الفصل الثالث
الضمير
هو صوت ينبعث من أعماق الصدور، آمرا بالخير، أو ناهيا عن الشر ، وإن لم ترج مثوبة، أو تخش عقوبة.
والغزالي كما رأيت لا يرى شيئا حسنا لذاته، أو قبيحا لذاته، فالشرع هو المكيف للأعمال حسنا وقبحا، فلا مجال بالطبع لأن يفرد بابا للضمير، إذ كان التكليف إنما ينزل من السماء. والضمائر لا ترد في كلامه إنما يريد بها مكنونات الصدور، وهي والسرائر من باب واحد. والإنسان فيما يرى ليس مسئولا عن مراقبة ضميره، إذ هو لا يعرف الضمير. وإنما يسأل عن مراقبة ربه، وخشيته، في السر والعلانية، فليس هناك جارحة باطنية تدرك بالخير والشر، وإن لم تتعرض لهما الشرائع، وإنما هناك رب يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والمرء من خشيته مسئول.
غير أنه لا يصح لنا أن ننسى أن هناك أسبابا لنشوء الضمير، فالفلسفة توجد لدارسها نوعا من الشعور بالمسئولية إزاء بعض الجوانب، والأخلاق توجد للباحث فيها نوعا من إدراك الواجب، والشريعة كذلك تورث المتدين بها نوعا من الوجدان.
ولا نبعد عن الصواب إذا قررنا أن الغزالي يؤمن بالنوع الأخير من الضمير، وإن لم ينوه به، ولم يختصه بالبيان. وإليك قوله في ص85 ج1 من الإحياء: «ومنها أن يكون اعتماده في علومه على بصيرته، وإدراكه بصفاء قلبه، لا على الصحف والكتب ولا على تقليد ما يسمعه من غيره.» وقد ردد في كتبه هذا الحديث «الإثم ما حاك في صدرك، وإن أفتوك وأفتوك» وليس ذلك إلا إشادة بهذه الحاسة الباطنية التي يفزع المرء إليها عندما يلتبس عليه وجه الصواب. إلا أنه يجب أن نعرف أن نص الشريعة من كتاب أو سنة هو عنده فوق الفتوى وفوق الضمير.
والحق أن الضمير لا وجود له في ذاته، حتى نؤاخذ الغزالي بإغفاله، وإنما ينشأ من الشرائع الوضعية والسماوية. حتى إنك لتجد لكل شعب ضمائر تخصه بالذات، حسبما توحي التقاليد. فمثلا جريمة السرقة كانت فضيلة عند بعض الشعوب، وكان من تنقصه فيها المهارة عرضة لاحتقار الرأي العام، ولذع الضمير! ونهب مال الغريب لا حرج فيه عند فريق من القبائل البربرية، فمن الواضح أنهم لا يقاسون عند نهبه تأنيب الضمير. بل الشخص الواحد يختلف ضميره باختلاف سنه، فيكون ضميره في سن العشرين، أضعف أو أقوى منه في سن الثلاثين، حسبما توجب الظروف. ومن هنا صح لشاعر أن يقول:
يقولون هل بعد الثلاثين ملعب
فقلت وهل قبل الثلاثين ملعب؟
كما صح لغيره أن يقول:
Page inconnue