ومرة أخرى، جاءني صوته، وكأنه صوت الظلام إذا تكلم الظلام: بتكدب علي ليه يا أفندي؟
وابتلعت ريقي بصوت حاولت كتمه، وقبل أن أبتلعه مرة أخرى قال: إنت عملت حاجة مع وردة؟
ويبدو أنه لمحني أعتدل في مكاني ملسوعا، فوجدته يستطرد معدلا السؤال: ولا هي لعبت عليك يا أفندي؟
وفي جزء من الثانية كنت قد وطنت نفسي على أن أنهار أمامه، وأقول له كل شيء، وإذا نفدت بجلدي أقطع صلتي به وبوردة، وبتلك المشاكل التي لست ندا لها، والتي ورطت نفسي فيها بصبيانية قد تضيع حياتي. ولكني في الجزء التالي من الثانية، كدت أفقد وعيي بتأثير دفقة الحياة القوية التي عادت إلي مع أغرب وآخر ما كنت أتوقعه ... ضحكة عالية ضخمة صدرت عن الغريب، وبددت عن الليل ظلامه، وانتزعت عقلي من مكانه، ضحكة ... ويد قصيرة قوية امتدت تطبطب على كتفي، وصوت آخر كصوت النور إذا تكلم النور، يأتيني من ملامح بدأت تتحرك وتنفعل وتعود إليها الحياة: إنت خفت يا أفندي؟ ... الله يجازي شيطانك ... قول لي بقى ... وردة عملت معاك إيه؟ •••
وأنى لي أن أعرف أن الغريب يعرف عن زوجته الجديدة وردة كل شيء، وأنها نقاوة عينه التي أخذها على عيوبها، وأنه رآها تغني في الأفراح مع الفرقة الموسيقية فأعجبته وعشقها وتزوجها بما يشبه القوة، وأنه يضعها في العزبة النائية كالطائر في قفص مفتوح يتحدى الرجال بها ويتحداها وتتحداه، وأن العلاقة بينهما - على رأي عم خليل الذي شرح لي كل شيء - كالعلاقة بين الجني المارد والمرأة في ألف ليلة، يضعها في قمقم مفتاحه معه، وتحتفظ هي بصرة فيها خواتم من خانته معهم، رغم كل قمقمه وأقفاله وجبروته. غير أن وردة لم يكن لديها صرة خواتم، وواضح أن الغريب أقوى أثرا من الجني المارد وأكثر حبا، فهو يقتر على نفسه وزوجاته وأولاده ويصرف عليها، ويعفيها من أن تخلص له أو تتصرف بشرف، ويقول لها: إذا استطعت أن تفعلي شيئا؛ فحلال لك أن تفعليه.
وربما يقول هذا عجزا، وليبرر لنفسه خطأها إذا أخطأت، ونار الشك تأكل قلبه، وعذابه لا ينتهي، والسؤال المضني يلح عليه: «تراها استطاعت وأخطأت، أم لا تزال عاجزة؟»
ولا يزال اسمه المرعب يحول بينها وبين الخطيئة ... وكلما ازداد شكه فيها وازداد شكا في نفسه، اندفع يثبت لنفسه وللناس أنه قادر جبار، واندفع يضرب ويبطش ويبسط نفوذه على الجيرة وجير الجيرة، ويجعل من اسمه - من الغريب - القمقم الرهيب الذي يحول بينها وبين الرجال، ويحول بين الرجال وبينها. من أين لي أن أعرف أن الغريب اختارني بالذات ليرسلني لوردة، لا لشيء إلا لأكون كالطعم الحي يمتحن به حالتها ويتحداها بي، وليريها أنه وهو بعيد قادر على أن يشل إرادتي أنا، ويضحك عليها بي؟ ومن أين لي أن أعرف أن وردة كانت تعلم أني آجلا أو عاجلا سأنهار وأحكي للغريب كل شيء، وأنها فعلت كل ما فعلته معي وهي متأكدة أن الغريب سيعرفه؟ فعلته تحديا وردا على تحديه؟ أنى لي أن أعرف أني كنت كالرسالة الحية المتنقلة التي أرسلها الغريب يسألها فيها عن أحوالها ومبلغ خضوعها له، وأنها أرسلت إليه الرد مكتوبا على نفس الرسالة - علي أنا - ردها المعتاد المملوء بتحديه وثورتها عليه؟ أنى لي أن أعرف أن الغريب اختارني بالذات ليثبت لوردة أن نفوذه علي أشد أثرا من كل أنوثتها وجمالها، وأنها أرادت بما فعلته أن تثبت العكس؟
أنى لي أن أعرف هذا كله؟ •••
أما ليلتها فكل ما فعله الغريب وأنا أحكي له ما حدث أنه استمع إلي وهو يضحك، ضحكات لا شخشخة في آخرها كضحكات صبي مراهق سعيد بنفسه ورجولته.
وسألني حين انتهيت بقليل من الجد: طيب يا فندي دي لو كانت مراتك وعملت كده، كنت تعمل فيها إيه؟
Page inconnue