وما ماتَ منا سَيدٌ في فراشِهِ ... ولا طُلَّ منا حَيْثُ كانَ قتيلُ
وجعل آخر نفوسهم غذاءً للمنايا فقال:
وإنَّا لَتَسْتَحْليِ المنايا نُفوسَنا ... وتَتْرُكُ أُخرَى مُرّةً ما تَذُوقُها
لنا نَبْعَةٌ تَهْوَى المنيَّةُ رَعْيَهَا ... فَقَدْ ذَهَبتْ إلا قليلًا عُرٌوقُها
أخبار أبي تمام مع أحمد بن أبي دؤاد
حدثني أبو بكر بن الخراساني قال، حدثني علي الرازي قال: شهدت أبا تمام، وغلام له ينشد ابن أبي دؤاد:
لقد أَنْسَتْ مَسَاوِئَ كلِّ دَهْرٍ ... محاسِنُ أحمدَ بنِ أبي دُؤادِ
فما سافرتُ في الآفاقِ إلاَّ ... ومِنْ جَدْواكَ راحِلتَي وَزَادِي
مُقيمُ الظَّنِّ عندكَ والأَمانيِ ... وإِنْ قَلِقَتْ رِكاَبي في الْبِلاَدِ
فقال له: يا أبا تمام، أهذا المعنى الأخير مما اخترعته أو أخذته؟ فقال: هو لي، وقد ألممت بقول أبي نواس:
وإِنْ جَرَتِ الألفاظُ منا بِمدْحَةٍ ... لغيرِكَ إنسانًا فأنتَ الذي نَعْنِي
قال أبو بكر: وكنت يومًا في مجلسٍ فيه جماعة من أهل الأدب والعصبية لأبي نواس حتى يفرطوا، فقال بعضهم: أبو نواس أشعر من بشار، فرددت ذلك عليه، وعرفته ما جهله من فضل بشار وتقدمه، وأخذ جميع المحدثين منه، واتباعهم أثره، فقال لي: قد سبق أبو نواس إلى معانٍ تفرد بها، فقلت له: ما منها؟ فجعل كلما أنشدني شيئًا جئت بأصله، فكان من ذلك قوله:
إذا نحن أَثْنَيْنَا عليكَ بِصَالحٍ ... فأَنتَ كما نُثْنِي وفوقَ الذي نُثْنِي
وإِنْ جَرَتِ الألفاظُ يومًا بِمدْحَةٍ ... لغيرِكَ إنْسَانًا فأنتَ الذي نَعْنِي
فقلت: أما البيت الأول فهو من قول الخنساء:
فما بَلَغَ المُهْدُونَ للناسِ مدُحةً ... وإن أطنَبُوا إلاَّ الذي
(ص ١٤٣) ومن قول عدي بن الرقاع:
أُثنى فلا آلُو وأعْلمُ أنّه ... فوق الذي أثنى به
(ص١٤٣) وأما البيت الثاني فمن قول الفرزدق لأيوب بن سليمان بن عبد الملك:
وما وامَرَتْنِي النفسُ في رِحلَةٍ لها ... إلَى أَحدٍ إلاَّ إليك ضميُرها
حدثني أحمد بن إبراهيم قال، حدثني محمد بن روح الكلابي قال: نزل على أبو تمام الطائي، فحدثني أنه امتدح المعتصم بسر من رأي بعد فتح عمورية، فذكره ابن أبي دؤاد للمعتصم، فقال له: أليس الذي أنشدنا بالمصيصة الأجش الصوت؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن معه راويةً حسن النشيد، فأذن له، فأنشده راويته مدحه له، ولم يذكر القصيدة، فأمر له بدراهم كثيرةٍ، وصك ماله على إسحاق بن إبراهيم المصعبي. قال أبو تمام: فدخلت إليه بالصك، وأنشدته مديحًا له، فاستحسنه وأمر لي بدون ما أمر لي به المعتصم قليلًا وقال: والله لو أمر لك أمير المؤمنين بعدد الدراهم دنانير لأمرت لك بذلك.
حدثني أبو علي الحسين بن يحيى الكاتب قال، حدثني محمد بن عمرو الرومي قال: ما رأيت قط أجمع رأيًا من ابن أبي دؤاد، ولا أحضر حجةً، قال له الواثق: يا أبا عبد الله رفعت إلى رقعة فيها كذب كثير، قال: ليس بعجبٍ أن أحسد على منزلتي من أمير المؤمنين فيكذب علي، قال: زعموا فيها أنك وليت القضاء رجلًا ضريرًا، قال: قد كان ذاك، وكنت عازمًا على عزله حين أصيب ببصره، فبلغني عنه أنه عمى من كثرة بكائه على أمير المؤمنين المعتصم، فحفظت له ذاك، قال: وفيها أنك أعطيت شاعرًا ألف دينارٍ، قال: ما كان ذاك، ولكني أعطيته دونها، وقد أثاب رسول الله ﷺ كعب بن زهير الشاعر، وقال في آخر: أقطع عني لسانه. وهو شاعر مداح لأمير المؤمنين مصيب محسن، ولو لم أرع له إلا قوله للمعتصم صلوات الله عليه في أمير المؤمنين أعزه الله:
فاشدُدْ بهارُونَ الخلافةَ إِنه ... سَكَنٌ لوحْشِتها ودارُ قَرَارِ
ولقد علمتُ بأنَّ ذلكَ مِعصَمٌ ... ما كنتَ تتركهُ بغيرِ سِوَارِ
فقال: قد وصلته بخمسمائة دينار.
قال: ودخل أبو تمام على أحمد بن أبي دؤاد، وقد شرب الدواء فأنشده:
أَعْقَبكَ اللهُ صحةَ البدَنِ ... ما هتفَ الهاتفاتُ في الغُصُنِ
1 / 16