Al-Hakim Al-Jushami et Sa Méthode d'Interprétation
الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير
Maison d'édition
مؤسسة الرسالة
Lieu d'édition
بيروت
Genres
ـ[الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير]ـ
(أصل الكتاب رسالة ماجستير - كلية دار العلوم بجامعة القاهرة بإشراف الشيخ محمد أبو زهرة ﵀
المؤلف: عدنان محمد زرزور
الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
حوار مجلة الفرقان مع الدكتور عدنان زرزور (*) ضيفنا في هذا العدد عالم من العلماء البارزين على مستوى العالم الإسلامي، له جهود علمية في أكثر من علم من علوم الشريعة، أكسبته نشأته الدينية ومعرفته بكبار علماء الأمة ومفكريها رؤية شاملة للإسلام وعلومه، وأكسبه ذلك رؤية نقدية وتاريخية ثاقبة مكّنته من الوقوف على كثير من المغالطات التي درج عليها أهلها سنوات عديدة سواءً في مجال العلم الشرعي أو في مجال العمل الإسلامي، فقام بالتنبيه إليها وبيان خطرها. نشأ الأستاذ الدكتور عدنان زرزور في دمشق، ودرس في مدارسها، ثم درس في كلية الشريعة في جامعة دمشق -التي كان للأستاذ مصطفى السباعي الفضل في إنشائها- وتخرج فيها عام ١٩٦٠، وكان هو والدكتور إبراهيم زيد الكيلاني/ رئيس جمعية المحافظة على القرآن الكريم على مقعد دراسي واحد في العامين الأول والثاني. ثم حصل على الماجستير في القاهرة، ثم الدكتوراه في عام ١٩٦٩ وكان على رأس لجنة المناقشة الشيخ محمد أبو زهرة ﵀ الذي نهل من علمه الكثير. ثم رجع إلى جامعة دمشق للتدريس فيها لمواد العقيدة ومقارنة الأديان والنظام الإسلامي ومقررات ثقافية أخرى بالإضافة إلى تفسير الحديث الشريف خلال الفترة من ١٩٧٣ حتى ١٩٨٠، وخلال هذه الفترة درَّس في الجامعة الأردنية بصفة محاضر غير متفرغ من ١٩٧٢ حتى ١٩٧٥، ثم عمل في جامعة الإمارات، ثم جامعة قطر التي قضى فيها خمسة عشر عامًا، وهو الآن يعمل في جامعة البحرين في قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية التابع لكلية الآداب. تابع الدكتور زرزور دراسة تفسير مخطوط من عشرة مجلدات، لكن ظروف الخروج من بلده أضاعت النسخ للأسف الشديد حيث كان قد بلغ فيه جهدًا في نسخ سورة البقرة، وهذا التفسير للحاكم الجشمي المتوفى عام ٤٨٥هـ، من أعلام القرن الخامس، مما دفعه واضطره ليؤرخ للقرن الخامس تقريبًا بشكل كامل وعرّج على القرن الرابع بمناسبة كتاب القاضي الجبار، فصار متابعًا لقراءة التاريخ وأحداثه بعد قراءته لأحداث هذين القرنين في كتب التاريخ القديم. يقول الدكتور زرزور في هذا الصدد: أعجبني من المؤرخين (ابن كثير) بصورة خاصة لأنه كان حاضر الذهن وناقدًا، وكان لآرائه في تفسير المسائل أو في عرضها الرجحان بوصفه محدثًا أيضًا. فيبدو أن اختياره للروايات أو الترجيح أفاد فيها من منهجه النقدي في علم المصطلح، مع مزايا أخرى تمتع بها بالقياس إلى ابن الأثير أو حتى الطبري أو ابن الجوزي وغيرهم. ثم اشتغل الدكتور زرزور بعد ذلك في التفسير والحديث، ثم اشتغل بعلوم القرآن الكريم حيث تخصصه الأساسي: التفسير وعلوم القرآن، وله كتاب في ذلك ينوف على (٧٠٠) صفحة، لا يخلو من نظرات نقدية أو إعادة النظر في قضايا كثيرة. صدر للدكتور زرزور أكثر من أربعين كتابًا وبحثًا منها: تحقيق (متشابه القرآن) للقاضي عبد الجبار المعتزلي، نشر في مجلدين مع مقدمة للدكتور تقرب من (٧٠) صفحة. وكتاب (الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن)، (علوم القرآن وإعجازه وتاريخ توثيقه)، (البيان النبوي: مدخل ونصوص)، (سمات البلاغة النبوية بين الجاحظ والرافعي والعقاد)، (ابن خلدون وفقه السنن)، (منهجية التعامل مع علوم الشريعة في ضوء التحديات المعاصرة)، (نحو عقيدة إسلامية فاعلة)، (الفجوة بين جانبي الأطلسي والحروب الحضارية)، (مدخل إلى السنة النبوية لدى أهل السنة والشيعة الإمامية) وهو تحت الطبع. والدكتور زرزور إذا تكلم فسيل متدفق، تراه يجلّي مسائل الشريعة بالتحليل الدقيق والتفسير العميق، وقد كان مدرسًاَ لعدد من العلماء المعروفين اليوم. التقيته على هامش المؤتمر القرآني الأول الذي عقدته جمعية المحافظة على القرآن الكريم وكان هذا اللقاء. _________ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: أثبت هذا الحوار هنا لفائدته
(نحو جيل قرآني) الفرقان: شاركتم في بعض جلسات المؤتمر القرآني الأول الذي عقدته الجمعية تحت عنوان: (نحو جيل قرآني)، كيف ترى السبيل إلى هذا الجيل؟ أ. د. زرزور: أنا أفهم من هذا العنوان أنه جيل الأمة المعاصر، كيف ننتقل به من حالة الضياع وتوزيع الأهواء إلى جيل قرآني مصدره واحد، لكن هذا يحتاج إلى أن تكون هناك أنواع من التخصصات تجتمع في النهاية لإشاعة قيم القرآن في الأمة. إن المشكلة الآن أن التحديات في وجه أجيال المسلمين طويلة، عصر ما قبل سقوط الخلافة وعصر ما بعده، تحديات داخلية وخارجية طاحنة، وإن أسوأ ما تعرضنا له موضوع التقسيم الجغرافي، وموضوع تعدد المشارب أو تعدد المذاهب الذي حُمل إلينا على جناح (المعاصرة) مثلًا، فهذه الكلمة أو كلمة (الحضارة) كانت المدخل لإشاعة قيم لا تأتلف مع القرآن أساسًا، فهبطت علينا القومية والاشتراكية والماركسية والوجودية والعلمانية مصحوبة بدول متقدمة حضاريًّا فاندفعنا في طريق التغريب ونحن نظن أننا نحقق لأنفسنا الحداثة أو المعاصرة، فوجدنا أنفسنا متغربين لا متحضرين، فلسنا نحن الذين صنعنا الحضارة بكل تأكيد. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الإسلام بالنسبة للمجتمع العربي والإسلامي هوية أم اتجاه؟ إنه هوية وليس اتجاهًا، لكن التعبير عن الهوية في ظل هذا الزخم أخذ شكل الاتجاه. والأسوأ من ذلك أن المعبرين عن هذه الهوية عندما أخذت شكل الاتجاه ربما وقعوا في خطأ تصور أو خطأ الممارسة مما أبعد الفكر الإسلامي عن الحياة الذي هو نتاج قرآني بالأساس، فحدث التغريب. لكن المذاهب غير الإسلامية سقطت في الواقع كالماركسية مثلًا. أما الخصوصية التي تفضلتَ بالسؤال عنها وهي (الجيل القرآني) فالقرآن إنساني الرسالة وعالمي الخطاب؛ فمواصفات الجيل القرآني هي مواصفات النص القرآني، لكن النص القرآني الذي فُسِّر خلال العصور ربما أمكننا الآن أن نعيد النظر في جزء كبير من قواعد التفسير أو أن نضيف إليها ونعدّل فيها بحيث نستطيع أن ننتج جيلًا قرآنيًّا معاصرًا لا جيلًا يكرر ما كتب حول التفسير في كتب التفسير أو في كتب التاريخ، فليس كل ما كتب في هذه الكتب صحيحًا.
