته سحابة عن أعينهم. وبينما عيونهم شاخصة إلى عل وهو يذهب عنهم، إذا رجلان بثياب بيض قد مثلا وقالا لهم: أيها الجليليون ما لكم قائمين تنظرون إلى السماء؟ فيسوع هذا الذي رفع عنكم سيعود كما رأيتموه ذاهبا» (أعمال، 1: 1-11).
تبقى أخيرا رواية بولس عن القيامة والظهورات وهي أقدم الروايات. نقرأ في رسالته إلى أهالي كورنثة التي حررها نحو عام 57م، ما يلي: «بلغت إليكم قبل كل شيء ما تلقيته، وهو أن المسيح مات من أجل خطايانا كما جاء في الكتب، وأنه قبر وقام في اليوم الثالث كما جاء في الكتب، وأنه تراءى لصخر (= بطرس) فالاثني عشر، ثم تراءى لأكثر من خمسمائة أخ لا يزال بعضهم حيا وبعضهم ماتوا، ثم تراءى ليعقوب ثم لجميع الرسل. حتى تراءى لي آخرا» (1 كورنثة، 15: 2-8).
وسنقوم فيما يلي بمقارنة عناصر رواية القيامة والظهورات كما وردت في الروايات الستة.
القبر الفارغ
الشاهد الأول
الشخص الغريب في القبر
الشاهد الثاني
مرقس
ثلاث نسوة
شاب يرتدي الأبيض
لا يوجد
متى
امرأتان
ملاك واحد
لا يوجد
لوقا
عدد غير محدد من النسوة
ملاكان
بطرس
يوحنا
امرأة واحدة
ملاكان
بطرس والتلميذ الحبيب
بولس/أعمال
لا يوجد
لا يوجد
لا يوجد
من مقارنة هذه الروايات نجد أنها تتناقض في جميع عناصرها. فعدد شهود القبر الفارغ في المرة الأولى إما امرأة واحدة أو امرأتان أو ثلاثة أو عدد غير محدد من النساء. والشخص الذي وجد في القبر أو خارجه، إما شاب غير محدد الهوية أو ملاك واحد أو ملاكان . وشهادة النسوة إما لم تدعم بشهادة أخرى أو أنها دعمت إما بشهادة تلميذ واحد أو بشهادة تلميذين أو لم تدعم.
الظهورات ومكانها
الشاهد الأول
الشاهد الثاني
الشاهد الثالث
الشاهد الرابع
مرقس
لا يوجد
لا يوجد
لا يوجد
لا يوجد
متى
امرأتان/أورشليم
الأحد عشر/الجليل
لا يوجد
لا يوجد
لوقا
تلميذان/أورشليم
بطرس/أورشليم
الأحد عشر/أورشليم
لا يوجد
يوحنا
امرأة واحدة/أورشليم
الأحد عشر/أورشليم
الأحد عشر/أورشليم
7 تلاميذ/الجليل
بولس
بطرس
الرسل
500 تلميذ
يعقوب وبقية الرسل
أعمال
الأحد عشر/أورشليم
عدد غير محدد من الظهورات خلال 40 يوما
تتفاقم هنا التناقضات التي تبدت لنا في قصة القبر الفارغ. فالشاهد الأول على ظهور يسوع إما امرأة واحد، أو اثنتان، أو تلميذان، أو تلميذ واحد، أو الأحد عشر. والمكان هو أورشليم. والشاهد الثاني إما الأحد عشر، أو بطرس وحده، أو الأحد عشر، والمكان إما في الجليل أو أورشليم. والشاهد الثالث إما الأحد عشر أو خمسمائة تلميذ. والمكان إما أورشليم أو مكان غير محدد. والشاهد الرابع إما سبعة تلاميذ، أو يعقوب ثم بقية الرسل. والمكان إما في الجليل أو في مكان غير محدد.
وهناك أمران ملفتان للنظر بشأن ظهورات يسوع؛ الأول هو أنه في بعض الظهورات لم يكن يبدو لناظره بشكله المعهود، ولذلك فإن المجدلية حسبته البستاني ولم تتعرف عليه إلا بعد أن تكلم معها. والتلميذان اللذان ظهر لهما وهما في الطريق إلى قرية قريبة من أورشليم لم يعرفاه وهو سائر معهما إلا بعد ساعة من الزمن عندما جلسوا لتناول الطعام.
والأمر المحير الثاني هو أن يسوع كان يظهر بهيئة جسمانية، ويؤكد لمن يراه أنه من لحم ودم، ويثبت ذلك بأن يتناول الطعام أمامهم ويدعوهم للمسه وتلمس مواضع الجراح في جسده. ولكنه في الوقت نفسه كان يتحرك مثل روح، فيظهر فجأة ثم يختفي كما ظهر، ويخترق الجدران والأبواب المغلقة، ويرتفع إلى السماء مخترقا قانون الجاذبية الذي يحكم الأجساد المادية. فعلى أي الحالين كان يسوع بعد قيامته؟ وهل كانت قيامته قيامة روح أم قيامة جسد؟
الصعود إلى السماء
الشاهد
المكان
مرقس
لا يوجد
لا يوجد
متى
لا يوجد
لا يوجد
لوقا
الأحد عشر
بيت عنيا
يوحنا
لا يوجد
لا يوجد
أعمال
الأحد عشر
أورشليم
بولس
لا يوجد
لا يوجد
نلاحظ هنا أن لوقا وحده قد أثبت صعود يسوع إلى السماء أمام تلاميذه، وذلك في العملين المنسوبين إليه؛ وهما إنجيل لوقا وأعمال الرسل. ولكن حتى هنا فإن رواية الصعود في الإنجيل تتناقض مع رواية الصعود في أعمال الرسل. ففي الإنجيل يخرج يسوع مع تلاميذه إلى بيت عنيا، وهناك: «باركهم، وبينما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء». وتعبير «انفرد عنهم» يتضمن أن يسوع كان وحيدا عندما صعد إلى السماء وأن أحدا من التلاميذ لم يشهد هذا الصعود. أما في رواية الأعمال فإن صعود يسوع يجري في أورشليم وأمام أعين التلاميذ الشاخصة أبصارهم إلى السماء.
إلى أين يقودنا كل ذلك؟ في الحقيقة إلى لا مكان. فقصة الإنجيل تنتهي على الطريقة التي أنهاها بها مرقس أي عند القبر الفارغ. وهذه واقعة يمكن تفسيرها بأن من كان مسئولا عن الدفن السريع والمؤقت، هو الذي أكمل إجراءات الدفن الرسمي ونقل جثمان يسوع إلى قبر دائم قبل أن يعرف التلاميذ بما حصل. وهذا ما سبب حيرة من جاء أولا لتفقد القبر ووجده فارغا. أما فيما يتعلق ببقية القصة من ظهورات يسوع وارتفاعه إلى السماء بهذا الجسد البشري، فليس بمقدورنا ترجيح إحدى الروايات، ولا حتى التوفيق فيما بينها في رواية واحد متسقة.
لقد قام يسوع من بين الأموات حقا وصدقا، ولكن قيامته لم تكن قيامة جسدية وإنما قيامة روحانية. وهذا ما سوف نستكمله في البحث القادم.
لغز قيامة يسوع
في تقصينا لمفهوم قيامة الموتى في تعاليم يسوع، وإشارته إلى قيامته هو نفسه في اليوم الثالث، يجب أن ننبه إلى أن هذا المفهوم لم يكن من مقومات العقيدة التوراتية. فالنظرة التوراتية لحياة ما بعد الموت لم تكن تختلف عما هو سائد في المنظومات الدينية المشرقية والكلاسيكية على حد سواء. فروح الميت تمكث مدة ثلاثة أيام إلى جانب جثمانه في القبر، ثم تهبط منه إلى هوة سفلية تدعى في التوراة شيئول (أو الهاوية وفق الترجمات العربية)، وهي تعادل العالم الأسفل المدعو كور في الديانة الرفادينية، وهاديس في الديانة اليونانية والرومانية. وهناك تستمر في وجود شبحي لا حرارة فيه ولا طعم. وعلى حد وصف سفر إشعيا فإن الموتى «يضطجعون معا لا يقومون. قد خمدوا كفتيلة انطفئوا» (إشعيا، 17: 43). ووصف سفر إرميا: «ينامون نوما أبديا ولا يستيقظون» (إرميا، 39: 51). هذا النوم الذي لا صحوة منه يعبر عنه أبلغ تعبير هذا المقطع من سفر أيوب: «لأن للشجرة رجاء إن قطعت تخلف أيضا ولا تعدم خراعيبها. ولو قدم في الأرض أصلها ومات في التراب جذعها فمن رائحة الماء تفرخ وتنبت فروعا كالغرس. أما الإنسان فيموت ويبلى، يسلم الروح فأين هو؟ يضطجع ولا يقوم» (أيوب، 14: 7-12).
وتوصف الهاوية التوراتية على أنها عالم أسفل يقع تحت عالمنا، وإليه تذهب جميع الأرواح لا فرق في ذلك بين صالح وطالح أو بين خاطئ ونبي. وها هو يعقوب أبو الأسباط يبكي يوسف ابنه الغائب الذي يعتقد أنه قد مات ومضى إلى الهاوية، ويأمل أن يموت ليلحق به : «وقام جميع بنيه وبناته يعزونه فأبى أن يتعزى وقال: إني أنزل إلى ابني نائحا إلى الهاوية» (التكوين، 37: 35). والنبي صموئيل وهو واحد من أعظم أنبياء التوراة يهبط بعد موته إلى الهاوية. وقد عمد الملك شاؤل إلى استحضار روحه من العالم الأسفل لكي يستشيره، وذلك بواسطة وسيطة روحانية. فصعد صموئيل من عالم الموتى على هيئة شيخ مغطى بجبة، فخر شاؤل على وجهه إلى الأرض وسجد. فقال صموئيل لشاؤل: «لماذا أقلقتني بإصعادك إياي؟ فقال شاؤل: قد ضاق بي الأمر جدا» (صموئيل الأول: 28).
وتوصف الهاوية التوراتية بأوصاف تشبه ما ورد في الميثولوجيا المشرقية القديمة. نقرأ في أسطورة هبوط عشتار إلى العالم الأسفل: «إلى الأرض التي لا عودة منها وجهت عشتار أنظارها. إلى دار الظلام ومسكن الإلهة إركالا، إلى الدار التي لا يرجع منها داخل إليها، إلى الدرب الذي لا يقود صاحبه من حيث أتى، إلى المكان الذي لا يرى سكانه نورا، حيث الغبار طعامهم والتراب معاشهم، يسبحون في الظلام فلا بصيص شعاع.»
1
ونقرأ في سفر أيوب: «وكنت كأني لم أكن قط، فأقاد من البطن إلى القبر. أليست أيامي إلى حين؟ فاكفف (يا رب) عني فأرتاح قبل أن أنصرف انصراف من لا يئوب إلى أرض ظلمة وظلال موت، أرض دجية حالكة كالديجور» (أيوب، 10: 19-22). وأيضا: «ما رجائي؟ إنما الهاوية بيتي وفي الظلام مهدت مضجعي. قلت للفساد أنت أبي وللديدان أنت أمي وأختي. إذن أين رجائي؟ رجائي من يراه؟ إنه يهبط إلى أبواب الهاوية» (أيوب، 10: 19-22).
ولم تكن بقية الشيع الدينية في فلسطين بدورها تؤمن بقيامة الموتى، ولم يكن القبر بالنسبة إليها إلا معبرا إلى عالم الأخيلة والظلال السفلى، شأنها في ذلك شأن بقية العبادات السورية. إلا أن التبادل الثقافي الذي حصل مع إيران خلال فترة الحكم الفارسي لبلاد الشام فيما بين عام 539ق.م. وعام 335ق.م. قد أدى إلى انتشار بعض الأفكار الدينية الزردشتية في المنطقة، وأهمها فكرة مخلص البشرية الذي سيظهر في نهاية الأزمان، وفكرة القيامة العامة للموتى وعودة الروح إليها من أجل الحساب الأخير. وقد أثرت الفكرة الأولى على نشوء المفهوم التوراتي المتعلق بالمسيح المنتظر، كما أثرت الفكرة الثانية على نشوء تصورات شعبوية عن بعث الموتى لم يتم تبنيها رسميا ولكنها ترسخت تدريجيا لدى إحدى الفرق اليهودية الرئيسية في القرن الأول الميلادي، وهي فرقة الفريسيين التي آمنت بقيامة الموتى في يوم الرب الأخير. أما فرقة الصدوقيين وهي الفرقة الرئيسية الثانية التي كانت مسيطرة على الهيكل وطقوسه، فقد بقيت ملتزمة التفسير الحرفي للتوراة وأنكرت البعث معتبرة أن الروح تموت مع الجسد وكلاهما لا يقوم. وفيما يتعلق بالفرقة اليهودية الثالثة وهي فرقة الأسينيين الأقل شأنا، فإن الشواهد من مخطوطاتها المكتشفة في موقع قمران، تكشف عن موقف ملتبس وغير واضح من هذه المسألة.
على أن هذا كله لا يستكمل المشهد الديني الفلسطيني في القرن الأول الميلادي. فإلى جانب الوثنية السورية التقليدية والفرق اليهودية، كان هنالك جيوب متفرقة من عبادات الأسرار، لعل أهمها شيعة جبل الكرمل التي كان لها مركز ديني مهم على ذلك الجبل، وكان أشبه بالمعهد الديني الذي يلتحق به الفتيان من أجل تلقي العلوم الدينية قبل التنسيب. وقد شاع صيت هذا المركز في العالم القديم وقصده عدد من الحكماء من أجل تلقي العلوم الروحانية، ومنهم فيثاغورث الذي تروي سيرة حياته عن اعتكافه مدة طويلة في جبل الكرمل، أكثر الجبال قداسة.
