الإبانة عن أسباب الإعانة على صلاة الفجر وقيام الليل
الإبانة عن أسباب الإعانة على صلاة الفجر وقيام الليل
Genres
الإبانة
عن أسباب الإعانة على صلاة الفجر وقيام الليل
د. رقية بنت محمد المحارب.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُه، ونستعينُه، ونستهديه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضِلَّ له، ومَن يُضللْ فلا هاديَ له؛ وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه (١) .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:١٠٢]
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:١]
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:٧٠، ٧١]
أمَّا بعد..
فإنَّا في زمانٍ كَثُرت في الفتنُ، وفشت فيه الذنوبُ، وتجافى الناسُ عن دينِهم إلا من رحِمَ ربُّك، حتَّى صارَ القابضُ على دينِه كالقابضِ على الجمرِ.
_________
(١) خُطبة الحاجة من حديث ابن مسعود ﵁.
1 / 1
وبُعدُ الناسِ عن دينهم شرٌ لهم، ووبالٌ عليهم، وتقرُّبهم إلى اللهِ بالطاعاتِ وعملِ الخيراتِ والحرصِ عليها خيرٌ لهم، ونجاةٌ من عذابِ اللهِ وسخطِه، ولن يزيدوا في مُلكِ الله شيئًا؛ إنما يُنقذون أنفسَهم من النَّارِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:٦]
ولقد اقتضت حكمةُ العليم ِالخبيرِ أن يخلقَ الجنةَ والنارَ، ويخلقَ لكلٍّ أهلًا؛ فأهلُ الجنةِ هم أهلُ الطاعةِ والإيمانِ، وأهلُ النارِ هم أهلُ الكفرِ والفسوقِ والعصيانِ، وذلك غايةُ العدلِ من اللهِ، فما كان اللهُ ليُضيعَ إيمانَ المؤمنين، ويُهملَ الكفارَ دون عقابٍ ولا جزاءٍ.
ولكنَّ اللهَ سبحانه إذ خلق جنَّتَه وجعل لدخولِها عملًا؛ جعل هذا العملَ ميسورًا سهلًا وهو كذلك لمن يسَّره اللهُ عليه، وأخذَ بأسبابِه، أما مَن اتَّبعَ هواه، واقتفى أثرَ الشيطانِ، وتمنَّى على اللهِ الأمانيَّ؛ فليس بميسورٍ، إلا أن يتوبَ إلى اللهِ، ويحاربَ الشيطانَ بكلِّ الوسائلِ التي يستطيعها.
والعملُ الصالحُ ينقسمُ قسمين:
قسمٌ لا ينفكُّ المسلمُ عنه، فلا بدَّ من الإتيانِ به، ولا يُعذَرُ المرءُ بتركِه، وهذا عليه المعوَّلُ في دخولِ الجنَّةِ والنجاةِ من النَّارِ، وذلك كالإيمانِ باللهِ سبحانَه، وملائكتِه، وكتبِه، ورسلِه، واليومِ الآخرِ، وبالقدرِ خيرِه وشرِّه، وإقامةِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وصومِ رمضانَ، وحجِّ بيتِ اللهِ الحرامِ لمن استطاعَ إليه سبيلًا.
1 / 2
وقسمٌ يأتي به المسلمُ على قدرِ طاقتِه، وليس بمكلَّفٍ به حتمًا، ولا يأثمُ بتركِه، وإنما يزدادُ بفعلِه عند اللهِ قُربًا، وجزاءُ هذا العملِ الازديادُ في الأجرِ والثوابِ والارتقاءُ في درجاتِ الجنَّةِ، فإنَّها درجاتٌ؛ مابين الدرجةِ والتي تليها كما بينَ السماءِ والأرضِ.
وهذا القسمُ يتمثَّلُ في النوافلِ والسُّننِ ومكارمِ الأخلاقِ.
وقد قدَّم اللهُ القسمَ الأولَ على الثَّاني وجعلَ القربَ من اللهِ لا يكون إلا به، ثم يزدادُ بالثَّاني محبةً وقربةً، وقد بيَّن ذلك الحديثُ النبويُّ القدُسيُّ الصحيحُ الذي يرويه المصطفى ﷺ عن ربِّه فيقول: (يقول اللهُ ﷿: ماتقرَّب إليَّ عبدي بأحبَّ مما افترضتُه عليه، ولا يزالُ عبدي يتقرُّبُ إليَّ بالنوافلِ حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يبصرُ به، ويدَه التي يبطشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها، ولَئِن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه) متفق عليه.
فمن ذا الذي لا يريدُ قربَ اللهِ، ومن ذا الذي لا يريدُ أن يكونَ اللهُ لهُ مُحبًّا؟!، وهل يفرطُ الحبيبُ في حفظِ حبيبِه أو نصرتِه أو عطائِه؟!، الكُلُّ يتمنى ذلكَ، ولكن؛ هل كلٌّ يستطيعُ أن يتقرَّبَ إلى اللهِ بالفرائضِ، ويزدادَ تنفُّلًا حتى يُحِبَّه اللهُ ويكونَ سمعَه وبصرَه فلا يسمعُ إلا باللهِ، ولايبصرُ إلا به؟!
إنَّ هذا الفضلَ لا يمكن أن يُسدى هكذا دون بذلٍ أو تعبٍ، وهل يتفوقُ الكسلانُ، أو هل ينجحُ المهملُ؟!
