إهداء
توطئة
الكآبة الخرساء
يد القضاء
في باب الهيكل
الشعلة البيضاء
العاصفة
بحيرة النار
أمام عرش الموت
بين عشتروت والمسيح
التضحية
المنقذ
إهداء
توطئة
الكآبة الخرساء
يد القضاء
في باب الهيكل
الشعلة البيضاء
العاصفة
بحيرة النار
أمام عرش الموت
بين عشتروت والمسيح
التضحية
المنقذ
الأجنحة المتكسرة
الأجنحة المتكسرة
تأليف
جبران خليل جبران
إهداء
إلى التي تحدق إلى الشمس بأجفان جامدة، وتقبض على النار بأصابع غير مرتعشة، وتسمع نغمة الروح «الكلي» من وراء ضجيج العميان وصراخهم. إلى
M. E. H
أرفع هذا الكتاب.
جبران
توطئة
كنت في الثامنة عشرة عندما فتح الحب عيني بأشعته السحرية، ولمس نفسي لأول مرة بأصابعه النارية. وكانت سلمى كرامة المرأة الأولى التي أيقظت روحي بمحاسنها، ومشت أمامي إلى جنة العواطف العلوية، حيث تمر الأيام كالأحلام وتنقضي الليالي كالأعراس.
سلمى كرامة هي علمتني عبادة الجمال بجمالها، وأرتني خفايا الحب بانعطافها، وهي التي أنشدت على مسمعي أول بيت من قصيدة الحياة المعنوية.
أي فتى لا يذكر الصبية الأولى التي أبدلت غفلة شبيبته بيقظة هائلة بلطفها، جارحة بعذوبتها، فتاكة بحلاوتها؟ من منا لا يذوب حنينا إلى تلك الساعة الغريبة التي إذا انتبه فيها فجأة رأى كليته قد انقلبت وتحولت، وأعماقه قد اتسعت وانبسطت وتبطنت بانفعالات لذيذة بكل ما فيها من مرارة الكتمان، مستحبة بكل ما يكتنفها من الدموع والشوق والسهاد؟
لكل فتى سلمى تظهر على حين غفلة في ربيع حياته، وتجعل لانفراده معنى شعريا، وتبدل وحشة أيامه بالأنس، وسكينة لياليه بالأنغام.
كنت حائرا بين تأثيرات الطبيعة وموحيات الكتب والأسفار عندما سمعت الحب يهمس بشفتي سلمى في آذان نفسي، وكانت حياتي خالية مقفرة باردة شبيهة بسبات آدم في الفردوس عندما رأيت سلمى منتصبة أمامي كعمود النور. فسلمى كرامة هي حواء هذا القلب المملوء بالأسرار والعجائب، وهي التي أفهمته كنه هذا الوجود، وأوقفته كالمرآة أمام هذه الأشباح. حواء الأولى أخرجت آدم من الفردوس بإرادتها وانقياده، أما سلمى كرامة فأدخلتني إلى جنة الحب والطهر بحلاوتها واستعدادي، ولكن ما أصاب الإنسان الأول قد أصابني، والسيف الناري الذي طرده من الفردوس هو كالسيف الذي أخافني بلمعان حده، وأبعدني كرها عن جنة المحبة قبل أن أخالف وصية، وقبل أن أذوق طعم ثمار الخير والشر.
واليوم، وقد مرت الأعوام المظلمة طامسة بأقدامها رسوم تلك الأيام، لم يبق لي من ذلك الحلم الجميل سوى تذكارات موجعة ترفرف كالأجنحة غير المنظورة حول رأسي، مثيرة تنهدات الأسى في أعماق صدري، مستقطرة دموع اليأس والأسف من أجفاني ... وسلمى؛ سلمى الجميلة العذبة، قد ذهبت إلى ما وراء الشفق الأزرق، ولم يبق من آثارها في هذا العالم سوى غصات أليمة في قلبي، وقبر رخامي منتصب في ظلال أشجار السرو. فذلك القبر وهذا القلب هما كل ما بقي ليحدث الوجود عن سلمى كرامة، غير أن السكينة التي تخفر القبور لا تفشي ذلك السر المصون الذي أخفته الآلهة في ظلمات التابوت، والأغصان التي امتصت عناصر الجسد لا تبيح بحفيفها مكنونات الحفرة. أما غصات هذا القلب وأوجاعه فهي التي تتكلم وهي التي تنسكب الآن مع قطرات الحبر السوداء معلنة للنور أشباح تلك المأساة التي مثلها الحب والجمال والموت.