2
وعبادات الأسرار تؤمن ببعث الروح لا الجسد عن طريق الاتحاد بالإله المخلص، ولكن هذا البعث ليس عاما وإنما مقتصرا على من عبر إلى حلقة المريدين الضيقة ومارس طقوس الاستسرار.
وكان في فلسطين جماعات غنوصية متفرقة تنتمي إما إلى طريقة سمعان ماجوس أو إلى طريقة يوحنا المعمدان (راجع بحثنا السابق: يوحنا المعمدان وتاريخ طقس المعمودية). والغنوصية هي نظام ديني يقوم على مبدأ ثنائية الروح والجسد؛ حيث ينتمي الجسد إلى عالم المادة والظلام وتنتمي الروح إلى عالم الأنوار العلوي الذي منه هبطت وحلت في سجن المادة. وسوف تبقى الروح حبيسة هذا العالم المليء بالشر والألم، ورهينة دورة الميلاد والموت تنتقل من جسد إلى آخر، إلى أن تتعرف على أصلها من خلال فعالية العرفان الذي يقودها إلى الخلاص، عندما تنضو عنها رداءها المادي وتبدأ رحلة العودة إلى ديارها. وهنا يتحول القبر من بوابة إلى دورة تناسخ جديدة إلى بوابة نحو العالم النوراني العلي والحياة في الأبدية. فعلى عكس الزردشتية وغيرها من النظم الدينية اللاحقة التي تبشر ببعث أجساد الموتى في اليوم الأخير، فإن الخلاص الذي تبشر به الغنوصية هو خلاص الأرواح من الجسد ومن العالم في آن معا. أما الأجساد فتسقط ولا تقوم أبدا.
ولعل باستطاعتنا تلمس عقيدة بعث الأرواح في هذه الغنوصية الفلسطينية، من خلال تعاليم يوحنا المعمدان التي حفظتها لنا إلى اليوم طائفة الصابئة المندائيين. نقرأ في الكتاب المندائي المعروف بعنوان «تعاليم ومواعظ يحيى بن زكريا» ما يلي: «تكلم المسيح مخاطبا يحيى في أورشليم: يا يحيى، أستحلفك بالحي العظيم وبملاك الأحد الوقور، وبالدرب الذي سلكه المختارون الصالحون، حدثني ماذا تشبه سفينة صوارئيل؟ أخبرني عن النفس كيف تغادر الجسد وبماذا تكون متلفعة؟ وماذا تشبه وهي داخل الجسد الفاني؟ ...
لما توقف عيسى عن الكلام قال يحيى بصوت عال: ... النفس محتجبة، تدخل خفية إلى الجسد الفاني، وعندما يحين الأجل تنسل خفية متلفعة برداء النور وتصعد سفينة صورائيل. تظهر ثلاثة أشعة من الضوء تلحق بها ثم تجتازها. الأول يجتازها تاركا إياها عند المساء، والثاني يتركها عند الفجر، أما الثالث فيغادرها تاركا لها راية بيضاء.
تغضب النار، تتحرك النسمة منسلة من القدم إلى الركبة، وتقترب من الخاصرة، وتصل إلى القلب قابضة عليه، ثم تصعد حتى تأتي اللسان وتلتف عليه، فتغيم عينا الإنسان وتشحب سيماؤه وشفتاه. فيناديها صورائيل قائلا: انفصلي أيتها النسمة، لماذا ترقبين الجسد؟ فتجيب: يا صورائيل، أخرجني من جسدي، امنحني لباسي وحررني. يقول لها: هات أعمالك، فإن الأجر هو الذي سيمنحك رداءك. فتجيب: لا أعرف يا صورائيل أن أجلي قد حان، إنهم أرسلوك إلي. فإن كانت أعمالي حسنة أحضر ملابسي وألبسني إياها.
تخرج النسمة. يحمل الجسد أربعة رجال يرتدون ملابس النور، يسيرون نحو المدفن، يضعونه في حفرة ضيقة وبهدوء يوارونه الثرى. بحزن مكتوم ينسحبون الواحد بعد الآخر تاركين الجسد المغيب في اللحد. بعد ذلك يحضرون قدحا من الماء وبعضا من الخبز، وينسون الجسد.»
3
ونقرأ في التسبيح الثامن والثلاثين من الكتاب المقدس المندائي «كنزا ربا» ما يلي: «باسم الحي العظيم. أسمع صوت نفس ما وهي تخرج من جسد الحرمان، أسمعها وهي تقول: عارية أتيت إلى هذا العالم، فارغة منه أخرجوني مثل عصفور لم يرافقه شيء. ثم التفتت إلى الهيكل الذي منه خرجت قائلة: ماذا أفعل بك يا جسدي الباقي في هذا العالم؟ يا جمال جسدي الذي سيأكلك في القبر الدود، ماذا أفعل بك؟ يا قميص الورود، ماذا أفعل بك يا جسدي وأنت من طين جبلت؟ من كتلة طين جبلت أيها الجسد، واحتملت اضطهاد جميع الأشرار، فماذا أفعل بك؟ وبينما النفس تحدث جسدها، طار إليها رسول الحي. رسول الحي طار إليها وكلمها مشفقا عليها: هلمي أيتها اللؤلؤة التي من كنز الحي أخذت. هلمي أيتها الزكية التي عطرت هيكل الطين ذاك. هلمي أيتها المنيرة التي أضاءت بيتها المظلم. هلمي انزعي رداءك الطيني رداء الدم واللحم، والبسي رداء النور والضياء. البسي ثوب العطر والأريج، وضعي إكليلك البهيج، ثم اصعدي وأقيمي بين الأثيريين. مبارك الحي. ومبارك اسم الحي في بلد النور.»
4
من عرضنا هذا للمشهد الديني الفلسطيني في القرن الأول الميلادي، نخرج بنتيجة مفادها أن يسوع قد ظهر في بيئة دينية لم تكن تؤمن بالحياة الثانية، عدا قلة فريسية آمنت ببعث الأجساد المادية وعودة الروح إليها، وقلة قليلة غنوصية آمنت ببعث الأرواح دون أجسادها. وقد ركز يسوع في دعوته الموجهة إلى اليهود والوثنيين على مفهوم القيامة الروحية في مقابل مفهوم قيامة الجسد الذي يقول به الفريسيون المتأثرون بالأفكار الزرادشتية. وهذه القيامة تحصل في هذه الحياة عندما تتعرف الروح على أصلها السماوي وتولد ولادة ثانية «من الأعلى». نقرأ في إنجيل يوحنا: «ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلا إذا ولد من عل ... إلا إذا ولد وكان مولده من الماء والروح. فمولود الجسد يكون جسدا، ومولود الروح يكون روحا ... فالريح تهب حيث تشاء فتسمع هزيزها ولا تدري من أين تأتي ولا أين تذهب. تلك حالة مولود الروح» (يوحنا، 3: 3-8).
وقد شغل مفهوم ثنائية الروح والجسد وما يتصل به من مفهوم قيامة الروح حيزا كبيرا من تعاليم يسوع السرية، التي تظهرها هذه الأقوال من إنجيل توما:
5
قال يسوع: عندما تعرفون أنفسكم، تعرفون وتفهمون أنكم أبناء الآب الحي. ولكن إذا لم تعرفوا أنفسكم أقمتم في الفقر وكنتم الفقر (الفقرة 3). (المقصود بالفقر هنا هو الجسد من جهة والعالم المادي الأوسع من جهة ثانية).
قال يسوع: طوبى لمن يقف في البداية لأنه سوف يعرف النهاية، ولن يذوق الموت (الفقرة 18). طوبى لمن وجد قبل أن يخلق (الفقرة 19). (أي إن من يعرف نفسه يتوصل إلى معرفة أصله الروحاني القديم السابق على وجود في الجسد الأرضي.)
قال يسوع: طوبى للمتوحدين والمصطفين فإنكم ستجدون الملكوت، لأنكم منه أتيتم وإليه ترجعون (الفقرة 49).
قال يسوع: إذا سألوكم من أين جئتم، أجيبوهم: جئنا من النور، من المكان الذي انبثق فيه النور من تلقاء ذاته (الفقرة 50).
قال يسوع: من عرف حقيقة العالم عرف حقيقة الجسد، ومن عرف حقيقة الجسد فالعالم ليس أهلا له (الفقرة 56).
قال يسوع: عندما ترون مظهركم تسرون. ولكن هل ستتحملون رؤية صوركم التي وجدت قبلكم، والتي لا تموت ولا تتبدى؟ (الفقرة 84). (أي لا يدري المرء أن وراء صورته التي يزهو بها في هذا العالم، صورة أخرى نورانية موجودة منذ القدم، لا تموت مثل الصور المادية ولا تتمظهر على طريقتها.)
قال يسوع: الجسم العالة على جسم ما أشقاه، والنفس العالة على هذين الاثنين ما أشقاها! (الفقرة 87). (المقصود بالجسم الأول هو جسم الإنسان، والجسم الثاني هو العالم.)
قال يسوع: السماوات والأرض سوف تدرج أمام أنظاركم، ولكن من يحيا في الواحد الحي لن يرى الموت. ألم أقل لكم إن من وجد نفسه فالعالم ليس أهلا له.
مثل هذه الأفكار هي التي آمنت بها الحلقة الضيقة من أتباع يسوع، والتي عبر أفرادها إلى أسرار ملكوت الله التي لم تكن متاحة للذين هم «من خارج»، على حد وصف يسوع (راجع إنجيل مرقس، 4: 10-12). وعندما مات معلمهم كانوا على ثقة من أنه قام في اليوم الثالث قيامة روحية وجلس عن يمين الآب؛ لأن العالم الروحاني في الملأ الأعلى لا يقبل في نسيجه جسدا ثقيلا جاء من عالم المادة، وهذا الجسد سوف يكون غريبا في ذلك العالم مثل غربة ذلك العالم عنه. وإذا كان يسوع قد قام روحيا فإن هذه القيامة ستكون متاحة لكل من آمن به وسار على طريقه.
وقد عبر بولس الرسول في رسائله بأوضح شكل عن هذه التعاليم التي تلقاها من تلاميذ يسوع عندما تعمد ودخل إلى أسرار ملكوت الله. فبولس لم يتحدث أبدا عن قيامة جسدية ليسوع، ومن رآه من التلاميذ بعد قيامته قد واجهه على المستوى الروحاني. فالجسد عند بولس يشكل غربة عن الله، والإنسان لا يدخل ملكوت الله إلا إذا تخلى عن جسده. يقول في رسالته الثانية إلى أهالي كورنثة: «ولذلك لا نزال واثقين كل الثقة عارفين أننا ما دمنا في هذا الجسد فنحن متغربون عن الرب لأننا نهتدي بإيماننا لا بما نراه. فنحن إذن واثقون، ونفضل أن نغترب عن هذا الجسد لنقيم مع الرب» (2 كورنثة، 5: 6-8). والجسد الذي يدفن في القبر يكون جسما ماديا ولكنه يبعث جسما روحانيا: «يدفن الجسم في فساد ويقام في عدم فساد، يدفن في هوان ويقام في مجد، يدفن في ضعف ويقام في قوة، يدفن جسدا حيوانيا ويقام جسما روحانيا ... كما هو الترابي هكذا الترابيون أيضا، وكما هو السماوي هكذا السماويون أيضا، وكما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضا صورة السماوي. أقول لكم أيها الإخوة إن لحما ودما لا يقدران أن يرثا ملكوت الله، ولا يرث الفساد عدم الفساد» (1 كورنثة، 15: 42-50).
في هذا المقطع يبسط بولس جوهر تعاليم يسوع المتعلقة ببعث الروح وخلودها، ويعبر عن الشكل الأقدم لعقيدة القيامة كما آمن بها الخاصة من تلاميذ يسوع، وكما فهموا من خلالها قيامة معلمهم. فإذا كان الفساد لا يرث عدم الفساد، فإن يسوع لم يصعد إلى السماء بجسده العنصري وإنما بروحه، أو بجسده المجيد الذي تغير، على حد تعبير بولس: «أما نحن فموطننا في السماوات، ومنها ننتظر المخلص يسوع المسيح، الذي يبدل جسدنا الحقير فيجعله على صورة جسده المجيد» (فيليبي، 2: 20-21). وعندما تحدث بولس عن ترائي يسوع القائم من بين الأموات للرسل ثم ترائيه له أخيرا وهو على الطريق إلى دمشق، فقد كان يتحدث عن مواجهة مع يسوع على المستوى الروحاني لا على المستوى المادي. ويسوع عندما كلم بولس لم يظهر له في هيئة مادية وإنما عبر عن حضوره من خلال نور سطع من السماء وأضاء حول بولس. نقرأ في سفر أعمال الرسل: «وإنه لسائر وقد اقترب من دمشق، إذن نور من السماء قد سطع حوله، فسقط إلى الأرض وسمع هاتفا يقول له: شاؤل، شاؤل، لماذا تضطهدني؟ فقال له: من أنت يا سيدي؟ قال: أنا يسوع الذي أنت تضطهده» (أعمال، 8: 3-5).
كيف إذن تحولت قيامة يسوع من قيامة روحانية آمن بها بولس بعد أن شعر بحضور يسوع غير المرئي، إلى قيامة جسدية عند مؤلفي الأناجيل الذين حشدوا لها عددا من الشهود لم تتفق شهاداتهم بخصوص ما رأوا وما سمعوا؟ في الحقيقة لا يمكننا فهم هذا التحول إلا من خلال صراع التيارات المتخالفة ضمن الجماعات المسيحية المبكرة، ورجحان كفة اليهود المتنصرين من ذوي الخلفية الفريسية، والذين جلبوا معهم فكرة بعث الأجساد وفرضوها على العقيدة المسيحية خلال عقود التكوين الأولى.