لا بدَّ من البذلِ، لا بدَّ من الجهادِ للنفسِ والشيطانِ.
وإنِّي لأهمسُ في آذانِ إخواني.. الحياةُ كلُّها تعبٌ، ولا راحةَ فيها لأحدٍ، ويؤكد ذلكَ قولُه تعالى: (فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) [طه:١١٧] .
1 / 3
فلمَ لا يكونُ تعبُنا محقِّقًا لنتيجةٍ ...؟! نتيجةٍ عظيمةٍ، لا تزولُ ولا تحولُ، إنَّها الجنَّةُ، الجنَّةُ التي لم ترَ عينٌ ولم تسمعْ أُذنٌ ولم يخطرْ على قلبِ بشرٍ نعيمُها.
ومن كان تعبُه للدُّنيا كثيرًا فتعبُه للآخرةِ قليلٌ، ومن هذه حالُه؛ ضَحِكَ قليلًا، وبكى كثيرًا.
إنَّ الناسَ اليومَ قد قصَّروا كثيرًا في طلبِ الآخرةِ، وأكبُّوا على الدُّنيا وتعبوا في طلبِها. فكم من عبدٍ يسهرُ ليلَه في التفكيرِ في مشروعِه التجاريِّ، ويقومُ الفجرَ لمتابعةِ بنيانِه أو تجاراتِه. وكم من شابٍّ وشابةٍ يقومان قبلَ الفجرِ للمذاكرةِ للامتحانِ!! ولكنَّهم ينامون ملءَ جفونِهم عن صلاةِ الفجرِ، بل ولا يفكَّرون أن يقوموا من الليلِ ساعةً أو عشرَ ساعةٍ. إذا لم يستدعِهم إلى القيامِ شيءٌ من أمورِ الدُّنيا.
لقد قصَّرَ الناسُ في هذه الأيامِ في طاعةِ ربِّهم!! ومن مشاهِدِ هذا التقصيرِ، التقصيرُ في صلاةِ الفجرِ.. فلا تكاد ترى شابًّا مستيقظًا مع الأذانِ لصلاةِ الفجرِ يريد أن يُدركَ تكبيرةَ الإحرامِ أو يدركَ ركعتي الفجرِ التي هي خيرٌ من الدُّنيا وما فيها. فضلًا على أن ترى شابًّا صافًّا قدميه في مصلَّاه قبلَ الفجرِ بساعةٍ يرجو رحمةَ ربّهِ ويحذرُ الآخرةَ، يُناجي مولاه ويشكو إليه حالَه وفقرَه وضَعفَه، ويسألُه من خيرِ الدُّنيا والآخرةِ.
إنَّ هذا التقصيرَ في صلاةِ الفجر وحضورِها، وهذا التفريطُ في قيامِ الليلِ الذي هو خيرُ عبادةٍ بعدَ الفرائضِ، جعلني أحاولُ نصحَ إخواني وأخواتي خلالَ هذه الرسالةِ لنناقشَ معًا أسبابَ هذا التقصيرِ، وكيفيةَ تحاشيه، لعلَّ اللهَ أن يرفعَ عن هذه الأمةِ ما حلَّ بها من الفُرقةِ والفتنِ، أو يقبضنا على خيرٍ ويلحقنا بالصَّالحين.
وسأتناولُ في رسالتي هذه النقاطَ التاليةَ:
- تهاونَ النّاس في صلاةِ الفجرِ.
- الترغيبَ في حضورِ الفجرِ جماعةً والترهيبِ من تركِها.
- فضلَ قيامِ اللَّيلِ.
1 / 4
- فيما يعودُ على المسلمِ من قيامِ الليلِ في الدُّنيا والآخرةِ.
- الأسبابَ المعينةَ على قيامِ الليلِ.
- الترهيبَ من تركِ قيامِ الليلِ.
- ما جاء عن رسولِ اللهِ ﷺ في قيامِ الليلِ.
- بعضَ الآثارِ عن السَّلفِ الصَّالحِ في قيامِ الليلِ.
فصلٌ
في تهاونِ النَّاسِ في صلاةِ الفجرِ
أعتقد أنَّه لا يُخالفني أحدٌ في أنَّ حضورَ صلاةِ الفجرِ جماعةً، أو أداءَها في وقتها أقلُّ من غيرِه من الفروضِ؛ فمن يرى المصلين في صلاةِ المغربِ أو العشاءِ، ويراهم في صلاةِ الفجرِ؛ يدركْ مدى التهاونِ في صلاةِ الفجرِ، وكم نسبة المتهاونين فيها.
إنّ مؤدِّي صلاةِ الفجرِ لا يبلغون ربعَ (١) مؤدِّي صلاةِ المغربِ - مثلًا- فلمَ ذلك؟!
أليستا في الفرضيِّةِ سواءٌ؟ أليستا في الأجرِ سواءٌ؟! بل خُصَّت صلاةُ الفجرِ بشرفِ شهودِ اللهِ لها، وبأنَّها صلاةٌ مشهودةٌ، ومن صلَّاها جماعةً فكأنَّما صلَّى الليلَ كلَّه، كما أخبرَ بذلك المصطفى ﷺ، وشرفُ شهودِ صلاةِ الفجرِ أخبر عنه سبحانه بنصِّ الآيةِ، حيث قال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:٧٨]، قال المفسرون: قرآنُ الفجرِ، صلاةُ الصبحِ، وسمِّيت بذلك لكثرةِ ما يُقرأ فيها من القرآنِ، ومشهودًا: أي تشهده ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهارِ (٢) .
