Albert Camus : Essai Sur Sa Pensée Philosophique
ألبير كامي: محاولة لدراسة فكره الفلسفي
Genres
لأنها تستبعد «اللا» وتحطم بذلك الديالكتيك الباطني للتمرد، الذي لا يمكن أن تنفصل فيه النعم عن اللا، ولا الإيجاب عن النفي؛ فتمرد نيتشه حين يغفل هذه اللا الأصلية إنما ينكر التمرد نفسه الذي يرفض الوجود على ما هو عليه، ويحتج على الخليقة التي تسمح بالموت والشر والعذاب. (2)
لأنها غير وفية لتجربة المحال التي يقوم عليها التمرد نفسه؛ إذ لا تمرد إلا أن يكون تمردا على المحال على اختلاف صوره. إن الوعي في فلسفة نيتشه يبسط «النعم» على الطبيعة بأسرها، ويرضى بالعالم على ما هو عليه، وبذلك يرضى أيضا عن العذاب والشر والموت. (3)
لأنها غير وفية للحاضر، باعتباره مجموعة من اللحظات المنفصلة العابرة الفانية؛ إذ تجعل الإنسان يحيا في توتر متصل متطلعا إلى مستقبل لم يأت بعد، مشرئبا إلى إنسان أعلى لم يتحقق له وجود.
وتبدأ نزعة التأكيد المطلق ببداية الثورة التاريخية. والعام الحاسم في الثورة التاريخية هو عام 1793م، أو على التحديد اليوم الواحد والعشرون من يناير 1793م؛ ففي هذا اليوم انقلب التمرد ثورة، وأرسل الله - في شخص لويس السادس عشر ممثله على ظهر الأرض - إلى المقصلة.
إن فلاسفة حركة التنوير، وبالأخص روسو بعقده الاجتماعي، هم الذين سلموا رأس لويس السادس عشر إلى الجلاد. كان التمرد حتى ذلك الحين يعلن عن نفسه في إطار عقيدة لم يذهب أشد المتمردين إلى حد انكارها كل الانكار. حتى الثائر الأسود اسبارتاكوس لم يستطع أن يمس آلهة الجمهورية الرومانية، ولكن كل شيء يتغير بظهور «العقد الاجتماعي». كان الله حتى ذلك الحين هو الذي يصنع الملوك، الذين يصنعون بدورهم الشعوب. أما من الآن فصاعدا فالشعوب قد أصبحت هي التي تصنع نفسها بنفسها،
67
وفي اليوم الحادي والعشرين من عام 1793م ينزع سان جوست، أحد أتباع روسو، عن التاريخ ثيابه المقدسة، ويقدم الملك للمقصلة. لقد مات دين، ولا بد أن يتبعه دين جديد على الفور، هو دين العقل الذي أصبح هو والفضيلة شيئا واحدا. إنه يقول في خطبته المشهورة: «إن هدفنا هو أن نخلق نظاما للأشياء من شأنه أن تنشأ حركة عامة تبتغي تحقيق الخير.» ولا يكاد ينطق بهذه الكلمات حتى يهبط عليه الإلهام بالوسيلة الوحيدة إلى تحقيقها. وهكذا يسقط في هوة الرعب من طالب العدالة بألا تدين المتهم بل أن ترى ضعفه. إن تحقيق الخير يتطلب أن تتساقط الرءوس، والفضيلة لا تحتمل أن يبقى أعداؤها على قيد الحياة. ولكن لعل سان جوست قد أحس بالتناقض الهائل الذي تردى فيه، يدل على ذلك صمته وهو يموت.
كانت الخطوة الحاسمة قد تمت؛ فقد صاغ اليعاقبة المبادئ الأخلاقية صياغة جامدة ومهدوا للنزعتين العدميتين السائدتين في عصرنا؛ عدمية الفرد وعدمية الدولة. وفقد العقل صلته بإله، ولم يعد يتعلق بشيء إلا بما يحققه من نجاح. وبدأت عجلات التاريخ تتحرك، ومملكته تنشر سلطانها.
كانت العدالة والعقل والحقيقة لا تزال تلمع في سماء اليعاقبة؛ كانت هذه الكواكب الثابتة على الأقل منارات يهتدى بها. غير أن فكرة جديدة (غريبة على الفكر القديم كله) تبدأ ببداية القرن التاسع عشر؛ إن الإنسان لا يملك طبيعة بشرية أعطيت إليه مرة واحدة وإلى الأبد. إنه ليس مخلوقا مكتملا تاما، بل مغامرة يمكن أن يكون هو نفسه خالقها.
68
Page inconnue