فيا أصدقاء شبيبتي المنتشرين في بيروت، إذا مررتم بتلك المقبرة القريبة من غابة الصنوبر فادخلوها صامتين، وسيروا ببطء كيلا تزعج أقدامكم رفات الراقدين تحت أطباق الثرى، وقفوا متهيبين بجانب قبر سلمى وحيوا عني التراب الذي ضم جثمانها. ثم اذكروني بتنهدة قائلين في نفوسكم: ههنا دفنت آمال ذلك الفتى الذي نفته صروف الدهر إلى ما وراء البحار، وههنا توارت أمانيه، وانزوت أفراحه، وغارت دموعه، واضمحلت ابتساماته، وبين هذه المدافن الخرساء تنمو كآبته مع أشجار السرو والصفصاف، وفوق هذا القبر ترفرف روحه كل ليلة مستأنسة بالذكرى، مرددة مع أشباح الوحشة ندبات الحزن والأسى، نائحة مع الغصون على صبية كانت بالأمس نغمة شجية بين شفتي الحياة، فأصبحت اليوم سرا صامتا في صدر الأرض.
أستحلفكم يا رفاق الصبا بالنساء اللواتي أحبتهن قلوبكم أن تضعوا أكاليل الأزهار على قبر المرأة التي أحبها قلبي؛ فرب زهرة تلقونها على ضريح منسي تكون كقطرة الندى التي تسكبها أجفان الصباح بين أوراق الوردة الذابلة.
الكآبة الخرساء
أنتم أيها الناس تذكرون فجر الشبيبة فرحين باسترجاع رسومه، متأسفين على انقضائه، أما أنا فأذكره مثلما يذكر الحر المعتق جدران سجنه وثقل قيوده. أنتم تدعون تلك السنين التي تجيء بين الطفولة والشباب عهدا ذهبيا يهزأ بمتاعب الدهر وهواجسه، ويطير مرفرفا فوق رؤوس المشاعل والهموم مثلما تجتاز النحلة فوق المستنقعات الخبيثة سائرة نحو البساتين المزهرة، أما أنا فلا أستطيع أن أدعو سني الصبا سوى عهد آلام خفية خرساء كانت تقطن قلبي وتثور كالعواصف في جوانبه، وتتكاثر نامية بنموه، ولم تجد منفذا تنصرف منه إلى عالم المعرفة حتى دخل إليه الحب وفتح أبوابه وأنار زواياه، فالحب قد أعتق لساني فتكلمت، ومزق أجفاني فبكيت، وفتح حنجرتي فتنهدت وشكوت.
أنتم أيها الناس تذكرون الحقول والبساتين والساحات وجوانب الشوارع التي رأت ألعابكم وسمعت همس طهركم، وأنا أيضا أذكر البقعة الجميلة من شمال لبنان، فما أغمضت عيني عن هذا المحيط إلا رأيت تلك الأودية المملوءة سحرا وهيبة، وتلك الجبال المتعالية بالمجد والعظمة نحو العلاء، ولا صممت أذني عن ضجة هذا الاجتماع إلا سمعت خرير تلك السواقي وحفيف تلك الغصون. ولكن هذه المحاسن - التي أذكرها الآن وأتشوق إليها تشوق الرضيع إلى ذراعي أمه - هي التي كانت تعذب روحي المسجونة في ظلمة الحداثة، مثلما يتعذب البازي بين قضبان قفصه عندما يرى أسراب البزاة تسبح حرة في الخلاء الواسع - وهي التي كانت تملأ صدري بأوجاع التأمل ومرارة التفكير، وتنسج بأصابع الحيرة والالتباس نقابا من اليأس والقنوط حول قلبي، فلم أذهب إلى البرية إلا عدت منها كئيبا جاهلا أسباب الكآبة، ولا نظرت مساء إلى الغيوم المتلونة بأشعة الشمس إلا شعرت بانقباض متلف ينمو لجهلي معاني الانقباض، ولا سمعت تغريدة الشحرور أو أغنية الغدير إلا وقفت حزينا لجهلي موحيات الحزن.