إنَّ هذا التفريطَ مدعاةٌ لغضبِ الربِّ سبحانه، فإنَّه ينزلُ إلى السماءِ الدُّنيا في ثُلثِ الليلِ الأخيرِ حتى يُصلَّى الفجرُ. فكيف لا يغضبُ اللهُ تعالى وهو يرى من عبادِه الزهدَ في لقائِه، وإيثارَ النومِ والراحةِ على القيامِ لمناجاتِه وسؤاله، وهو المتفضلُ ذو الجلالِ والإكرامِ.
_________
(١) نشرت مجلة الدعوة بتاريخ ٢٠/١٠/١٤١١ تحقيقًا بعنوان "صلاة الفجر الحد الأعلى ربع المصلين" وقد أجريت مقابلات مع عدد من أئمة المساجد شهدوا بذلك. فراجعه إن شئت العدد ١٢٩٠
(٢) تفسير الشوكاني
1 / 5
أين نحنُ من رسولِ اللهِ ﷺ؟ الذي غُفرَ له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّرَ، وكان يقومُ حتى تتفطَّرَ قدماه، فيُقالُ له، فيقولُ: أفلا أكونُ عبدًا شكورًا.
روى المغيرةُ بنُ شعبةَ –﵁ قال: (قام رسولُ الله ﷺ حتى تفطرت قدماه فقيل له: أمَا قد غُفر لك ما تقدم من ذنبِك وما تأخر؟، قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا) متفق عليه،
قال الغزاليُّ –﵀:" يظهرُ من معناه أنَّ ذلك كنايةٌ عن زيادةِ الرُّتبةِ، فإنَّ الشكرَ سببُ المزيدِ، قال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:٧] " (١) .
يظهرُ من هذا الحديثِ مدى حرصِ المصطفى – ﷺ على عبادةِ ربِّه، ومع هذا فلم تزل تتنزَّلُ عليه الآياتُ التي هي أشدُّ على صدرِه من وقعِ الجبالِ (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا) [المزمّل:٥] .
اللهُ أكبرُ!! كيف نتصوَّرُ تلقِّي رسولِ اللهِ ﷺ لقولِه تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) [الإسراء:٧٣-٧٥]
كيف نتصوَّرُ تلقِّي رسولِ اللهِ ﷺ لقولِه تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الزمر:٦٥]
كيف نتصوَّرُ تلقِّيه ﷺ لقولِه تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة:٦٧]
_________
(١) إحياء علوم الدين (١/٣٥٣)
1 / 6
بل كيف نتصوَّرُ تلقِّيه ﷺ لقولِه تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [الأنفال:٦٧،٦٨]
اللهُ أكبرُ؛ كيف يتحمَّلُ رسولُ اللهِ ﷺ تلقّيَ هذه الآيةِ؟! إنَّه الصبرُ.. إنَّه الصلاةُ.. إنَّه الإيمانُ العظيمُ الراسخُ.. إنَّه الاجتهادُ والمجاهدةُ لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا، وليقامَ شرعُ اللهِ في الأرضِ.. إنه كمالُ المحبةِ.. وكفى!!.
كمالُ المحبةِ الذي يجعله ﷺ يقومُ الليلَ وثلثيه ونصفَه وثُلثَه.. يرتل القرآنَ ترتيلًا، باكيًا، خاشعًا، خائفًا على أمتِه. إنَّ هذا الوقوفَ بين يدي اللهِ في هدأةِ العيونِ وظُلَمِ الليالي والسكونِ؛ لهو أكبرُ دليلٍ على محبةِ الرسولِ ﷺ لربِّه تعالى، مع أنَّه غَفرَ له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّرَ. إنَّها لذةُ المناجاةِ للحبيبِ التي لا يعرفُها إلا من ذاقَها.
إنّ هذه الوقفةَ والمناجاةَ تحقِّقُ لذةً في القلبِ أثناءَها وبعدَها، ونورًا في الوجهِ على الرغمِ من السَّهَرِ؛ حيث يشعرُ العبدُ بالغِبطةِ والسَّعادةِ. وسرُّ ذلك رضا اللهِ ﷾ حيث يضحكُ ويعجبُ لمن يترك فراشَه الوثيرَ، وزوجتَه الحسناءَ، رغبةً فيما عند اللهِ وطلبًا لمرضاته.
وكيف لا يرضى وهو الذي يقولُ: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) [النساء:١٤٧]
إن شكرتمُ!!
تأملي أختي، وتأملْ أخي هذه الكلمةَ وتأملْ قولَه ﷺ: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) .
1 / 7
شكورًا بماذا؟ بالقيامِ بالعبادةِ والعملِ لا باللسانِ والقلبِ فقط، فهل نحنُ نشكرُ اللهَ على نعمِه التي لا تُحصى بالقيامِ ولو ساعةً أو ربعَ ساعةٍ؟!
كثيرٌ منا يردد الشكرَ بقلبِه وعلى لسانِه فإذا ذكَّرَ بالشكرِ بالعملِ قال: اللهُ يهدينا ويعفو عنا.
نعم.. الدعاءُ بالهدايةِ والعفوِ مطلوبٌ.. ولكن هل بذلنا أسبابَ الهدايةِ والعفوِ.. وهل نريد أن نبذلَها؟!