على أن مفهوم البعث الروحاني ليسوع بقي حيا لدى الفرق المسيحية الغنوصية وكان بمثابة حجر الزاوية في تعاليمها التي لا ترى في القيامة الجسدية سوى مباركة الجسد المادي الذي يسعى الغنوصي للتخلص منه. والمسيحيون الغنوصيون ينقسمون إلى فريقين في نظرتهم إلى قيامة يسوع. فالفريق الأول يميز بين يسوع الأرضي المولود من امرأة والمسيح السماوي الموجود لدى الآب منذ القدم، وقد هبط هذا المسيح السماوي على يسوع وتطابق معه لحظة خروجه من الماء بعد أن تعمد على يد يوحنا المعمدان، ثم غادره عندما مات على الصليب. ونستطيع تلمس مثل هذه الأفكار في عدد من النصوص المنسوبة إلى المعلم فالنتينوس الذي كان عضوا في كنيسة الإسكندرية قبل أن يؤسس طائفته الغنوصية الخاصة، ونصوص أخرى منسوبة إلى تلاميذه، ومنها نص حوار المخلص، والرسالة الثلاثية، وإنجيل الحقيقة، وتفسير الغنوص، وجميعها من نصوص مكتبة نجع حمادي.
6
أما الفريق الثاني فقد تبنى مفهوما أكثر راديكالية؛ إذ يرى أن ظهور المسيح بين الناس لم يكن إلا ظهورا شبحيا على الرغم مما تبدى للناس من ماديته. فلقد هبط المسيح من السماء هبوطا روحانيا وصعد صعودا روحانيا من غير أن تمسه أدران المادة. ويعبر عن هذا الاتجاه أفضل تعبير النص الغنوصي المعروف بعنوان أعمال يوحنا. فقد لاحظ يوحنا خلال مرافقته ليسوع أن قدميه لم تكونا تتركان أثرا على الأرض وأن عينيه لم تكونا ترمشان أبدا. وبعد أن أسلم يسوع إلى الصلب وهرب تلاميذه، مضى يوحنا وقبع في كهف يبكي. عندها تراءى له يسوع وقال له: بالنسبة للناس هناك في الأسفل، أنا مصلوب وخاصرتي مثقوبة بالرمح وأتجرع الخل والمرار، ولكني بالفعل لم أعان أيا من هذه الأمور. وها أنا ذا معك فاستمع لما أقول.
7
وفي الحقيقة فإن المتتبع للتطورات اللاهوتية التي طرأت على العقيدة المسيحية خلال القرون الخمسة أو الستة التي أعقبت وفاة يسوع، ليعجب من تعايش مفهوم القيامة الجسدية ليسوع مع الاتجاه الذي كان يركز أكثر فأكثر على ألوهيته، على الرغم من استحالة التوفيق بين جوهر الجسد وجوهر الألوهة. هذا العجب يبلغ أشده بعد إصرار اللاهوت المسيحي على تبني مفهوم القيامة الجسدية مع تبنيه في الوقت نفسه لعقيدة الثالوث. فكيف يكون يسوع في السماء أحد تجليات الثالوث الأقدس مع احتفاظه بجسده الذي يحمل آثار الثقوب في يديه وأثر الحربة في جانبه؟ وكيف يلتقي جوهر الألوهة بجوهر الجسد في الحقيقة الكلية التي يمثلها الثالوث؟
نظرية المؤامرة
هل نجا يسوع من الصلب؟
في بستان جتسماني بعد العشاء الأخير صلى يسوع للآب قبل القبض عليه قائلا: «يا أبتا، كل شيء مستطاع لك، فأجز عني هذه الكأس. ولكن لا كما أنا أشاء بل كما أنت تشاء .» وهذا يعني في رأي من تبنى نظرية المؤامرة في تفسير واقعة الصلب، أن يسوع كان يتوقع تدخلا إلهيا يصرف عنه كأس الموت المرتقبة، وأنه إلى جانب ذلك قد تدخل بشكل مباشر في تحقيق الفعل الإلهي المرتقب، من خلال مؤامرة مدبرة قادت إلى إنزاله حيا عن الصليب. وفي رأي هؤلاء فإن يسوع قد وعى مضامين النبوءات التوراتية المتعلقة بمصير عبد يهوه البار، والتي تتوقع نجاته من أيدي مضطهديه بعد معاناته للآلام. ومنها على سبيل المثال: «كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب» (المزمور، 34: 3). «الصديق ينجو من الضيق ويأتي الشرير مكانه» (أمثال، 11: 8). «من يقف لي ضد فعلة الإثم؟ لولا أن الرب معيني لسكنت نفسي سريعا أرض السكون. إذا قلت قد زلت قدمي فرحمتك يا رب تعضدني ... يحكمون على نفس الصديق ويحكمون على دم زكي، فكان الرب لي صرحا وإلهي صخرة ملجئي، ويرد عليهم إثمهم وبشرهم يفنيهم» (المزمور، 94: 16-23). «لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع قدوسك يرى فسادا. تريني طريق الحياة» (المزمور، 16: 10-11). «إذا سرت في ظل وادي الموت لا أخاف شرا لأنك أنت معي» (المزمور، 23: 4).
ولنتابع الآن نظرية المؤامرة كما بسطها عدد من الباحثين المعاصرين، وجلهم من اليهود.
فقد أعد يسوع خطته بحيث لا يأتي اعتقاله مبكرا أو متأخرا عن مساء يوم الخميس بعد تناوله عشاء الفصح مع تلاميذه. وحسب توقعه فإن ساعات قليلة سوف تكون كافية من أجل إجراءات المحاكمة التي لن تستغرق طويلا لأن التهمة هي التحريض ضد روما، وهذا يعني أنه لن يبقى على الصليب أكثر من بضع ساعات وسيتم إنزاله قبل مساء يوم الجمعة، أي مع حلول ليلة السبت التي لا يجوز أن يبقى فيها محكوم على الصليب. وفي هذه الحالة فإن فرصته في النجاة ستكون كبيرة وسيكون من الميسور إنعاشه ومداواة جروحه؛ لأن الموت على الصليب لا يأتي عادة قبل مرور يومين أو ثلاثة على أقل تقدير. وإذا كان يسوع مقتنعا من تفسيره للنبوءات التوراتية بأن المسيح سوف يتألم على الصليب ولكنه لن يموت عليه، فمن الطبيعي أن يكون قد اتخذ مسبقا الإجراءات الكفيلة بإنقاذ حياته.
ولقد بقي يسوع على الصليب ست ساعات وفق رواية مرقس وما يمكن أن نستنتجه من رواية متى ولوقا، وثلاث ساعات وفق رواية يوحنا. ولكن هذا في حد ذاته لم يكن كافيا، لأن إنزال المصلوبين كان يسبقه في مثل هذه الحالة كسر سيقانهم من أجل التعجيل بموتهم، وكان على يسوع أن يبدو في حالة موت حقيقي كيلا تكسر ساقاه، وأن يسلم جسده إلى أياد أمينة وصديقة لتعمل على إنعاشه، وإلا رمي في قبر عشوائي على ما جرت عليه العادة في التعامل مع جثث المحكومين من اللصوص والمشاغبين السياسيين. وهذا ما خطط له يسوع بالتعاون مع يوسف الرامي، الذي يصفه متى بأنه رجل غني كان قد تتلمذ ليسوع، ويصفه مرقس بأنه عضو بارز في المجلس اليهودي وكان من الذين ينتظرون ملكوت الله، ويصفه لوقا بأنه عضو في المجلس ورجل بار لم يوافقهم على خطتهم وأعمالهم. وفي إنجيل يوحنا نجد أن يسوع يشرك في خطته عضوا آخر في المجلس اليهودي كان أيضا تلميذا سريا له يدعى نيقوديمس.
ولقد قامت خطة يسوع ومساعديه على ترتيبين أساسيين، الأول إعطاء يسوع شرابا من شأنه أن يسبغ عليه كل مظاهر الموت، والثاني استلام يوسف الرامي لجسده بأسرع وقت ممكن بعد ذلك. ولغاية الحفاظ على سرية الخطة وضمان نجاحها، كان عليها أن تشتمل على أقل عدد ممكن من المشاركين بها، ولم يكن بين هؤلاء أحد من الرسل الاثني عشر على ما بينت لنا الأحداث اللاحقة. وقد جرى تنفيذ الترتيب الأول بالتعاون مع أحد المشاركين في عملية الصلب، عندما غمس إسفنجة في إناء خل مجهزة مسبقا ورفعها على قصبة وأدناها من فم يسوع بعد أن قال: أنا عطشان. فلما ذاق يسوع الخل حنى رأسه وأسلم الروح. وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون، فإن هذه العملية لم تكن إجراء ساديا يهدف إلى السخرية من المصلوب، وإنما إجراء اعتياديا في مثل هذه الأحوال من شأنه إنعاش وتقوية المصلوب لما للخل من تأثر منبه. ولذلك من الغريب أن تكون ردة فعل يسوع هي العكس من ذلك تماما. والحقيقة هي أن ما قرب إلى يسوع ليشربه لم يكن خلا وإنما مركب يحتوي على الأفيون أو نوع آخر من المخدر ربما كان حشيشة البلادونا، من شأنه أن يجعل متناوله في حالة تشبه الموت. ويجب أن نلاحظ هنا أن الإسفنجة المغمسة بالخل لم تقدم إلا إلى يسوع من دون الآخرين المصلوبين معه.
عندما تلقى الجنود الأمر بكسر سيقان المصلوبين، عمدوا إلى كسر سيقان اللص الأول الذي صلب معه ثم اللص الآخر، وعندما وصلوا إلى يسوع رأوه قد مات فلم يجدوا حاجة إلى كسر ساقيه. ولكن شيئا غير متوقع حدث عندما قام أحدهم بطعن يسوع بحربة في جنبه، فخرج على إثرها دم وماء. وخروج الدم من الجسد يعني أن يسوع لم يكن بعد ميتا، ولكن حظوظه في النجاة لم تعد الآن قوية مثلما كانت. وهنا أسرع الشخص الذي سقى يسوع المخدر إلى يوسف الرامي وأبلغه بما حدث، فتوجه يوسف الرامي لساعته إلى بيلاطس وطلب جسد يسوع، فمنحه إياه بعد أن تأكد من الضابط الروماني المشرف على العملية من موت يسوع. فقام يوسف ونيقوديمس وشخص ثالث معهما بدفن جسد يسوع في قبر جديد يقع في بستان قريب ربما كان ملكا ليوسف الرامي نفسه. أما الشخص الثالث فربما كان من سقى يسوع الشراب، أو البستاني الذي يعنى بأرض يوسف الرامي.
بعد إجراء بعض الإسعافات الأولية على جسد يسوع، جرى لفه بالكتان النقي ودهنه بخليط من المر والعود، الأمر الذي أوقف مؤقتا تدهور حالته، ثم ترك في القبر إلى مساء يوم السبت عندما تم نقله إلى مكان آخر من أجل إتمام عملية الإنعاش والإسعاف. ويبدو أن يسوع قد استعاد وعيه لفترة من الزمن وظن أنه سوف ينجو، فأوصى منقذيه أن يوصلوا رسالة منه إلى التلاميذ يطلب فيها منهم أن يسبقوه إلى الجليل حيث سيجتمع بهم هناك.
عند فجر يوم الأحد جاءت مريم المجدلية إلى القبر مع اثنتين أخريين ليجدن أن الحجر قد دحرج عن مدخل القبر، ولما دخلن لم يجدن جثمان يسوع وأبصرن شابا يرتدي الأبيض جالسا هناك قال لهن بأن يسوع قد قام وأن عليهن أن يذهبن ويقلن للتلاميذ أن يذهبوا إلى الجليل وهناك يرونه. هذه القصة التي رواها مرقس عن الشاب الموجود في القبر، نجد لها تنويعا في رواية يوحنا، فبعد أن أخبرت المجدلية بطرس والتلميذ الحبيب عن القبر الفارغ، هرع الاثنان وتأكدا من روايتها ثم عادا ولبثت هي وحيدة تبكي. ثم حانت منها التفاتة ورأت شخصا ما وراءها ظنته البستاني، ولكنه عندما ناداها باسمها تراءى لها على هيئة يسوع، فمضت وأخبرت التلاميذ بأنها رأت المعلم وأنه قال لها كذا وكذا. وبذلك تم التأسيس لفكرة قيامة يسوع الجسدية في تفسير واقعة القبر الفارغ، وتحول الشاب الذي ساهم في نقل جسد يسوع ثم عاد ليوصل رسالته إلى تلاميذه، إلى يسوع نفسه في عقل المجدلية المضطرب. وبعد ذلك صار التلاميذ مهيئين من الناحية العقلية والعاطفية لتفسير رؤى معينة على أنها مواجهة مع المعلم القائم من الأموات. ففي رواية لوقا عن الظهور الأول ليسوع، هنالك تلميذان كانا متوجهين إلى قرية قريبة من أورشليم، عندما دنا منهما رجل غريب وسار معهما مسافة طويلة وهما يحدثانه عن القبر الفارغ، وعندما جلس معهما إلى الطعام وكسر الخبز انفتحت أعينهما وعرفا أنه يسوع ولكنه توارى عنهما. وفي رواية يوحنا عن الظهور الأخير ليسوع عند بحيرة طبريا، فإن التلاميذ لم يكونوا متأكدين تماما من أن الشخص الذي أمامهم هو يسوع، وعلى حد قول النص: «فقال لهم يسوع هلموا إلى الطعام. ولم يجرؤ أحد من التلاميذ أن يقول له من أنت لعلمهم أنه الرب.» ولدينا ملاحظة تركها لنا مؤلف إنجيل متى عندما وصف الظهور الوحيد ليسوع، وهو الظهور الذي حصل في الجليل، حيث قال: «فلما رأوه سجدوا له ولكن بعضهم ارتابوا» (متى، 28: 17). وهذه الملاحظة إذا فهمت على ضوء ما تقدم، فإنها تعني أن التلاميذ لم يكونوا على بينة تامة من أن الذي رأوه هو يسوع.