يقولون إن الغباوة مهد الخلو والخلو مرقد الراحة، وقد يكون ذلك صحيحا عند الذين يولدون أمواتا ويعيشون كالأجساد الهامدة الباردة فوق التراب. ولكن إذا كانت الغباوة العمياء قاطنة في جوار العواطف المستيقظة تكون الغباوة أقسى من الهاوية وأمر من الموت. والصبي الحساس الذي يشعر كثيرا ويعرف قليلا هو أتعس المخلوقات أمام وجه الشمس؛ لأن نفسه تظل واقفة بين قوتين هائلتين متباينتين: قوة خفيفة تحلق به في السحاب وتريه محاسن الكائنات من وراء ضباب الأحلام، وقوة ظاهرة تقيده بالأرض وتغمر بصيرته بالغبار، وتتركه ضائعا خائفا في ظلمة حالكة.
للكآبة أيد حريرية الملامس قوية الأعصاب، تقبض على القلوب وتؤلمها بالوحدة، فالوحدة حليفة الكآبة، كما أنها أليفة كل حركة روحية. ونفس الصبي المنتصبة أمام عوامل الوحدة وتأثيرات الكآبة شبيهة بالزنبقة البيضاء عند خروجها من الكمام، ترتعش أمام النسيم، وتفتح قلبها لأشعة الفجر، وتضم أوراقها بمرور أخيلة المساء، فإن لم يكن للصبي من الملاهي ما يشغل فكرته، ومن الرفاق من يشاركه في الميول، كانت الحياة أمامه كحبس ضيق لا يرى في جوانبه غير أنوال العناكب، ولا يسمع من زواياه سوى دبيب الحشرات.
أما تلك الكآبة التي اتبعت أيام حداثتي فلم تكن ناتجة عن حاجتي إلى الملاهي لأنها كانت متوفرة لدي، ولا عن افتقاري إلى الرفاق لأنني كنت أجدهم أينما ذهبت، بل هي من أعراض علة طبيعية في النفس كانت تحبب إلي الوحدة والانفراد، وتميت في روحي الميول إلى الملاهي والألعاب، وتخلع عن كتفي أجنحة الصبا، وتجعلني أمام الوجود كحوض مياه بين الجبال يعكس بهدوئه المحزن رسوم الأشباح وألوان الغيوم وخطوط الأغصان، ولكنه لا يجد ممرا يسير فيه جدولا مترنما إلى البحر.
هكذا كانت حياتي قبل أن أبلغ الثامنة عشرة، فتلك السنة هي من ماضي بمقام القمة من الجبل، لأنها أوقفتني متأملا تجاه هذا العالم، وأرتني سبل البشر، ومروج ميولهم، وعقبات متاعبهم، وكهوف شرائعهم وتقاليدهم.
في تلك السنة ولدت ثانية، والمرء إن لم تحبل به الكآبة ويتمحض به اليأس، وتضعه المحبة في مهد الأحلام؛ تظل حياته كصفحة خالية بيضاء في كتاب الكيان.
في تلك السنة شاهدت ملائكة السماء تنظر إلي من وراء أجفان امرأة جميلة، وفيها رأيت أبالسة الجحيم يضجون ويتراكضون في صدر رجل مجرم، ومن لا يشاهد الملائكة والشياطين في محاسن الحياة ومكروهاتها يظل قلبه بعيدا عن المعرفة ونفسه فارغة من العواطف.
يد القضاء
كنت في بيروت في ربيع تلك السنة المملوءة بالغرائب، وكان نيسان قد أنبت الأزهار والأعشاب، فظهرت في بساتين المدينة كأنها أسرار تعلنها الأرض للسماء، وكانت أشجار اللوز والتفاح قد اكتست بحلل بيضاء معطرة، فبانت بين المنازل كأنها حوريات بملابس ناصعة قد بعثت بهن الطبيعة عرائس وزوجات لأبناء الشعر والخيال.
الربيع جميل في كل مكان، ولكنه أكثر من جميل في سوريا ... الربيع روح إله غير معروف تطوف في الأرض مسرعة، وعندما تبلغ سوريا تسير ببطء متلفتة إلى الوراء مستأنسة بأرواح الملوك والأنبياء الحائمة في الفضاء، مترنمة مع جداول اليهودية بأناشيد سليمان الخالدة، مرددة مع أرز لبنان تذكارات المجد القديم.
