الشيخ/ محمد بن يوسف
كتاب (الأجوبة الكافية عن الأسئلة الشامية)
(تأليف)
العلامة المحقق والفاضل المدقق صاحب القول
المصيب الوافي الشيخ محمد بن يوسف
الشهير بالكافي التونسي
حفظه الله آمين
وقد ذيل ببعض تقارير لأحد تلامذة المؤلف
وهو راجي عفو ربه الباري أبو القاسم بن محمد باري
يا ناظرا فيما عمدت لجمعه ... عذار فإن أخا الفضائل يعذر
علما بأن المرء لو بلغ المدى ... في العمر لاقى الموت وهو مقصر
فإذا ظفرت بزلة فافتح لها
باب التجاوز فالتجاوز أجدر ... ومن المحال بأن ترى أحدا حوى
كنه الكمال وذا هو المعتذر ... والنقص في نفس الطبيعة كامن
فبنو الطبيعة نقصهم لا ينكر
(طبع على نفقة المؤلف)
(بمطبعة السعادة بمصر المحمية سنة ١٣٤٠ هجرية)
Page inconnue
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مسدي النعم ومفضل من شاء بصفة العلم، وأصلي وأسلم على عالم العالم من غير جلوس أمام معلم وعلى آله وصحبه الذين تسابقوا وتنافسوا في تحصيل العلم وعلى من تبعهم في اقتناء ذلك الوصف العظيم إلى أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم
(أما بعد) فيقول أسير ذنبه الراجي عفو ورضاء ربه محمد بن يوسف الكافي عامله بإحسانه الكافي أنه وردت علي أسئلة من أحد طلبة المدارس طالبا مني بيان الخيط الأبيض منها من الخيط الأسود الدامس وراغبا مني أن أكتب عليها كتابة مبينة لما أبهم أو أشكل معناه أو كان مصادما لما يدركه العقل أو لم تظهر لنا حكمته مع وضوح مبناه فأجبته لما طلب مستعينا بالله فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله (وسميتها) الأجوبة الكافية عن الأسئلة الشامية، ثم بعد تمام الكتابة عليها تبين لي أن المسائل ليست من بنات فكر السائل بل منقولة من مجلة المنار وأفكار الشبيبة المنورة حسب اعتقاد السائل نسبوا لأنفسهم العلم والكمال وإدراك حقائق الأشياء وفهم كلام رب العالمين، وتنوعوا في فهم حديث الرسول وآثار الصحابة والتابعين ووسموا من سواهم بالجهل والتقصير وبعدم إدراك معنى كلام الله تعالى وحديث رسوله الخطير وتفرقوا في كيفية
1 / 2
ثلب المتقدمين وأطبقوا بأجمعهم على إلحاق المذمة ونفي المحمدة عن المتأخرين، وأهرفوا ومدحوا أفرادا شاكلوهم وجعلوهم في مناط الثريا، وقبلوا منهم كل ما ورد عنهم من غير تبصر ولا ثنيا، ولو خالف ما تلقوه عنهم صريح القرآن وكذا الواضح من سنة وسيرة سيد ولد عدنان، تكلموا على الآيات والأحاديث بما زينت لهم أنفسهم ونزلوها غير المنازل المرادة منها؛ ليوافقوا الملحدين من أهل الطبيعة وغيرهم، يخالفون صريح اللغة العربية التي نزل بها القرآن ويحيدون عن ظاهر الآيات بلا داع غير الهوى، ويعدلون عن الأحاديث الصريحة وأقوال السلف المشهود لهم بالخيرية، وكذا يميلون عن أئمة الخلف ويتشبثون بأقوال الحكماء وآراء الكشافين المبنية عن الحرز والتخمين لا تفيد ظنا فضلا عن يقين، بل لا تفيد إلا الشكوك والأوهام فصاحبها لا يصير بها أبا الحصين فضلا عن ضرغام، فحال من يعدل عن خبر من قال في شأنه رب السماوات العلا ﴿ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى﴾ إلى من ضل وغوى وما ينطق إلا عن الهوى أعني رصده وحرزه وتخمينه حال شقاوة وضلال ونكال في الحال إن لم يتب وفي المآل تركوا المنهج الواضح المستقيم الخليق ولجوا في الترهات وبنيات الطريق سائرين سير الأهوج وتبختروا تبختر يابس الشق الأعوج، ونظروا نظر الأخوص الأرمص، وأمعنوا في نظرهم إمعان الأحوص لمزوا أهل الفضل والدين ونبزوا بالألقاب المخلة أهل العلم واليقين تفننوا في أساليب الكلام
1 / 3
ليوهموا الجاهلين أنهم من أهل الإسلام، وإذا وزنت أفعالهم على الصراط المستقيم وجدت الإسلام يتبرأ منهم تبرأ السليم من الوخيم، يتوجعون للإسلام والمسلمين إذا اجتمعت بهم وهم المقوضون لركنهما المتين، ألفاظهم في الطلاوة سلسبيل، ومعانيها تميت القلب الصحيح فضلا عن العليل تفرقوا في أنحاء البسيطة ما من قرية أو مدينة إلا وفيها منهم شرذمة نحيسة هم أضر على أخلاق أولاد المسلمين من أولاد إبليس اللعين، ولو كان لولاة الأمور نظر في مصالح المؤمنين لبحثوا عن هؤلاء وأخرجوهم من بين أظهر المسلمين؛ لأن مضرتهم على الشبان أشد سريانا من سم الأفعوان نرفع شكوانا إلى الله تعالى في أن يقيض أولي الهمم العالية ليتداركوا ويبادروا لرفع هذه البلية السارية من إفسادهم عقائد أولاد المسلمين، وحملهم إياهم على الازدراء بعقائد الدين حتى أنهم ليستهزئون بكل فعل من أفعال الدين، وإذا اجتمعوا بالمسلمين يداهنونهم على فعلهم ملبسين، ثم إن هؤلاء ألحقوا النقص على زعمهم بالأحياء والأموات حتى بالصحابة العدول والتابعين الأثبات، وطار صيتهم وذكرهم عند الأغبياء حيث لم يعتن بالرد عليهم العلماء؛ لأن الكثير منهم يتعاطى صناعة الصحافة ومن كان بهذا الوصف لا قيمة له ولا قيافة فهو أقل ممن يعتنى بالرد عليه؛ لأنه يرتكب في مقاله كل ما يهوى ويبني عليه، والذي أحوجني لأن أتعرض لبعض المواضع في مجلة المنار مع أني كنت قبل أرى تسريح النظر فيها من العار والشنار حيث إنها مشحونة بالإفك الصريح وبالتعرض لأعراض ساداته بالقول القبيح هو ما تقدم من نقل المسائل
