الدراية في بيان ضوابط نقد الرواية عند الصحابة
الدراية في بيان ضوابط نقد الرواية عند الصحابة
Genres
أعرض لك في دارك". فقال العباس: "أما إذ فعلت هذا فإني قد تصدقت بها على المسلمين أوسع بها عليهم في مسجدهم، فأما وأنت تخاصمني فلا". قال: فخط عمر لهم دارهم التي هي لهم اليوم وبناها من بيت مال المسلمين" (١).
ومنه ما أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: كان أبو هريرة يحدثنا، عن رسول الله ﷺ، أنه قال: "إنّ في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو في صلاة يسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه". يقللها أبو هريرة بيده، فلما توفي أبو هريرة، قلت: لو جئت أبا سعيد فسألته؟، فأتيته فسألته، ثم خرجت من عنده فدخلت على عبد الله بن سلام، فسألته، فقال: خلق الله آدم يوم الجمعة، وقبضه يوم الجمعة، وفيه تقوم الساعة، وهي آخر ساعة، فقلت: إنّ رسول الله ﷺ، قال:"في صلاة"، وليست ساعة صلاة. فقال: أوما تعلم أنّ رسول الله ﷺ قال: "منتظر الصلاة في صلاة "؟، قلت: بلى، قال: فهي والله هي" (٢).
وهكذا نجد أن الصحابة الكرام جعلوا لأنفسهم ضابطًا مهمًا في التثبت من صحة الرواية، وهو عرضها على كبار الصحابة وإقرارهم لهذا الحديث، وهكذا يطمأن لسلامة الرواية من احتمالية الخطأ الذي قد يقع فيه الراوي.
الضابط الخامس: عرض الرواية على أزواج النبي ﷺ -.
مرّ معنا سلفًا سؤال بعض الصحابة الكرام لأم المؤمنين عائشة ﵁ ومعاودة الاستفسار في كثير من الروايات، وهذه الاسئلة في مسائل قد تكون مما يختص به أهل بيت النبي ﷺ من نسائه، وقد لا تكون من كذلك.
أما في هذا الضابط فإننا نسلط الضوء على مسألة عرض الصحابة الكرام رواية ما أو حادثة ما على أزواج النبي ﷺ لكون الأمر مما يختص بالنبي ﷺ في حياته الزوجية أو الأسرية، أو أنّ هذه الحادثة مما يختص بها النبي ﷺ ولا يطلع عليها أحد إلا أزواجه.
وهذا لا يعني أنّ النبي ﷺ لم يبلغ هذا الحكم أو هذه المسألة للناس، فالنبي ﷺ بلغ كل الدين، وعرف الناس دقائق حياتهم، لكن قد يقع في مسألة ما حديثان متعارضان ظاهرًا أو من قبيل الناسخ والمنسوخ، فيسمع صحابي حديثًا دون حديث، فيختلف مع صحابي آخر حدث بخلاف ما يعرفه، فيلجأ الصحابة إلى بعضهم البعض إذا كان مما يشتهر، وربما سألت زوجة من زوجاته ﷺ أحد أصحابه ﷺ عن مسألة وقعت ولم تشهدها، أو ترسل زوجة منهن سائلًا يسألها إلى غيرها من الصحابة، كما سبق من إرسال أم المؤمنين عائشة ﵂ سائلها إلى علي بن أبي طالب، معللة ذلك كون السؤال يتعلق بسفر النبي ﷺ وعليّ ﵁ أعرف منها؛ لأنّه أكثر ملازمة للنبي ﷺ في سفره.
إذن فالصحابة الكرام ضبطوا الخلاف في الروايات الخاصة بالنبي ﷺ في حياته الزوجية بالاحتكام إلى ازواجه فهنّ أعرف به، ولاسيما أفقه النساء وسيدتهن، الطاهرة المطهرة أم عبد الله عائشة، فلولاها -بعد الله تعالى- لضاع علينا كثير من أمور النبي ﷺ فجزاها الله عنا خير الجزاء، ولعن مبغضها ومؤذيها، ومؤذي رسول الله ﷺ فيها، فهي أعلم نسائه، وأحبهن إليه ﷺ.
والحقيقة أن المتتبع للتاريخ بشكل متجرد، يجدها من رؤوس فقهاء الصحابة، وعليها مدار واسع في الفقه، قال مسروق: "رأيت مشيخة أصحاب رسول اللَّه ﷺ الأكابر يسألونها عن الفرائض" (٣).
وقال عطاء بن أبي رباح: "كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيا في العامة" (٤).
قال محمود بن لبيد:"كان أزواج النبيِّ ﷺ يحفظن من حديث النبيِّ ﷺ كثيرًا ولا مثلًا لعائشة وأمِّ سلمة، وكانت عائشة تفتي في عهد عمر وعثمان إلى أنْ ماتت، يرحمها الله، وكان الأكابر من أصحاب رسول الله ﷺ عمر وعثمان بعده يرسلان إليها فيسألانها عن السنن» " (٥).
وقال أبو موسى الأشعري ﵁:" ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلاّ وجدنا عندها فيه علمًا" (٦).
وقال الزهري: "لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل" (٧).
وبالطبع فلا يقتصر هذا الضابط على السيدة عائشة، فقد روي عن غيرها من أمهات المؤمنين، وكذا لا يقتصر أمر سؤالهنّ على قضايا أسرية (فقه الأسرة)،كما نلحظه في طيات هذا البحث.
(١) ابن سعد، الطبقات ٤/ ١٥. (٢) أخرجه الطبراني، المعجم الكبير١٣/ ١٤٦ (٣٦٢). (٣) أخرجه ابن ابي شيبة، المصنف ١١/ ٢٣٤. (٤). (٥) ابن سعد، الطبقات٢/ ٣٧٥. (٦) أورده ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة ٨/ ٢٣٣. (٧) أورده الحاكم، المستدرك ٤/ ١١،وابن عبد البر، الاستيعاب ٤/ ١٨٨٣.
1 / 26