إن كُنَّا نريد أن نبذلَها حقًّا، فلنتعاونْ على بيانِ أسبابِ القيامِ، ونتعاون كذلك على العملِ بها، ونسألُ المولى الغنيَّ الكريمَ أنْ يعلِّمَنا ما ينفعُنا وينفعَنا بما علَّمنا، ولا يكون همُّنا نيلَ العلمِ لمماراةِ السفهاءِ، والرياءَ والسمعةَ.
فصلٌ
في الترغيبِ في حضور الفجر جماعةً والترهيبِ من تركها
أخي المؤمنُ إنَّ من أعظمِ الأسبابِ المعينةِ على القيامِ لصلاةِ الفجرِ؛ معرفتَك للأجرِ العظيمِ الذي يحظى به مُصلِّي الفجرِ شاهدًا.. أيُّ في أولِ الوقتِ.. وكذلك في الجماعةِ.
وقد جاءت النصوصُ بالحثِّ على إقامةِ الصلواتِ في وقتِها جماعةً في المساجدِ، وتفضيلِ صلاةِ الجماعةِ على صلاةِ المنفردِ، وفضلِ الخطى إلى المساجدِ.
ومن هذه النصوصِ:
قولُ النبيِّ ﷺ: (صلاةُ الرجلِ في جماعةٍ تضعُف على صلاتِه في بيتِه وفي سوقِه خمسًا وعشرين ضعفًا، ذلك إذا توضأ فأحسنَ الوضوءَ ثم خرجَ إلى المسجدِ لا يخرجُه إلا الصلاةُ لم يخطُ خطوةً إلا رُفعت له بها درجةٌ، وحُطَّ عنه بها خطيئةٌ، فإذا صلَّى لم تزلِ الملائكةُ تصلِّي عليه، ما دام في مصلَّاه ما لم يحدث، اللَّهم ارحمه، ولا يزال في صلاةٍ ما انتظر الصلاةَ) متفق عليه.
وعن ابنِ مسعودٍ ﵁ يرفعه: (من سرَّه أن يلقى اللهَ غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاءِ الصلواتِ حيث يُنادى بهنَّ، فإنَّ اللهَ تعالى شرع لنبيِّكم ﷺ سنَنَ الهدى وإنهنَّ من سننِ الهدى) رواه مسلم.
1 / 8
ومن كان شديدَ التعلُّقِ بالمساجدِ لأداءِ الصلاةِ مع الجماعةِ فيها، فإنَّ اللهَ سيظلُّه بظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه. فعن أبي هريرةَ –﵁ عن النبيِّ ﷺ قال: (سبعةٌ يظلهم اللهُ بظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه،.. وذكر منهم ... ورجلٌ قلبُه معلَّقٌ بالمساجدِ) متفق عليه.
ويزيدُ فضلُ الجماعةِ بزيادةِ المصلين، فقد قال الرسولُ ﷺ: (وإنّ صلاةَ الرجلِ مع الرجلِ أزكى من صلاتِه وحدَه، وصلاتُه مع الرجلين أزكى من صلاتِه مع الرجلِ، وما هو أكثرُ فهو أحبُّ إلى اللهِ تعالى) أخرجه أبو داوود وحسنه الألباني.
وكان اهتمامُ النبيِّ ﷺ بصلاةِ الجماعةِ اهتمامًا شديدًا. فلم يتركها حتى في ساحاتِ القتالِ في أشدِّ الأحوالِ وأخطرِها، ولكن كانت هيئةُ الصلاةِ وكيفيتُها تتكيَّفُ بحسب الأوضاعِ، وكان حريصًا عليها حتى مع شدةِ مرضِه –ﷺ فقد كان يوصي بها ويسألُ عنها، وقال: (من صلَّى أربعين يومًا في جماعةٍ يدركُ التكبيرةَ الأولى كتب اللهُ له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق) أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
أما صلاةُ الفجرِ خاصةً فقد تميَّزتْ بفضائلَ عديدةٍ، زيادةً في الترغيبِ في حضورِها، فمن كان عليها محافِظًا كان لغيرِها أحفظ.
قال تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:٧٧]، فأمرَ بإقامةِ الصلواتِ ثم خصَّ بالذكرِ صلاةَ الفجرِ بأنَّها مشهودةٌ، تشهدها وتحضرها ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهارِ، وذلك زيادةٌ في فضلِها وبركتِها.
1 / 9
وقال سبحانه: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة:٢٣٨] . والصلاةُ الوسطى اختُلف فيها على أقوالٍ؛ منها أنَّها صلاةُ الفجرِ، ومنها أنَّها صلاةُ العصرِ وهو رأيُ الجمهورِ لما ثبت عند البخاريِّ ومسلمٍ وأهلِ السننِ وغيرِهم من حديثِ عليٍّ –﵁ قال: (كنَّا نراها الفجرَ حتى سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول يومَ الأحزابِ: (شغلونا عن الصلاةِ الوسطى صلاةِ العصرِ ملأَ اللهُ أجوافَهم وقبورَهم نارًا) .