1 / 4
عنها وصاحبها أجاب بجواب غير ما أجبت أنا به عنها، فاضطررت لأن أبين خللها فيكون لمن يعتقد فيه الكمال تبصرة وتنبيها للغافلين عن مقامات هؤلاء وتذكرة ويبصر الحق من كان ذا عينين ويصغي للصدق من كان ذا أذنين، وأناقشهم على الكثير والقليل ولو مقدار النقير والقطمير والفتيل، فإن وجدت الحق أعترف به ولا أبخس صاحبه الكيل والميزان؛ لأن البخس ليس من شيم المنصفين من بني الإنسان، ونسأل الله تعالى الإعانة على تمام المؤمل وأن يخلص منا النية في القول والعمل إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة والإعطاء جدير
(تنبيه) ولا بد قبل الشروع في الجواب عن الأسئلة من تقديم نبذة مهمة تكون مفتاحا للدخول في رياض الأجوبة عن الأسئلة وبها يزول اللبس عن الناظر والغين إلا على من اعتاد التشكيك للخلق، وكان قلبه مطبقا بظلمات الرين والله الهادي من يشاء إلى الحق وإلى طريق مستقيم
(النبذة) لا يخفى على ذي لب مصيب وذهن ثاقب أن الأشياء من حيث هي تنقسم من حيث إدراك كنهها إلى أقسام: منها ما لا يدرك كنهه لا بالعقل ولا بالنقل، ومنها ما يدرك كنهه بالعقل ويكون النقل مؤكدا له، ومنها ما لا يدرك كنهه إلا بالنقل والعقل في عقال عنه حيث إنه لا سبيل له ولا واسطة لإدراكه كنه ذلك الشيء، فالقسم الأول هو ذات الله تعالى - تنزه ربنا عما يختلج في العقول من الظنون والأوهام - لا يعلم ذات الله تعالى إلا هو (١) والأدلة على ذلك كثيرة، والقسم
_________
(١) (قوله والأدلة إلخ) قال أبو عبد الله عمرو بن عثمان المكي كل ما توهمه قلبك أو سنح في مجاري فكرك أو خطر في معارضات قلبك من حسن أو بهاء أو أنس أو ضياء أو جمال أو شبح أو نور أو شخص أو خيال فالله ﷿ بخلاف ذلك كله هو أجل وأكبر وأعظم ألا تسمع لقوله تعالى: ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾ وقال: ﴿لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد﴾ وقال العلامة المحقق أحمد بن المبارك في كتاب الإبريز مما تلقاه عن شيخه صاحب الكشف الصحيح والحق الصريح القطب الدباغ سيدي عبد العزيز - نفعنا الله بأسراره - ما نصه: إنما تنزه جل وعلا عن أن يشبه بشيء من المخلوقات؛ لمخالفته جل شأنه لما يصوره الفكر؛ لأن الفكر لا يصور إلا ما هو مخلوق له تعالى فكل ما في الفكر له مثل، والله لا مثل له، فقلت له: إن الفكر يصور إنسانا مقلوبا يمشي على رأسه، فقال ﵁: والله لقد شاهدته يمشي كما تصوره الفكر ويده ساترا بها فرجه بمنزلة الحجاب له ولا يزيلها إلا إذا أراد قضاء حاجته من حدث أو جماع، ولقد جلست يوما مع سيدي محمد بن عبد الكريم البصري فقال لي: تعال نصور في أفكارنا أغرب صورة، ثم ننظر في مخلوقات الله تعالى أهي موجودة أم لا، فقلت له: صور ما شئت، فقال: نصور مخلوقا يمشي على أربع وهو على صورة جمل وظهره كله أفواه وعلى ظهره صومعة على لون مخالف للونه صاعدة إلى فوق وفي رأسها شرافات من شرافة منها يبول ويتغوط، ومن شرافة أخرى يشرب وبين الشرافات صورة إنسان برأسه ووجهه وجميع جوارحه، فما فرغ من تصويره حتى رأينا هذا المخلوق ومنه عدد كثير، وإذا بالذكر منه ينزو على الأنثى فتحمل منه وفي عام آخر تنزو عليه الأنثى بأن ينقلب الحال فيرجع الذكر أنثى، والأنثى ذكرا وهذا من أغرب ما يسمع والله أعلم ا. هـ وإلى ما سبق أشار بعض العارفين بقوله:
حقيقة المرء ليس المرء يعرفها ... فكيف معرفة الجبار في القدم
وقوله: إن الفكر يصور إنسانا إلخ أي ذاتا من غير نوع الإنسان تكون على الهيئة المذكورة حتى لا ينافي أن صورة الآدمي هي أشرف الصور فلا تكون على هذا القلب كما سيأتي إن شاء الله تعالى
1 / 5
الثاني: جميع المنقولات من العلوم المعقولة، والصنائع البديعة وإدراك
1 / 6
خواص الأشياء، وما أودع فيها من العجائب، فهذه مدركة بالعقل، وما سطر فيها من الكتب يكون مؤكدا للعقل، والقسم الثالث كالأمور الواقعة في الآخرة بأجمعها، وما غاب عنا من الفلكيات والأرضين وما فيها من غرائب المخلوقات وبعض العلوم الشرعية، فما ذكرته وما في حكمه مصدره النقل ليس إلا والعقل لا دخل له فيهان فما ورد فيه نص من الشارع وجب الاعتراف به والانقياد إلى ما يقتضيه النص من اعتقاد أو عمل حيث كان ذلك النص ثابتا ثبوتا معتبرا وما لم يرد فيه نص من الشارع وجب الوقف وعدم الخوض بمجرد العقل حيث قررنا سابقا أن العقل في عقال عن ذلك، وهذا أوان الشروع في الأجوبة بعون الله تعالى نسأله أن يوفقنا لعين الصواب.
