فخرج الطبيب باكيا من تلك الغرفة، ولما بلغ القاعة الكبرى تبدلت تهاليل المهنئين بالصراخ والعويل. أما منصور بك غالب فلم يصرخ ولم يتنهد ولم يذرف دمعة ولم يفه بكلمة، بل لبث جامدا منتصبا كالصنم قابضا بيمينه على كأس الشراب. •••
في اليوم التالي كفنت سلمى بأثواب عرسها البيضاء، ووضعت في تابوت موشى بالمخمل الناصع. أما طفلها فكانت أكفانه أقمطته وتابوته ذراعي أمه وقبره صدرها الهادئ.
حملوا الجثتين في نعش واحد، ومشوا ببطء متلف يشابه طرقات القلوب في صدور المنازعين، فسار المشيعون وسرت بينهم، وهم لا يعرفونني ولا يدرون ما بي.
بلغوا المقبرة فانتصب المطران بولس غالب يرتل ويعزم، ووقف الكهان حوله ينغمون ويسبحون، وعلى وجوههم الكالحة نقاب من الخلو والغفول.
ولما أنزلوا التابوت إلى أعماق الحفرة همس أحد الواقفين قائلا: هذه أول مرة رأيت فيها جسدين يضمهما تابوت واحد ...
وقال آخر: كأن طفلها قد جاء ليأخذها وينقذها من مظالم زوجها وقساوته.
وقال آخر: تأملوا بوجه منصور بك فهو ينظر إلى الفضاء بعينين زجاجيتين كأنه لم يفقد زوجته وطفله في يوم واحد.
وقال آخر: غدا يزوجه عمه المطران ثانية من امرأة أخرى أوفر ثروة وأقوى جسما.
وظل الكهان يرتلون ويسبحون حتى فرغ حفار القبور من ردم الحفرة، فأخذ المشيعون إذ ذاك يقتربون واحدا واحدا من المطران وابن أخيه، يصبرونهما ويؤاسونهما بمستعذبات الكلام، أما أنا فبقيت واقفا منفردا وحدي، وليس من يعزيني على مصيبتي، كأن سلمى وطفلها لم يكونا أقرب الناس إلي.
عاد المشيعون وبقي حفار القبور منتصبا بجانب القبر الجديد وفي يده رفشه ومحفره، فدنوت منه وسألته قائلا: أتذكر أين قبر فارس كرامة؟
Page inconnue