البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج
البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج
Maison d'édition
دار ابن الجوزي
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
(١٤٢٦ - ١٤٣٦ هـ)
Lieu d'édition
الرياض
Genres
الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (١٣)﴾ [غافر: ١٣]، وقال: ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨)﴾ [ق: ٨]، [قال الجامع عفا الله عنه]: ولهذا قالوا في قوله تعالى: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (١٠)﴾ [الأعلى: ١٠]: سيتّعظ بالقرآن من يخشى الله، وفي قوله: ﴿وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ﴾ [غافر: ١٣]: إنما يتّعظ من يرجع إلى الطاعة، وهذا لأن التذكّر التامّ يستلزم التأثّر بما تذكّره، فإن تذكّر محبوبًا طلبه، وإن تذكّر مرهوبًا هرب منه. ومنه قوله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٦]، وقال سبحانه الله: ﴿اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ﴾ [يس: ١١]، فنفى الإنذار عن غير هؤلاء مع قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦)﴾ [البقرة: ٦]، فأثبت لهم الإنذار من وجه، ونفاه عنهم من وجه، فالإنذار هو الإعلام بالمخوف، فالإنذار مثل التعليم، والتخويف، فمن علّمته فتعلّم، فقد تمّ تعليمه، وآخر يقول: علّمته فلم يتعلّم، وكذلك من خوّفته فخاف، فهذا هو الذي تمّ تخويفه، وأما من خُوّف فما خاف، فلم يتمّ تخويفه، وكذلك من هديته فاهتدى، تمّ هداه، ومنه قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢]، ومن هديته فلم يهتد، كما قال تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصّلت: ١٧]، فلم يتمّ هداه، كما تقول: قطعته فانقطع، وقطعته، فما انقطع. فالمؤثّر التامّ يستلزم أثره، فمتى لم يحصل أثره لم يكن تامًّا، والفعل إذا صادف محلًّا قابلًا تمّ، وإلا لم يتمّ، والعلم بالمحبوب يورث طلبه، والعلم بالمكروه يورث تركه، ولهذا يُسمّى هذا العلم: الداعي، ويقال: الداعي مع القدرة، يستلزم وجود المقدور، وهو العلم بالمطلوب المستلزم لإرادة المعلوم المراد، وهذا كلّه إنما يحصل مع صحّة الفطرة، وسلامتها، وأما مع فسادها، فقد يُحسّ الإنسان باللذيذ، فلا يجد له لذّة، بل يؤلمه، وكذلك يلتذّ بالمؤلم لفساد فطرته، والفساد يتناول القوّة العلميّة، والقوّة العمليّة جميعًا، كالممرور الذي يجد العسل مُرًّا، فإنه فسد نفس إحساسه، حتى كان يُحسّ به على خلاف ما هو عليه للمرّة التي مازجته، وكذلك من فسد باطنه، قال تعالى: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام: ١٠٩ - ١١٠]. وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾
1 / 47