Al-Sahib and Caliph Abu Bakr Al-Siddiq
الصاحب والخليفة أبو بكر الصديق
Genres
موقف الصديق ﵁ في إنفاذ بعث جيش أسامة بن زيد ﵄
وانظروا إلى موقف آخر من مواقفه ﵁ وأرضاه في إنفاذ بعث أسامة بن زيد ﵄، وسنأتي -إن شاء الله- إلى تفصيل هذا الأمر لما نتحدث عن حروب الردة بالتفصيل، لكن هنا نشير في عجالة إلى أمر من أمور الصديق في هذا البعث.
والحقيقة نحن نسمع بإنفاذ بعث أسامة بن زيد ﵄ فلا يعطيه أحدنا قدره، وإنما يتخيل أنه مجرد جيش خرج ولم يلق قتالًا يذكر فأي عظمة في إخراجه؟ لكن بدراسة ملابسات إخراجه تدرك عظمة شخصية الصديق، وكيف أنه بهذا العمل الذي هو أول أعماله في خلافته قد وضع سياسة حكمه بوضوح والتي تعتمد في المقام الأول على اتباع الرسول ﷺ دون تردد ولا شك.
وكان رسول الله ﷺ قد أعد هذا البعث ليرسله لحرب الروم في شمال الجزيرة العربية، وقد أمر عليه أسامة بن زيد ﵄ ولم يبلغ الثامنة عشرة من عمره بعد، ثم توفي رسول الله ﷺ وارتدت جزيرة العرب جميعًا، وكانت الجزيرة العربية كلها تموج بالردة، ومع هذا أصر أبو بكر الصديق أن ينفذ بعث أسامة بن زيد إلى الروم، مع اعتراض كل الصحابة على ذلك الأمر؛ لأنه ليست لهم طاقة بحرب المرتدين فكيف يرسل جيشًا كاملًا لحرب الروم ويترك المرتدين.
والحق أنه قرار عجيب! وتخيل معي أن البلاد في حرب أهلية عنيفة وبها أكثر من عشر ثورات ضخمة ثم يرسل زعيم البلاد جيشًا لحرب دولة مجاورة كان قد أعده زعيم سابق، لكن أبا بكر الصديق كانت الأمور عنده في ذهنه في منتهى الوضوح، فما دام رسول الله ﷺ قد أمر فلا مجال للمخالفة حتى وإن لم تفهم مقصود رسول الله ﷺ، حتى وإن لم تطلع على الحكمة والغاية، وهذه درجة إيمانية عالية جدًا.
ثم إن رسول الله ﷺ كان يعلم بردة مسيلمة الكذاب في اليمامة في بني حنيفة وردة الأسود العنسي في اليمن، ومع ذلك قرر أن يرسل البعث إلى الشام، إذًا: لابد من الاتباع، فما دام قد أمر ﷺ فالخير كل الخير فيما أمر، فأصر الصديق على إنفاذ البعث إلى الروم.
وجاءه الصحابة يجادلونه ويحاورونه، والصحابة على قدرهم الجليل لا يصلون إلى فهم الصديق ﵁ وأرضاه، فماذا قال لهم؟ قال لهم في ثبات عجيب: والله! لا أحل عقدة عقدها رسول الله ﷺ ولو أن الطير والسباع من حول المدينة تخطفنا، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذن جيش أسامة.
إنه كلام شديد، ولما رأى الصحابة إصرار أبي بكر الصديق ﵁ قال بعضهم لـ عمر بن الخطاب: قل له: فليؤمر علينا غير أسامة.
يعني: أسامة صغير عمره ثماني عشرة سنة، وهذا أمر شديد ومهمة عظيمة، فذكر ذلك له ابن الخطاب ﵁، فانتفض أبو بكر وأخذ بلحية عمر بن الخطاب ﵁ وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! أؤمر غير أمير رسول الله ﷺ؟ انظر إلى المعنى: الرسول ﷺ اختار هذا فهذا هو الحق، ولحظات الغضب في حياته ﵁ وأرضاه كانت قليلة جدًا، وكانت في غالبها إذا انتهكت حرمة من حرمات الله ﷿ أو عطل أمر من أوامر رسول الله ﷺ.
وبالفعل أنفذ جيش أسامة بن زيد ﵄، وكان الخير في إنفاذه، وارتعبت قبائل الشمال وسكنت الروم، وظنوا أن المدينة في غاية القوة، يعني: أنه ليس معقولًا أن يخرج هذا الجيش الضخم الكبير إلى حرب الروم والمدينة ليست فيها حماية، لكن فعلًا المدينة لم يكن فيها حماية كافية، لكن هذا الخير كان من وراء إنفاذ أمر رسول الله ﷺ.
ورأى الصحابة بعد ذلك بأعينهم صدق ظن الصديق ﵁ وأرضاه، لكن الصديق كان يرى الحدث قبل وقوعه؛ لأنه كان يرى بعين رسول الله ﷺ.
2 / 5