في هذه الأثناء كان يسوع يعاني سكرات الموت في المكان الذي نقل إليه بعد أن فشلت كل الجهود في شفائه. وعندما أسلم الروح لم يكن بالإمكان إعادته إلى القبر السابق من جديد، فدفن في قبر مجهول.
1
هذه هي الصيغة الأولى من نظرية المؤامرة في صلب يسوع، أما الصيغة الثانية فتسير على الخطوط العامة نفسها ولكنها تنتهي بإنعاش يسوع ونجاته. وقد جرى إشراك الوالي بيلاطس في المؤامرة عن طريق رشوته بمبلغ كبير من المال من أجل إنقاذ بريء لم يكن موافقا من حيث المبدأ على إعدامه، وهذا ما يفسر السهولة التي قبل بها بيلاطس منح جسد يسوع ليوسف الرامي. وكما يمكن أن نفهم من رواية إنجيل يوحنا، فإن عملية الصلب لم تجر فوق تلة قاحلة تشبه الجمجمة، وإنما ضمن ملكية خاصة فيها بستان يحتوي على قبر جديد لم يدفن فيه أحد، وهذه الملكية تعود ليوسف الرامي. وبما أن عملية الصلب قد تمت على مبعدة من الناس الذي كانوا يرقبون «عن بعد» على حد وصف إنجيل لوقا 23: 49، فقد كان بإمكان المتآمرين التصرف بحرية، وإجراء صلب وهمي مدبر بمهارة بحيث لا يبدو لأنظار المشاهدين عن هذه المسافة البعيدة من هو الذي صلب أو ما إذا كان في الحقيقة قد مات. وعند حلول الغسق الذي ساهم في صعوبة الرؤية بالنسبة للمشاهدين، تم إنزال يسوع عن الصليب وأودع في القبر القريب، ومنه نقل في اليوم الثاني إلى حيث عولج واسترد عافيته. وبعد أن دبر أمر ترحيل زوجته مريم المجدلية وأولاده بمعونة يوسف الرامي الذي أبحر بهم إلى مرسيليا، اختفى ولم يعثر له على أثر بعد ذلك. أما سلالة يسوع فقد وطدت نفسها في فرنسا، ومنها نشأت عدة أسر ملكية أهمها أسرة الميروفنجيين التي حكمت في المناطق التي تعرف الآن بفرنسا وألمانيا فيما بين القرن الخامس والقرن السابع.
أما يسوع، فمن الممكن أنه بقي متخفيا في فلسطين لأن وجوده مع العائلة المقدسة يشكل خطرا على أمنها، أو أنه سافر إلى الإسكندرية أو إلى مكان آخر في الشرق. وفي عام 1972م حاجج صحفي أسترالي بأن يسوع سافر إلى الشرق ثم رجع إلى فلسطين ليلتحق بالثورة اليهودية ضد الرومان التي اندلعت عام 66م، وأنه كان بين آخر المدافعين عن قلعة مسعدة الذين قاموا بانتحار جماعي قبل تسليم الموقع إلى الجيش الروماني. ويقول هذا الصحفي المدعو
Donovan Joyce
في كتابه المعنون
Jesus Scroll ، بأنه عندما كان في إسرائيل طلب إليه المساعدة في تهريب لفيفة مسروقة من عمليات التنقيب في مسعدة إلى خارج البلاد ولكنه رفض. وهو يدعي أنه رأى اللفيفة وكانت موقعة باسم «يسوع بن يعقوب من جينيسارت (= بحر الجليل)» الذي يصف نفسه بأنه كان في الثمانين من العمر عند سقوط القلعة وأنه آخر الملوك الشرعيين لإسرائيل.
2
ومن المعروف وفق سلسلة نسب يسوع الواردة عند متى أن الجد المباشر ليسوع كان يدعى يعقوب.
وهنالك موروثات إسلامية وهندية تتحدث عن نجاة يسوع من الصلب وسفره إلى الهند؛ حيث قضى ما تبقى من عمره في منطقة كشمير ودفن هناك. وقد كان لا بد من شيوع مثل هذه القصص استنادا إلى أن القرآن الكريم نفى أن يكون عيسى المسيح قد مات قتلا أو صلبا على يد اليهود، على ما ورد في سورة النساء:
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما * وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا (النساء: 155-159). وما يمكن لنا أن نفهمه من هذا المقطع الذي اختلف فيه المفسرون إلى يوم الناس هذا دون أن يصلوا إلى اتفاق، هو أن اليهود لم يكونوا متيقنين من قتل يسوع (وما قتلوه يقينا) ولكن اشتبه عليهم موته (ولكن شبه لهم). أما عن رفع عيسى إلى السماء فقد حصل بعد نجاته من اليهود واستيفائه أجله الطبيعي، على ما نفهم من قوله تعالى في سورة آل عمران:
يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة (آل عمران 55). أي إن رفع عيسى إلى السماء قد حصل بعد وفاته عندما حان أجله، وهذا الرفع كان رفعا روحانيا لا جسديا. وإذا كان القرآن قد تحدث عن عودة عيسى في آخر الزمان كإحدى علامات يوم القيامة، فإنه يتحدث عنه باعتباره أول المبعوثين من القبر في قيامة الموتى العامة.
وتقول هذه الموروثات الهندية والإسلامية إن عيسى قد دفن في مدينة سري نكار بولاية كشمير في شمال الهند، وقبره قائم إلى اليوم ويدعى من قبل السكان المحليين بمزار يوز آسف نبي الله، وهو واقع في محلة للمسلمين لا يسكنها الهنود وليس لهم فيها مقابر. وتقول الأخبار المتداولة بين هؤلاء المسلمين الذي يعظمون القبر ويزورونه، إنه يضم رفات النبي يوز (= يسوع) الذي جاء إلى كشمير قبل البعثة المحمدية بستمائة سنة ، وهذه هي الفترة الزمنية الفاصلة بين حياة عيسى وحياة نبي الإسلام.
3
بولس النبي
أضواء على شخصيته وحياته
يعتبر بولس الشخصية الأكثر توثيقا والأكثر إشكالية في كتاب العهد الجديد، وتعتبر رسائله الأربع عشرة التي دونت بين عام 51 وعام 65م بمثابة الأساس الذي قام عليه الهيكل السامق للاهوت المسيحي. وبدون هذه الرسائل ربما كانت المسيحية ستغدو عقيدة مختلفة تماما عما هي عليه الآن. وهناك اتفاق بين الباحثين اليوم على اعتبار رسالته المعنونة «إلى العبرانيين» رسالة منحولة، كما يشك البعض في أصالة عدد آخر من الرسائل المنسوبة إليه. ولكن هذه الرسائل المشكوك في أصالتها تنسج على منوال الفكر البولسي نفسه، وتشكل امتدادا لتعاليمه التي بسطها في بقية الرسائل المتفق على أصالتها والتي تزيد عن نصف مجموع الرسائل.
وعلى الرغم من أنه لم يعرف يسوع بالجسد ولم يلتق به في حياته، إلا أنه اعتبر نفسه رسولا، بل فوق بقية الرسل، لأنه تلقى البشارة وحيا من يسوع المسيح القائم من بين الأموات، من يسوع السماوي الجالس عن يمين الآب: «فأذكركم أيها الإخوة، أن البشارة التي بشرتكم بها ليست على سنة البشر، لأني ما تلقيتها ولا أخذتها عن إنسان بل عن وحي من يسوع المسيح» (غلاطية، 1: 11-12). فهو رسول مختار من يسوع ومن الله في آن معا: «من بولس. وهو رسول، لا من قبل الناس ولا باختيار إنسان بل باختيار يسوع المسيح والله الآب الذي أقامه من بين الأموات» (غلاطية، 1: 1). «من بولس الذي شاء الله أن يدعوه ليكون رسول المسيح يسوع» (1 كورنثة: 1). «من بولس رسول المسيح يسوع بمشيئة الله» (2 كورنثة: 1). «ألست رسولا؟ أو ما رأيت ربنا يسوع؟» (1 كورنثة، 9: 1).
هذه المواجهة مع المسيح ينقلها لنا سفر أعمال الرسل على لسان بولس نفسه: «وإني لسائر وقد اقتربت من دمشق، إذا نور من السماء قد سطع حولي عند الظهر، فسقطت إلى الأرض وسمعت هاتفا يقول لي: شاؤل، شاؤل، لماذا تضطهدني؟ فقلت: من أنت سيدي؟ قال: أنا يسوع الناصري الذي أنت تضطهده. وكان رفقائي يرون النور ولا يسمعون صوت من يخاطبني . فقلت: سيدي، ماذا أعمل؟ فقال لي الرب: هلم فاذهب إلى دمشق تخبر فيها بما قضي عليك بأن تعمل» (أعمال، 22: 6-10). بعد ذلك جرى اقتياد بولس إلى دمشق وقد فقد بصره من شدة الضوء الذي سطع أمامه، وهناك جاءه حنانيا زعيم الجماعة المسيحية فيها وقال له: أبصر فأبصر. وقال له: «إن إله آبائنا قد اختارك بسابق علمه لتعرف مشيئته وترى البار (= يسوع) وتسمع الدعوة من فمه، فإنك ستكون شاهدا له لدى جميع الناس بما رأيت وسمعت، فما لك تتلكأ؟» (أعمال، 22: 10-16). بعد ذلك رجع بولس إلى أورشليم ولكنه لم يجتمع بأحد من الرسل. وبينما هو يصلي غاب عن الحس وسمع صوت يسوع المسيح يقول له: «هلم فاخرج من أورشليم لأنهم لن يقبلوا شهادتك لي ... اذهب إني مرسلك إلى مكان بعيد إلى الوثنيين» (أعمال، 22: 17-21).
قبل أن يباشر بولس مهامه التبشيرية اعتكف في الصحراء في ديار الأنباط مدة من الزمن يتأمل في رسالة يسوع وفي برنامجه التبشيري المقبل، الذي سيقوده منفردا ومن دون التنسيق مع كنيسة أورشليم، أو استشارة بقية الرسل. يقول في رسالته إلى أهالي غلاطية: «ولكن لما شاء ذاك الذي اصطفاني مذ كنت في بطن أمي فدعاني بنعمته، وكشف ابنه في لأبشر به بين الوثنيين، لم أستشر الدم واللحم (= الرسل) ولا صعدت إلى أورشليم لألقى من تقدمني من الرسل، بل ذهبت من ساعتي إلى ديار العرب، ثم عدت إلى دمشق. وبعد ثلاث سنوات صعدت إلى أورشليم لألقى صخرا (= بطرس)، فأقمت عنده خمسة عشر يوما ولم أر غيره من الرسل سوى يعقوب أخي الرب. وأشهد الله وأنا أكتب إليكم بذلك على أني لا أكذب. ثم أتيت بلاد سوريا وكيليكيا» (غلاطية، 1: 15-21).
ويبدو أنه خلال اعتكافه في الصحراء حصلت له التجربة الروحية العنيفة التي يصفها في رسالته الثانية إلى أهالي كورنثة، عندما عرج به إلى السماء وسمع ما لا يحق له أن ينطق به: «وإن كان لا بد من الافتخار مع أنه لا خير فيه، فإني أنتقل إلى رؤى الرب ومكاشفاته. أعرف رجلا مؤمنا بالمسيح اختطف إلى السماء الثالثة منذ أربع عشرة سنة. أبجسده؟ لا أعلم، أم بغير جسده؟ لا أعلم، الله أعلم. وإنما أعلم أن هذا الرجل اختطف إلى الفردوس. أبجسده؟ لا أعلم، أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله أعلم. وسمع كلمات لا تلفظ ولا يحل لإنسان أن يذكرها. أما ذلك الرجل فإني أفخر به، وأما أنا فلا أفتخر إلا بحالات ضعفي ... ومخافة أن أتكبر بسمو المكاشفات أوتيت شوكة في جسدي، رسول الشيطان وكل إليه بأن يلطمني لئلا أتكبر» (2 كورنثة، 12: 1-7).
وهكذا، فمع بولس نحن أمام ظاهرة نبوة حقيقة. فهو قد اختير بسابق علم الله من بطن أمه ليبشر بين الوثنيين باسم يسوع، ونزل عليه وحي من الآب ومن الابن وسمع منهما ما يتوجب عليه القيام به، وعرج إلى السماء الثالثة؛ حيث زار الفردوس وسمع وحيا آخر لا يستطيع الإفضاء به. ومن كان هذا شأنه فقد تجاوز المرتبة الرسولية؛ لأن الرسل قد عرفوا يسوع بحسب الجسد أما هو فقد عرفه بحسب الروح بعد أن تمجد مسيحا وجلس عن يمين الآب. ولكن هذا المنطق لم يكن مقبولا من ناحية الرسل، لأن للمرتبة الرسولية عندهم متطلباتها التي لا تنطبق على بولس. فعندما اجتمعوا لاختيار خلف ليهوذا الخائن، على ما يورده سفر أعمال الرسل، حددوا الشروط الواجب توفرها في الرسول: «فيجب إذن اختيار واحد من هؤلاء الرجال الذين صحبونا طوال المدة التي قضاها الرب يسوع بيننا، منذ أن عمده يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنا، ليكون شاهدا معنا على قيامته» (أعمال، 1: 21-22). وبعد إلقاء القرعة على كل من يوسف الذي يقال له برسابا، ومتيا، أصابت القرعة متيا فضم إلى الرسل الأحد عشر.
