وظللت طوال الوقت منبهرا مما أراه وأسمعه ومن إحساسي الدائم أنها مع كل ما تفعله زوجة الغريب ذلك الجبار الرابض ينتظر عودتنا، وعلى فخذه الأيسر سكين. ويبلغ انبهاري قمته حين تتعمد بين كل حين وحين أن تخبط على كتفي خبطة دلال وتأنيب وتقول: اطلع من دول ... دا زمانك مقطع السمكة وديلها، حاكم البنات تموت في شعرك ده ... يحميك يا خويا لشبابك اسم الله عليك ... إنت مش حتبات هنا إن شاء الله؟ والله ما سيبك تروح لوحدك أبدا.
ويتولاني الضيق العظيم، ضيق الموفد في مهمة الذي يكتشف أنه هو الذي أصبح موضع الاهتمام، وأن كل الرسالة التي يحملها لم يعد لها أهمية بالمرة وسط ازدحام الإكرام الهائل، والأسئلة المتوالية عنه وعن شخصه ونفسه، والطبطبة والأحضان التي ظاهرها عطف خالص، والتي يدوخ التفكير في باطنها.
ويبلغ الضيق بي أن أقوم أحيانا منتفضا، وكأنني سأهم بالجري فتحيطني بذراعيها فورا، وأحيانا تمس شعري بقبلة يقف لها شعري، وتسألني في دلال عما يدفعني للعجلة، وبأصبعها المكهربة تتحسس وجهي وذقني وشاربي المخضر. ويزداد ضيقي وأنا أعامل كاللعبة التي لا رأي لها ولا اعتبار. وآمر نفسي أن تظل صورة الغريب ماثلة أمام عيني، لا تختفي لحظة تحول بيني وبين هذه المرأة البندراوية التي لا يوقفها خجل أو يمنع يدها حياء. امرأة تبدو كالمحرومة التي ما رأت في حياتها رجلا ... تراه ماذا يفعل معها؟ ومن الواضح أنها لا تخافه أبدا، ولا تعمل له حسابا قط.
وربما الضيق والاستنكار وغرابة الموقف هي التي دفعتني دفعا لأن أجد نفسي أحس فجأة باحتقار هائل لوردة برغم جمالها الهائل وشخصيتها الطاغية المكتسحة.
الغريب بعيد عنها، والرجال يخافونها خوف الموت، ولم يبق لها في منفاها البعيد عن الرجال إلا تلك الصدفة التي ساقتني إليها، من تحسبني تلك المرأة الداعرة؟ ومن تحسب نفسها؟
هكذا بدفعة بغض قوية خلصت نفسي منها، وحدجتها بنظرات خلت من كل ما يخجل أو يربك، وأعدت عليها الرسالة كلمة كلمة، وطلبت منها أن تصحبني. وكأنما صدمها تغيري؛ فقد وجدت الاضطراب يملأ عينيها فجأة، ويدفعها للحركة بلا هدف داخل محجريهما. ولكن ذلك لم يستمر إلا لهنيهة؛ فقد وجدت بريقا ما يعود يشع من نظراتها، ولم أحتج لذكاء كثير لأدرك أنها فسرت نفوري على أنه فشل لأنوثتها معي، وأنها لكي تنجح، عليها أن تعيد سن أسلحتها، وتمضي في المعركة. وهكذا جذبني، وهذه المرة كانت أحضانها مكشوفة، وإن حرصت على أن تسبقها بقولها: اسم الله عليك، اسم النبي حارسك.
ووجدت نفسي أنا الآخر أبادلها البغض والنفور بطريقة مكشوفة، ويغادر الخجل نظراتي ليغرق نظرتها هي، حتى ليدفعها لأن تقول: هو أنا مش عاجباك يا حبيبي؟
وإلى هنا وجدت نفسي أصرخ، وأقول لها: أنا ما لي وما لك؟ ... أنا باعتني عم الغريب ... جاية ولا مش جاية؟
ويبدو أنها قرأت في عيني أن الضيق قد بلغ بي منتهاه، ولكنها لم تنسحب من الموقف فورا، ظلت تحادثني وكأنما لتختبر إحساسي الأخير تجاهها، ولتزيل الجفوة التي حدثت. وفي النهاية قالت إن علي أن أعود للغريب، وأخبره أنها لن تستطيع الذهاب إليه. أما لماذا؛ فقد أبت أن تجيب، وطلبت مني أن أبلغه ما قالته فقط وبلا أي تعليق، وبعد فترة قالت: وإذا كان عايز هو يشوفني ... خليه ييجي.
وكانت تقول هذا، وكلانا مدرك أنه مستحيل، فمجيئه إليها خطر أكيد.
Page inconnue