وفيما كنت في مجلس أهيم في مدارج السماء إذ جذبتني حركة على الأرض، فالتفت إلى الطريق فإذا بي أرى موكبا يحيط بهودج، وهو متجه نحو ماهوش مقبلا من ناحية قصر نزهة السلطان، فكدت أصرف النظر عنه وأعود إلى هيامي في فضائي، ولكن ما أعجب الإنسان إذ ينقلب من السماء إلى الأرض يجذبه إليها عنصر الصلصال! كان الموكب باهرا لا تقع فيه العين إلا على وهج من الحرير والجوهر أو بريق من الحديد والذهب. فخشعت في مكاني وجلست أرقبه حتى مر وصار الهودج حيالي، فإذا بي أرى الستر مزاحا، وألمح من ورائه فتاة سبحان الخالق القهار! كان وجهها سافرا عن فلقة من بدر، أبيض في حمرة كأنه وردة تتفتح في الربيع. وكانت تنظر إلى المروج الخضراء باسمة، وترمي بلمحات من عينين لا أستطيع أن أصور ما فيهما من حلاوة. فخفق قلبي خفقة أحسست منها كأنه غاص في صدري، وصحت صيحة مكتومة: «أهذه علية؟» وأغمضت خشية الفتنة، ولكن عيني لم تطاوعاني - غفر الله لي - فعدت أنظر إلى تلك الخلقة البديعة وعاد قلبي إلى خفقانه، وعادت إلي ذكرى عزيزة فهزهزت كياني. إنها علية الحبيبة حقا. والتفتت الفتاة فاضطربت غدائر شعرها الأسود حول عنق في بياض الزنبق، ورأيت جبينها الواضح وأنفها الجميل وكانت تزيح جانب الستر بأنامل منعمة فوقها معصم أنيق يتوهج بالجوهر. فدار رأسي حتى كدت أسقط من مجلسي، وتعلق بصري بأعقاب الموكب حتى غاب عن عيني. فنزلت، ولا أدري إلى أين أسير، شاخصا إلى الهودج كأنني أنجذب نحوه قسرا. وسرح خيالي إلى أيام شبابي إذ كنت أهيم بمن استأثرت بفؤادي؛ علية التي بهرتني وفتنتني. أواه! إنني لا أذكرها إلا خفق قلبي وأضاء الكون حولي. كانت علية في شبابي علالة النفس إذا صحوت، ومؤنسة الأحلام إذا أغفيت. كنت أقف الساعات أنتظر حتى تمر علي، فإذا مرت سرت وراءها مباعدا حتى تغيب عن عيني، ثم أعود فأقف حيث كنت، فأبقى ساعات أخرى حتى ترجع لكي أتزود منها بنظرة أخرى. لشد ما كنت سخيفا شقيا إذ ضعفت وجبنت وتركت منافسي السمج يفوز بها. وا أسفاه علي وعليها! فإن ذلك المنافس أشقاني وأشقاها. ما كان أشد حمقي وسوء حظي إذ ترددت ولم أجاهد لأنتزعها منه انتزاعا! نعم كنت فقيرا وكان غنيا، وكنت قبيحا وكان جميلا، وكنت هين الجاه وكان وجيها. ولكني كنت أملك حبي وقلبي، وكان ذلك خيرا لها من ماله وجماله وجاهه. ولم يمهلها الأجل فاهتصرها في رونق الشباب وسرت وراء نعشها، فكان قلبي يدمى حتى شيعتها إلى قبرها. عفوك يا علية؛ فقد كنت مذنبا تعسا، أو لقد كان هذا قضائي . ولقد خيل إلي بعد أن فقدتها أن قلبي قد أغلق وجمد واستقر على بلواه، وما كنت أحسب أنه سوف يخفق مرة أخرى، ولكنه في ذلك اليوم خفق وتوهج فيه القبس الخابي.
لست أدري، أعادت علية إلى الحياة وكانت هناك في الهودج تمر أمامي؟ لقد رأيت في الهودج عينيها وجبينها وغدائر شعرها ولفتة جيدها. أكنت أهذي إذ رأيتها ولم يكن ذلك إلا خيالا؟ أم لقد مر الهودج حقا أمامي وبدت صورتها حيالي؟
وسرت بين الحقول أهيم ولا أحس مواقع قدمي، ولا أرى شيئا مما يحيط بي حتى تنبهت إلى صوت يناديني، فتلفت كأني أستيقظ من حلم فإذا بي أرى صديقي أبا النور أمامي.
لك الله يا صديقي! فليس لي في ماهوش كلها قلب أطمئن إلى رحمته غير قلبك. فلما نظرت إليه بادرني قائلا: أين كنت منذ الصباح؟
فقلت في ارتباك: على الأرض حينا، وفوق الشجرة حينا.
فقال في عطف: وإلى أين؟
فتلفت حولي لأعرف أين كنت، ولكن اضطراب حواسي كان يذهلني، فقلت: إن شئت الحق، فإني لا أدري.
فأخذني من ذراعي وخرج بي يسير نحو الطريق، وعند ذلك تبينت أنني كنت أسير في حقل حديث عهد بالري، وأنا أغوص فيه وأخبط على غير هدى.
فلما صرنا على الطريق قال صاحبي: أتحب العودة إلى ماهوش؟
وما كنت لأنصرف عن الصورة التي ملأت فؤادي، فسألت قائلا: أرأيت هذا الموكب الذي مر بي؟
Page inconnue