من هنا فقد كان على بولس، مع اقتناعه بنبوته، أن يسعى للاعتراف به رسولا من قبل الجماعات التي راح يبشر بينها. وها هو يقول بمرارة لأهالي كورنثة: «ألست حرا؟ ألست رسولا؟ أما رأيت ربنا يسوع؟ ألستم أنتم صنائعي في الرب؟ إن لم أكن رسولا عند غيركم فأنا رسول عندكم. لأنكم أنتم خاتم رسالتي في الرب» (1 كورنثة، 9: 1-2). وعلى الرغم من أنه عمل منفردا في بداية الأمر ودون تنسيق مع كنيسة أورشليم، إلا أنه سعى فيما بعد للاعتراف به كرسول إلى الوثنيين، وحصل على هذا الاعتراف من خلال صدقه في الدعوة وقوة شخصيته وتفوقه الفكري. وهو يروي في الرسالة إلى أهالي غلاطية عن اتفاق جرى بينه وبين بطرس ويعقوب ويوحنا، يعهدون إليه بموجبه التبشير بين القلف (الوثنيين غير المختونين). وقد جرى هذا الاتفاق خلال الزيارة الثانية التي قام بها بولس إلى أورشليم بعد مرور نحو إحدى عشرة سنة على زيارته الأولى: «وبعد أربع عشرة سنة (من اهتدائه) صعدت ثانية إلى أورشليم مع برنابا واستصحبت طيطس، وكان صعودي إليها بوحي. وعرضت عليهم البشارة التي أعلنها بين الوثنيين ... أما الذين كانوا يحسبون أعيانا فإنهم لم يزيدوا شيئا بل رأوا أنه عهد إلي في تبشير القلف كما عهد إلى بطرس في تبشير المختونين، لأن الذي أيد بطرس في رسالته لدى المختونين أيدني في رسالتي لدى الوثنيين. ولما عرف يعقوب وصخر ويوحنا، المعتبرون أنهم أعمدة الكنيسة، ما أعطيت من نعمة، مدوا إلي وإلى برنابا يمنى الاتفاق، فنذهب نحن إلى الوثنيين وهم إلى أهل الختان» (غلاطية، 2: 1-10).
وقد أورد مؤلف سفر أعمال الرسل قصة هذه الزيارة بتفصيل أكثر. فقد جاء إلى بولس في أنطاكية أناس من أتباع كنيسة أورشليم وأخذوا يعلمون الوثنيين الذين تنصروا على يد بولس، ويقولون لهم إن عليهم أن يختتنوا وفق شريعة موسى وإلا فلا خلاص لهم. فوقع خلاف بينهم وبين بولس وبرنابا فأجمعوا على أن يصعد بولس وبرنابا وأناس منهم آخرون إلى أورشليم حيث الرسل والشيوخ للنظر في هذه المسألة. فاجتمع في أورشليم الرسل والشيوخ، وبعد جدال طويل مع الذين كانوا يطالبون الوثنيين بالاختنان والحفاظ على شريعة موسى، اتخذ المجلس قراره الذي تلاه يعقوب على الجميع وهو يحرر الوثنيين من الشريعة مع الالتزام بأربعة بنود فقط؛ وهي اجتناب ذبائح الأصنام، والزنى، والميتة، والدم (أعمال، 15: 1-20).
ولم يجتمع بولس ببطرس بعد ذلك إلا مرة واحدة، وذلك عندما قام بطرس بزيارة إلى أنطاكية حيث أقام عند بولس وبرنابا، وكان يجلس إلى مائدة واحدة مع الوثنيين المهتدين. ولكن عندما التحق به جماعة من أهل الختان قادمين من أورشليم، أدار بطرس ظهره للوثنيين ولم يؤاكلهم خوفا من لوم أهل الختان له، فانفجر بولس في وجهه وانتقده متهما إياه بالرياء. نقرأ في الرسالة إلى أهالي غلاطية: «ولكن لما قدم صخر إلى أنطاكية قاومته وجها لوجه لأنه كان يستحق اللوم. لأنه قبلما أتى قوم من صحب يعقوب كان يأكل مع الوثنيين، فلما أتوا توارى وتنحى خوفا من أهل الختان، فجاراه في ريائه سائر اليهود حتى إن برنابا انقاد إلى ريائهم. فلما رأيت أنهم لا يسيرون سيرة قويمة كما تقتضي حقيقة البشارة، قلت لصخر بمحضر من جميع الإخوة: إذا كنت أنت اليهودي تعيش كالوثنيين لا كاليهود، فكيف تلزم الوثنيين أن يسيروا سيرة اليهود؟ ... إن الإنسان لا يتبرر لأنه يعمل بأحكام الشريعة، بل لأن له الإيمان بيسوع المسيح ... ولو كان بر الإنسان بالشريعة لكان موت المسيح عبثا» (غلاطية، 2: 11-21).
لقد استحق بولس عن جدارة اللقب الذي أطلقه عليه التاريخ، أي: مؤسس المسيحية. فبدونه لم تشق المسيحية طريقها الخاص ولم تحقق استقلالها الكامل عن اليهودية، ولم يقيض لها أن تنتشر خارج بوتقتها الأصلية الضيقة، وربما كانت تلاشت مع تلاشي كنيسة أورشليم التي لم يتحرر أتباعها من الإرث اليهودي، ولم يفهموا تعاليم معلمهم حق فهمها. لقد سلك بولس مسلك الأنبياء العظام في تاريخ البشرية، وكرس حياته من أجل التبشير المحموم في كل مكان، وعانى الجوع والتشرد والسجن والاضطهاد في سبيل المسيح الذي يسكن فيه. يقول في الرسالة الثانية إلى أهالي كورنثة: «وأرى أني لست أقل شأنا من أولئك الرسل الأكابر. وإني وإن كنت غريبا عن البلاغة، فلست كذلك في المعرفة، وقد أظهرنا لكم ذلك في كل شيء ... فالذي يباهون به - وكلامي كلام جاهل - أباهي به أيضا. هم عبرانيون وأنا عبراني، هم إسرائيليون وأنا إسرائيلي، هم من ذرية إبراهيم وأنا من ذرية إبراهيم، هم خدم المسيح - أقول قول أحمق - وأنا أفوقهم: أفوقهم في المشقات ، أفوقهم في دخول السجون، أفوقهم كثيرا جدا في تحمل الجلد. أشرفت على الموت مرارا، جلدني اليهود خمس مرات أربعين جلدة إلا واحدة، انكسرت بي السفينة ثلاث مرات فقضيت ليلة ونهارا في عرض البحر. أسفار متعددة، أخطار من الأنهار، أخطار من اللصوص، أخطار من أبناء ملتي، أخطار من الوثنيين، أخطار في المدينة، أخطار في الصحراء، أخطار في البحر، أخطار من الإخوة الكذابين. جهد وكد، سهر ملازم، جوع وعطش، صوم كثير، برد وعري، ما عدا الباقي من فرض يومي واهتمام بجميع الكنائس» (2 كورنثة، 11: 5-28).
لقد حقق بولس منفردا أكثر مما حققه بقية الرسل مجتمعين؛ ولذلك لا عجب إذا رأينا أن نصف إصحاحات سفر أعمال الرسل مخصصة لسرد أخباره. وفيما كان بولس يجوب أنحاء الإمبراطورية الرومانية مبشرا بيسوع، كان بطرس رئيس الرسل الاثني عشر والشخصية الأبرز في كنيسة أورشليم، منشغلا بالأمور التنظيمية لكنيسته ولم يبرح أورشليم إلا مرتين. فقد ذهب في مهمة تبشيرية مع يوحنا بن زبدي إلى السامرة القريبة (أعمال، 8: 4-25)، وبعدها ذهب في رحلة تفقدية إلى أنطاكية ليطلع على ما أنجزه بولس وبرنابا هناك (غلاطية، 2: 11-21). علما بأن مؤلف سفر أعمال الرسل لم يأت على ذكر هذه الرحلة الثانية. أما عن القصص التي ظهرت لاحقا عن سفره إلى روما واستشهاده هناك، فليست إلا من قبيل الملاحم الشعبية غير الموثقة. ومن الملفت للنظر أن أخبار بطرس تتوقف تماما في سفر أعمال الرسل بعد الإصحاح الخامس عشر. كما أننا لا نعثر في سفر أعمال الرسل على أخبار تتعلق بنشاطات من أي نوع لبقية رسل يسوع الاثني عشر. فمتيا الذي جرى انتخابه ليحل محل يهوذا الخائن، يختفي تماما بعد خبر انتخابه الوارد في الإصحاح الأول. وفيما عدا بطرس لا يظهر في سفر أعمال الرسل من الأحد عشر الباقين سوى يوحنا بن زبدي، وذلك في أربعة أخبار موجزة (3: 1، 3: 3-13، 4: 13، و19، 8: 14). وهنالك خبر عابر عن مقتل أخيه يعقوب على يد هيرود أغرييا الأول (12: 1-2).
لا نعرف على وجه التحديد تاريخ ميلاد بولس، ولكننا نفهم من سفر أعمال الرسل أنه كان فتى عندما قام اليهود برجم الشهيد استيفانوس في أواخر الثلاثينيات، وعمدوا إلى وضع ثيابه تحت قدميه لينظرها لهم (أعمال، 7: 58-59، و22: 20-21). وهذا يعني أنه ولد فيما بين عام 10 و15 للميلاد. وفي أوائل الستينيات كان ما يزال حيا في سجنه في روما ينتظر المحاكمة التي لا ندري متى حصلت ولا كيف كانت نتيجتها. ولكن بعض الموروثات المسيحية العائدة إلى القرن الرابع تقول إنه أعدم عام 64م خلال القتل الجماعي للمسيحيين في روما إبان عهد الإمبراطور نيرون، ولكن هذا الخبر غير مؤكد، والأخبار متضاربة حول مصيره.
ولد بولس وفق رواية سفر أعمال الرسل لأسرة يهودية-يونانية موطنها في مدينة طرسوس بمنطقة كيليكيا (جنوب آسيا الصغرى على شاطئ المتوسط)، وكانت هذه الأسرة حاصلة على المواطنية الرومانية. وقد أفادته هذه المواطنية في الأوقات العصيبة، ومنها عندما ثار عليه اليهود في آخر زيارة له إلى أورشليم وجروه خارج الهيكل لكي يرجموه. فبلغ الخبر قائد الألف الروماني في المدينة فخف مع جنده إلى المكان وخلصه من بين أيديهم، ولكن اليهود بالغوا في الصياح طالبين قتله، فأمر قائد الألف بأن يساق إلى القلعة حيث يستجوب تحت السياط. فلما أوثقوه، قال بولس لقائد المائة الذي يشرف على وثاقه: أيحق لكم أن تجلدوا مواطنا رومانيا قبل أن تحاكموه؟ فذهب قائد المائة إلى قائد الألف وأطلعه على الأمر، فجاء إليه وسأله: أأنت روماني؟ قال: نعم. فقال قائد الألف: أنا أديت مقدارا كبيرا من المال حتى حصلت على هذه النسبة. قال بولس: وأنا حصلت عليها منذ مولدي. فخاف قائد الألف لما عرف أنه روماني وقد كبله بالقيود (أعمال، 22: 25-29).
ومن الجدير بالذكر أن بولس لم يذكر في رسائله شيئا عن مكان مولده ولا عن مواطنيته الرومانية، وهذا أمر مستغرب نظرا لما لعبه هذان العنصران من أهمية في سيرة بولس كما رواها سفر أعمال الرسل. أما الاسم الذي أطلقه على نفسه فكان على الدوام بولس، على الرغم من أن مؤلف سفر أعمال الرسل قد دعاه أيضا بالاسم اليهودي شاؤل. ويبدو أن اسم مولده كان شاؤل ولكنه تكنى بالاسم بولس بعد تحوله إلى المسيحية، أو أنه حمل منذ البداية اسمين على عادة اليهود اليونانيين الذين كانوا يطلقون على أبنائهم اسما يهوديا وآخر يونانيا. كانت اليونانية لغته الأم، لكنه كان متضلعا بالآرامية التي كانت لغة اليهود في تلك الأيام. ووفق شهادة سفر أعمال الرسل، فقد جاء بولس إلى أورشليم ودرس فيها علوم الدين على الطريقة الفريسية على يد واحد من أعلم معلميها وهو جملائيل. يقول عن نفسه في الرسالة إلى أهالي روما: «أنا إسرائيلي من ذرية إبراهيم وسبط بنيامين» (روما، 11: 1). ويقول في سفر أعمال الرسل: «أنا رجل يهودي ولدت في طرسوس من كيليكية. على أني نشأت في هذه المدينة (= أورشليم) وتلقيت عند قدمي جملائيل تربية صالحة موافقة كل الموافقة لشريعة الآباء» (أعمال، 22: 1-3). ولكن صمت بولس في رسائله عن ذكر تلقيه العلم على يد هذا المعلم الفريسي، يضع إشارة استفهام حول مصداقية هذه المعلومة، لأنها لو كانت صحيحة لما تردد بولس في ذكرها في سياق جدالاته مع السلطات الدينية الأورشليمية. ومع ذلك فإن خلفية بولس الفريسية تنبئ عن نفسها في العديد من أفكاره لا سيما إيمانه بقيامة الموتى، وهي عقيدة غريبة عن الفكر التوراتي. فعندما مثل للمحاكمة أمام المجلس اليهودي ، وكان يعلم أن فريقا منهم صدوقي لا يؤمن بقيامة الموتى وفريقا فريسي، حاول استمالة الفريسيين إلى جانبه وصاح في المجلس: «أيها الإخوة، أنا فريسي ابن فريسي، وإنما أحاكم لأني أرجو قيامة الأموات. فما قال ذلك حتى وقع الخلاف بين الفريسيين والصدوقيين وانشقت عصا المجلس» (أعمال، 23: 1-8).