سؤال: (١) ما حقيقة السماء؟
_________
(١) قوله: ما حقيقة السماء إلخ اعلم أن السؤال عن أمثال هذه الأشياء المغيبة عنا التي لم يكلفنا الله بمعرفة تفاصيلها ولم يطلع عليها إلا الخاصة من خلقه سؤال عما لا يعني؛ ولذا نسب لقس بن ساعدة:
علم النجوم على العقول وبال
وطلاب شيء لا ينال ضلال ... ماذا طلابك علم شيء أغلقت
من دونه الأبواب ليس ينال
وكذا لما سأل بعض الصحابة ﵃ عن سبب اختلاف الأهلة أجابهم تعالى بغير ما سألوا عنه، وقد كثرت في هذه العصور طوائف متشبهة بالمسيحيين زاعمين بذلك إدراك التقدم في الدنيا والدين خدعة من أنفسهم الخبيثة وإبليس اللعين، فأضلوا دينهم وما أدركوا دنيا الأروبويين فأضحوا كالغراب الموصوف بقول بعض أولي الألباب:
حسد القطا وأراد يمشي مشيها ... فأصابه ضرب من العقال
فأضل مشيته وأخطأ مشيها ... فلذلك سموه أبا المرقال
فلما أصبحوا منقطعين وارتدوا على أدبارهم خائبين اقتصروا على آراء من نشئوا منهم طبيعيين، وأصبحوا لنقض عرى الإسلام والمسلمين بالمرصاد، كما قال ابن جبير الأندلسي:
قد ظهرت في عصرنا فرقة ... ظهورها شؤم على العصر
لم تقتد في الدين إلا بما ... سن ابن سينا وأبو نصر
نعم إِنْ مَنّ الله على بعض عباده العارفين بإطلاعه على شيء منها فنقبل خبره على الرأس والعين حيث لم يصادم قواعد الدين كما نقل صاحب الإبريز عن سيدي عبد العزيز "أول ما خلق الله نور سيدنا محمد ﷺ، ثم خلق منه الحجب السبعين وملائكتها والأرواح والبرزخ والعرش، وجعله ياقوتة عظيمة لا يقاس عظمها، وخلق وسط الياقوتة جوهرة فصار مجموع الياقوتة والجوهرة كبيضة بياضها الياقوتة وصفارها الجوهرة، ثم إن الله تعالى أمد تلك الجوهرة وسقاها بنوره ﷺ فجعل يخرق الياقوتة ويسقي الجوهرة مرة بعد مرة حتى بلغ سبع مرات، فسالت الجوهرة ورجعت ماء، ونزل إلى أسفل الياقوتة التي هي العرش فخلق من صفاته ملائكة ثمانية وهم حملة العرش، وخلق من ثقله الريح وله قوة وجهد عظيم فأمره أن ينزل تحت الماء فسكن تحته فحمله ثم جعل يخدم والبرد يقوى في الماء فأراد أن يجمد ويرجع إلى أصله فجعلت الرياح تكسر شقوق ما تجمد منه فجعلت تلك الشقوق تتعفن ويدخلها الثفل والنتونة وشقوق تزيد على شقوق وتكبر وتتسع، وذهبت إلى جهات سبع فخلق الله منها الأرضين السبع ودخل الماء بينها والبحور، وجعل الضباب يتصاعد من الماء لقوة جهد الريح ثم جعل يتراكم فخلق الله منها السماوات السبع، ثم جعلت الريح تخدم خدمة عظيمة على عادتها أولا وآخرا، فجعلت النار تزيد في الهواء من قوة حرق الريح للماء والهواء، وكلما زندت نار أخذتها الملائكة وذهبت بها إلى محل جهنم اليوم فذلك أصل جهنم فالشقوق التي تكونت منها الأرضون تركوها على حالها والضباب الذي تكونت منه السماوات تركوه على حاله، والنار التي زندت في الهواء أخذوها إلى المحل السابق؛ لأنهم لو تركوها لأكلت الشقوق التي منها الأرضون والضباب الذي منه السماوات، بل تشرب الماء لقوة جهد الريح، ثم خلق من نوره ﷺ ملائكة الأرضين والسماوات وأمر كلا أن يعبده الأولون في السماوات والآخرون في الأرضين، ومن فتح الله عليه أطلعه على ذلك كله فأول ما يشاهد الأجرام الترابية على التدريج فيشاهد أولا الأرض التي هو فيها ثم بحورها ثم يخرق نظره تخومها ثم ما بينها وبين الأرض الثانية ثم تخوم الثانية وهكذا إلى السابعة فيرى كيف يخرج من أرض إلى أخرى، وما تمتاز به عن أختها والمخلوقات التي في كل منها، ثم يشاهد الجو الذي بينه وبين السماء والأرض، ثم السماء الأولى، وهكذا إلى السابعة على نحو ترتيب الأرضين فيشاهد الأفلاك ونسبتها من السماوات وكيف وضع النجوم التي فيها وكشف سير الشمس والقمر والنجوم ثم يشاهد البرزخ والأرواح التي فيه ا. هـ فأخذنا من كلام هذا العارف ﵁ سير الشمس والقمر والنجوم دون الأرض وانفصال كل من السماوات بعضها عن بعض كالأرضين كما هو ظاهر قوله تعالى ﴿كانتا رتقا ففتقناهما﴾ أي بعض كل عن بعضه، وأن الكل معمور بخلق الله تعالى وكون السماء أصله من الضباب لا يلزم منه بقاؤه على أصله كما أن آدم أصله من تراب ولم يبق على أصله فلم يلزم رجوعه لقول الفلاسفة وأهل الهيئة الحديثة الآتي؛ ولأن قوله: لو بقيت النار لأكلت الضباب ما ذاك إلا لكونه تحول عن أصله، والأدلة على الكثافة قد أطنب المؤلف في نقلها كما ستأتي إن شاء الله تعالى.