وبيروت في الربيع أجمل منها في ما بقي من الفصول؛ لأنها تخلو فيه من أوحال الشتاء وغبار الصيف، وتصبح بين أمطار الأول وحرارة الثاني كصبية حسناء قد اغتسلت بمياه الغدير ثم جلست على ضفته تجفف جسدها بأشعة الشمس.
ففي يوم من تلك الأيام المفعمة بأنفاس نيسان المسكرة وابتساماته المحيية، ذهبت لزيارة صديق يسكن بيتا بعيدا عن ضجة الاجتماع، وبينما نحن نتحدث راسمين بالكلام خطوط آمالنا وأمانينا دخل علينا شيخ جليل في الخامسة والستين من عمره، تدل ملابسه البسيطة وملامحه المتجعدة على الهيبة والوقار، فوقفت احتراما، وقبيل أن أصافحه مسلما تقدم صديقي وقال: حضرته فارس أفندي كرامة، ثم لفظ اسمي مشفوعا بكلمة ثناء، فحدق إلي الشيخ هنيهة لامسا بأطراف أصابعه جبهته العالية المكللة بشعر أبيض كالثلج، كأنه يريد أن يسترجع إلى ذاكرته صورة شيء قديم مفقود، ثم ابتسم ابتسامة سرور وانعطاف واقترب مني قائلا: أنت ابن صديق حبيب قديم صرفت ربيع العمر برفقته، فما أعظم فرحي بمرآك! وكم أنا مشتاق إلى لقاء أبيك بشخصك!
فتأثرت لكلامه، وشعرت بجاذب خفي يدنيني إليه بطمأنينة، مثلما تقود الغريزة العصفور إلى وكره قبيل مجيء العاصفة. ولما جلسنا أخذ يقص علينا أحاديث صداقته لوالدي، متذكرا أيام الشباب التي صرفها بقربه، تاليا على مسامعنا أخبار أعوام قضت، فكفنها الدهر بقلبه وقبرها في صدره ... إن الشيوخ يرجعون بالفكر إلى أيام شبابهم رجوع الغريب المشتاق إلى مسقط رأسه، ويميلون إلى سرد حكايات الصبا ميل الشاعر إلى تنغيم أبلغ قصائده، فهم يعيشون بالروح في زوايا الماضي الغابر؛ لأن الحاضر لا يمر بهم ولا يلتفت، والمستقبل يبدو لأعينهم متشحا بضباب الزوال وظلمة القبر.
وبعد ساعة مرت بين الأحاديث والتذكارات مرور ظل الأغصان على الأعشاب، وقف فارس كرامة للانصراف، ولما دنوت منه مودعا أخذ يدي بيمينه ووضع شماله على كتفي قائلا: أنا لم أر والدك منذ عشرين سنة، ولكنني أرجو أن أستعيض عن بعاده الطويل بزياراتك الكثيرة.
فانحنيت شاكرا واعدا بتتميم ما يجب على الابن نحو صديق أبيه.
ولما خرج فارس كرامة استزدت صاحبي من أخباره، فقال بلهجة يساورها التحدر: لا أعرف رجلا سواه في بيروت قد جعلته الثروة فاضلا والفضيلة مثريا. وهو واحد من القليلين الذين يجيئون هذا العالم ويغادرونه قبل أن يلامسوا بالأذى نفس مخلوق، ولكن هؤلاء الرجال يكونون غالبا تعساء مظلومين؛ لأنهم يجهلون سبل الاحتيال التي تنقذهم من مكر الناس وخبثهم ... ولفارس كرامة ابنة وحيدة تسكن معه منزلا فخما في ضاحية المدينة، وهي تشابهه بالأخلاق، وليس بين النساء من يماثلها جمالا، وهي أيضا ستكون تاعسة؛ لأن ثروة والدها الطائلة توقفها الآن على شفير هاوية مظلمة مخيفة.