(أسباب النزول) الفرقان: نرجو توضيح هذه المسألة، حتى لا يشكل الأمر على القارئ والمهتم بعلوم التفسير؟ أ. د. زرزور: الآن -مع الآسف- يجري التركيز على أسباب النزول، فيراد إغراق القرآن في البيئة التي نزل فيها، وأنا الآن أبحث في هذا الموضوع، وقد رددت على بعض الآراء والنظريات في ذلك، لكن ليس معنى ذلك أن لا نقبل الآراء التي تقال، ولكن يجب مناقشتها والاتفاق على مجموعة من القواعد: لماذا نزل القرآن منجمًا؟ هل نستطيع أن نستفيد من التنجيم الآن؟ هل في القرآن ناسخ ومنسوخ؟ هل أسباب النزول تُقبل هكذا، وهل كل آية في القرآن لها سبب نزول وهذا السبب مرتبط بها؟ يجري التركيز الآن على سبب النزول من قبل كثير من المعاصرين لإثبات أن القرآن كتاب تاريخي أو منتج بشري في تاريخ معين، وأن التاريخ عندما يتطوّر يمكن أن تعدّل بعض الأحكام. فهذا الربط بأسباب النزول أدى إلى مبالغات ومجازفات وكلام غير صحيح. أنا الآن عندما أقول: إن الآية لها سبب نزول، فإن معنى ذلك أنني مضطر أن أفسِّر الآية من خلال سبب النزول، صحيحٌ أن النص أعم من سبب النزول، ولكن سبب النزول أن يكون داخلًا فيه، فإذا كنت ولا بد مضطرًا لأفسِّر الآية في ضوء سبب النزول، والنص القرآني متواتر، فأنا الآن لو اشترطت التواتر في أسباب النزول لما كان ذلك بعيدًا أو خطأً. لكن أنا لا أقول بضرورة أن يكون سبب النزول متواترًا، لكن لا أقلَّ من أن يكون صحيحًا على مثل شروط البخاري أو شروط الشيخين مثلًا. ولقد وجدت أن أسباب النزول الموجودة في البخاري لا تعدو أن تكون ثمانين أو واحدًا وثمانين رواية فقط، علمًا بأن البخاري من أكثر المفسرين عناية بأسباب النزول. لذلك يجب عزل هذا الركام من أسباب النزول أو إعادة النظر فيه، لأن هناك تفسيرًا للآيات بأشياء غير صحيحة. وأعتقد أن كثيرًا من الزيف دخل على الفكر الإسلامي -وخصوصًا من الفرق الأخرى - من خلال أسباب نزول واهية أو مكذوبة أو لا أصل لها. لذا إذا أردنا أن ننتج جيلًا قرآنيًّا يجب أن يكون منهجيًّا في التفسير ليس فيه أخطاء التاريخ ولا وزره، كما يجب أن يكون مصحوبًا ببعض المقارنات ومنفتحًا من خلال دراسة ما عند الأمم الأخرى ودراسة حضاراتها. والزعم بأن القرآن كتاب تاريخي مرفوض من زاوية أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأؤكد على أن ما أنتجه التاريخ يمكن للتاريخ تجاوزه، ولكن ما كان تنزيلًا من حكيم حميد هو لكل العصور والأجيال.
(قضية الإعجاز العلمي) الفرقان: ثمة جدل في قضية الإعجاز العلمي في القرآن وخلاف حول التسمية والمضمون، ولقد بحثتم في هذا الموضوع. نرجو منكم جلاء هذا الأمر. أ. د. زرزور: أتت فكرة الإعجاز العلمي من أن القرآن أشار إلى مجموعة من الحقائق المتصلة ببناء الكون وبعلوم خلق الإنسان والنبات والبحار والجنين وغير ذلك، وأن تفسير الآيات التي حملت هذه الإشارات بما انتهى إليه العلم الحديث يسمى إعجازًا. أنا لا أسميه إعجازًا إطلاقًا، لأن الإعجاز أساسًا هو ثمرة التحدي كما يقول العلماء القدامى ﴿فأتوا بعشر سور مثله مفتريات﴾، فعجزوا فثبت أن القرآن معجز. كما أن الحقائق العلمية التي تضمنها القرآن في آيات عدة إنما جاءت في سياق الاستدلال على الله تعالى لا في سياق التحدي أساسًا. فمثلًا: آيات الطبيعة والإنسان وردت في سياقين: سياق الانتفاع والتسخير، وسياق التأمل والتدبر والانتقال من المخلوق إلى الخالق بمعنى الدلالة على الصنعة الإلهية. أنا أريد أن أفرّق بين ثلاثة مصطلحات: إعجاز القرآن، والتفسير العلمي للقرآن، والمنهج العلمي في القرآن. فإعجاز القرآن هو القضية الأساسية القديمة التاريخية، التي كتب فيها العلماء وتداولوا فيها وكُتبت فيها نظريات كثيرة أبرزها نظرية (النظم) لعبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري وما زال الناس حتى الآن يقتبسون من نوره أو يسرجون مصابيحهم من زيته، لأن كلامه في غاية العمق، وهو قدّم النظرية الهيكلية لإعجاز القرآن إن صح التعبير، ثم جاء على هذا المنوال من بعده الرافعي وسيد قطب وآخرون. أما التفسير العلمي للقرآن فمعناه الانتفاع بحقائق العلم التجريبي في شرح الآيات، مثل: ﴿يكوّر الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل﴾ أو خلق الجنين أو غير ذلك. وفي هذا التفسير قد نضلّ أو نخطئ، أو قد يتبين لنا فيما بعد أنّ كلامنا حول ذلك غير صحيح ولذلك لا يمكن أن يقال عنه إنه إعجاز. دعنا نقول إن (موريس بوكاي) هو أصح ذهنًا من كثير من المسلمين المعاصرين. وهنا أشير إلى أن (مراد هوفمان) نصّ في كتابه (الإسلام كبديل) على أن بوكاي أسلم، وهو أمر تؤيده بعض أفكاره في كتبه وبالذات كتابه: ما الإنسان؟ - يقول بوكاي: لا يمكن إدراك هذه الحقائق العلمية خارج النص العربي أي خارج القرآن باللغة التي نزل بها التي يسمى معها قرآنًا، لأن الترجمة لا تسمى قرآنًا، يريد القول إن الترجمة ستضيّع المعاني. ويقول: أنا لا أريد المجازفة، لا يفسَّر القرآن بأية نظرية إنما يفسَّر بالفعل القائم الواقع. فمثلًا: دوران الأرض حول الشمس فعل واقع وليس نظرية، لكن المدار الذي تدور فيه نظرية، وقد تأتي نظرية فتحدد المدار بشكل أفضل. وهذا تنزيه للنص القرآني عن أن يكون كلامًا في الطب أو الفلك أو الرياضيات أو غير ذلك. ما أريد قوله: إن هذه الحقائق أو الأدلة العلمية تصب في خانة أن القرآن وحي يوحى. لكن هل هذه الأدلة تسمى إعجازًا؟ لا، إنها تدل على أن القرآن من كلام الله مثله في ذلك مثل التوراة والإنجيل قبل أن يدخلهما التحريف. لكن القرآن ينفرد عنهما بوصف آخر، وهو أن هذا الوحي معجز، فالإعجاز وصف زائد على كونه وحيًا، ومن ثم فالأدلة التي يسوقها الباحثون في الإعجاز العلمي على أن القرآن وحي لا تدخل في باب الاستدلال على أن القرآن معجز. الفرقان: الدكتور زغلول النجار لا يتكلم في الإعجاز من باب التحدي، وإنما من باب الاستدلال على أن هذا القرآن من عند الله. أ. د. زرزور: نعم هذا لا بأس به، لكن يجب أن يتم إخراجه من باب المصطلحات. الفرقان: ولماذا يحدث خلط في هذا الموضوع إذن؟ أ. د. زرزور: أنا أقول: إن القرآن معجز بنفسه وليس بتفسيرنا له. وكأن الدكتور النجار وغيره يتحدثون عن إعجاز التفسير العلمي وليس عن إعجاز القرآن، علمًا بأن الإعجاز وصف للقرآن نفسه، بمعنى أن النص نفسه معجز، سواء فهمنا معناه أم لم نفهم، أو أدركنا المدلول العلمي له أم لم ندركه. وهناك قضية مهمة: قد نقول إن القرآن تحدّانا بهذه العلوم فعرفناها. فهل إذا عرفناها انتهى إعجاز القرآن، أم ماذا؟ هذه قضية خطيرة حقًّا، القرآن لم يتحدَّ بموضوع معين، لقد تحدَّى بالنظم، تحدَّى بالسور، تحدَّى بسورة، لأن السورة هي عبارة عن نظام بياني يعجز عنه الإنسان، لم يتحدَّ القرآن بعشر آيات في موضوع معيّن. الفرقان: ولكن الإعجاز العلمي -كما يرى الدكتور زغلول النجار- يفيدنا في دخول غير المسلمين في الإسلام؟ أ. د. زرزور: أنا أعتبر أن أثر هذا الأمر ضعيف. وقد أشرت إلى هذا في المؤتمر القرآني. وأقول: إن دعوة للقرآن بمبادئه وأخلاقه وأحكامه تحقق نتائج أضعاف أضعاف ما تحققه الفكرة التي أشرتَ إليها. من الذي يدخل في الإسلام الآن؟ إنه الذي يعاني من أزمة عقائدية أو أزمة فكرية أو أخلاقية أو روحية. إذن الإعجاز لم ينته بالتحدي ولن ينتهي، الإعجاز ليس بالسبق (١٤٠٠ عام أو أكثر) إنما بالتفرد، بمعنى أن أحدًا لا يستطيع أن يأتي بمثله من حيث النظم ومن حيث النظام؛ نظام وحدة السورة التي فيها ترابط وبلاغة. والجاحظ يشير إلى أنه لم يجر التحدي بأقل من سورة. وعبد القاهر الجرجاني في معرض حديثه عن (عشر سور مفتريات) يقول: "إن الافتراء في المعاني وليس في النظم". فالقرآن لم يتحدَّ بالمضامين إطلاقًا بدليل (مفتريات)، وهذا من أعظم أنواع التسهيل على العرب وغيرهم أن يتحداهم القرآن بأي موضوع شاءوا. ونضرب مثالًا بالقصص القرآني؛ فالقصة القرآنية ملتزمة بواقع معين، ومع ذلك عُرضت عرضًا فنيًّا رائعًا بلغ حدّ الإعجاز. القرآن يقول لك: تحدّث بالقصة التي تريدها، ولكن بشرط أنك إذا عرضتها أن يكون لها مثل رواء النظم القرآني وبهائه وأناقة أسلوبه ... إلخ. هذا تسهيل لأن الخيال أقوى من الحقيقة ... وأنا إذا كنت فنانًا أو قصاصًا وأردت مثلًا أن أكتب قصة وألتزم فيها بالوقائع سأصير مؤرخًا، وإذا أردت الخروج عن النص لم أعد مؤرخًا. لذلك أقول: إن الإعجاز هو بياني في الأساس، لكن الآيات التي موضوعها علمي فيها مسحة بيانية إضافية، وجاء التعبير عن هذه الموضوعات على وجه لا يعجز عن خطاب الإنسان في أي عصر ولا يحمّله كذلك أكثر مما يطيق. وهذا أمر لا يستطيعه أحد من خلق الله. فأنا لا أستطيع - مثلًا - أن أنشئ جملة فيها حقيقة علمية يكتشفها الناس بعد (١٠٠٠) عام، والذي نزلت عليه يفهمهما ويتعامل معها، والذين يقرؤها بعد (٢٠٠٠) عام يرى فيها أمرًا آخر. هذا يدل على أن الإنسان ابن عصره وزمانه، لذا أنا أرجعت الإعجاز العلمي إلى التفسير البياني من هذه الزاوية؛ من زاوية التعبير عن هذه الحقائق العلمية على نحو لا يعجز عن خطاب الإنسان في عصر التنزيل ولا في العصور اللاحقة، ولا يحمّله كذلك أكثر مما يطيق. تصوّر الآن، لو نزلت في القرآن آية تتحدث عن كروية الأرض في عصر التنزيل لكُذّب النبي ﷺ، هو أساسًا ﵊ لم يأت بما يخالف الناس وكذّبوه! فجاء التعبير ﴿يكوّر الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل﴾، ﴿رب المشارق والمغارب﴾، ﴿رب المشرقين ورب المغربين﴾ ففهمنا هذا - كما يقول موريس بوكاي - في عصر متأخر ولا غبار علينا ولا حرج. الفرقان: فهمت من كلامك أنه يمكن أن يكون هناك إعجاز فيما يخص القضايا العلمية الثابتة، وهذا يدعو إلى ضرورة وجود ضوابط منهجية لترشيد البحث في الإعجاز العلمي. أليس كذلك؟ أ. د. زرزور: نعم، أنا بحثت هذا الموضوع تحت اسم (شروط التفسير العلمي) وليس الإعجاز العلمي، بمعنى أنه لا يُفسَّر القرآن إلا باليقينيات العلمية. واليقينيات هي التي ارتقت من درجة الفروض إلى مقام الحقائق التي لا يتطرق إليها شك. يقول موريس بوكاي: يجب أن نرتقي بها إلى درجة الفعل القائم المشاهد أو المحسوس. وهناك نقطة مهمة وهي أن التفسير العلمي لا تفسَّر به المعجزات لأن المعجزات ثبتت على خلاف القضية العلمية، فهي استثناء من قضايا العلم؛ لأن العلم بمعنى القانون أو السنة، فالمعجزات لإيقاف السنة أو إبطال عملها أو لإيقاف الدلالة على أن الذي يأتي بها نبي أو موحى إليه، فعندما يأتي البعض - تحت عنوان الدفاع عن القرآن وبيان أن القرآن لا يتعارض مع العلم - ويفسر المعجزات بأنها قضايا علمية، فهذا عكس الموضوع تمامًا. وهذا (علي فكري) فسَّر أن العصر السليماني كان يعرف الحروب الهوائية والطيران الشرعي، لأنه كان فيه سفر هوائي منظم، وأن الجنود التي تهبط بالمظلات ليس قضية جديدة، لأن يوم بدر هبطت فيه الملائكة .. هذا الكلام سخيف في الحقيقة.
(التفسير الموضوعي) الفرقان: ما أهمية أو فائدة التفسير الموضوعي للقرآن، وما مهمته؟ أ. د. زرزور: ليست كل سورة من سور القرآن الكريم مختصة بموضوع واحد بل بعدة موضوعات، يقابل هذا أن الموضوع الواحد - بطبيعة الحال - يتوزع في سور متعددة. لا بد من ضم أطراف الموضوع الواحد على صعيد واحد حتى لا نخطئ في التفسير؛ لأن هذا أحد الأسباب التي دعت إلى الخلاف بين الفرقاء أو المتكلمين عندما يأتي أحدهم إلى جزء من السورة أو جزء من الموضوع في آية ويعتبرها هي الأصل إلى درجة أنه يضطر إلى إدخال سائر الآيات في التأويل، ونحن لسنا مضطرين للتأويل إذا أمكننا أن نعيد بناء السورة القرآنية للموضوع الواحد على صعيد واحد. هذه هي مهمة التفسير الموضوعي. وهناك فوائد كثيرة لهذا النوع من التفسير، لكن أبرز فائدة من فوائده أن الخلاف الذي احتدّ بين المتكلمين وحتى بين بعض الفقهاء في بعض الأحيان - والذي بلغ حد اختلاف التضاد وليس اختلاف التنوع - كان سببه أن بعضهم أخذ جزءًا من السورة واعتبرها أصلًا واضطر إلى إدخال سائر أجزاء السورة في التأويل. فمثلًا، آيات الهداية والضلال، اعتبر بعض العلماء أن معنى الهداية خلق الإيمان في قلب المؤمن، علمًا بأن مدلول الهداية في القرآن متعدد، فإذا جمعناه على صعيد واحد فلا خلاف، لكنهم فهموا (هدًى للمتقين) أي ليس هدى لغيرهم كما يقول الأشاعرة، لكن المتعزلة لا على معنى أنه هدى للمتقين وحدهم لأن القرآن هداية لجميع الناس، ولكن لأن المتقين هم الذين اهتدوا به، فكأنه إنما كان هداية لهم دون غيرهم. وبعض الأشاعرة -استنادًا إلى أن الهداية خلق الإيمان في قلب المؤمن- فسّروا الآيات كلها على هذا النحو، فآية ﴿وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى﴾ فأول الآية ﴿هديناهم﴾ أي هدينا المتقين منهم. هذا الكلام ليس صحيحًا. والتفسير الموضوعي مهم في هذه الأمور وهو يحل كثيرًا من هذه المعضلات. الفرقان: هناك آيات كثيرة في القرآن ليس لها تفسير واحد أو فسِّرت بعدة تفسيرات أو عدة آراء. وهذا الاختلاف قد يوقع في حيرة. ما رأيكم؟ أ. د. زرزور: هذا صحيح، وهناك آيات ربما اتفق العلماء على دلالتها. فمثلًا، إذا كانت آيات معينة دلالتها ظنية، والدلالة الظنية تحمل عدة وجوه وهذا أمر طبيعي. وسواءٌ كان هناك اختلاف تنوّع أو اختلاف تضادٍّ، لكن في نهاية المطاف ما دام التفسير ضمن قواعد اللغة العربية وأصولها المتفق عليها فتعدد وجهات النظر موجود. لا يوجد شيء في القرآن لم يقف العلماء أمامه فقالوا هذا لا يعلم تأويله إلا الله - مثلًا-، حتى فواتح السور فسَّرت التي قال بعضهم إنها من المتشابه وهي ليست كذلك بكل تأكيد. ومفهوم المتشابه الذي توزعت مفاهيمه على آراء قد تصل إلى ثلاثين رأيًا، وهناك فصل لي في كتابي في المتشابه يحل مشكلة آيات الصفات.