وقال النبيُّ ﷺ: (من صلَّى الصبحَ فهو في ذمةِ اللهِ، فلا يطلبنَّكم اللهُ من ذمتِه بشيءٍ، فإنَّ من يطلبه من ذمتِه بشيءٍ يدركه، ثم يكبّه على وجهِه في نارِ جهنمَ) رواه مسلمٌ، أي: هو في أمانِ اللهِ وجوارِه، فلا ينبغي لأحدٍ أن يتعرَّضَ له بضرٍّ أو أذىً، فمن فعل ذلك فاللهُ يطلبه بحقِّهِ، ومن يطلبه لم يجد مفرًّا ولا ملجأ (١) .
وقال النبيُّ –ﷺ: (من صلَّى العشاءَ في جماعةٍ فكأنمَّا قام نصفَ الليلِ ومن صلَّى الصبحَ في جماعةٍ فكأنَّما قام الليلَ كلَّه) رواه مسلم.
وقال ﷺ: (من صلَّى البردين دخلَ الجنةَ) متفق عليه، والبردان: الفجرُ والعصرُ.
وقال: (لن يلجَ النارَ أحدٌ صلَّى قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غروبِها) رواه مسلم.
وقال: (بشِّر المشَّائين في الظُّلَم إلى المساجدِ بالنورِ التامِّ يومَ القيامة) أخرجه أبو داوود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
وعن عائشةَ ﵂ قالت: قال رسولُ اللهِ –ﷺ: (لو يعلم الناسُ ما في النداءِ والصفِّ الأولِ ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا ولو يعلمون ما في التَّهجيرِ لاستقبوا إليه ولو يعلمون ما في صلاةِ العشاءِ –العتمةِ-، وصلاة الفجرِ – الصبحِ-، لأتوهما ولو حبوًا) متفق عليه.
_________
(١) المفهم لما أشكل من صحيح مسلم
1 / 10
ومن حافظَ على صلاةِ الفجرِ جماعةً فإنَّه يبرأ من صفاتِ المنافقين وأن يكونَ منهم، لأنَّ صلاةَ الفجرِ ثقيلةٌ على المنافقين. لحديثِ: (إن أثقلَ صلاةٍ على المنافقين صلاةُ العشاء وصلاةُ الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا) متفق عليه.
كما أنَّ الحفاظَ على صلاةِ الفجرِ سببٌ معينٌ رؤيةِ اللهِ تعالى يومَ القيامةِ، فعن جريرٍ –﵁ قال: كنَّا جلوسًا عندَ النبيِّ – ﷺ إذ نظرَ إلى القمرِ ليلةَ البدرِ فقال: (أمَا إنَّكم سترون ربَّكم كما ترون هذا لا تضامون ولا تضاهون في رؤيتِه، فإن استطعتم أن لا تُغلَبوا على صلاةٍ قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غروبِها فافعلوا، ثم قال: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) رواه البخاري.
وقد أخبرَ النبيُّ – ﷺ بأنَّ سنةَ الفجرِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، فكيف بصلاةِ الفجرِ نفسِها؟! قال رسولُ اللهِ – ﷺ: (ركعتا الفجرِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها) رواه مسلم.
ومن أراد التكثُّرَ من الخيراتِ وزيادةَ الحسناتِ، جلس بعد أن يصليَ الفجرَ يذكرُ اللهَ تعالى حتى تطلعَ الشمسُ وهو في مصلَّاه، فقد قال النبيُّ – ﷺ (من صلَّى الفجر في جماعةٍ ثم قعد يذكر اللهَ حتى تطلعَ الشمسُ ثم صلى ركعتين كانت له كأجرِ حجةٍ وعمرةٍ تامة تامة تامة) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
ونلحظ في هذا الحديثِ أن النبيَّ –ﷺ قد نصَّ على أنَّ الصلاةَ تكون في جماعةٍ ليتمَّ له الأجرُ المذكورُ.
كلُّ هذه الأجورِ لمن أقام صلاتَه وأحسنها كما أراد اللهُ؛ واللهُ يضاعفُ لمن يشاء.
1 / 11
أما أصحابُ نومِ اللَّيالي والكُسالى عن صلاةِ الفجرِ، فهؤلاءِ وصفَهم القرآنُ بالنفاقِ، قال تعالى: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا) [النساء:١٤٢] .
وعليك أن تنظرَ في عقوبةِ تاركِ حضورِ الجماعةِ، وصلاةِ الفجر، وكيف رهَّب رسولُ اللهِ –ﷺ من ذلك ليَجِلَ قلبُك وتخافَ من التفريطِ، وقد جمعتُ بعضَ النصوصِ المفيدةِ في ذلك، منها:
١- قولُه تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم:٥٩]، واختلفَ أهلُ العلمِ في المرادِ بإضاعتِهم الصلاةَ فقال بعضُهم: تأخيرُها عن وقتِها وقال بعضُهم: الإخلالُ بشروطِها وقيل: إضاعتُها في غيرِ الجماعاتِ، وكلُّ هذه الأقوالِ تدخلُ في الآيةِ (١) .
٢- قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون:٤،٥]، ساهون:إما عن وقتِها الأولِ فيؤخِّرونها إلى آخرِه دائمًا أو غالبًا، وإما عن أدائِها بأركاِنها وشروطِها على الوجهِ المأمورِ به، وإما عن الخشوعِ فيها والتدبُّرِ لمعانيها فاللَّفظُ يشملُ ذلك كلَّه (٢) .