لفظ صديقي الكلمات الأخيرة، وظهرت على محياه لوائح الغم والأسف، ثم زاد قائلا: فارس كرامة شيخ شريف القلب كريم الصفات، ولكنه ضعيف الإرادة يقوده رياء الناس كالأعمى وتوقفه مطامعهم كالأخرس. أما ابنته فتخضع ممتثلة لإرادته الواهنة على رغم كل ما في روحها الكبيرة من القوى والمواهب، وهذا هو السر الكامن وراء حياة الوالد وابنته. وقد فهم هذا السر رجل يأتلف في شخصه الطمع بالرياء والخبث بالدهاء، وهذا الرجل هو مطران، تسير قبائحه بظل الإنجيل فتظهر للناس كالفضائل. هو رئيس دين في بلاد الأديان والمذاهب، تخافه الأرواح والأجساد وتخر لديه ساجدة مثلما تنحني رقاب الأنعام أمام الجزار. ولهذا المطران ابن أخ تتصارع في نفسه عناصر المفاسد والمكاره مثلما تتقلب العقارب والأفاعي على جوانب الكهوف والمستنقعات. وليس بعيدا اليوم الذي ينتصب فيه المطران بملابسه الحبرية جاعلا ابن أخيه عن يمينه وابنة فارس كرامة عن شماله، رافعا بيده الأثيمة إكليل الزواج فوق رأسيهما، مقيدا بسلاسل التكهين والتعزيم جسدا طاهرا بجيفة منتنة، جامعا في قبضة الشريعة الفاسدة روحا سماوية بذات ترابية، واضعا قلب النهار في صدر الليل. هذا كل ما أستطيع أن أقوله لك الآن عن فارس كرامة وابنته، فلا تسلني أكثر من ذلك؛ لأن ذكر المصيبة يدنيها مثلما يقرب الموت الخوف من الموت.
وحول صديقي وجهه ونظر من النافذة إلى الفضاء كأنه يبحث عن أسرار الأيام والليالي بين دقائق الأثير.
فقمت إذ ذاك من مكاني، ولما أخذت يده مودعا قلت له: غدا أزور فارس كرامة قياما بوعدي له واحتراما للتذكارات التي أبقتها صداقته لوالدي.
فبهت بي الشاب دقيقة وقد تغيرت ملامحه، كأن كلماتي القليلة البسيطة قد أوحت إليه فكرا جديدا هائلا، ثم نظر في عيني نظرة طويلة غريبة - نظرة محبة وشفقة وخوف - نظرة نبي يرى في أعماق الأرواح ما لا تعرفه الأرواح، ثم ارتعشت شفتاه قليلا ولكنه لم يقل شيئا، فتركته وسرت نحو الباب بأفكار متضعضعة، وقبيل أن يلتفت إلى الوراء رأيت عينيه ما زالتا تتبعانني بتلك النظرة الغريبة؛ تلك النظرة التي لم أفهم معانيها حتى عتقت نفسي من عالم المقاييس والكمية وطارت إلى مسارح الملأ الأعلى حيث تتفاهم القلوب بالنظرات وتنمو الأرواح بالتفاهم.
في باب الهيكل
وبعد أيام وقد مللت الوحدة، وتعبت أجفاني من النظر إلى أوجه الكتب العابسة علوت مركبة طالبا منزل فارس كرامة، حتى إذا ما بلغت بي غابة الصنوبر حيث يذهب القوم للتنزه، حول السائق وجهة فرسيه عن الطريق العمومية، فسار خببا على ممر تظلله أشجار الصفصاف، وتتمايل على جانبيه الأعشاب والدوالي المتعرشة وأزاهر نيسان المبتسمة بثغور حمراء كالياقوت وزرقاء كالزمرد وصفراء كالذهب.
وبعد دقيقة وقفت المركبة أمام منزل منفرد تحيط به حديقة مترامية الأطراف، تتعانق في جوانبها الأغصان، وتعطر فضاءها رائحة الورد والفل والياسمين.
ما سرت بضع خطوات في تلك الحديقة حتى ظهر فارس كرامة في باب المنزل خارجا للقائي، كأن هدير المركبة في تلك البقعة المنفردة قد أعلن له قدومي، فهش متأهلا وقادني مرحبا إلى داخل الدار، ونظير والد مشتاق أجلسني بقربه يحدثني مستفسرا عن ماضي مستطلعا مقاصدي في مستقبلي، فكنت أجيبه بتلك اللهجة المفعمة بنغمة الأحلام والأماني التي يترنم بها الفتيان قبل أن تقذفهم أمواج الخيال إلى شاطئ العمل حيث الجهاد والنزاع ... للشبيبة أجنحة ذات ريش من الشعر وأعصاب من الأوهام، ترتفع بالفتيان إلى ما وراء الغيوم، فيرون الكيان مغمورا بأشعة متلونة بألوان قوس قزح، ويسمعون الحياة مرتلة أغاني المجد والعظمة، ولكن تلك الأجنحة الشعرية لا تلبث أن تمزقها عواصف الاختبار، فيهبطون إلى عالم الحقيقة، وعالم الحقيقة مرآة غريبة يرى فيها المرء نفسه مصغرة مشوهة.