(بين سيد قطب والشعراوي) الفرقان: قمتَ بمقارنة بين تفسير (في ظلال القرآن) لسيد قطب، وبين تفسير محمد متولي الشعراوي في كتيب يتحدث عن الشعراوي. فما خلاصة ذلك؟ أ. د. زرزور: قلتُ فيه: لو جاء سيد قطب محل الشعراوي لنحا منحاه، ولو جاء الشعراوي محل سيد قطب لنحا منحاه، بمعنى أن كلَّ واحد منهما قام بما توجبه عليه الظروف من شرح القرآن وتفسيره. (الظلال) لسيد قطب مدرسة متميزة في تفسير القرآن غير معهودة عند السابقين. لم يسلك منهج الإعراب والنحو والقراءات والأحكام والقصة والمناسبة، كان من نوع آخر، اهتم بالوحدة الموضوعية في السورة ووجه الارتباط بين الآيات. لا أعتقد أن أحدًا قبله استطاع أن يلمس فكرة الوحدة الموضوعية في السورة بهذا العمق وهذه السلاسة. كان سيد ﵀ حافظًا للقرآن وكان يقرأ السورة عدة مرات حتى يقف على مفتاحها ولا يقرأ من كتب التفسير حولها شيئًا حتى لا يتأثر بها فكان يقول: "إنه كان يفتح عليّ في بعض الأحيان في وقت قريب، وفي بعض الأحيان يستغرق ذلك وقتًا حتى إذا أدركت المحور الرئيسي في السورة والمحاور الفرعية جلست للكتابة عنها ووددت لو أنني أنهيتها في جلسة واحدة لكان ذلك أفضل". حتى إذ انتهى من السورة الأولى كان يعود إلى كتب التفسير ليستدرك سبب النزول أو روايةً أو شيئًا من هذا القبيل، حتى لا يتأثر بمعنى من المعاني التي تسبق إلى ذهن غيره فتحجزه عن فهمه المباشر مع القرآن، أي إنه تعامل مع القرآن بنحو مباشر بدون مقرر فكري مسبق من أصحاب المبادئ والعقائد والمتكلمين والفقهاء - فلا أشاعرة ولا خوارج ولا غير ذلك-، ولذلك أُخذ عليه أن آيةً -مثلًا- فسّرها على مذهب المرجئة -ولا علاقة لها بالمذاهب أساسًا- فليس سيد مضطرًّا أن يؤوِّل الآية حتى لا يوافق تفسيره رأيًا قال به مرجئيٌّ أو معتزليٌّ أو غير ذلك، لأن آراء مثل هذه المذاهب ليست هي الأصل في التفسير. إن الأصل في التفسير هي المعاني التي تدل عليها الآيات. ويمكن أن نصنّف هذا التفسير (في ظلال القرآن) في قائمة التفسير الأدبي والدعوي والاجتماعي. وقد حاول بعض المفسرين المعاصرين تقليد سيد في مجال الوحدة الموضوعية لكنه لم يوفق توفيق سيد، وليس معنى هذا أن سيد قال الكلمة الأخيرة في تفسيره؛ لأن هناك بعض المحاور قد نختلف معه فيها، فإنًّ ما أخذه سيد على غيره من المفسرين لا أقول وقع فيه ولكن كاد أن يقع فيه، ولسيد تصور معين عن كيفية إزاحة ما أسماه (الجاهلية) عن مقعد القيادة والتأثير؛ هذا المنهج صار يأخذه من القرآن ويستنطق الآيات لتنطق به. أما الشيخ الشعراوي ﵀ فتفسيره الأبرز منطوقًا وليس مقروءًا. إن طريقة الشعراوي في العرض هي التي شدّت الناس إلى تفسير القرآن الكريم. فلو أنهم جلسوا لقراءة تفسيره مكتوبًا لما تفاعلوا معه بالطريقة التي تفاعلوا معه وهو يتحدث. لكن الشعراوي ﵀ كانت لديه قدرة فائقة على أمرين، الأول: الإفادة من محصّلة كتب التفسير على اختلاف مذاهبها، فيطرحها كأنها شيء من عنده أو من بنات أفكاره وعلى نحو لا يثير أي حساسية. فقسم كبير من أفكاره يمكن أن نصنّفه، فمنه ما هو مع الخوارج ومنه ما هو مع المعتزلة ولكنه لا يقول هذا. والثاني: كانت لديه قدرة على التبسيط، فالمعاني الصعبة يبسِّطها. لقد كان معلم تفسير أكثر من كونه مفسرًا، والمفسر قاعدته واسعة يأخذ منها ويهضمها ويتمثلها وينتقي منها ما هو لصيق بالإعجاز وما هو لصيق بإثارة العاطفة والإعجاب عند الناس. فالشعراوي أدّى في مرحلة معينة من التاريخ المعاصر رسالة مهمة في إيصال معاني القرآن للناس على نحو مبسط.
(الحرب ضد القرآن) الفرقان: هناك محاولات عديدة لتحريف آيات القرآن على شبكة الإنترنت. كيف نصدّ هذه المحاولات؟ أ. د. زرزور: التحريف اللفظي لا قيمة له إطلاقًا لأن القرآن موجود ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه﴾ وهذا يكشف أصحاب هذا التحريف ومدى سخف هؤلاء وتفاهة عقولهم. لكن الخطورة في تحريف المعاني، وتكمن في التاريخ الإسلامي في عصر سيادة الحضارة الإسلامية وسيادة الدولة الإسلامية حين أرادوا أن يقوّضوا دعائم الإسلام فزعموا أن القرآن له ظاهر وباطن، وأن هذا التأويل لا يعرفه إلا الإمام والإمام هو الذي يفسّر، وغيره يلغي عقله، والصيام رجل والزكاة رجل، أي بمعنى أنهم فصلوا ما بين القرآن وبين دلالاته ومعانيه، بهدف إخراج الناس من الإسلام في وقت لا يستطيعون فيه محاربة الإسلام. أما الآن، فالصورة التي أمامنا أن الأمة تريد العودة إلى الإسلام، فتقدّم بعض الناس لملء الفراغ على غرار الباطنيين القدامى أو القرامطة الجدد، يريدون الفصل بين النص والمعنى، من أجل أن يحولوا بين المجتمع الإسلامي وبين العودة إلى الإسلام، ففكرة الظاهر والباطن والتفسير المعاصر والقراءة المعاصرة كثرت الآن. وأنا أقوم حاليًّا بدراسة معمقة في هذه المعاني لما يثيره أمثال محمد شحرور وحامد نصر أبو زيد وحسن حنفي في هذا الصدد من أصحاب المنهج المتهالك متعدد الأخطاء والتجاوزات والأكاذيب. وقد ثبت لي أخيرًا أن هذه الآراء لها أصول في الأحاديث المكذوبة والموضوعة عند الفرق القديمة. الفرقان: هل من نصيحة توجهونها لطلبة التفسير وعلوم القرآن؟ أ. د. زرزور: أقول: إنهم يشتغلون في أفضل أبواب العلم، وأرجو أن يكون الله تعالى قد أراد بهم خيرًا عندما سهّل لهم طريق خدمة القرآن في التفسير أو التلاوة أو التجويد أو التحفيظ. وإن تعمقهم في التفاسير وتاريخ القرآن أو تاريخ التدوين أمر أساسي للبناء على ما سبق من المفسرين، ونرجو لهم التوفيق والسداد في التحصيل وفي الإضافة وفي توظيف معارف القرآن وإشاعة أخلاقه ومبادئه وقيمه بين الناس، علمًا بأن القرآن - والله أعلم - لا يعطي مفاتحه في الفهم لغير من كان صافي السريرة والنفس وعلى درجة من الإيمان والعمل الصالح والتلاوة الدائمة للقرآن. إن تمثلوا ذلك فإن دورهم في الدنيا كبير وثوابهم في الآخرة عظيم إن شاء الله. الفرقان: من مؤلفاتكم (ابن خلدون وفقه السنن) و(الإمام الشيخ محمد عبده معاصرًا)، نرجو تقديم فكرة عن كلٍّ منهما من حيث سبب التأليف والمضمون. أ. د. زرزور: الكتاب الأول كان بمناسبة مرور ستة قرون على وفاة ابن خلدون، حيث احتفلت بذلك بعض الجامعات، واعتبرت أن محور نظرية ابن خلدون هي السنن وليست الدولة وليست العصبية كما قال بعض الباحثين، وقارنتُ بينه وبين الشاطبي الذي اشتغل بفقه المقاصد حيث كانا في عصر واحد. وأعتقد أن نهضة العالم الإسلامي مربوطة بهذين الفقيهين، ولقد تلمست ملامح خاصة لمدرسة التجديد المغربية فوجدتها في كلا الرجلين، وكان ذلك في القرن الثامن. أما الكتاب الثاني فكان بمناسبة مرور مئة عام على وفاة الشيخ محمد عبده منذ ١٩٠٥. لقد ظُلمنا حين أُبعدنا عن هؤلاء الرموز وقيل لنا إن تجديدهم غير صحيح. وهذا كلام خاطئ. وأريد بهذه المناسبة أن أبدي عدم ارتياحي إطلاقًا لمنهج التشويه المتعمد الذي ليس له أي قيمة علمية. فالذي اتبعه محمد محمد حسين في كتابه (حصوننا مهددة من الداخل) هو منهج مدان في الحقيقة؛ هذا الذي يحطِّم كل الرؤوس. محمد عبده له جوانب إيجابية ضخمة عجيبة ومن قبله جمال الدين الأفغاني ومن بعده عبد الرحمن الكواكبي وذلك بالرغم من أخطائهم من خلال العصر ومن خلال المعطيات. يقول الكاتب في الكتاب الذي أشرتُ إليه: إن محمد عبده كان يحرِّض على تعليم اللغة الأجنبية. أهذا يعدُّ مأخذًا عليه؟! لا بد من إعادة التقويم وأن يكون موضوعيًّا، والإصلاح لا يولد في فراغ، فلولا الأفغاني ما كان محمد عبده ولولا محمد عبده ما كان رشيد رضا ولولا رشيد رضا ما كان حسن البنا أساسًا؛ فحسن البنا لما جاء بدأ من حيث انتهى رشيد رضا في التفسير وفي العقل. ومن هذا المنطلق كتبتُ عن محمد عبده. وهناك بحث لي عن عبد الرحمن بدوي الذي ختم حياته بكتابين هما: (دفاع عن محمد) و(دفاع عن القرآن)، وهما كتابان جيدان. الفرقان: شكرًا لكم على هذه المعلومات، وأثابكم الله.