٣- عن أبي هريرةَ –﵁ قال: قال رسولُ اللهِ – ﷺ: (لقد هممتُ أن آمرَ فِتيتي فيجمعوا لي حُزمًا من حطبٍ، ثم آتي قومًا يصلُّون في بيوتِهم ليست بهم عِلَّةٌ فأحرِّقُها عليهم) رواه مسلم.
٤- عن ابن عباسٍ –﵄ قال: قال رسولُ اللهِ –ﷺ: (من سمع النداءَ فلم يمنعْه من اتباعه عذرٌ، قالوا: وما العذرُ؟ قال: خوفٌ أو مرضٌ. لم تُقبل منه صلاتُه التي صلَّى) رواه أبو داوود وابن حبان في صحيحه وصححه الألباني.
_________
(١) أضواء البيان للشنقيطي، تفسير سورة مريم.
(٢) ابن كثير، تفسير سورة الماعون ٤/٦٨١
1 / 12
٥- وفي حديثٍ لابن مسعودٍ –﵁ مرفوعًا قوله: (ولو أنَّكم صلَّيتم في بيوتِكم كما يصلِّي هذا المتخلِّفُ في بيتِه لتركتم سنةَ نبيِّكم ولو تركتم سنَّةَ نبيِّكم لضللتُم) رواه مسلم.
٦- وفي حديثِ الرُّؤيا التي رآها النبيُّ ﷺ وقال فيه: (..وإنَّا أتينا على رجلٍ مضطجعٍ وإذا آخرُ قائمٌ عليه بصخرةٍ وإذا هو يهوي بالصخرةِ لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجرُ ... أما الرجلُ الأولُ الذي أتيت يُثلغ رأسُه بالحجرِ فإنَّه الرجلُ يأخذُ القرآنَ فيرفضه وينامُ عن الصلاة المكتوبة) رواه البخاري.
٧- وعن أبي الدَّرداءِ – ﵁ قال: سمعتُ رسولَ اللهِ – ﷺ يقول: (ما من ثلاثةٍ في قريةٍ ولا بدوٍ لا تقام فيهم الصلاةُ إلا قد استحوذ عليهم الشيطانُ فعليك بالجماعةِ، فإنما يأكل الذئبُ القاصيةَ) رواه أبو داوود والنسائي وحسنه الألباني.
فاحذر يا عبدَاللهِ أن تلحقَ بك هذه العقوباتُ، وتبوء بالإثمِ والضلالِ، وإنَّ الخيرَ كلَّ الخيرِ في متابعةِ رسولِ اللهِ –ﷺ، والشرُّ كلُّ الشرِ في مخالفةِ أمرِه (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:٦٣]
1 / 13
فإلى أيِّ الفريقين تريد أن تنضمَّ ومعَ أيِّهم تريد أن تحشرَ؟! هما فريقان لا ثالثَ لهما، ليسوا سواءً في العملِ؛ وليسوا سواءً في الجزاءِ، قال تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة:١٨-٢١]
تنبَّه يا أخي لهذا، فإنَّه موعظةٌ لك. فإن لم تتذكرْ وتَعُدْ إلى ربِّك وتحافِظْ على صلاتِك وتتقرب إليه بذلك؛ فاحذر أن تكونَ ممَّن قال اللهُ فيه: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) [السجدة:٢٢]
ولو تأملنا حالَ السلفِ –رضوانُ اللهِ عليهم- لرأينا شدةَ عنايتِهم بحضورِ الجماعةِ؛ فلا تكاد تفوتُ أحدَهم تكبيرةُ الإحرام، ثم نرى عنايتَهم كذلك بقيامِ الليلِ. فبعد أن أتمُّوا الفرائضَ جعلوا يتلمَّسون النوافلَ، بل ويُعاتبُ بعضُهم بعضًا على تركِ قيامِ الليلِ. فضلًا عن صلاةِ الفجرِ، لذا كانت لهم قيادةُ العالمِ، والعزةُ والسِّيادةُ، فلو عادَ المسلمون اليومَ إلى سالفِ عهدِهم؛ لعادت لهم السيادةُ، وذلك بعدَ أن تكتملَ الصفوفُ في صلاةِ الفجرِ.
يمشون نحو بيوتِ اللهِ إذ سمعوا ... اللهُ أكبرُ في شوقٍ وفي جَذَلِ
أرواحُهم خشعت للهِ في أدبٍ ... قلوبهم من جلال الله في وَجلِ
نجواهمُ ربّنا جئناك طائعة ... نفوسُنا وعصينا خادعَ الأملِ
إذا سجى الليلُ قاموهُ وأعينُهم ... من خشية اللهِ مثل الجائدِ الهطِلِ
1 / 14
هم الرجالُ فلا يُلهيهمُ لعبُ ... عن الصلاةِ ولا أكذوبةُ الكسلِ.