1 / 7
الجواب: السماء لغة كل ما علاك فأظلك، ومنه قيل لسقف البيت
1 / 8
سماء.
وعرفا: جرم عظيم بالغ في العظم ما لا يعلمه إلا الله تعالى وجمعها
1 / 9
سماوات وهن سبع بعضها فوق بعض على مسافات عينها الشارع وعين مقدار سمكهن أيضا حسبما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وذهب بعض غير أهل الإسلام إلى أنها أبخرة وأدخنة متكاثفة، وبعض آخر إلى أنها فضاء يترآى بصفة الجرم، وليس هناك جرم، وكلا المذهبين باطل للنصوص القرآنية كآية ﴿إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب﴾ وما يزين إلا الأجرام؛ وللأحاديث المشهورة الواردة في قصة معراجه ﷺ وغيرها كما يأتي التنصيص على ذلك إن شاء الله تعالى
سؤال: ما تفسير سبع سماوات طباقا؟
الجواب: أما عدها فثابت لا توقف فيه، وإنما نحتاج لتفسير ﴿طباقا﴾ تفسيرها: أن بعضها فوق بعض، قال حبر هذه الأمة وترجمان القرآن سيدنا عبد الله بن عباس ﵄ في تفسير ﴿طباقا﴾: بعضها فوق بعض ملتزقة أطرافها ا. هـ ويأتي بسط الكلام
1 / 10
على ذلك مع المعارض.
(تنبيه) كون السماء والأرض (١) كرويتين أو بسيطتين وكونهما متحركتين أو الفلك متحركا والأرض ساكنة أو الأرض متحركة والفلك ساكنا لم يكلفنا الله تعالى باعتقاد شيء من ذلك، فمن مات مؤمنا ولم يخطر بباله شيء من وصفهما بما تقدم لم يسأله الله تعالى عن ذلك أبدا باتفاق العلماء، فالبحث عن أوصاف السماوات والأرضين من الجهة المذكورة جهاد في غير عدو وصرف زمن نفيس في غير فائدة.
سؤال: ما المعراج؟
الجواب: المعراج لغة: السُّلَّم ومنه ليلة المعراج يعني السُّلَّم الذي صعد عليه النبي ﷺ إلى السماوات السبع، والعروج على المعراج من بيت المقدس إلى السماوات (٢) بذاته وروحه ﵊ من المسجد الأقصى إلى ما شاء الله
_________
(١) قوله: كرويتين إلخ هذا المبحث لم يزل اختلاف العلماء - سنية وغيرهم - فيه قديما وحديثا وكل يقيم أدلته على ذلك، والمسألة كما قال الشيخ ليست من علوم الدين، وعثرنا على كلام لمستكشف كاملي الإيمان سيدي عبد العزيز الدباغ لا بأس بذكره، قال في الإبريز: إن السماء محيطة بالأرض، وكل سماء محيطة بما في جوفها والعرش محيط بالجميع، وقال في موضع آخر منه: إن الجنة والنار خارجتان عن كرة السماوات السبع والأرضين السبع، فأنت تراه يؤخذ من عبارتيه كرويتها، وهو عدل في قوله، فزيادته مقبولة، وكما يؤخذ مما سيذكره الشيخ في مبحث لون السماء عن إياس بن معاوية والقاسم بن أبي برة عند معارضة الرازي
(٢) قوله: بذاته وروحه إلخ، ومن كتاب الإبريز عند تكلمه على حديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف" ما نصه: قضية الإسراء والمعراج وبلوغه ﵊ إلى ما بلغ، ثم رجع في مدة قريبة كل ذلك من عمل الروح حيث أمدت الذات بقوة السريان التي فيها صارت تقدر على ما تقدر عليه الروح، ومن ذلك رؤيته من خلفه كرؤيته من أمامه كما قال ﵊ لأصحابه ﵃: "أقيموا ركوعكم وسجودكم فإني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي" فهذا هو سر الحديث وذلك أن من أجزاء الروح السبعة قوة السريان وهي عبارة عن إقدار الله تعالى لها على خرق الأجرام والنفوذ فيها فتخرق الجبال والجلاميد والصخور والجدران وتغوص في ذلك وتذهب فيه حيث شاءت، وإذا سكنت الروح في الذات وأحبتها واصطحبت معها أمدتها بهذه القوة، فتصير الذات تفعل ما تفعله الروح، ومن ذلك واقعة زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما أراده اليهود ففر منهم ودخل في شجرة، فإن روحه أمدت ذاته لمحبتها فيها بالقوة المذكورة، فخرقت ذاته جرم الشجرة ودخلت فيها، ومن ذلك ما يقع للأولياء من دخولهم الأماكن من غير باب ومشيهم الخطوة حتى يضع أحدهم رجلا بالمغرب وأخرى بالمشرق فإن الذات لا تطيق خرق الهواء الذي بين المشرق والمغرب في لحظة؛ لأن الريح تقطع أوصالها وتفتت أعضاءها وتنشف الدم والرطوبات التي فيها ولما أمدتها الروح بالقوة المذكورة وقع منها ما وقع ا. هـ المراد منه فظهر لك أنه نسب الفعل للذات مع الروح التي حصلت منها المساعدة