حوار مجلة الفرقان مع الدكتور عدنان زرزور (*) ضيفنا في هذا العدد عالم من العلماء البارزين على مستوى العالم الإسلامي، له جهود علمية في أكثر من علم من علوم الشريعة، أكسبته نشأته الدينية ومعرفته بكبار علماء الأمة ومفكريها رؤية شاملة للإسلام وعلومه، وأكسبه ذلك رؤية نقدية وتاريخية ثاقبة مكّنته من الوقوف على كثير من المغالطات التي درج عليها أهلها سنوات عديدة سواءً في مجال العلم الشرعي أو في مجال العمل الإسلامي، فقام بالتنبيه إليها وبيان خطرها. نشأ الأستاذ الدكتور عدنان زرزور في دمشق، ودرس في مدارسها، ثم درس في كلية الشريعة في جامعة دمشق -التي كان للأستاذ مصطفى السباعي الفضل في إنشائها- وتخرج فيها عام ١٩٦٠، وكان هو والدكتور إبراهيم زيد الكيلاني/ رئيس جمعية المحافظة على القرآن الكريم على مقعد دراسي واحد في العامين الأول والثاني. ثم حصل على الماجستير في القاهرة، ثم الدكتوراه في عام ١٩٦٩ وكان على رأس لجنة المناقشة الشيخ محمد أبو زهرة ﵀ الذي نهل من علمه الكثير. ثم رجع إلى جامعة دمشق للتدريس فيها لمواد العقيدة ومقارنة الأديان والنظام الإسلامي ومقررات ثقافية أخرى بالإضافة إلى تفسير الحديث الشريف خلال الفترة من ١٩٧٣ حتى ١٩٨٠، وخلال هذه الفترة درَّس في الجامعة الأردنية بصفة محاضر غير متفرغ من ١٩٧٢ حتى ١٩٧٥، ثم عمل في جامعة الإمارات، ثم جامعة قطر التي قضى فيها خمسة عشر عامًا، وهو الآن يعمل في جامعة البحرين في قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية التابع لكلية الآداب. تابع الدكتور زرزور دراسة تفسير مخطوط من عشرة مجلدات، لكن ظروف الخروج من بلده أضاعت النسخ للأسف الشديد حيث كان قد بلغ فيه جهدًا في نسخ سورة البقرة، وهذا التفسير للحاكم الجشمي المتوفى عام ٤٨٥هـ، من أعلام القرن الخامس، مما دفعه واضطره ليؤرخ للقرن الخامس تقريبًا بشكل كامل وعرّج على القرن الرابع بمناسبة كتاب القاضي الجبار، فصار متابعًا لقراءة التاريخ وأحداثه بعد قراءته لأحداث هذين القرنين في كتب التاريخ القديم. يقول الدكتور زرزور في هذا الصدد: أعجبني من المؤرخين (ابن كثير) بصورة خاصة لأنه كان حاضر الذهن وناقدًا، وكان لآرائه في تفسير المسائل أو في عرضها الرجحان بوصفه محدثًا أيضًا. فيبدو أن اختياره للروايات أو الترجيح أفاد فيها من منهجه النقدي في علم المصطلح، مع مزايا أخرى تمتع بها بالقياس إلى ابن الأثير أو حتى الطبري أو ابن الجوزي وغيرهم. ثم اشتغل الدكتور زرزور بعد ذلك في التفسير والحديث، ثم اشتغل بعلوم القرآن الكريم حيث تخصصه الأساسي: التفسير وعلوم القرآن، وله كتاب في ذلك ينوف على (٧٠٠) صفحة، لا يخلو من نظرات نقدية أو إعادة النظر في قضايا كثيرة. صدر للدكتور زرزور أكثر من أربعين كتابًا وبحثًا منها: تحقيق (متشابه القرآن) للقاضي عبد الجبار المعتزلي، نشر في مجلدين مع مقدمة للدكتور تقرب من (٧٠) صفحة. وكتاب (الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن)، (علوم القرآن وإعجازه وتاريخ توثيقه)، (البيان النبوي: مدخل ونصوص)، (سمات البلاغة النبوية بين الجاحظ والرافعي والعقاد)، (ابن خلدون وفقه السنن)، (منهجية التعامل مع علوم الشريعة في ضوء التحديات المعاصرة)، (نحو عقيدة إسلامية فاعلة)، (الفجوة بين جانبي الأطلسي والحروب الحضارية)، (مدخل إلى السنة النبوية لدى أهل السنة والشيعة الإمامية) وهو تحت الطبع. والدكتور زرزور إذا تكلم فسيل متدفق، تراه يجلّي مسائل الشريعة بالتحليل الدقيق والتفسير العميق، وقد كان مدرسًاَ لعدد من العلماء المعروفين اليوم. التقيته على هامش المؤتمر القرآني الأول الذي عقدته جمعية المحافظة على القرآن الكريم وكان هذا اللقاء. _________ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: أثبت هذا الحوار هنا لفائدته
(نحو جيل قرآني) الفرقان: شاركتم في بعض جلسات المؤتمر القرآني الأول الذي عقدته الجمعية تحت عنوان: (نحو جيل قرآني)، كيف ترى السبيل إلى هذا الجيل؟ أ. د. زرزور: أنا أفهم من هذا العنوان أنه جيل الأمة المعاصر، كيف ننتقل به من حالة الضياع وتوزيع الأهواء إلى جيل قرآني مصدره واحد، لكن هذا يحتاج إلى أن تكون هناك أنواع من التخصصات تجتمع في النهاية لإشاعة قيم القرآن في الأمة. إن المشكلة الآن أن التحديات في وجه أجيال المسلمين طويلة، عصر ما قبل سقوط الخلافة وعصر ما بعده، تحديات داخلية وخارجية طاحنة، وإن أسوأ ما تعرضنا له موضوع التقسيم الجغرافي، وموضوع تعدد المشارب أو تعدد المذاهب الذي حُمل إلينا على جناح (المعاصرة) مثلًا، فهذه الكلمة أو كلمة (الحضارة) كانت المدخل لإشاعة قيم لا تأتلف مع القرآن أساسًا، فهبطت علينا القومية والاشتراكية والماركسية والوجودية والعلمانية مصحوبة بدول متقدمة حضاريًّا فاندفعنا في طريق التغريب ونحن نظن أننا نحقق لأنفسنا الحداثة أو المعاصرة، فوجدنا أنفسنا متغربين لا متحضرين، فلسنا نحن الذين صنعنا الحضارة بكل تأكيد. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الإسلام بالنسبة للمجتمع العربي والإسلامي هوية أم اتجاه؟ إنه هوية وليس اتجاهًا، لكن التعبير عن الهوية في ظل هذا الزخم أخذ شكل الاتجاه. والأسوأ من ذلك أن المعبرين عن هذه الهوية عندما أخذت شكل الاتجاه ربما وقعوا في خطأ تصور أو خطأ الممارسة مما أبعد الفكر الإسلامي عن الحياة الذي هو نتاج قرآني بالأساس، فحدث التغريب. لكن المذاهب غير الإسلامية سقطت في الواقع كالماركسية مثلًا. أما الخصوصية التي تفضلتَ بالسؤال عنها وهي (الجيل القرآني) فالقرآن إنساني الرسالة وعالمي الخطاب؛ فمواصفات الجيل القرآني هي مواصفات النص القرآني، لكن النص القرآني الذي فُسِّر خلال العصور ربما أمكننا الآن أن نعيد النظر في جزء كبير من قواعد التفسير أو أن نضيف إليها ونعدّل فيها بحيث نستطيع أن ننتج جيلًا قرآنيًّا معاصرًا لا جيلًا يكرر ما كتب حول التفسير في كتب التفسير أو في كتب التاريخ، فليس كل ما كتب في هذه الكتب صحيحًا.