فصلٌ
في فضلِ قيامِ اللَّيلِ
من رحمةِ اللهِ تعالى أنْ شرعَ لنا النوافلَ لتكمِّلَ ما في الفرائضِ من نقصٍ، ولتزيدَ في الموازين من الحسناتِ، فجعل اللهُ للفرائضِ من جنسِها نوافلَ، فالصلاةُ -وهي عمودُ الدِّينِ كانت خمسَ صلواتٍ مفروضة، لا يجب علينا غيرُها إلا أن نطَّوع-جعل اللهُ لها نوافلَ تكمِّلها، فأفضلُ الصلاةِ بعدَ المكتوبةِ قيامُ اللَّيلِ، ومن الذي يدَّعي أنَّ فرائِضَه قد كَمُلت حتى يستغنيَ عن التنفُّلِ. فعن أبي هريرةَ ﵁ قال: سمعت رسولَ الله ﷺ، يقول: (إنَّ أوَّلَ ما يُحاسب به العبدُ يومَ القيامةِ من عملِه صلاتُه، فإنَّ صلحت فقد أفلحَ وأنجحَ، وإن فسدت فقد خاب وخسر فإن انتَقَصَ من فريضتهِ شيءٌ قال الرَّبُّ ﷿: انظروا هل لعبدِي من تطوُّعٍ، فيكمل بها ما انتَقَصَ من الفريضةِ ثم يكونُ سائرُ عملِه على ذلك) رواه الترمذي وأبو داوود وابن ماجه وصححه الألباني.
وقال ﷺ فيما يرويه عن ربِّه ﷿: (وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقربُ إليَّ بالنوافلِ حتى أحبَّه فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به ...) رواه البخاري.
1 / 15
وقد افترضَ اللهُ ﷾ في أوَّلِ الأمرِ قيامَ اللَّيلِ، فقام النبيُّ – ﷺ وأصحابُه حولًا، وذلك في قولِه تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا) [المزمل:١،٢]، كما قالت عائشةُ –﵂: (فإنَّ اللهَ افترض قيامَ الليلِ في أوَّلِ هذه السورةِ فقام نبيُّ الله –ﷺ وأصحابُه حولًا وأمسك اللهُ خاتمتَها اثني عشر شهرًا، حتى أنزلَ اللهُ في آخرِ هذه السورةِ التخفيفَ، فصار قيامُ الليلِ تطوعًا بعدَ فريضةٍ) رواه مسلم.
وقال تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) [الإسراء:٧٨،٧٩] بعدَ الأمرِ بالصلواتِ الخمسِ، ذكر اللهُ الأمرَ بالتهجُّدِ في الليلِ، أي: قم بعدَ نومِك. والتهجُّد لا يكون إلا بعدَ النومِ، (نافلةً لك) أي: زيادةً لك،يريد فضيلةً زائدةً على سائرِ الفرائضِ فرضها اللهُ عليك، وذهبَ آخرون إلى أنَّ الوجوبِ صار في حقِّه منسوخًا كما في حقِّ أمَّته، فصارت نافلةً، وهو قولُ مجاهدٍ وقتادةَ، لأنه الله قال: (نَافِلَةً لَكَ) ولم يقل عليك (١) .
وقال تعال: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) [الطور:٤٩]
وقال تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا) [الإنسان:٢٦]
_________
(١) مختصر تفسير البغوي
1 / 16
هذه كلُّها أوامرُ للنَّدبِ في قيامِ الليلِ كما دلت عليه السنةُ المطهرةُ؛ فعليك أن تسارعَ إلى القيامِ بما أوجبَ اللهُ عليك، فإنَّه أحبُّ ما تقربتَ به إليه، وأنتَ عبدٌ ضعيفٌ فقيرٌ إلى عفوِ ربِّك وغناه وجزائِه ومثوبتِه، فبادر إلى التنفُّلِ في جوفِ الليلِ فإنَّه أفضلُ الصلاةِ بعدَ الفريضةِ، وتذكَّر أنَّ قيامَ الليلِ صفةُ عبادِ اللهِ المؤمنين الذين امتدحهم وأثنى عليهم. ووصفَ ما أعدَّه اللهُ لهم من نعيمٍ وما لهم من ثوابٍ في محكمِ كتابِه في آياتٍ متعددةٍ منها قولُه تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) هذه صفتُهم وهذا عملُهم، أما جزاؤهم فإنَّه أعظمُ مما قدَّموا: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:١٦،١٧]
فأيُّ نعيمٍ هذا وأيُّ جزاءٍ وأيُّ مثوبةٍ، العملُ لها سهلٌ ميسورٌ، وقليلٌ إذا قرن بما له من جزاءٍ. وحينما يقومُ المرءُ المسلمُ بهذا العملِ ويستحضرُ ذلك الجزاءَ فإنه لا يجدُ تعبًا ولا كللًا، بل يجد اللَّذةَ التي تحلِّقُ به في جوِّ السماءِ ليعيشَ في السعادةِ التي لا ينالها إلا أصحابُ الليالي الساهرةِ في عبادةِ اللهِ.
أصحاب هذه الليالي أخبرنا الله عن مشهد من مشاهد لياليهم، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء:١٠٧-١٠٩] .
1 / 17
ويكشفُ القرآنُ عن مشهدٍ آخرَ يبيِّنُ حالَ هؤلاءِ بأنَّهم (كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:١٧،١٨] وبأنهم (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) [الفرقان:٧٤] .
أخي.. أختي: لتعلما أنَّ هذه صفاتُ المؤمنين المحبين لربِّهم. فقد وصفهم اللهُ تنويهًا بعظم عَملِهم، ودلالة على أنَّ قيامَ الليلِ من أعظمِ القُربِ إلى اللهِ ﷾، وكان أولَّ الموصوفين بهذا رسولُنا الكريمُ –ﷺ قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) [المزمل:٢٠]
فلَنَا في هؤلاء أسوةٌ حسنةٌ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:٢١]
ولأجلِ أن تحبَّ قيامَ الليلِ وترغبَ في أدائِه والمحافظةِ عليه؛عليك أن تبحثَ في فضلِه ومنزلتِه عند اللهِ، ولأجلِ أن لا تتكلَّفَ البحثَ فقد جمعت لك عددًا من الأحاديثِ الثابتةِ عن رسولِ الله – ﷺ في فضلِ قيامِ الليلِ، وذلك مثلًا لا حصرًا:
١- عن أبي هريرةَ –﵁ قال: قال رسولُ اللهِ – ﷺ: (أفضلُ الصيامِ بعدَ رمضانَ شهرُ اللهِ المحرمُ، وأفضلُ الصلاةِ بعد الفريضةِ صلاةُ الليلِ) رواه مسلم.