1 / 11
إلى أن بلغ مستوى سمع فيه صريف الأقلام، وقيل: بروحه فقط، وقيل: له معاريج متعددة وعلى كلٍّ منكرُ المعراج رأسا لا يكفر، وإنما يفسق كما نص العلماء انظر حديث المعراج في كتاب الصلاة وغيره من صحيح البخاري، وأنكرت الفلاسفة ومن كان على شاكلتهم وجود أبواب في السماوات كما هي مذكورة في أحاديث المعراج، وإنكارهم مبني على أن الأجسام متركبة من الهيولى والصورة، وما كان بهذا الوصف لا يقبل الخرق والالتئام، والمسلمون يقولون: متركبة من جواهر فردة فتقبل الخرق والالتئام وهو الحق الذي تشهد له الآثار الواردة عن سيد البشر ﷺ.
سؤال: ما تفسير آية الشهب ﴿وجعلناها رجوما للشياطين﴾؟
الجواب: الشهب جمع شهاب
1 / 12
وهو النجم الذي (١) يرمى به الشيطان عند إرادته استراق الوحي الذي يوحى إلى الملائكة فتتكلم به الملائكة فيما بينهم، فيروم الشيطان استماع ذلك فتحول الشهب بينه وبين ما أراده فتحرقه الشهب ولا يمكنه النجاة منها قال الله تعالى: ﴿إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب﴾ وخير ما فسرته بالوارد، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير - رضي الله تعالى عنه - في قوله: ﴿إلا من خطف الخطفة﴾ قال: إلا من استرق السمع من أصوات الملائكة ﴿فأتبعه شهاب ثاقب﴾ يعني الكواكب، وعن ابن عباس ﵄ قال: إذا رمي الشهاب لم يخطئ من رمي به وتلا ﴿فأتبعه شهاب ثاقب﴾ ا. هـ وهذا مما يجب الإيمان به ولا دخل للعقل في شيء منه، فإذا رام العقل
_________
(١) قوله: يرمى به إلخ ليس المراد يرمى بجرم النجم حتى يلزم عنه زواله عن محله، فينافي جعله زينة للسماء المقتضي استمراره، بل يجوز أن ينفصل منه شعلة وهي الشهاب يرمى الشيطان بها كقبس يؤخذ من النار، والنار باقية كما ذكره الرازي في تفسير سورة الملك
1 / 13
التداخل في شأن ذلك وجب زجره وكفه عن مثل ذلك
سؤال: ما تفسير آية ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾؟
الجواب: تفسيرها الذي يجب اعتقاده يأتي بعد - إن شاء الله تعالى - أقول: ظاهر هذه الآية وبعض الأحاديث يدل على أن الباعث لخلقهم هو عبادتهم له تعالى، أخرج ابن أبي شيبة عن أبي الجوزاء في الآية قال: أنا أرزقهم وأنا أطعمهم ما خلقتهم إلا ليعبدوني، وهذه الدلالة (١) غير مرادة قطعا أجمع أهل الحل والعقد من المسلمين على أن الله تعالى لم يوجد شيئا، ولم يكلف أحدا بحكم لغرض وعلة، فلا بد من نظر آخر في الآية والأثر فنظرنا فوجدنا أن لام الجر موضوعة لمعان كثيرة منها أن تكون للعاقبة والمآل وهي المتعينة في الآية والأثر ولا يصح غيرها من المعاني والدليل
_________
(١) قوله: غير مرادة إلخ سئل الإمام الجامع بين علمي الظاهر والباطن أبو العباس أحمد التيجاني ﵁ ونفعنا بمدده - عن العلل المذكورة في كلام الله - تعالى - نحو ﴿وما خلقت الجن والإنس﴾ و﴿ليطاع بإذن الله﴾ و﴿ليكون لهم عدوا وحزنا﴾ ونحو ذلك فأجاب ﵁ بقوله: اعلم أن العلة المستحيلة في حقه - تعالى - هي أن لو قدر شيئا يعود منه النفع أو الضرر على الله - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - فهذه هي العلة المستحيلة في حقه تعالى، أما العلة التي يعود نفعها أو ضررها على العباد فهذه لا شيء فيها؛ لأن حكمة الله هي شرائع أنبيائه أظهر فيها ﷾ الارتباط بين الأشياء من النسب والإضافات كالسبب بمسببه، والعلة بمعلولها نحو: ﴿من يطع الله ورسوله ندخله جنات﴾ ﴿ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده ندخله نارا﴾ إلى غير ذلك من الآيات والأخبار فعلى هذا معنى قوله: ﴿ليعبدون﴾ أي لنحكم عليهم بالعبادة فمن لم يعبدني منهم عاقبته بعذابي، وأما الأشياء بالنسبة بمشيئة لله تعالى فعارية عن العلل والشروط والأسباب ونحوها، وإنما حكم الله في أزله بما اختار، فجعل هذا سعيدا وهذا شقيا وهذا غنيا وهذا فقيرا من غير علة ولا غرض، وما أظهره الله تعالى في حكمته من الارتباطات بين الأمور في الظاهر نحو: من فعل كذا عاملته بكذا من الخير أو الشر فذلك بمحض الفضل أو العدل له الحكم والاختيار لا يسأل عما يفعل ا. هـ وقال سيدي علي وفا ﵁: جميع الأعمال إنما شرعت تذكرة بمشرعها؛ كي لا ينسوه ولا يصبوا إلى غيره ﴿أقم الصلاة لذكري﴾ فافهم، وفي الإبريز إنما شرعت العبادات وجميع الطاعات وأرسلت الرسل بذلك؛ ليحصل التوجه إلى الله ويردوهم عن الغفلة الناشئة لهم عن الحجاب، ولولاها لكان البشر مثل الملك ولم يتحمل هذه التكاليف الشاقة ولم تكن جهنم ا. هـ باختصار ولعل هذا الإنسان السائل يستحسن عقله أن تترك العباد سدى كالأنعام لا تكلف عليهم، وهو كأحدهم فيكون من مصدوق آية سورة القيامة
بقي سؤال آخر يتعلق بالآية وهو أن الله تعالى علمه محيط بكل شيء، وقد قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس﴾ الآية فمقتضى ذلك أن يكون عالما بأنهم سيعبدونه، وينافي علمه بذلك تخلف العبادة من بعضهم، وأحسن ما أجيب به عن الآية ما قاله أبو العباس التيجاني أيضا أن قوله تعالى: ﴿وما خلقت﴾ الجن الآية خطاب منه تعالى في بساط الحكمة لا في بساط الحقيقة والمشيئة المشار إليها بقوله تعالى: ﴿ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾ فهذا هو الواقع؛ لأن خطاب المشيئة لا يتأتى انتفاؤه بخلاف خطاب الحكمة في بعض الموجودات؛ لأن أمره - تعالى - مسوق إلى المشيئة لا إلى الحكمة، والحكمة سجاف على المشيئة كما قال صاحب الحكم ﵁: إلى المشيئة يستند كل شيء، ولا تستند هي لشيء يعني لا يقال لم شاء الله هذا؟ أو لا علة لاختياره ومشيئته تعالى، فقوله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس﴾ الآية ﴿وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله﴾ خطاب في عالم الحكمة؛ فلذا وقع التخلف وكفر الكثير بالرسل إذ لو كانت عبادتهم وطاعتهم مقررتين في هذه المشيئة ما أمكن تخلفهما، قال تعالى: ﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء﴾ وقال تعالى: ﴿وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين﴾ أي بأن السعادة بيدي دون خلقي ا. هـ المراد منه
1 / 14
على أن لام الجر قد تكون للعاقبة والصيرورة ليس إلا قوله تعالى في حق آل فرعون مع سيدنا موسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - ﴿فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا﴾ إذ من المعلوم لدى أهل العقول السليمة أن التقاطهم له إنما كان ليكون لهم مؤازرا ومعينا على نوائب الدهر ودافعا عنهم ما يكرهون وجالبا لهم ما يسر أفئدتهم ويقر أعينهم بدليل قوله تعالى: ﴿قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا﴾ فيخيب الله تعالى أملهم فيما رجوه منه وكان عاقبة أمره معهم تشتيت
1 / 15
أمرهم، وتمزيق ملكهم وإغراقهم في اليم، فالله ﷾ أوجد الجن والإنس لحكمة علمها هو، كان مآل أمرهما إلزامهما العبادة وفي هذا القدر كفاية لمن تنورت بصيرته، ومن الدنس خلصت سريرته، ومن اعتقاد الزائغين سلمت لطيفته.