(أسباب النزول) الفرقان: نرجو توضيح هذه المسألة، حتى لا يشكل الأمر على القارئ والمهتم بعلوم التفسير؟ أ. د. زرزور: الآن -مع الآسف- يجري التركيز على أسباب النزول، فيراد إغراق القرآن في البيئة التي نزل فيها، وأنا الآن أبحث في هذا الموضوع، وقد رددت على بعض الآراء والنظريات في ذلك، لكن ليس معنى ذلك أن لا نقبل الآراء التي تقال، ولكن يجب مناقشتها والاتفاق على مجموعة من القواعد: لماذا نزل القرآن منجمًا؟ هل نستطيع أن نستفيد من التنجيم الآن؟ هل في القرآن ناسخ ومنسوخ؟ هل أسباب النزول تُقبل هكذا، وهل كل آية في القرآن لها سبب نزول وهذا السبب مرتبط بها؟ يجري التركيز الآن على سبب النزول من قبل كثير من المعاصرين لإثبات أن القرآن كتاب تاريخي أو منتج بشري في تاريخ معين، وأن التاريخ عندما يتطوّر يمكن أن تعدّل بعض الأحكام. فهذا الربط بأسباب النزول أدى إلى مبالغات ومجازفات وكلام غير صحيح. أنا الآن عندما أقول: إن الآية لها سبب نزول، فإن معنى ذلك أنني مضطر أن أفسِّر الآية من خلال سبب النزول، صحيحٌ أن النص أعم من سبب النزول، ولكن سبب النزول أن يكون داخلًا فيه، فإذا كنت ولا بد مضطرًا لأفسِّر الآية في ضوء سبب النزول، والنص القرآني متواتر، فأنا الآن لو اشترطت التواتر في أسباب النزول لما كان ذلك بعيدًا أو خطأً. لكن أنا لا أقول بضرورة أن يكون سبب النزول متواترًا، لكن لا أقلَّ من أن يكون صحيحًا على مثل شروط البخاري أو شروط الشيخين مثلًا. ولقد وجدت أن أسباب النزول الموجودة في البخاري لا تعدو أن تكون ثمانين أو واحدًا وثمانين رواية فقط، علمًا بأن البخاري من أكثر المفسرين عناية بأسباب النزول. لذلك يجب عزل هذا الركام من أسباب النزول أو إعادة النظر فيه، لأن هناك تفسيرًا للآيات بأشياء غير صحيحة. وأعتقد أن كثيرًا من الزيف دخل على الفكر الإسلامي -وخصوصًا من الفرق الأخرى - من خلال أسباب نزول واهية أو مكذوبة أو لا أصل لها. لذا إذا أردنا أن ننتج جيلًا قرآنيًّا يجب أن يكون منهجيًّا في التفسير ليس فيه أخطاء التاريخ ولا وزره، كما يجب أن يكون مصحوبًا ببعض المقارنات ومنفتحًا من خلال دراسة ما عند الأمم الأخرى ودراسة حضاراتها. والزعم بأن القرآن كتاب تاريخي مرفوض من زاوية أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأؤكد على أن ما أنتجه التاريخ يمكن للتاريخ تجاوزه، ولكن ما كان تنزيلًا من حكيم حميد هو لكل العصور والأجيال.
(قضية الإعجاز العلمي) الفرقان: ثمة جدل في قضية الإعجاز العلمي في القرآن وخلاف حول التسمية والمضمون، ولقد بحثتم في هذا الموضوع. نرجو منكم جلاء هذا الأمر. أ. د. زرزور: أتت فكرة الإعجاز العلمي من أن القرآن أشار إلى مجموعة من الحقائق المتصلة ببناء الكون وبعلوم خلق الإنسان والنبات والبحار والجنين وغير ذلك، وأن تفسير الآيات التي حملت هذه الإشارات بما انتهى إليه العلم الحديث يسمى إعجازًا. أنا لا أسميه إعجازًا إطلاقًا، لأن الإعجاز أساسًا هو ثمرة التحدي كما يقول العلماء القدامى ﴿فأتوا بعشر سور مثله مفتريات﴾، فعجزوا فثبت أن القرآن معجز. كما أن الحقائق العلمية التي تضمنها القرآن في آيات عدة إنما جاءت في سياق الاستدلال على الله تعالى لا في سياق التحدي أساسًا. فمثلًا: آيات الطبيعة والإنسان وردت في سياقين: سياق الانتفاع والتسخير، وسياق التأمل والتدبر والانتقال من المخلوق إلى الخالق بمعنى الدلالة على الصنعة الإلهية. أنا أريد أن أفرّق بين ثلاثة مصطلحات: إعجاز القرآن، والتفسير العلمي للقرآن، والمنهج العلمي في القرآن. فإعجاز القرآن هو القضية الأساسية القديمة التاريخية، التي كتب فيها العلماء وتداولوا فيها وكُتبت فيها نظريات كثيرة أبرزها نظرية (النظم) لعبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري وما زال الناس حتى الآن يقتبسون من نوره أو يسرجون مصابيحهم من زيته، لأن كلامه في غاية العمق، وهو قدّم النظرية الهيكلية لإعجاز القرآن إن صح التعبير، ثم جاء على هذا المنوال من بعده الرافعي وسيد قطب وآخرون. أما التفسير العلمي للقرآن فمعناه الانتفاع بحقائق العلم التجريبي في شرح الآيات، مثل: ﴿يكوّر الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل﴾ أو خلق الجنين أو غير ذلك. وفي هذا التفسير قد نضلّ أو نخطئ، أو قد يتبين لنا فيما بعد أنّ كلامنا حول ذلك غير صحيح ولذلك لا يمكن أن يقال عنه إنه إعجاز. دعنا نقول إن (موريس بوكاي) هو أصح ذهنًا من كثير من المسلمين المعاصرين. وهنا أشير إلى أن (مراد هوفمان) نصّ في كتابه (الإسلام كبديل) على أن بوكاي أسلم، وهو أمر تؤيده بعض أفكاره في كتبه وبالذات كتابه: ما الإنسان؟ - يقول بوكاي: لا يمكن إدراك هذه الحقائق العلمية خارج النص العربي أي خارج القرآن باللغة التي نزل بها التي يسمى معها قرآنًا، لأن الترجمة لا تسمى قرآنًا، يريد القول إن الترجمة ستضيّع المعاني. ويقول: أنا لا أريد المجازفة، لا يفسَّر القرآن بأية نظرية إنما يفسَّر بالفعل القائم الواقع. فمثلًا: دوران الأرض حول الشمس فعل واقع وليس نظرية، لكن المدار الذي تدور فيه نظرية، وقد تأتي نظرية فتحدد المدار بشكل أفضل. وهذا تنزيه للنص القرآني عن أن يكون كلامًا في الطب أو الفلك أو الرياضيات أو غير ذلك. ما أريد قوله: إن هذه الحقائق أو الأدلة العلمية تصب في خانة أن القرآن وحي يوحى. لكن هل هذه الأدلة تسمى إعجازًا؟ لا، إنها تدل على أن القرآن من كلام الله مثله في ذلك مثل التوراة والإنجيل قبل أن يدخلهما التحريف. لكن القرآن ينفرد عنهما بوصف آخر، وهو أن هذا الوحي معجز، فالإعجاز وصف زائد على كونه وحيًا، ومن ثم فالأدلة التي يسوقها الباحثون في الإعجاز العلمي على أن القرآن وحي لا تدخل في باب الاستدلال على أن القرآن معجز. الفرقان: الدكتور زغلول النجار لا يتكلم في الإعجاز من باب التحدي، وإنما من باب الاستدلال على أن هذا القرآن من عند الله. أ. د. زرزور: نعم هذا لا بأس به، لكن يجب أن يتم إخراجه من باب المصطلحات. الفرقان: ولماذا يحدث خلط في هذا الموضوع إذن؟ أ. د. زرزور: أنا أقول: إن القرآن معجز بنفسه وليس بتفسيرنا له. وكأن الدكتور النجار وغيره يتحدثون عن إعجاز التفسير العلمي وليس عن إعجاز القرآن، علمًا بأن الإعجاز وصف للقرآن نفسه، بمعنى أن النص نفسه معجز، سواء فهمنا معناه أم لم نفهم، أو أدركنا المدلول العلمي له أم لم ندركه. وهناك قضية مهمة: قد نقول إن القرآن تحدّانا بهذه العلوم فعرفناها. فهل إذا عرفناها انتهى إعجاز القرآن، أم ماذا؟ هذه قضية خطيرة حقًّا، القرآن لم يتحدَّ بموضوع معين، لقد تحدَّى بالنظم، تحدَّى بالسور، تحدَّى بسورة، لأن السورة هي عبارة عن نظام بياني يعجز عنه الإنسان، لم يتحدَّ القرآن بعشر آيات في موضوع معيّن. الفرقان: ولكن الإعجاز العلمي -كما يرى الدكتور زغلول النجار- يفيدنا في دخول غير المسلمين في الإسلام؟ أ. د. زرزور: أنا أعتبر أن أثر هذا الأمر ضعيف. وقد أشرت إلى هذا في المؤتمر القرآني. وأقول: إن دعوة للقرآن بمبادئه وأخلاقه وأحكامه تحقق نتائج أضعاف أضعاف ما تحققه الفكرة التي أشرتَ إليها. من الذي يدخل في الإسلام الآن؟ إنه الذي يعاني من أزمة عقائدية أو أزمة فكرية أو أخلاقية أو روحية. إذن الإعجاز لم ينته بالتحدي ولن ينتهي، الإعجاز ليس بالسبق (١٤٠٠ عام أو أكثر) إنما بالتفرد، بمعنى أن أحدًا لا يستطيع أن يأتي بمثله من حيث النظم ومن حيث النظام؛ نظام وحدة السورة التي فيها ترابط وبلاغة. والجاحظ يشير إلى أنه لم يجر التحدي بأقل من سورة. وعبد القاهر الجرجاني في معرض حديثه عن (عشر سور مفتريات) يقول: "إن الافتراء في المعاني وليس في النظم". فالقرآن لم يتحدَّ بالمضامين إطلاقًا بدليل (مفتريات)، وهذا من أعظم أنواع التسهيل على العرب وغيرهم أن يتحداهم القرآن بأي موضوع شاءوا. ونضرب مثالًا بالقصص القرآني؛ فالقصة القرآنية ملتزمة بواقع معين، ومع ذلك عُرضت عرضًا فنيًّا رائعًا بلغ حدّ الإعجاز. القرآن يقول لك: تحدّث بالقصة التي تريدها، ولكن بشرط أنك إذا عرضتها أن يكون لها مثل رواء النظم القرآني وبهائه وأناقة أسلوبه ... إلخ. هذا تسهيل لأن الخيال أقوى من الحقيقة ... وأنا إذا كنت فنانًا أو قصاصًا وأردت مثلًا أن أكتب قصة وألتزم فيها بالوقائع سأصير مؤرخًا، وإذا أردت الخروج عن النص لم أعد مؤرخًا. لذلك أقول: إن الإعجاز هو بياني في الأساس، لكن الآيات التي موضوعها علمي فيها مسحة بيانية إضافية، وجاء التعبير عن هذه الموضوعات على وجه لا يعجز عن خطاب الإنسان في أي عصر ولا يحمّله كذلك أكثر مما يطيق. وهذا أمر لا يستطيعه أحد من خلق الله. فأنا لا أستطيع - مثلًا - أن أنشئ جملة فيها حقيقة علمية يكتشفها الناس بعد (١٠٠٠) عام، والذي نزلت عليه يفهمهما ويتعامل معها، والذين يقرؤها بعد (٢٠٠٠) عام يرى فيها أمرًا آخر. هذا يدل على أن الإنسان ابن عصره وزمانه، لذا أنا أرجعت الإعجاز العلمي إلى التفسير البياني من هذه الزاوية؛ من زاوية التعبير عن هذه الحقائق العلمية على نحو لا يعجز عن خطاب الإنسان في عصر التنزيل ولا في العصور اللاحقة، ولا يحمّله كذلك أكثر مما يطيق. تصوّر الآن، لو نزلت في القرآن آية تتحدث عن كروية الأرض في عصر التنزيل لكُذّب النبي ﷺ، هو أساسًا ﵊ لم يأت بما يخالف الناس وكذّبوه! فجاء التعبير ﴿يكوّر الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل﴾، ﴿رب المشارق والمغارب﴾، ﴿رب المشرقين ورب المغربين﴾ ففهمنا هذا - كما يقول موريس بوكاي - في عصر متأخر ولا غبار علينا ولا حرج. الفرقان: فهمت من كلامك أنه يمكن أن يكون هناك إعجاز فيما يخص القضايا العلمية الثابتة، وهذا يدعو إلى ضرورة وجود ضوابط منهجية لترشيد البحث في الإعجاز العلمي. أليس كذلك؟ أ. د. زرزور: نعم، أنا بحثت هذا الموضوع تحت اسم (شروط التفسير العلمي) وليس الإعجاز العلمي، بمعنى أنه لا يُفسَّر القرآن إلا باليقينيات العلمية. واليقينيات هي التي ارتقت من درجة الفروض إلى مقام الحقائق التي لا يتطرق إليها شك. يقول موريس بوكاي: يجب أن نرتقي بها إلى درجة الفعل القائم المشاهد أو المحسوس. وهناك نقطة مهمة وهي أن التفسير العلمي لا تفسَّر به المعجزات لأن المعجزات ثبتت على خلاف القضية العلمية، فهي استثناء من قضايا العلم؛ لأن العلم بمعنى القانون أو السنة، فالمعجزات لإيقاف السنة أو إبطال عملها أو لإيقاف الدلالة على أن الذي يأتي بها نبي أو موحى إليه، فعندما يأتي البعض - تحت عنوان الدفاع عن القرآن وبيان أن القرآن لا يتعارض مع العلم - ويفسر المعجزات بأنها قضايا علمية، فهذا عكس الموضوع تمامًا. وهذا (علي فكري) فسَّر أن العصر السليماني كان يعرف الحروب الهوائية والطيران الشرعي، لأنه كان فيه سفر هوائي منظم، وأن الجنود التي تهبط بالمظلات ليس قضية جديدة، لأن يوم بدر هبطت فيه الملائكة .. هذا الكلام سخيف في الحقيقة.
(التفسير الموضوعي) الفرقان: ما أهمية أو فائدة التفسير الموضوعي للقرآن، وما مهمته؟ أ. د. زرزور: ليست كل سورة من سور القرآن الكريم مختصة بموضوع واحد بل بعدة موضوعات، يقابل هذا أن الموضوع الواحد - بطبيعة الحال - يتوزع في سور متعددة. لا بد من ضم أطراف الموضوع الواحد على صعيد واحد حتى لا نخطئ في التفسير؛ لأن هذا أحد الأسباب التي دعت إلى الخلاف بين الفرقاء أو المتكلمين عندما يأتي أحدهم إلى جزء من السورة أو جزء من الموضوع في آية ويعتبرها هي الأصل إلى درجة أنه يضطر إلى إدخال سائر الآيات في التأويل، ونحن لسنا مضطرين للتأويل إذا أمكننا أن نعيد بناء السورة القرآنية للموضوع الواحد على صعيد واحد. هذه هي مهمة التفسير الموضوعي. وهناك فوائد كثيرة لهذا النوع من التفسير، لكن أبرز فائدة من فوائده أن الخلاف الذي احتدّ بين المتكلمين وحتى بين بعض الفقهاء في بعض الأحيان - والذي بلغ حد اختلاف التضاد وليس اختلاف التنوع - كان سببه أن بعضهم أخذ جزءًا من السورة واعتبرها أصلًا واضطر إلى إدخال سائر أجزاء السورة في التأويل. فمثلًا، آيات الهداية والضلال، اعتبر بعض العلماء أن معنى الهداية خلق الإيمان في قلب المؤمن، علمًا بأن مدلول الهداية في القرآن متعدد، فإذا جمعناه على صعيد واحد فلا خلاف، لكنهم فهموا (هدًى للمتقين) أي ليس هدى لغيرهم كما يقول الأشاعرة، لكن المتعزلة لا على معنى أنه هدى للمتقين وحدهم لأن القرآن هداية لجميع الناس، ولكن لأن المتقين هم الذين اهتدوا به، فكأنه إنما كان هداية لهم دون غيرهم. وبعض الأشاعرة -استنادًا إلى أن الهداية خلق الإيمان في قلب المؤمن- فسّروا الآيات كلها على هذا النحو، فآية ﴿وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى﴾ فأول الآية ﴿هديناهم﴾ أي هدينا المتقين منهم. هذا الكلام ليس صحيحًا. والتفسير الموضوعي مهم في هذه الأمور وهو يحل كثيرًا من هذه المعضلات. الفرقان: هناك آيات كثيرة في القرآن ليس لها تفسير واحد أو فسِّرت بعدة تفسيرات أو عدة آراء. وهذا الاختلاف قد يوقع في حيرة. ما رأيكم؟ أ. د. زرزور: هذا صحيح، وهناك آيات ربما اتفق العلماء على دلالتها. فمثلًا، إذا كانت آيات معينة دلالتها ظنية، والدلالة الظنية تحمل عدة وجوه وهذا أمر طبيعي. وسواءٌ كان هناك اختلاف تنوّع أو اختلاف تضادٍّ، لكن في نهاية المطاف ما دام التفسير ضمن قواعد اللغة العربية وأصولها المتفق عليها فتعدد وجهات النظر موجود. لا يوجد شيء في القرآن لم يقف العلماء أمامه فقالوا هذا لا يعلم تأويله إلا الله - مثلًا-، حتى فواتح السور فسَّرت التي قال بعضهم إنها من المتشابه وهي ليست كذلك بكل تأكيد. ومفهوم المتشابه الذي توزعت مفاهيمه على آراء قد تصل إلى ثلاثين رأيًا، وهناك فصل لي في كتابي في المتشابه يحل مشكلة آيات الصفات.