ويبدو أن بولس ابتدأ حياته العامة عندما التحق بسلك حرس الهيكل. وهذا ما يفسر تواجده في الساحة التي رجم فيها استيفانوس حتى الموت، حيث راح يحرس الثياب التي خلعها الجلادون. وبعد ذلك شارك في الحملة الواسعة التي شنتها سلطات الهيكل على المسيحيين. وعلى حد وصف سفر أعمال الرسل: «وكان شاؤل موافقا على قتله (= استيفانوس). ووقع يومئذ اضطهاد شديد على كنيسة أورشليم فتشتت أبناؤها أجمع ... أما شاؤل فكان يعيث في الكنيسة فسادا، يذهب من بيت إلى بيت فيخرج الرجال والنساء ويلقيهم في السجن» (أعمال، 1: 8-3). ويشير بولس في رسائله إلى هذه الفترة من حياته، فيقول: «قد سمعتم بسيرتي الماضية في ملة اليهود، وكيف كنت أضطهد كنيسة الله غاية الاضطهاد وأحاول تدميرها، وأتقدم أكثر أترابي من بني قومي في ملة اليهود وأفوقهم حمية على سنن آبائي» (غلاطية، 1: 11-14).
هذه الحمية التي أبداها بولس في عمله هي التي دفعت رئيس الكهنة إلى تكليفه بمهمة التوجه إلى دمشق من أجل تطهير الكنيس اليهودي فيها من أتباع يسوع وسوقهم موثقين إلى أورشليم (أعمال، 9: 1-2). وقبل وصوله إلى دمشق حصلت له تلك الرؤيا الحاسمة التي حولته من مضطهد للكنيسة إلى أكثر دعاتها حماسة. أما ما حدث بعد ذلك، فإن رواية سفر أعمال الرسل تناقض رواية بولس نفسه التي أشرنا إليها سابقا (أي توجهه إلى بلاد العرب لا إلى أورشليم بعد اهتدائه). فبولس وفق سفر الأعمال، بعد أن استرد بصره وتعمد: «لبث مع التلاميذ بضعة أيام ثم أخذ من ساعته ينادي في المجامع بأن يسوع هو ابن الله. فكان كل من يسمعه يدهش ويقول: أليس هذا الذي كان في أورشليم يطارد من يدعو بذلك الاسم؟ أما جاء إلى هنا ليسوقهم موثقين إلى الكهنة؟ على أن شاؤل كان يزداد قوة ويفحم اليهود المقيمين في دمشق مبينا أن يسوع هو المسيح. وما هي إلا مدة من الزمن حتى طفق اليهود يأتمرون به ليهلكوه، فانتهى خبر ائتمارهم إلى شاؤل. فكانوا يراقبون الأبواب ليل نهار ليوقعوا به، فسار به التلاميذ ليلا ودلوه من السور في سلة. ولما وصل إلى أورشليم حاول أن ينضم إلى الرسل، فكانوا يخشونه غير مصدقين أنه تلميذ. فسار به برنابا إلى الرسل وروى لهم كيف رأى الرب في الطريق وكلمه الرب، وكيف بشر رابط الجأش باسم يسوع في دمشق، فأخذ يذهب ويجيء معهم في أورشليم يبشر باسم الرب. وكان يخاطب اليهود أيضا ويجادلهم، فجعلوا يأتمرون به ليقتلوه، فشعر الإخوة بذلك فمضوا به إلى قيصرية، ثم رحلوه منها إلى طرسوس» (أعمال، 9: 20-30).
مثل هذه التناقضات في سيرة بولس بين ما يورده سفر أعمال الرسل وما يرد في رسائل بولس، ينبغي في رأيي حلها بترجيح نص الرسائل على نص سفر الأعمال، وذلك لسببين؛ الأول هو أن بولس نفسه هو من يتحدث في الرسائل، وهو الأدرى بسيرته الشخصية من مؤلف سفر أعمال الرسل. والثاني أن الرسائل أسبق تدوينا وتداولا من سفر الأعمال، فقد دونت الرسائل الأولى في مطلع خمسينيات القرن الأول والأخيرة في أواسط الستينيات. أما سفر أعمال الرسل فلم يدون إلا في أواخر القرن الأول.
عانى بولس طيلة حياته من علة جسدية لا ندري طبيعتها، أشار إليها بوصفها شوكة في جسده، وكأنها رسول الشيطان الذي وكل إليه أن يلطمه لئلا يتكبر (2 كورنثة: 7). وقد اختلف الباحثون في طبيعة هذه العلة، فقال البعض إنها الصرع الذي كان يسبب له هذيانات ورؤى، وقال البعض الآخر إنها الملاريا، وفريق ثالث إنها حالات من العمى المؤقت الناتج عن أسباب نفسانية. ولكن هذه العلة لم تكن عائقا له لا في نشاطه التبشيري ولا في مهنته التي كان يتكسب منها وهي صناعة الخيام (أعمال، 18: 3)، التي ظل يمارسها ويكسب عيشه منها رافضا الاتكاء على صدقات أعضاء كنائسه، على الرغم من أن يسوع قد أباح للذين يعلنون البشارة أن ينالوا رزقهم من البشارة (متى، 10: 10). وهو يقول في ذلك: «أما تعلمون أن خدم الهيكل رزقهم من أرزاق الهيكل، والذين يخدمون المذبح يأخذون نصيبهم من المذبح؟ وهكذا قضى الله للذين يعلنون البشارة أن ينالوا رزقهم من البشارة. أما أنا فلم أستعمل أي حق من هذه الحقوق» (1 كورنثة، 9: 12-15).
أمضى بولس نحو عشرين سنة في تأسيس الكنائس في سوريا وآسيا الصغرى واليونان. وفي كل مكان ذهب إليه كانت الجاليات اليهودية فيه تشغب عليه وتحاول قتله. ففي لسترة جنوب آسيا الصغرى ألبت الجموع اليهودية الناس عليه ورجموه حتى ظنوا أنه قد مات فتركوه، فخف إليه تلاميذه وأسعفوه (أعمال، 14: 19-20). وفي آخائية بأرض اليونان ثار اليهود عليه وجروه إلى غاليون حاكم المدينة وقالوا: إن هذا الرجل يحاول إقناع الناس بأن يعبدوا الله عبادة تخالف الشريعة. فقال غاليون لليهود: أيها اليهود، لو كانت المسألة مسألة جرم أو ذنب لسمعت شكواكم كما يقضي الحق، فأما أن يكون الجدل في الألفاظ والأسماء وفي شريعتكم فانظروا أنتم في الأمر. ثم طردهم من المحكمة (أعمال، 18: 12-17).
وأخيرا انتهت حياة بولس التبشيرية على يد يهود أورشليم. فقد جاء بولس إلى أورشليم نحو عام 58م، في زيارته الثالثة والأخيرة إليها ليحمل إلى المسيحيين الذي فيها هبات إخوانهم من آسيا. فرآه بعض اليهود في الهيكل وعرفوه، فصاحوا: النجدة يا بني إسرائيل، هذا هو الرجل الذي يعلم تعليما ينال به شعبنا وشريعتنا وهذا الهيكل. فتجمع الناس على بولس وجروه إلى الخارج وانهالوا عليه بالضرب المبرح محاولين قتله، فأنقذه الجنود الرومان من أيديهم وسلموه إلى قائدهم الذي ساقه إلى القلعة وكان الجمع وراءه يصيح: «اقتله، اقتله»، مثلما صاح في وجه بيلاطس أثناء محاكمته ليسوع. وفي الغد أحال القائد بولس إلى المجلس اليهودي ومثل بولس أمامه. ولكن المجلس لم يتوصل إلى قرار بشأنه بعد أن وقع الخلاف بين الفريسيين والصدوقيين، فأعاده القائد إلى القلعة. ثم إن أخبارا وصلته بأن مجموعة من اليهود أخذوا عهدا على أنفسهم بالامتناع عن الطعام والشراب حتى يقتلوا بولس. فأرسله القائد تحت حماية مشددة إلى مقر الوالي الروماني فيليكس في قيصرية، فاستدعى الوالي متهمي بولس إلى محكمة عقدها بعد خمسة أيام، فجاء رئيس الكهنة وبعض الشيوخ معه واتهموا بولس بأنه يثير الفتن بين اليهود في كل مكان. ولكن بولس دافع عن نفسه وأقنع الوالي ببراءته، ولكنه احتفظ به مع ذلك في السجن سنتين.
ثم إن فيليكس أقيل من منصبه وخلفه فسطس، فعرض عليه الكهنة دعواهم على بولس طالبين منه تسليمه إلى محكمتهم، وأقاموا له كمينا في الطريق ليغتالوه. فأراد فسطس أن يرضي اليهود، فقال لبولس: أتريد أن تصعد إلى أورشليم حيث تحاكم بحضوري؟ فأجابه بولس: ما من أحد يحق له أن يسلمني إليهم (لأنه مواطن روماني) إني أرفع دعواي إلى قيصر. فقال له فسطس: رفعت دعواك إلى قيصر، فإلى قيصر تذهب. وهكذا أرسل بولس إلى روما حيث لبث هناك سنتين في السجن ينتظر محكمة قيصر. وهنا، ونحو عام 63م، تنتهي رواية سفر أعمال الرسل دون أن نعرف المصير الذي آل إليه بولس (أعمال، 21-28).
وهنالك موروثات مسيحية متضاربة عن مصير بولس. فالبعض يقول بأنه أطلق من السجن وسافر إلى إسبانيا، وآخرون بأنه أعدم عام 64م إبان حملة الاضطهاد التي شنها نيرون على المسيحيين عقب حريق روما المشهور. وآخرون بأنه اعتقل ثانية بعد إطلاق سراحه وأعدم نحو عام 67 أو 68م. ولكن أيا من هذه الأخبار لا تجد لها سندا لا من العهد الجديد ولا من الوثائق التاريخية.
أضواء على لاهوت بولس
لقد استحق بولس عن جدارة لقب المؤسس الحقيقي للديانة المسيحية. والديانات الجديدة لا يؤسسها إلا الأنبياء، وكان بولس نبيا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. فإلى جانب التعاليم السرية التي أخذها عن خاصة يسوع، فإن يسوع المسيح الممجد الذي ارتفع إلى السماء قد خصه بوحيه وتابع كشف الحقائق الروحانية له. يقول في رسالته الأولى إلى أهالي كورنثة: «غير أن هناك حكمة نتكلم عليها بين الكاملين، وليست بحكمة هذا العالم ولا بحكمة رؤساء هذا العالم ومصيرهم للزوال، بل نتكلم عن حكمة الله السرية الخفية التي أعدها لنا الله قبل الدهور في سبيل مجدنا ... فلنا كشفه الله بالروح لأن الروح يفحص كل شيء حتى عن أعماق الله» (1 كورنثة، 2: 6-10). فمع قيامة المسيح وصعوده ابتدأ عصر جديد هو عصر العهد الجديد؛ حيث صارت الأسرار تكشف بالروح عن طريق بولس الذي جعله الله وسيطا بين المسيح الممجد والمؤمنين، والذي يتكلم ويعمل بتوجيه سماوي لأن المسيح يسكن فيه: «لأني بالشريعة مت عن الشريعة لأحيا لله، وقد صلبت مع المسيح فما أنا أحيا بعد ذلك بل المسيح يحيا في. وإذا كانت لي حياة بشرية فإنها في الإيمان بابن الله الذي أحبني وضحى بنفسه من أجلي» (غلاطية، 2: 19-20).
إن من عرف يسوع البشري فقط كانت معرفته به ناقصة؛ لأن المعرفة الحقة بيسوع هي بالروح، معرفة المسيح السماوي الذي وجد قبل الخلائق كلها وبه خلق كل شيء مما في السماوات ومما في الأرض (كولوسي، 1: 15-17). وعلى حد قوله في الرسالة الثانية إلى أهالي كورنثة: «فنحن لا نعرف أحدا بعد اليوم حسب الجسد. فإذا كنا قد عرفنا المسيح يوما حسب الجسد فلسنا نعرفه الآن هذه المعرفة. وإذا كان أحد في المسيح فإنه خلق جديد. قد زال كل شيء قديم وها هو ذا كل شيء جديد» (2 كورنثة: 16-17). وبولس هنا في حديثه عن الانسلاخ عن القديم لا يقصد الانسلاخ عن اليهودية فقط، وإنما الانسلاخ عن كنيسة أورشليم أيضا، والتي يديرها رسل لم يتلقوا الأسرار، وما زالوا يرسفون في أغلال الشريعة اليهودية، ويمثلون عصرا منقضيا. فالكنيسة الجديدة يرأسها الآن المسيح السماوي، والمؤمنون غير خاضعين لأي سلطة أرضية بما في ذلك سلطة الرسل وما عرفوا إلا يسوع البشري.
