وجذبها برفق لينهضها، ونهضت معه بغير حماس، ودموعها لا تزال تتساقط ... دموع حقيقية. وأعاد الحلة إلى السبت وعلقه في يدها، ومضى يصعد بها السلم وذراعه حولها، وهي مستكينة إليه لا تزال تدمع وجسدها ينتفض، ولكنها لا تقاومه ولا تتوقف عن الصعود.
الشيخ شيخة
بلاد الله واسعة وكثيرة، وكل بلدة فيها ما يكفيها ... كبار وصغار، وصبيان وإناث، أناس وعائلات، ومسلمون وأقباط، وملك واسع تنظمه قوانين وتقض مضاجعه قوانين. وأحيانا يخرج للقاعدة شاذ، كالحال في بلدنا الذي ينفرد دون بلاد الله بهذا الكائن الحي الذي يحيا فيه، والذي لا يمكن وضعه مع أناس بلدنا وخلقها، ولا يمكن وضعه كذلك مع حيواناتها. وأيضا ليس هو الحلقة المفقودة بينهما ... كائن قائم بذاته لا اسم له، أحيانا ينادونه بالشيخ محمد وأحيانا بالشيخة فاطمة، ولكنها أحيان وللسهولة ليس إلا. فالحقيقة أنه ظل بلا اسم ولا أب ولا أم، ولا أحد يعرف من أين جاء ولا من الورثة ذلك الجسد المتين البنيان ... أما أن له ملامح بشرية فقد كانت له ملامح، كانت له عينان وأذنان وأنف ويمشي على ساقين ... ولكن المشكلة أن ملامحه تلك كانت تتخذ أوضاعا غير بشرية بالمرة، فرقبته مثلا تميل على أحد كتفيه في وضع أفقي كالنبات حين تدوسه القدم في صغره، فينمو زاحفا على الأرض يحاذيها، وعيناه دائما عين منهما نصف مغلقة، وعين مطبقة. ولم يحدث مرة أن ضيق هذه أو وسع تلك ... وذراعاه تسقطان من كتفيه بطريقة تحس معها أنهما لا علاقة لهما ببقية جسده، كأنهما ذراعا جلباب مغسول ومعلق ليجف.
وبشعر رأسه القصير الكثيف الخشن كالفرشاة تبدأ مشكلة تسترعي الانتباه ... فليس فيه علامات أنوثة، وهو أيضا يخلو من علامات الرجولة. وجسده ضخم ربع في سمك الحائط ومتانته، ولكن وجهه لا يحمل أثرا للحية أو شارب. وكان من الممكن أن يفصل صوته في نوعه ويضمه إلى دنيا النساء أو الرجال، لولا أنه كان لا يتكلم ولا يتحرك إلا إذا أوذي أو تألم. وحينئذ يخرج منه فحيح رفيع لا تستطيع أن تعرف إن كان فحيح أنثى أم ذكر، أو حتى فحيح آدمي أصلا.
وكان نادر المشي، وإذا مشى سار في خطوات ضيقة جدا، وكأنه مقيد. وهوايته الكبرى أن يقف ... يظل واقفا بجوارك أو أمام دكانك أو في حوش بيتك كالمذنب بلا ذنب، ساعات وساعات دون أن يخطر بباله أن يتحرك. ولا أحد يعرف كيف يأكل أو من أين، فالطعام إذا قدم إليه رفضه ... والبعض يؤكد أنه يقتات بالحشائش من الغيطان، وأن طعامه المفضل هو البرسيم، وأنه إذا شرب يشرب كالمواشي من الترعة. ولكنها أقوال، مجرد أقوال، ولم تبلغ الجرأة بأحد أن يزعم أنها رؤية عين.
وكائن كهذا لو وجد في أي مكان آخر؛ لرأى الناس فيه ظاهرة جديرة بالدراسة والأبحاث، أو على الأقل ينشر صورته في الجرائد والقيام معه بتحقيقات ... ولكن أهل بلدنا لم يكونوا يرون فيه كائنا شاذا أبدا، كل ما في الأمر أنه كائن مختلف. وما دام يحيا بينهم لا يؤذي أحدا ولا يجلب شرا لأحد، فلا اعتراض لأحد على حياته، وحرام أن يعترضه أحد، أو يحملق فيه إنسان، أو يسخر من وقوفه أو اعوجاج رقبته ساخر، فهكذا أراد الخالق. وإذا أراد الخالق فلا مناص من إرادته ... وليس على العبد أن يعترض على نظامه حتى إذا شذ النظام ... وكم شذ النظام حتى ليبدو الكون بلا نظام. وكم من مجذوب مهفوف ومشوه ومجنون ... والكل يحيا ولا بد أن يحيا الكل، ويضمهم ذلك الموكب الرهيب البطيء السائر بهم نحو النهاية حيث لا نهاية، كل ما في الأمر أن أهل البلد كانوا يعاملون الشيخ شيخة بنوع خاص من الرهبة ليست فيها تلك القدسية الممزوجة بالسخرية التي ينظرون بها إلى المجاذيب والأولياء، وليست فيها تلك الشفقة الممزوجة بالاشمئزاز التي ينظرون بها إلى المشوهين والمرضى. ربما رهبة النظر إلى شيء مخالف شاذ، يكشف بشذوذه عن كنه النظام الهائل الذي يلف الكون والناس، رهبة من النظام أكثر منها رهبة من مخالفة النظام. كان إذا جاء على قوم جالسين تحاشوا النظر إليه، وتعمدوا ألا يجعلوه يحس أنهم شعروا بوجوده . وقد يلقي عليه واحد أو اثنان نظرات عجلى مستطلعة، ولكن العيون لا تلبث أن ترتد، والألسنة لا تلبث أن تستمر فيما كانت فيه من حديث، بصرف النظر عن وقفته غير بعيد عنهم، وثبوته في مكانه ثبوت جذع نبت من الأرض فجأة ... وإذا جذب وقوفه الذي يطول انتباه الأطفال، والتفوا حوله يتأملونه بلا رهبة أو خشية من معصية الاعتراض، نهرهم الكبار، وتطوع واحد بالجري وراءهم حتى يغيبهم في شقوق البلدة وحواريها ... والويل لهم إذا فكر أحدهم في معاكسته، أو نغزه بعود قطن ليجعله يصدر ذلك الفحيح الغامض الرفيع.