في تلك الدقيقة ظهرت من بين ستائر الباب المخملية صبية ترتدي أثوابا من الحرير الأبيض الناعم، ومشت نحوي ببطء، فوقفت ووقف الشيخ قائلا: هذه ابنتي «سلمى». وبعد أن لفظ اسمي شفعه بقوله: إن ذاك الصديق القديم الذي حجبته عني الأيام قد عادت فأبانته لي بشخص ابنه، فأنا أراه الآن ولا أراه. فتقدمت الصبية إلي وحدقت إلى عيني، كأنها تريد أن تستنطقهما عن حقيقة أمري، وتعلم منهما أسباب مجيئي إلى ذلك المكان، ثم أخذت يدي بيد تضارع زنبقة الحقل بياضا ونعومة، فأحسست عند ملامسة الأكف بعاطفة غريبة جديدة أشبه شيء بالفكر الشعري عند ابتداء تكوينه في مخيلة الكاتب.
جلسنا جميعا ساكتين كأن سلمى قد أدخلت معها إلى تلك الغرفة روحا علوية توعز الصمت والتهيب، وكأنها شعرت بذلك فالتفتت نحوي وقالت مبتسمة: كثيرا ما حدثني والدي عن أبيك معيدا على مسمعي حكايات شبابهما، فإن كان والدك قد أسمعك تلك الوقائع فلا يكون هذا اللقاء هو الأول بيننا.
فسر الشيخ بكلمات ابنته وانبسطت ملامحه ثم قال: إن سلمى روحية الميول والمذاهب، فهي ترى جميع الأشياء سابحة في عالم النفس.
وهكذا عاد فارس كرامة إلى محادثتي باهتمام كلي ورقة متناهية، كأنه وجد في سرا سحريا يرجعه على أجنحة الذكرى إلى ربيع أيامه الغابرة.
كان ذلك الشيخ يحدق بي مسترجعا أشباح شبابه وأنا أتأمله حالما بمستقبلي. كان ينظر إلي مثلما تخيم أغصان الشجرة العالية المملوءة بمآتي الفصول فوق غرسة صغيرة مفعمة بعزم هاجع وحياة عمياء. شجرة مسنة راسخة الأعراق قد اختبرت صيف العمر وشتاءه، ووقفت أمام عواصف الدهر وأنوائه. وغرسة ضعيفة لينة لم تر غير الربيع ولم ترتعش إلا بمرور نسيم الفجر.
أما سلمى فكانت ساكتة تنظر إلي تارة وطورا إلى أبيها، كأنها تقرأ في وجهينا أول فصل من رواية الحياة وآخر فصل منها.