هذه الرؤية الفريدة لبولس هي التي ميزته عن الإنجيليين الأربعة. فهو في تجاهله ليسوع البشري قد تجاهل في الوقت نفسه كل ما يمت بصلة إلى سيرة يسوع الناصري: ميلاده في بيت لحم، وأمه وأبوه، ولقاؤه بيوحنا المعمدان الذي لم يذكره في أي من رسائله، وحياته التبشيرية، والجليل ومدنه وقراه، والرسل الاثنا عشر الذين لم يذكر منهم سوى بطرس ويعقوب ويوحنا، ولكن بشكل عرضي وفي سياق أحداث ما بعد القيامة لا قبلها. كما تجاهل بولس الأحداث والشخصيات التاريخية التي ارتبطت بحياة يسوع، فهو لم يأت على ذكر هيرود الكبير وأولاده: أرخيلاوس وأنتيباس وفيليبس، أو بيلاطس البنطي، أو قيافا الكاهن الأعظم. فتاريخ يسوع بالنسبة إليه يبدأ ليلة العشاء الأخير وينتهي في اليوم الثالث الذي قام فيه من بين الأموات. كما أن الاسم يسوع مجردا من لقب المسيح لم يرد عنده سوى عشر مرات، إذا استثنينا الرسالة إلى العبرانيين المنحولة. وفي الحقيقة، لو أن رسائل بولس كانت مصدرنا الوحيد عن يسوع لما كنا عرفنا عنه شيئا تقريبا.
وفي مقابل ذلك فقد ركز بولس على الأهمية المركزية لموت يسوع وقيامته في الخطة الإلهية الشاملة لخلاص البشر والعالم، والمسيح الذي بشر به ليس المسيح الداودي الذي يحرر بني إسرائيل ويقهر أعداءهم ويخضع العالم أجمع إلى ملكوته، ولكنه المخلص الذي انتظره العالم أجمع ليحرره من سلطان الشر ويفتح له بوابة الأبدية. ففي المنظور البولسي لدراما الخلاص، ليس المهم ما قاله يسوع وما فعله خلال حياته، بل ما حدث له والنتائج المترتبة على ذلك. وإذا كان يسوع الأناجيل عبارة عن معلم ينقل رسالة لأتباعه، فإن يسوع بولس هو الرسالة بعينها. فهو المخلص من الخطيئة ومن الموت بخضوعه للموت على الصليب، وهو الذي حمل بشرى الانبعاث والحياة الثانية بقيامته.
يبتدئ تفكير بولس من نظرته إلى الموت باعتباره عقابا على الخطيئة (روما، 6: 23)، وبما أن الموت هو عاقبة كل البشر وهو العدو الأول (1 كورنثة، 15: 26)، فإن ذلك يستتبع بالضرورة أننا جميعا خاطئون، وقد ورثنا هذه الخطيئة عن آدم سلف البشرية الذي يدعوه بآدم الأول في مقابل يسوع المسيح الذي يدعوه بآدم الثاني. فلقد جلب آدم الأول على ذريته الخطيئة بعصيانه أمر الرب، مثلما جلب عليهم الموت الذي هو عقاب الخطيئة: «وكما أن الخطيئة دخلت في العالم على يد إنسان واحد، وبالخطيئة دخل الموت، فكذلك سرى الموت إلى جميع الناس لأنهم جميعا خطئوا» (روما، 5: 12). ولكن المسيح الذي هو آدم الثاني قهر الموت الذي دخل العالم بخطيئة رجل واحد، من خلال موته على الصليب وقيامته، وجعل الحياة الأبدية متاحة لكل من آمن به وتوحد معه: «فإذا كانت جماعة كثيرة قد ماتت بزلة إنسان واحد، فبالأحرى أن تفيض نعمة الله الموهوبة على جماعة كثيرة بإنسان واحد، ألا وهو يسوع المسيح» (روما، 5: 15-16). وأيضا: «فقد أتى الموت على يد إنسان، وعلى يد إنسان تكون قيامة الأموات. وكما يموت جميع الناس في آدم فكذلك يحيون في المسيح» (1 كورنثة، 15: 21-22).
إن متلازمة الخطيئة-الموت تتخذ أبعادا جدية من خلال موت يسوع على الصليب، والذي كان من شأنه مصالحة الإنسان مع الله: «وهذا كله من الله الذي صالحنا على يد المسيح وعهد إلينا خدمة المصالحة. لأن الله صالح العالم في المسيح ولم يحاسبهم على زلاتهم ... ذاك الذي لم يعرف الخطيئة جعله الله خطيئة من أجلنا كيما نصير به بر الله» (2 كورنثة، 5: 18-21). «فالذي لم تستطعه الشريعة حققه الله بإرسال ابنه في جسد يشبه جسدنا الخاطئ كفارة للخطيئة، فحكم على الخطيئة في الجسد ليتم ما تقتضيه منا الشريعة نحن الذي لا يسلكون سبيل الجسد بل سبيل الروح» (روما، 8: 3-5). وهكذا فإن كل مؤمن اتحد بالمسيح من خلال إيمانه قد شاركه في موته وفي بعثه: «لأن محبة المسيح تأخذ بمجامع قلبنا عندما نفكر أنه إذا قد مات واحد من أجل جميع الناس فجميع الناس ماتوا أيضا. قد مات من أجلهم جميعا كي لا يحيا الأحياء من بعد لأنفسهم بل للذي قد مات وقام من أجلهم» (2 كورنثة، 5: 14-15). «فإذا كنا قد متنا مع المسيح فإننا نعلم بأننا سنحيا معه. ونعلم أن المسيح بعدما أقيم من بين الأموات لن يموت ثانية ولن يكون للموت عليه من سلطان، لأنه بموته قد مات عن الخطيئة مرة واحدة، وفي حياته يحيا لله. فكذلك احسبوا أنتم أنكم أموات عن الخطيئة أحياء لله» (روما، 6: 7-11). وبهذه الطريقة يتخذ موقع الجلجثة الذي رفع فيه الصليب مركز البؤرة من تاريخ العالم، وتعاليم بولس تتمحور حول المسيح المصلوب: «ولما كان اليهود يطلبون الآيات، واليونانيون يبحثون عن الحكمة، ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوبا» (1 كورنثة، 1: 22-23). «وأنا لما أتيت إليكم أيها الإخوة لم آتكم لأبلغكم شهادة الله بسحر الكلام أو الحكمة، لأني لم أشأ أن أعرف شيئا وأنا بينكم إلا يسوع المسيح، وإياه مصلوبا» (1كورنثة، 2: 1-2).
إن الدرجة الأولى من التوحد بالمسيح تبلغ عن طريق طقس بسيط ولكنه ذو رمزية عالية، وهو طقس التعميد. وهنا يمثل جرن المعمودية القبر الذي دفن فيه يسوع وبعث منه، والمريد الجديد عندما يغطس في هذا الجرن يعانق رمزيا موت المسيح ويهبط معه إلى القبر، وعندما يصعد منه يغدو مهيأ لأن يبعث مثلما بعث: «أم تجهلون أننا وقد اعتمدنا في يسوع المسيح إنما اعتمدنا في موته فدفنا معه بالمعمودية لنموت، حتى كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضا في جدة الحياة. فإذا اتحدنا معه بموت يشبه موته فكذلك تكون حالنا في قيامته» (روما، 6: 3-6). وهذا الطقس يؤهل من يخضع له للمشاركة في القيامة العامة للموتى في اليوم الأخير عندما ينفخ في الصور لدعوة الأموات المعمدين إلى الحياة الجديدة.
وعلى حد وصف بولس لما سيجري في اليوم الأخير: «لأن الرب نفسه بهتاف، بصوت رئيس الملائكة، وبوق الله، سوف ينزل من السماء والأموات في المسيح سوف يقومون أولا، ثم نحن الأحياء الباقين سنرفع جميعا معهم لملاقاة الرب في الجو لنكون مع الرب دائما وأبدا» (1 تسالونيكي، 4: 16-18). وأيضا: «إننا لا نموت جميعا بل نتبدل جميعا في لحظة وطرفة عين عند النفخ في البوق الأخير. لأنه سينفخ في البوق ويقوم الأموات غير فاسدين (أي في جسد روحاني) ونحن نتبدل» (1 كورنثة، 15: 51-52). أما ما يحدث بعد ذلك فإن بولس لا يخبرنا عنه بالتفصيل. فهناك محكمة يعقدها المسيح نفسه: «لأنه لا بد لنا جميعا من أن نمثل لدى محكمة المسيح لينال كل واحد جزاء ما قدمت يده وهو في الجسد، خيرا كان أم شرا» (2 كورنثة: 10). وأيضا: «عند تجلي الرب يسوع، يوم يأتي من السماء بملائكة قدرته في لهب نار وينتقم من الذين لا يعرفون الله ومن الذين لا يطيعون بشارة ربنا يسوع، فإنهم سيعاقبون بالهلاك الأبدي مبعدين عن وجه الرب» (2 تسالونيكي، 1: 6-8).
على طريق الخلاص بين آدم الأول وآدم الثاني، ينبغي التحرر من نير الشريعة الموسوية؛ لأن هذه الشريعة كانت صالحة لزمن مضى وانقضى ولكن دورها انتهى بظهور البشارة: «فقبل أن يأتي الإيمان كان مغلقا علينا بحراسة الشريعة إلى أن يتجلى الإيمان المنتظر. فالشريعة كانت مؤدبا لنا إلى مجيء المسيح لننال البر بالإيمان. فلما جاء الإيمان لم نبق في حراسة المؤدب، لأنكم جميع أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. فإنكم وقد اعتمدتم جميعا في المسيح قد لبستم المسيح، فلم يبق بعد يهودي أو يوناني، عبد أو حر، ذكر أو أنثى؛ لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع» (غلاطية، 3: 23-29). ويذهب بولس أبعد من ذلك عندما يعتبر أن الشريعة هي التي تورث الخطيئة: «فماذا نقول؟ أتكون الشريعة خطيئة؟ حاشا لها. ولكني لم أعرف الخطيئة إلا بالشريعة. فلو لم تقل لي الشريعة: لا تشته، لما عرفت الشهوة. واتخذت الخطيئة من الوصية سبيلا لتورثني كل نوع من الشهوات، لأن الخطيئة بلا شريعة لا وجود لها. كنت أحيا من قبل إذ لم تكن شريعة، فلما جاءت الوصية عاشت الخطيئة ومت أنا، فإذا بالوصية التي تؤدي إلى الحياة قد أفضت بي إلى الموت. ذلك بأن الخطيئة اتخذت من الوصية سبيلا فأغوتني وأماتتني» (روما، 7: 7-11). «فما الشريعة إلا سبيل إلى معرفة الخطيئة» (روما، 3: 20). «لأن الشريعة تورث الغضب، وحيث لا تكون شريعة لا تكون معصية» (روما، 4: 15).
فالشريعة في فكر بولس هي لعنة جاء المسيح ليحررنا منها: «إن دعاة العمل بأحكام الشريعة لعنوا جميعا، فقد ورد في الكتاب: ملعون من لا يثابر على العمل بجميع ما كتب في سفر الشريعة. أما أن الشريعة لا تبرر أحدا فذاك أمر واضح لأن البار بالإيمان يحيا، على حين أن الشريعة لا ترجع بأصلها إلى الإيمان، بل (إلى العمل بالأحكام. فقد ورد في الكتاب:) من عمل بهذه الوصايا يحيا بها. فالمسيح افتدانا من لعنة الشريعة إذ صار لعنة لأجلنا، فقد ورد في الكتاب: ملعون من علق على خشبة» (غلاطية، 3: 10-14). وأيضا: «فلما تم الزمان أرسل الله ابنه مولودا لامرأة، مولودا في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة فنحظى بالتبني» (غلاطية، 4: 4-5). ويخاطب بولس مستمعيه من اليهود قائلا: «نحن يهود بالولادة ولسنا من الخاطئين الوثنيين. ومع ذلك فنحن نعلم أن الإنسان لا يبر لأنه يعمل بأحكام الشريعة بل لأن له الإيمان بيسوع المسيح ... فإنه لا يبر بشر لعمله بأحكام الشريعة» (غلاطية، 2: 15-16).
ويركز بولس هجومه على الختان اليهودي باعتباره سمة الخاضعين لأحكام الشريعة، متوجها بخطابه إلى اليهود المتنصرين الذين لم يقطعوا روابطهم القديمة، ولم يستوعبوا بعد الحرية التي منحهم إياها يسوع المسيح: «إن المسيح قد حررنا لنكون أحرارا. فاثبتوا إذن ولا تعودوا إلى نير العبودية. ها أنا بولس أقول لكم: إذا اختتنتم فلن يفيدكم المسيح شيئا . وأشهد مرة أخرى لكل مختتن بأنه ملزم أن يعمل بكل ما في الشريعة. لقد انقطعتم عن المسيح يا أيها الذين يلتمسون البر من الشريعة وسقطتم عن النعمة» (غلاطية، 5: 1-4). ذلك أن بر الله يناله الأقلف مثلما يناله المختون، ولا حاجة للوثني المتنصر إلى الختان: «فأين السبيل إلى الفخر؟ وبماذا؟ أبالأعمال (أي التزام الشريعة)؟ لا بل بالإيمان. ونحن نرى أن الإنسان ينال البر بالإيمان المنفصل عن أحكام الشريعة. هل الله إله اليهود وحدهم؟ أما هو إله الوثنيين أيضا؟ بل هو إله الوثنيين أيضا لأن الله واحد وهو الذي يبر بالإيمان المختون ويبر بالإيمان الأقلف» (روما، 3: 27-30).
فإذا كان الختان طهارة فإن الطهارة الحقة هي طهارة القلب والروح قبل أن تكون طهارة الجسد، والختان الحق هو ختان القلب والروح: «والختان ختان القلب العائد إلى الروح لا إلى حروف الشريعة» (روما، 2: 29). «فيه (= المسيح) ختنتم ختانا لم يكن من فعل الأيدي وإنما هو خلع الجسد البشري، إنه ختان المسيح. ذلك أنكم دفنتم معه في المعمودية وأقمتم معه أيضا» (كولوسي، 2: 11-12). «فلم يبق هناك يوناني أو يهودي ولا ختان أو قلف ... بل المسيح الذي هو كل شيء» (كولوسي، 3: 11).