٢- عن عبدِ اللهِ بن عمرِو بن العاصِ –﵄ أنَّ رسولَ الله-ﷺ قال: (أحبُّ الصلاةِ إلى اللهِ صلاةُ داوودَ، كان ينامُ نصفَ الليلِ ويقومُ ثلثَه وينامُ سدسَه، ويصومُ يومًا ويفطر يومًا) متفق عليه.
1 / 18
٣- عن سالمِ بن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ بنِ الخطابِ ﵃ عن أبيه أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: (نعمَ الرجلُ عبدُ اللهِ لو كان يصلِّي من الليلِ) قال سالمٌ: فكان عبدُ الله بعد ذلك لا ينام من الليلِ إلا قليلًا. متفق عليه.
٤- وعن سهلِ بن سعدٍ ﵄ قال: جاء جبريلُ إلى النبيِّ ﷺ فقال: (يا محمدُ عش ما شئتَ فإنك ميتٌ، واعمل ماشئت فإنك مجزيٌّ به، وأحببْ من شئتَ فإنك مفارقُه، واعلم أنَّ شرفَ المؤمنِ قيامُ الليلِ، وعزُّه استغناؤه عن الناس) رواه الحاكم والطبراني وحسنه الألباني.
٥- عن جابرٍ ﵁ قال: سُئل رسولُ الله ﷺ: أيُّ الصلاةِ أفضلُ؟ قال: (طولُ القنوتِ) رواه مسلم. والقنوتُ: القيامُ.
٦- قربُ اللهِ ﷾ من عبدِه الذي يقوم الليلَ ففي الحديثِ: (أقربُ ما يكون الربُّ من العبدِ في جوفِ الليلِ الآخرِ فإنَّ استطعتَ أن تكونَ ممن يذكرُ للهَ في تلك الساعة فكُن) رواه الترمذي وصححه الألباني.
٧- ويخبرُ النبيُّ ﷺ أنَّ صاحبَ القرآنِ الذي يقوم به ويتلوه يُغبَط لعِظَمِ أجرِه، فعن ابنِ عمرَ ﵄ أن النبيَّ ﷺ قال: (لا حسدَ إلا في اثنتين رجلٍ آتاه اللهُ القرآن فهو يتلوه آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ ...) متفق عليه.
إنَّ العالمَ بفضلِ قيامِ الليلِ لا يستوي معَ من لا يعلم، (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) [الزمر:٩]
فلتكن من أولي الألبابِ الذي يتذكَّرون فإنَّ هذه الآياتِ والأحاديثَ في قيامِ الليل ذكرى لنا، فهل نكونُ من أولي الألباب؟!
1 / 19
فصلٌ
فيما يعُودُ على المسلم من قيامِ الليل في الدُّنيا والآخِرةِ
ذُكرت الدُّنيا قبلَ الآخرةِ لأنَّ جزاءَ الدُّنيا ولذَّتَها قريبةٌ ملموسةٌ نعيشُها الآنَ، وهذه الدارُ زمنًا تُقدَّمُ على الآخرةِ، وإلَّا فإنَّ عِظَمَ جزاءِ الآخرةِ وخلودَها أدعى للتَّقديمِ، ولكن لعلَّ التأخيرَ يكونُ أقوى ليبقى في الذِّهنِ الجزاءُ والثوابُ الأُخرويُّ.
ما يعود على المسلمِ من قيامِه في الدُّنيا:
١- القيامُ ينهى صاحبَه عن الذنوبِ والمعاصي وفعلِ المنكراتِ، ودليلُ ذلك قولُه تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت:٤٥] وقيل لرسولِ اللهِ ﷺ: (إن فلانًا يصلي بالليلِ فإذا أصبح سرق، قال: سينهاه ما يقول) رواه أحمدُ وابنُ حبان وصححه الألباني.
والصلاةُ مطلقًا تنهى عن الفحشاءِ، ولكنَّ قيامَ الليلِ له ميزةٌ في نهي صاحبِه، لأنَّه حين يقومُ يناجي ربَّه تعرضُ له أعمالُه فيخاف أن لا يقبلَ منه بسببِها فيتركَ ما يعملُ من المعاصي.
٢- أنه يطرد الداءَ من الجسدِ، وأولُ داءٍ يطردُه داءُ العجزِ والكسلِ، قال ﷺ: (عليكم بقيامِ الليلِ فإنَّه دأبُ الصالحين قبلَكم، فإنَّ قيامَ الليلِ قربةٌ إلى اللهِ ﷿ وتكفيرٌ للذنوبِ ومطردةٌ للداءِ عن الجسدِ ومنهاةٌ عن الإثمِ) أخرجه الترمذي والبيهقي، وقال العراقي: إسناده حسن، وحسنه الألباني.
1 / 20