(بين سيد قطب والشعراوي) الفرقان: قمتَ بمقارنة بين تفسير (في ظلال القرآن) لسيد قطب، وبين تفسير محمد متولي الشعراوي في كتيب يتحدث عن الشعراوي. فما خلاصة ذلك؟ أ. د. زرزور: قلتُ فيه: لو جاء سيد قطب محل الشعراوي لنحا منحاه، ولو جاء الشعراوي محل سيد قطب لنحا منحاه، بمعنى أن كلَّ واحد منهما قام بما توجبه عليه الظروف من شرح القرآن وتفسيره. (الظلال) لسيد قطب مدرسة متميزة في تفسير القرآن غير معهودة عند السابقين. لم يسلك منهج الإعراب والنحو والقراءات والأحكام والقصة والمناسبة، كان من نوع آخر، اهتم بالوحدة الموضوعية في السورة ووجه الارتباط بين الآيات. لا أعتقد أن أحدًا قبله استطاع أن يلمس فكرة الوحدة الموضوعية في السورة بهذا العمق وهذه السلاسة. كان سيد ﵀ حافظًا للقرآن وكان يقرأ السورة عدة مرات حتى يقف على مفتاحها ولا يقرأ من كتب التفسير حولها شيئًا حتى لا يتأثر بها فكان يقول: "إنه كان يفتح عليّ في بعض الأحيان في وقت قريب، وفي بعض الأحيان يستغرق ذلك وقتًا حتى إذا أدركت المحور الرئيسي في السورة والمحاور الفرعية جلست للكتابة عنها ووددت لو أنني أنهيتها في جلسة واحدة لكان ذلك أفضل". حتى إذ انتهى من السورة الأولى كان يعود إلى كتب التفسير ليستدرك سبب النزول أو روايةً أو شيئًا من هذا القبيل، حتى لا يتأثر بمعنى من المعاني التي تسبق إلى ذهن غيره فتحجزه عن فهمه المباشر مع القرآن، أي إنه تعامل مع القرآن بنحو مباشر بدون مقرر فكري مسبق من أصحاب المبادئ والعقائد والمتكلمين والفقهاء - فلا أشاعرة ولا خوارج ولا غير ذلك-، ولذلك أُخذ عليه أن آيةً -مثلًا- فسّرها على مذهب المرجئة -ولا علاقة لها بالمذاهب أساسًا- فليس سيد مضطرًّا أن يؤوِّل الآية حتى لا يوافق تفسيره رأيًا قال به مرجئيٌّ أو معتزليٌّ أو غير ذلك، لأن آراء مثل هذه المذاهب ليست هي الأصل في التفسير. إن الأصل في التفسير هي المعاني التي تدل عليها الآيات. ويمكن أن نصنّف هذا التفسير (في ظلال القرآن) في قائمة التفسير الأدبي والدعوي والاجتماعي. وقد حاول بعض المفسرين المعاصرين تقليد سيد في مجال الوحدة الموضوعية لكنه لم يوفق توفيق سيد، وليس معنى هذا أن سيد قال الكلمة الأخيرة في تفسيره؛ لأن هناك بعض المحاور قد نختلف معه فيها، فإنًّ ما أخذه سيد على غيره من المفسرين لا أقول وقع فيه ولكن كاد أن يقع فيه، ولسيد تصور معين عن كيفية إزاحة ما أسماه (الجاهلية) عن مقعد القيادة والتأثير؛ هذا المنهج صار يأخذه من القرآن ويستنطق الآيات لتنطق به. أما الشيخ الشعراوي ﵀ فتفسيره الأبرز منطوقًا وليس مقروءًا. إن طريقة الشعراوي في العرض هي التي شدّت الناس إلى تفسير القرآن الكريم. فلو أنهم جلسوا لقراءة تفسيره مكتوبًا لما تفاعلوا معه بالطريقة التي تفاعلوا معه وهو يتحدث. لكن الشعراوي ﵀ كانت لديه قدرة فائقة على أمرين، الأول: الإفادة من محصّلة كتب التفسير على اختلاف مذاهبها، فيطرحها كأنها شيء من عنده أو من بنات أفكاره وعلى نحو لا يثير أي حساسية. فقسم كبير من أفكاره يمكن أن نصنّفه، فمنه ما هو مع الخوارج ومنه ما هو مع المعتزلة ولكنه لا يقول هذا. والثاني: كانت لديه قدرة على التبسيط، فالمعاني الصعبة يبسِّطها. لقد كان معلم تفسير أكثر من كونه مفسرًا، والمفسر قاعدته واسعة يأخذ منها ويهضمها ويتمثلها وينتقي منها ما هو لصيق بالإعجاز وما هو لصيق بإثارة العاطفة والإعجاب عند الناس. فالشعراوي أدّى في مرحلة معينة من التاريخ المعاصر رسالة مهمة في إيصال معاني القرآن للناس على نحو مبسط.
(الحرب ضد القرآن) الفرقان: هناك محاولات عديدة لتحريف آيات القرآن على شبكة الإنترنت. كيف نصدّ هذه المحاولات؟ أ. د. زرزور: التحريف اللفظي لا قيمة له إطلاقًا لأن القرآن موجود ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه﴾ وهذا يكشف أصحاب هذا التحريف ومدى سخف هؤلاء وتفاهة عقولهم. لكن الخطورة في تحريف المعاني، وتكمن في التاريخ الإسلامي في عصر سيادة الحضارة الإسلامية وسيادة الدولة الإسلامية حين أرادوا أن يقوّضوا دعائم الإسلام فزعموا أن القرآن له ظاهر وباطن، وأن هذا التأويل لا يعرفه إلا الإمام والإمام هو الذي يفسّر، وغيره يلغي عقله، والصيام رجل والزكاة رجل، أي بمعنى أنهم فصلوا ما بين القرآن وبين دلالاته ومعانيه، بهدف إخراج الناس من الإسلام في وقت لا يستطيعون فيه محاربة الإسلام. أما الآن، فالصورة التي أمامنا أن الأمة تريد العودة إلى الإسلام، فتقدّم بعض الناس لملء الفراغ على غرار الباطنيين القدامى أو القرامطة الجدد، يريدون الفصل بين النص والمعنى، من أجل أن يحولوا بين المجتمع الإسلامي وبين العودة إلى الإسلام، ففكرة الظاهر والباطن والتفسير المعاصر والقراءة المعاصرة كثرت الآن. وأنا أقوم حاليًّا بدراسة معمقة في هذه المعاني لما يثيره أمثال محمد شحرور وحامد نصر أبو زيد وحسن حنفي في هذا الصدد من أصحاب المنهج المتهالك متعدد الأخطاء والتجاوزات والأكاذيب. وقد ثبت لي أخيرًا أن هذه الآراء لها أصول في الأحاديث المكذوبة والموضوعة عند الفرق القديمة. الفرقان: هل من نصيحة توجهونها لطلبة التفسير وعلوم القرآن؟ أ. د. زرزور: أقول: إنهم يشتغلون في أفضل أبواب العلم، وأرجو أن يكون الله تعالى قد أراد بهم خيرًا عندما سهّل لهم طريق خدمة القرآن في التفسير أو التلاوة أو التجويد أو التحفيظ. وإن تعمقهم في التفاسير وتاريخ القرآن أو تاريخ التدوين أمر أساسي للبناء على ما سبق من المفسرين، ونرجو لهم التوفيق والسداد في التحصيل وفي الإضافة وفي توظيف معارف القرآن وإشاعة أخلاقه ومبادئه وقيمه بين الناس، علمًا بأن القرآن - والله أعلم - لا يعطي مفاتحه في الفهم لغير من كان صافي السريرة والنفس وعلى درجة من الإيمان والعمل الصالح والتلاوة الدائمة للقرآن. إن تمثلوا ذلك فإن دورهم في الدنيا كبير وثوابهم في الآخرة عظيم إن شاء الله. الفرقان: من مؤلفاتكم (ابن خلدون وفقه السنن) و(الإمام الشيخ محمد عبده معاصرًا)، نرجو تقديم فكرة عن كلٍّ منهما من حيث سبب التأليف والمضمون. أ. د. زرزور: الكتاب الأول كان بمناسبة مرور ستة قرون على وفاة ابن خلدون، حيث احتفلت بذلك بعض الجامعات، واعتبرت أن محور نظرية ابن خلدون هي السنن وليست الدولة وليست العصبية كما قال بعض الباحثين، وقارنتُ بينه وبين الشاطبي الذي اشتغل بفقه المقاصد حيث كانا في عصر واحد. وأعتقد أن نهضة العالم الإسلامي مربوطة بهذين الفقيهين، ولقد تلمست ملامح خاصة لمدرسة التجديد المغربية فوجدتها في كلا الرجلين، وكان ذلك في القرن الثامن. أما الكتاب الثاني فكان بمناسبة مرور مئة عام على وفاة الشيخ محمد عبده منذ ١٩٠٥. لقد ظُلمنا حين أُبعدنا عن هؤلاء الرموز وقيل لنا إن تجديدهم غير صحيح. وهذا كلام خاطئ. وأريد بهذه المناسبة أن أبدي عدم ارتياحي إطلاقًا لمنهج التشويه المتعمد الذي ليس له أي قيمة علمية. فالذي اتبعه محمد محمد حسين في كتابه (حصوننا مهددة من الداخل) هو منهج مدان في الحقيقة؛ هذا الذي يحطِّم كل الرؤوس. محمد عبده له جوانب إيجابية ضخمة عجيبة ومن قبله جمال الدين الأفغاني ومن بعده عبد الرحمن الكواكبي وذلك بالرغم من أخطائهم من خلال العصر ومن خلال المعطيات. يقول الكاتب في الكتاب الذي أشرتُ إليه: إن محمد عبده كان يحرِّض على تعليم اللغة الأجنبية. أهذا يعدُّ مأخذًا عليه؟! لا بد من إعادة التقويم وأن يكون موضوعيًّا، والإصلاح لا يولد في فراغ، فلولا الأفغاني ما كان محمد عبده ولولا محمد عبده ما كان رشيد رضا ولولا رشيد رضا ما كان حسن البنا أساسًا؛ فحسن البنا لما جاء بدأ من حيث انتهى رشيد رضا في التفسير وفي العقل. ومن هذا المنطلق كتبتُ عن محمد عبده. وهناك بحث لي عن عبد الرحمن بدوي الذي ختم حياته بكتابين هما: (دفاع عن محمد) و(دفاع عن القرآن)، وهما كتابان جيدان. الفرقان: شكرًا لكم على هذه المعلومات، وأثابكم الله.
Page inconnue