وعلى الرغم من التأثير الكبير الذي مارسه فكر بولس على اللاهوت المسيحي الذي أخذ بالتشكل منذ القرن الثاني الميلادي، والذي رفع يسوع المسيح إلى مرتبة الأقنوم الثاني في الثالوث الأقدس، إلا أن بولس لم يصل بفكره إلى هذا الحد، ولم يرفع يسوع إلى مرتبة تعادل مرتبة الآب، وإنما أبقاه خاضعا للآب عاملا بمشيئته. وهو عندما يستخدم كلمة «رب» في الإشارة إلى يسوع إنما يعني بها السيد صاحب السلطان، وهو معنى الكلمة في الأصل اليوناني للعهد الجديد، حيث جرى استخدام كلمة «كيريوس =
Kurios » كلقب ليسوع سواء في الأناجيل أم في رسائل بولس، وترجمت إلى العربية بكلمة «رب» أو «سيد» وإلى الإنكليزية بكلمة «لورد =
Lord » أي سيد. وعلى الرغم من أن الإله هو «رب» بالضرورة من حيث صلته بالعالم، إلا أن «الرب» ليس بالضرورة إلها. وبولس يضع خطا فاصلا لا لبس فيه بين الربوبية التي ليسوع والألوهية التي لله، عندما يقول: «أما عندنا نحن فليس إلا إله واحد هو الآب، منه كل شيء وإليه نحن راجعون. ورب واحد هو يسوع المسيح به كان كل شيء ونحن به قائمون» (1كورنثة، 8: 6). وقد جعل الله يسوع ربا ومسيحا بقيامته من بين الأموات: «لأنه لهذا مات المسيح وقام وعاش لكي يسود على الأحياء والأموات» (روما، 14: 9). وقول بولس هنا يعكس ما ورد في سفر أعمال الرسل: «فليعلم يقينا جميع بني إسرائيل أن الله جعل يسوع، هذا الذي أنتم صلبتموه، ربا ومسيحا» (أعمال، 1: 36). وأيضا: «لذلك رفعه الله وأعطاه اسما فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع هو رب لمجد الله الآب» (فيليبي، 3: 9-11). وهذا يعني أن ربوبية يسوع تأتي من إعلان الله له سيدا على العالم بعد أن رفعه إليه. وإذا كان المسيح ربا للعالم بتخويل من الله، فإن الله هو رب ليسوع: «ولكني أريد أن تعلموا أن المسيح رأس كل رجل، والرجل رأس كل امرأة، والله رأس المسيح» (1 كورنثة، 11: 2-3). وفي النهاية عندما يخضع يسوع في مجيئه الثاني كل شيء لله، فإنه بدوره يخضع لمالك الكل: «ثم يكون المنتهى حين يسلم (المسيح) الملك إلى الله الآب بعد أن يبيد كل رئاسة وسلطان وقوة ... ومتى أخضع له (أي للآب) كل شيء، فحينئذ يخضع الابن نفسه لذاك الذي أخضع له كل شيء، فيكون الله كل شيء في كل شيء» (1 كورنثة، 15: 24-28).
ومع ذلك، يبقى لدينا في رسائل بولس نصان إشكاليان لا بد من إلقاء الضوء عليهما آخذين بعين الاعتبار ما قدمناه أعلاه. النص الأول ورد في الرسالة إلى أهالي روما حيث يقول: «لقد وددت لو كنت أنا نفسي ملعونا ومنفصلا عن المسيح في سبيل إخوتي بني قومي من النسب، أولئك الذين هم بنو إسرائيل، ولهم التبني والمجد والعهود والشريعة والعبادة والمواعد والآباء، ومنهم المسيح من حيث إنه بشر وهو الكائن على كل شيء إله مبارك أبد الدهور. آمين » (روما، 9: 3-5). إن معنى الجملة الأخيرة في النص اليوناني الذي لم يكن يحتوي على علامات الترقيم (مثل النقطة والفاصلة وما إليها) يختلف تماما إذا وضعنا نقطة بعد عبارة «كل شيء»، لأن التبريك والحالة هذه سوف يرجع إلى الله لا إلى المسيح، وتغدو الجملة على الشكل التالي: «ومنهم المسيح من حيث إنه بشر، وهو الكائن فوق كل شيء. الله مبارك أبد الدهور آمين.» وهذا ما يميل إليه معظم الباحثين في العهد الجديد اليوم، وما تبنته الترجمات الإنكليزية الحديثة ومنها الترجمة المعيارية المنقحة (Revised Standard Version) ، والكتاب المقدس الجديد (New English Bible) .
أما النص الثاني فهو عبارة عن ترتيلة متأخرة مرفوعة ليسوع المسيح تم إقحامها على نص بولس، على ما يرجحه كثير من الباحثين. وهي لا تتفق مع نظرة بولس إلى المسيح مما بيناه أعلاه. نقرأ في الرسالة إلى أهالي فيليبي: «فمع أنه في صورة الله، لم يعتبر مساواته لله غنيمة له، بل تجرد من ذاته متخذا صورة العبد، وصار على مثال البشر وظهر بمظهر الإنسان، وتواضع وأطاع حتى الموت، الموت على الصليب. لذلك رفعه الله ووهب له اسما فوق كل الأسماء، لتنحني لاسم يسوع كل ركبة في السماء وفي الأرض وتحت الأرض، ويشهد كل لسان أنه يسوع المسيح هو الرب تمجيدا لله. آمين» (فيليبي، 2: 6-11). إن التعابير المستخدمة هنا مثل «في صورة الله» و«مساواته لله» و«تجرد من ذاته» و«صار على مثال البشر» لتذكرنا بلاهوت إنجيل يوحنا الذي كتب بين عام 100 وعام 115م. فهي تنتمي إلى أفكار القرن الثاني الميلادي لا إلى عصر بولس. ولعل من يقرأ هذا النص في سياقه ضمن الرسالة، سوف يكتشف أن إزاحته لن تؤثر بشيء على السياق العام بقدر ما تجعله أكثر اطرادا.
وعلى ما نلاحظ في رسائل بولس، فإن الأدعية التي يرفعها هي موجهة للآب من خلال يسوع المسيح. فهو الشفيع والوسيط الذي ينقل تضرعات المسيحيين للآب وحمدهم وشكرهم له. وبولس إنما يضع هنا حدا واضحا وفاصلا بين الآب والابن ولا يماهي أحدهما بالآخر. نقرأ في مواضع متفرقة من نصوص بولس المقاطع التالية:
لم تتلقوا روحا يستعبدكم ويردكم إلى الخوف، بل روحا يجعلكم أبناء، وبه ننادي يا أبتاه (روما، 8: 15-16).
فأناشدكم أيها الإخوة باسم ربنا يسوع المسيح وبمحبة الروح أن تجاهدوا معي بصلواتكم التي ترفعونها لله (روما، 15: 30-31).
إني أحمد الله على ما أوتيتم من نعمة الله في يسوع المسيح (1 كورنثة، 1: 4).
أحمد الله على أني أتكلم بلغات أكثر مما تتكلمون كلكم (1 كورنثة، 14: 18).
الحمد لله الذي آتانا الظفر على يد ربنا يسوع المسيح (1 كورنثة، 15: 57).
الحمد لله الذي يستصحبنا بنصره الدائم في المسيح (2 كورنثة، 2: 14).
لا نزال نحمد الله إليكم جميعا ونذكركم في صلواتنا. نذكر في حضرة إلهنا وأبينا ما أنتم عليه بنعمة يسوع المسيح (1 تسالونيكي، 1: 2-3).
علينا أن نحمد الله إليكم في كل حين أيها الإخوة (2 تسالونيكي، 1: 3).
المجد لله أبينا أبد الدهور (فيليبي، 4: 20).
تبارك إله ربنا يسوع المسيح وأبوه، أبو الحنان وإله كل عزاء (1 كورنثة، 1: 3).
إن إله الرب يسوع وأباه، تبارك للأبد، عالم بأني لا أكذب (2 كورنثة، 11: 31).
في المقتبسين الأخيرين حيث يرد تعبير «إله الرب يسوع»، يقدم لنا بولس قولا محكما علينا أن نرد إليه وأن نفهم على ضوئه كل قول متشابه أو إشكالي. فالله هو إله يسوع، ولا شراكة بينهما في الجوهر والماهية.
بيبلوغرافيا
Apuleius, The Golden Ass, Penguin, 1980.
Barnstone, Willis. The Other Bible, Harper, New York, 1986.
Baring, A. and Cashford, J. The Myth of The Goddess, Penguin Books, London, 1993.
Baigent, Michael. Richard Leigh, and Henry Lincoln, The Holy Blood and the Holy Grail, Jonathan Cape, London, 1982.
Campbell Joseph. Occidental Mythology, Penguin, 1977.
Campbell Joseph. edt, The Mysteries, Princeton, New Jersey, 1978.
Campbell, Joseph. Occidental Mythology, Penguin, 1977.
Eliade, M. Encyclopedia of Relgion, edt, MacMillan, London, 1987.
Guirand, F. Greek Mythology, Hymlen, London, 1969.
Geoves, F. W. Campbell. Apollinius of Tyana, Chicago, 1968.
James, M. R. Apocryphal New Testament, Oxford, 1983.
James Montague R. Apocryphal New Testament, Oxford, 1983.
Lewis, H. Spencer. The Mystical life of Jesus, AMORC, San Jose, California, 1953.
Meyer, Marvin W. The Secret Teaching of Jesus, Vintage, 1986.
Norwich, J. J. Short History of Byzantium, Penguin, 1988.
Negal. G. The Mysteries of Osiris. In: J. Campbell, edt, The Mysteries. Princeton, 1978.
1981.
James M. Robinson, edt, The Nag Hammadi Library, Harper, New York, 1978.
Rudulph, Kurt, Gnosis, Harper, 1987.
Smith, Morton. The Secret Gospel, The Dawn Horse Press, California, 2005.
Stewart, Desmond. The foreigner, H-H, London, 1981.
Smith, Morton. Jesus the Magician, New York, 1972.
Shanks, H. edt, Christainity and Rabbinic Judaism 1992.
Schonfield, Hugh. Those Incredible Christians, Bantam, N. Y. 1969.
Sconfield, H. The Passover Plot, Element Books, Great Britain, 1996.
Shanks, Hershel. Christainity and Rabbinic Judaism, Biblical Archaeology Society, Washington, D. C. 1992.
Vermes, Geza. Jesus the Jew, London, 1973.
Vermes, Geza. The Changing Faces of Jesus, Penguin Compass, 2002.
Watts, Alan Myth and Ritual in Christianity, Thames and Hudson, 1983.
المراجع العربية
أعمال بطرس، ترجمة إسكندر شديد في كتابه (الأعمال والرسائل المتحولة)، لبنان 1999م.
الأب الدكتور يوسف يمين: المسيح ولد في لبنان، مطبعة القارح، زغرتا- لبنان، 1999م.
برتراند رسل: حكمة الغرب، الكويت 1983م.
جيمس طابور: سلالة يسوع، ترجمة د. سهيل زكار، دار قتيبة، دمشق، 2008م.
دارشة أد يحيا، مواعظ وتعاليم النبي يحيى بن زكريا، ترجمه عن الآرامية أمين فعيل حطاب، بغداد 2001م.
زين العابدين ولي الله: حياة المسيح ووفاته، دار الكتب الأحمدية، قاديان، البنجاب/الهند، الطبعة بدون تاريخ.
كنزا ربا، الكنز العظيم، ترجمة د. يوسف متى قوزي ود. صبيح مدلول السهيري، بغداد 2001م، التسبيح رقم 38، القسم اليسار.
إ. س. سفينسيكلايا: المسيحيون الأوائل، ترجمة حسان ميخائيل إسحاق، دار علاء الدين، دمشق.
ابن النديم: الفهرست، دار الكتب العلمية.
إدوار جيبون: سقوط الإمبراطورية الرومانية ، ترجمة أحمد نجيب هاشم، الجزء الأول.
الدكتور عبد الرحمن بدوي: خريف الفكر اليوناني، دار القلم، بيروت 1979م.
الشهرستاني: الملل والنحل، دار الفكر.
بيرتون ل. ماك: الإنجيل المفقود، ترجمة محمد الجورا، دار الجندي، دمشق 2005م.
جان بابلون: إمبراطورات سوريات، ترجمة يوسف شلب الشام (عن الفرنسية) دمشق 1987م.
جود فري تورتون: أميرات سوريات حكمن روما، ترجمة خالد أسعد عيسى، دمشق 1983م.
جميس بينتلي: اكتشاف الكتاب المقدس - قيامة المسيح في سيناء. ترجمة آسيا الطريحي، «دار سينا»، القاهرة 1995م.
د. إحسان عباس: تاريخ دولة الأنباط، دار الشروق، 1987م.
فرانتز ألتهايم: إله الشمس الحمصي، ترجمة إيرينا داود (عن الألمانية)، دمشق 1990م.
كريفيلوف: المسيح، أسطورة أم حقيقة، موسكو، 1987م.
ناجية مراني: مفاهيم صابئية مندائية، بغداد 1981م.
يمليخا: فيثاغورث، حياته وفلسفته، ترجمة زياد الملا، دار الينابيع، دمشق 2005م.
الدكتور فؤاد زكريا: التساعية الرابعة لأفلوطين، القاهرة 1970م.
Page inconnue