وسنين طويلة قضاها الشيخ شيخة في بلدنا على هذه الحال، والناس قد أحلوه من كل واجبات الإنسان والحيوان والنبات، وتركوا له كل حقوقها. إذا شاء وقف كالنبات وتسمر، وإذا شاء فح كالحيوان، وإذا شاء تحرك من تلقاء نفسه كإنسان وإلى أي مكان يريد، لا يزجره أحد، ولا يعترض طريقه أحد. ويدخل أي بيت ويظل قابعا في أي ركن فيه ما شاء من الوقت، دون أن يضايق وجوده أهل البيت أو حتى يحسوا له وجودا. وكأنه يصبح إذا حل جزءا من المكان أو الزمان أو الأثير. تتعرى النساء أمامه، وكذلك يفعل الرجال، وتتحدث العائلات عن أخص شئونها في حضرته، وينام الرجل مع زوجته أو غير زوجته، وتدبر أمامه المكائد وتكتب البلاغات، ويقول الهامس للآخر حين يريد أن يطمئنه كي يفتح له صدره: قول يا أخي قول ... ما تخافش ... هو فيه إلا أنا وأنت والشيخ شيخة ... قول. •••
كل ما في الأمر أنه هناك بين كل بضع سنين وأخرى تنطلق إشاعة، خافتة واهنة لا تكاد تصل إلى الألسنة حتى تذوب فوقها وتتبدد ... مرة يقولون: إن ثمة علاقة مريبة تربطه بنعسة العرجة، فهي كثيرا ما تشاهد، وهي تبحث بعينيها في الليل عنه، وأحيانا تسأل عنه. وكثيرا ما رؤيت خارجة من الخرابة القريبة من الجامع، حيث كان يقضي معظم لياليه. وهي لا بد تعاشره ... في إشاعة، وفي إشاعة أخرى يقولون: إنه ابنها، وإنه جاء هكذا؛ لأنها حملت به سفاحا من أب فاسد الدم من رجال البندر، حيث كانت تذهب نعسة لتبيع الجبنة واللبن وأحمال الحطب في الفجر ... ويتردد الناس ألف مرة في تصديق أيهما؛ فنعسة تكاد بطلوع الروح تحسب على جنس النساء، فهي صلبة العود كالرجال، جافة الأخذ والرد متينة البنيان، تدخل العركة وتعور الرجال، وتخرج سليمة لم يصب جلبابها تقطيع. مات عنها زوجها وهي صغيرة فتحزمت بحزام الكادحين واشتغلت، وتقلبت في الكثير من الأعمال التي يزاولها النساء، ولكن طبعها كان إلى الرجال أقرب. وهو الذي حال بينها وبين الزواج، وهو الذي جعلها تستقر آخر الأمر في عملها الذي رشحتها له عضلاتها القوية وعظامها العريضة ... حمالة أحطاب وتبن وطحين وكل ما لا يستطيع وما لا يليق بالرجال أن يحملوه. وكل عدة شغلها «حواية» صنعتها من أثواب بالية، وخاطتها حتى أصبحت كالكعكة. وإذا وضعتها فوق رأسها تستطيع أن تحمل بها حمل جمل ولا تكل. وتمضي بحملها ثابتة الخطوة مختالة ترج الأرض، وتحدف عياقة بساقها، فيرن خلخالها الذي لم تفرط فيه ... ربما ليظل العلامة الوحيدة على أنوثتها، تلك التي تلتهم الأحمال الوعرة والعمل الشاق علاماتها واحدة وراء الأخرى ... وعيبها الوحيد أنها كانت إذا مشت فاضية بغير أحمال لا تعرف كيف تمشي، وتنط كالجرادة، وتتذبذب خطواتها بين هزات الأنثى ودغرية الذكر. ومن هنا سموها بالعرجة، سماها الرجل غيرة، وسمتها النساء استنكارا، وسماها الكل ظلما. أمن في مثل خشونتها يعاشر الشيخ شيخة؟ أو حتى يتصور أحد أنها كانت أما لابن ذات يوم، حتى لو كان الابن هو هذا المخلوق؟
ولكنهم يؤكدون ويقولون إنها بعد ولادته أخفته في نفس الخرابة التي يأوي إليها في كبره، وظلت ترضعه خفية وترعاه بعيدا عن الأنظار، ولم يخرج منها إلا وهو كبير بأسنان!
وفي عام يكثر الحديث عن ميوعة النساء وفسادهن، ويبلغ الأمر بالبعض أن يدعي أن بعض الجائعات والقاطنات في أطراف البلدة لا يجدن ما يشبعهن، فيلجأن إلى الشيخ شيخة وهن ضامنات صمته المطبق ولسانه الذي لن ينطلق.
Page inconnue