Albert Camus : Essai Sur Sa Pensée Philosophique
ألبير كامي: محاولة لدراسة فكره الفلسفي
Genres
75 (وهي من الأفكار الرئيسية في فلسفة هسرل، من حيث إنها تجعل من طبيعة الوعي أن يقصد إلى موضوع، بحيث يكون الوعي على الدوام وعيا بموضوع) احتفظت بجانبها السيكلوجي وحده، لاحتفظت فلسفة هسرل بطابع فلسفة المحال، ولاكتفت بوصف عالم من الموضوعات المفردة المفككة التي لا تجمعها رابطة، ولخلت من المبدأ الواحد الذي تحتاج إليه غيرها من الفلسفات لتفسير العالم. غير أن هسرل لا يقف عند الرد
76
الأول للظواهر حين يضع الوجود الفردي للمظاهر موضوع التأمل بكل ما فيها من تجارب وأحكام وقيم علمية أو غير علمية بين أقواس، بل يخطو إلى أبعد من ذلك حين يضع عالم الواقع نفسه بين الأقواس ويصعد على سلم التأمل المثالي إلى الماهيات الثابتة للأشياء. إنه بمحاولته الكشف عن ماهية خارجة عن الزمان لكل شيء على حدة، يقترب من المثل الأفلاطونية أو من الكليات المعروفة في فلسفة العصور الوسطى. وبدلا من أن يكشف عن الموجود الواحد الثابت كما عند بارمنيدز أو عن الإله الواحد كما عند كيركجارد، نجده يضع للأشياء المتعددة ماهيات متعددة تقابلها، حتى تصورات المخيلة من هلوسات وأوهام أصبح لها ما يقابلها من ماهيات ميتافيزيقية ومثل أبدية. حقا إنه قد استبعد الحقيقة العالية (الترانسندنس) في بداية الأمر، ولكنه عاد فأدخل ما لا حصر له من الحقائق العالية لما لا حصر له من مضمونات الوعي. وهكذا يصبح التسليم بوجود ماهيات أو مثل ميتافيزيقية قفزة جديدة إلى عالم آخر غير هذا العالم، ويترك الفكر طريق الوضوح ليلقي بنفسه في أحضان عزاء علوي ميتافيزيقي. لم يتغير إذن مع هسرل إلا التسلسل في ترتيب المجرد والواقعي. أصبح العالم الواقعي مجرد انعكاس لأشكال سماوية على صور أرضية. ضاع الإحساس بالموقف الإنساني، وحلت محله نزعة عقلية متأثرة بديكارت تعمم الواقع المعين، وتجعل منه ماهية مجردة. ولكن هسرل قد انتهى على الرغم من نزعته العقلية إلى اللامعقولية. وفلسفته تقوم على نفس القلق الذي تقوم عليه فلسفة مفكر ديني مثل كيركجارد «إن الشوق هنا أقوى من المعرفة.» وينتهي كامي في مناقشته لفلسفة الظاهرات إلى نفس النتيجة التي ينتهي إليها بالنسبة للفلسفة الوجودية: «من الأمور ذات الدلالة أن الفكر في عصرنا - ويندر أن يكون ذلك قد حدث لفكر آخر - يسوده الاعتقاد في لامعقولية العالم اعتقادا تدعمه الفلسفة، كما أن النتائج التي ينتهي إليها يغلب عليها التمزق الشديد.» وهكذا يعذب الإنسان من عهد أفلوطين إلى اليوم شوقه إلى «الواحد» الأبدي، ويفقد العقل وجهه الإنساني بحنينه الدائم إلى العالي أو المتعالي (الترانسندنس). ويرجع كامي من بحثه القصير اللاهث الأنفاس لفلسفة هسرل كما رجع من مناقشته المتعجلة للفلسفات الوجودية بخيبة أمل مريرة. إنها جميعا تتجاوز حدود العقل المحدود بطبعه، وتسبح به في آفاق ميتافيزيقية غامضة، وتشترك في ارتكاب الانتحار الفلسفي حين تحاول أن تقهر خوفها وقلقها بالقفزة المميتة في بحر اللامعقول، تريد أن تغرق فيه ما تعاني من صراع وما يمزقها من تناقض.
من الضروري إذن، لنظل أوفياء للمحال حريصين في نفس الوقت على إنكاره، أن نبقى داخل جدران المحال؛ فالخروج منها معناه أننا نقفز «القفزة المميتة»، وأننا نقدم بذلك على الانتحار الفلسفي.
ولكن لنعد إلى سؤالنا الأول والأخير: هل تستحق الحياة أن نحياها؟ يجيب كامي في أول الأمر إجابة غير مباشرة. إن الإنسان يدخل تاريخه الحقيقي عندما يسأل عن معنى الحياة وهل تستحق أن يحياها أو لا تستحق، أعني حين يواجه مشكلة الانتحار. وهذا هو السبب الذي من أجله كان المحال وعيا بالموت ورفضا له في الوقت نفسه.
77
ورفض الموت معناه إنكار كل ماهية وجوهر متعال، للمحافظة على المحال والبقاء بين أسواره مع الإصرار على رفضه والتمرد عليه.
لا بد إذن من رفض الانتحار؛ لأن الإقدام عليه معناه الرضا بالمحال والاعتراف به؛ فالحياة، كما قلنا، معناها أن نترك المحال يحيا. وحياة المحال تكون بمقدار رفضنا له وتمردنا عليه: «إن المحال يكون له معنى، بقدر ما يعلن الإنسان عدم موافقته عليه.»
78
فالاعتراف بالمحال معناه إذن الإقدام على القفزة الوجودية التي قلنا من قبل إن إنسان المحال يرفض الإقدام عليها. وبهذا المعنى أيضا يكون الحكم بالموت هو الضد المقابل للانتحار.
Page inconnue