سؤال:
ما حكمة الدعاء مع أن الأشياء مقدرة من عالم الأزل؟
الجواب والله تعالى الموفق للصواب: التحقيق الذي عليه المحققون من علماء المسلمين (١) أن الدعاء متعبد به كتعبدنا بالصلاة والزكاة وغيرهما مما تعبدنا الله تعالى به؛ لإظهار أثر العبودية فيه أكثر من كثير مما تعبدنا الله به من الذلة والفاقة والاحتياج والمسكنة والتبرؤ من الحول والقوة، فإذا بسط الداعي يديه تحققت فيه تلك الصفات ونحوها ولو لم يقصدها؛ لأنها لازمة لكل سائل بالنسبة للمسئول وتفضل الله ﷾ باستجابة الدعاء كما تفضل بقبول الصلاة وغيرها من العبادات (٢) إذا الشروط استوفيت في كل؛ لقوله تعالى: ﴿وإذا سألك
_________
(١) قوله: أن الدعاء متعبد به إلخ قال العارف بالله سيدي علي الخواص ﵁: إياك أن تترك الدعاء اتكالا على ما سبق به القدر، فتفوتك السنة فإن الدعاء نفسه عبادة وسنة سواء أجيب الدعاء أم لم يجب فاعلم ذلك
(٢) قوله: إذا الشروط إلخ منها ما أشار له الحديث: لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم، وقول أبي غانم معروف القصري
نحن نخشى الإله في كل كرب ... ثم ننساه بعد كشف الكروب
كيف نرجو استجابة الدعاء ... قد سددنا طريقه بالذنوب
وقال سيدي إبراهيم الدسوقي ﵁: إن أردت أن يسمع دعاؤك فاحفظ لسانك عن الكلام في الناس، وعن تناول الشبهات، يا ولدي إن شككت في قولي فاعمل به وجرب نفسك شيئا بعد شيء، تعرف صدق قولي، فمن ثَبَت ثُبِّتَ، ومن أطاع أُطيع، فإذا أطعت مولاك أطاع لك النارَ والماءَ والهواءَ والخطوة والإنس والجن ا. هـ ومصداق ما قاله الحديث القدسي: "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنته"، وفي رواية "كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن استعاذني لأعيذنه ولئن سألني لأعطينه" الحديث، والمراد -والله أعلم- أنه تعالى أفاض عليه من أسرار صفاته حتى صار يقدر على ما لا يقدر عليه من لم يكن كذلك، وقال سيدي علي الخواص: إذا توجهت إلى الله تعالى في حصول أمر دنيوي أو أخروي فتوجه إليه وأنت فقير ذليل فإن غناك وعزك يمنعانك الإجابة ا. هـ أراد ﵁ التخلق بوصف الاضطرار الحقيقي فإنه أعز أوصاف الداعي؛ ولذا قال العارف بالله تعالى أبو محمد المرجاني: من وقع في الاضطرار الحقيقي فلا شك ولا ارتياب في إجابته ومثال الاضطرار الحقيقي مثل من ركب في سفينة فهو مضطر إلى ريح يمشي بها، وإلى بحر هاد قليل الآفات لكنه مطمئن بسفينته راكن إليها، وفي هذا السكون من ضعف الاضطرار ما فيه لو جاء الريح العاصف وحرك عليه هول البحر لكان اضطراره أكثر من الأول، لكنه عنده قوة في نفسه بالسفينة التي هي سبب السلامة غالبا فلو انكسرت السفينة مثلا وبقي على لوح لاشتد اضطراره أكثر من الثاني، لكنه يرجو السلامة لما تحته من اللوح وذلك قدح في حقيقة اضطراره فلو ذهب اللوح وبقي بعد ذلك في لجج البحار لا بر يُرى ولا جهة تُقصد ولا لوح يُرام أن يصعد عليه فهذه الحالة حقيقة الاضطرار دون ما عداها.
وقال في الإبريز: إن الداعين لو انقطعوا إلى الله تعالى في دعائهم ببواطنهم لأجابهم، والإجابة تكون بأحد أمرين إما أن يعطيهم ما سألوا أو يمنعهم ويبين لهم سر القدر وبيان سر القدر إنما يكون للأولياء دون المحجوبين ا. هـ المراد منه فأمثالنا إذا لم تحصل لهم إجابة ولا بيان سر القدر، فينبغي لهم أن يسلموا الأمر لعلمه تعالى، وأنه ما منعهم ذلك بخلا منه ولا عجزا - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - ولكن ذلك لمصلحة استأثر بعلمها عنا، وإنما عاملنا كمعاملة بعضنا لبعض فإن أحدنا إذا كان تحت حجره من هو قاصر النظر، وكان مراقبا لشئونه أليس من السداد أن لا يساعده على كل ما طلب وأراد حتى يتأمل فيما هو اللائق به فيجيبه له أو غير ذلك فيمنعه أو يعوضه بما هو المناسب لحاله، وقد نبهنا الشارع على هذا الأمر الخطير بحديث الاستخارة الشهير، وقال الإمام الجليل سيدي عبد القادر الجيلي ﵁ ونفعنا بأسراره -: إن كان الحق - تعالى - لا يجيب عبده في كل ما سأله فيه إلا شفقة عليه أن يغلب عليه الرجاء والعزة فيعترض للمكر به، ويغفل عن القيام بأدب الخدمة فيهلك، والمطلوب من العبد أن لا يركن لغير ربه
1 / 16
عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني﴾ وقوله: ﴿وقال ربكم ادعوني أستجب لكم﴾ وأخرج الطبراني في الأوسط عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الله ﷿ حيي كريم يستحيي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفرا ليس فيهما شيء" ا. هـ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن ماجه، والحاكم عن ثوبان قال: قال رسول الله ﷺ: "لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر" ا. هـ وغير ذلك من الأحاديث الدالة على استجابة الدعاء وإطلاق استجابة الدعاء في
1 / 18
الآيتين والآثار (١) مقيد بمشيئة الله تعالى، ودليل على ذلك قوله تعالى:
_________
(١) قوله: مقيد إلخ، ولو توفرت شروط الإجابة؛ ولذا تخلف في بعض الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في بعض دعواتهم وذلك معروف عند العلماء مع أنهم أولى من توفرت فيه شروط الإجابة؛ لأنهم صفوة الله من خلقه كما أنه من المعلوم عندهم أن حصول بعض الأشياء قد يكون الدعاء لحصوله جزء سبب أو أسباب أخرى يتوقف حصوله عليها كحصول الولد مثلا، فالاكتفاء في طلب حصوله على الدعاء فقط بدون زواج لا يحصل المطلوب، بل يعد عبثا على حسب عادة الله في كثير من الأشياء في هذه الدار، وبهذا يندفع ما قيل: إن وجه البسيطة لا يخلو من مئات الملايين من المسلمين في كل آن ومكان ومن البعيد انعدام من تتوفر فيه شروط الإجابة من بينهم مع أنهم لا يفترون عن الدعاء لتقوية شوكة أهل هذا الدين، وإضعاف شوكة من عداهم من الملحدين، ومع ذلك لم تنجح دعوة واحد منهم في حصول هذا المطلوب، ومحصل الجواب عن ذلك أن حصول هذا الأمر العظيم علقه الله على أشياء أخرى غير الدعاء لا بد من حصولها معه حتى يحصل، وهي معلومة عند ذوي العقول السليمة فإنه لما استعملها مع الدعاء من رفع الله على يديه منار هذا الدين ممن مضى من سلف الأمة سمعت كيف أزالوا عن أهله كل كربة وغمة، وما بقي بأيدينا إنما هو من آثارهم والأنقاض التي تعيشوا فيها إنما هي من بقية أحجارهم وزيادة عما أدركوا من الملك الباذخ، والعز الشامخ ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون﴾ فمن أراد أن يعد من رجالهم فلينسج على منوالهم، وليفعل كأفعالهم، ذلك ما اقتضته حكمته وأبرزته قدرته في هذه الدار محل الابتلاء والاختبار؛ ليؤهل هؤلاء إلى الجنة، وهؤلاء إلى النار قال تعالى: ﴿ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض﴾ بل لو أراد غير الله ما تأخر أحد عن الطاعة، ولا اعتدى ﴿ولو شاء الله لجمعهم على الهدى﴾
1 / 19
﴿بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء﴾ ومن المقرر أن المطلق يحمل على المقيد إن أمكن الحمل وهنا ممكن نعم نص العلماء على أن العبد إذا دعا ربه لا يستعجل بأن يقول: دعوت فلم يستجب لي، بل يحسن ظنه بربه ويدعوه بغير قطيعة رحم ولا إثم موقنا بالإجابة، فالله سبحانه لا يخيبه من إحدى ثلاث خصال المذكورة في الحديث الذي أخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في الأدب، والحاكم عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: "ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" قالوا إذًا نكثر قال: "الله أكثر" ا. هـ إذا تقرر لديك هذا أيها السائل علمت أن حكمة الدعاء حاصلة وأنه لا منافاة بينه وبين الأمور المقدرة أزلا، اتبع ولا تبتدع تكن من الخاسرين.
سؤال: هل
1 / 20
تظهر الجن؟
الجواب: تظهر عند تشكلها (١) بغير الهيئة التي خلقت عليها
_________
(١) قوله: بغير الهيئة إلخ هذا في حق أهل الحجاب دون أهل الفتح والكشف، أما هم فأعطاهم الله قوة على رؤيتهم إياهم كالملائكة والشياطين على هيئة خلقتهم الأصلية.
قال في الإبريز: إذا فتح الله على العبد سواء كان نبيا أو وليا لا بد أن يشاهد ما لا يطيق من عالم الجن والشياطين على ما هم عليه، ويرى الشياطين كيف تتوالد والجن وأين يسكنون والصور الفظيعة ويسمع الأصوات الهائلة التي تفلق الكبد ويشاهد الملائكة الحفظة وغيرهم بذواتهم على ما هم عليه ويخاطبهم ويخاطبونه، ومن قال: إن الولي لا يشاهد الملك ولا يكلمه وأن هذا خاص بالأنبياء فذاك دليل على أنه غير مفتوح عليه، وكذا قال في الفتوحات المكية في الباب الرابع والثلاثمائة وستين، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿إذا قالت الملائكة يا مريم﴾ الآية على الصواب من أنها ليست بنبية إذ لا نصيب لنوع النساء في هذا المقام، وقال سيدي علي الخواص: لا تمتنع رؤيتهم إلا عند بقائهم على الهيئة التي خلقهم الله عليها، وإذا أراد الله أن يطلع أحدا من عبيده على رؤيتهم من غير إرادة منهم رفع تعالى الحجاب عن عين الرائي فيراهم، وقد يأمر الله تعالى الجن بالظهور لنا فيتجسدون لنا فنراهم رأي العين، ثم إذا رأيناهم فتارة على صورهم في أنفسهم وتارة يكونون على صور البشر أو غيرهم، فإن لهم التشكل في أي صورة شاءوا كالملائكة، ويزيدون عليهم بتشكلهم حتى على الصور الخسيسة كالكلب والخنزير، وقد أخذ الله بأبصارنا عنهم فلا نراهم مع حضورهم في مجالسنا وحيث كنا إلا إذا كشف الحجاب بنا، وأصواتهم لا تشبه أصواتنا من كل وجه؛ لأن أجسادهم لطيفة لا يقدرون بها على مخارج الحروف الكثيفة؛ لأنها تطلب انطباقا وصلابة فبعض الأحرف ينطقون بها على أمثال أحرفنا وبعضها لا يمكنهم النطق بها، وحصول العلم لنا من كلامهم إنما هو لنطقهم بمثل حروفنا لا بحقيقتها هذا حكم كلامهم ما داموا في صورهم الأصلية، وأما إذا دخلوا في غير صورهم فالحكم للذات التي دخلوها من إنسان أو بهيمة أو غير ذلك ا. هـ فأنت ترى كلامه في إمكان رؤية ذواتهم الأصلية، وعدمه موزعا على اختلاف أحوال الرائي من كونه محجوبا أو لا.
وقال في الإبريز أيضا: وإذا خفي عليك كيف أجسام الجن فانظر إلى نار مظلمة جدا بكثرة دخانها مثل ما يكون في الفخارين وصور فيها صورهم التي خلقوا عليها، فإذا جعلت الصورة في ذلك الدخان وألبسته إياها فذلك هو الجني ا. هـ
1 / 21