قضى ذلك النهار متنهدا أنفاسه بين تلك الحدائق والبساتين، وغابت الشمس تاركة خيال قبلة صفراء على قمم لبنان المتعالية قبالة ذلك المنزل، وفارس كرامة يتلو علي أخباره فيذهلني، وأنا أترنم أمامه بأغاني شبيبتي فأطربه، وسلمى جالسة بقرب تلك النافذة تنظر إلينا بعينيها الحزينتين ولا تتحرك، وتسمع أحاديثنا ولا تتكلم، كأنها عرفت أن للجمال لغة سماوية تترفع عن الأصوات والمقاطع التي تحدثها الشفاه والألسنة، لغة خالدة تضم إليها جميع أنغام البشر، وتجعلها شعورا صامتا مثلما تجتذب البحيرة الهادئة أغاني السواقي إلى أعماقها وتجعلها سكوتا أبديا. إن الجمال سر تفهمه أرواحنا وتفرح به وتنمو بتأثيراته، أما أفكارنا فتقف أمامه محتارة محاولة تحديده وتجسيده بالألفاظ، ولكنها لا تستطيع. هو سيال خاف عن العين يتموج بين عواطف الناظر وحقيقة المنظور. الجمال الحقيقي هو أشعة تنبعث من قدس أقداس النفوس وتنير خارج الجسد، مثلما تنبثق الحياة من أعماق النواة وتكسب الزهرة لونا وعطرا، هو تفاهم كلي بين الرجل والمرأة يتم بلحظة، وبلحظة يولد ذلك الميل المترفع عن جميع الميول، ذلك الانعطاف الروحي الذي ندعوه حبا، فهل فهمت روحي روح سلمى في عشية النهار فجعلني التفاهم أراها أجمل امرأة أمام الشمس؟ أم هي سكرة الشبيبة التي تجعلنا نتخيل رسوما وأشباحا لا حقيقة لها؟ هل أعمتني الفتوة فتوهمت الأشعة في عيني سلمى، والحلاوة في ثغرها، والرقة في قدها ؟ أم هي تلك الأشعة وتلك الحلاوة وتلك الرقة التي فتحت عيني لتريني أفراح الحب وأحزانه؟ لا أدري، ولكنني أعلم أنني شعرت بعاطفة لم أشعر بها قبل تلك الساعة، عاطفة جديدة تمايلت حول قلبي بهدوء يشابه رفرفة الروح على وجه القمر قبل أن تبتدئ الدهور. ومن تلك العاطفة قد تولدت سعادتي وتعاستي مثلما ظهرت وتناسخت الكائنات بإرادة ذلك الروح.
هكذا انقضت تلك الساعة التي جمعتني بسلمى لأول مرة، وهكذا شاءت السماء وأعتقتني على حين غفلة من عبودية الحيرة والحداثة لتسيرني حرا في موكب المحبة، فالمحبة هي الحرية الوحيدة في هذا العالم؛ لأنها ترفع النفس إلى مقام سام لا تبلغه شرائع البشر وتقاليدهم، ولا تسوده نواميس الطبيعة وأحكامها.
ولما وقفت للانصراف اقترب مني فارس كرامة، وقال بصوت تعانقه رنة الإخلاص: الآن وقد عرفت الطريق إلى هذا المنزل يجب أن تأتي إليه شاعرا بالثقة التي تقودك إلى بيت أبيك، وأن تحسبني وسلمى كوالد وأخت لك، أليس كذلك يا سلمى؟
فأحنت سلمى رأسها إيجابا ثم نظرت إلي نظرة غريب ضائع وجد رفيقا يعرفه.
إن تلك الكلمات التي قالها لي فارس كرامة هي النغمة الأولى التي أوقفتني بجانب ابنته أمام عرش المحبة، هي استهلال الأغنية السماوية التي انتهت بالندب والرثاء، هي القوة التي شجعت روحينا فاقتربنا من النور والنار، هي الإناء الذي شربنا فيه الكوثر والعلقم.
وخرجت فشيعني الشيخ إلى أطراف الحديقة، فودعتهما وقلبي يخفق في داخلي مثلما ترتعش شفتا العطشان بملامسة حافة الكأس.
الشعلة البيضاء
وانقضى نيسان وأنا أزور منزل فارس كرامة وألتقي سلمى وأجلس قبالتها في تلك الحديقة متأملا محاسنها، معجبا بمواهبها، مصغيا لسكينة كآبتها، شاعرا بوجود أيد خفية تجتذبني إليها. فكل زيارة كانت تبين لي معنى جديدا من معاني جمالها وسرا علويا من أسرار روحها حتى أصبحت أمام عيني كتابا أقرأ سطوره وأستظهر آياته وأترنم بنغمته، ولا أستطيع الوصول إلى نهايته.
إن المرأة التي تمنحها الآلهة جمال النفس مشفوعا بجمال الجسد هي حقيقة ظاهرة غامضة نفهمها بالمحبة ونلمسها بالطهر، وعندما نحاول وصفها بالكلام تختفي عن بصائرنا وراء ضباب الحيرة والالتباس.
وسلمى كرامة كانت جميلة النفس والجسد، فكيف أصفها لمن لا يعرفها؟ هل يستطيع الجالس في ظل أجنحة الموت أن يستحضر تغريدة البلبل وهمس الوردة وتنهدة الغدير؟ أيقدر الأسير المثقل بالقيود أن يلاحق هبوط نسمات الفجر؟ ولكن أليس السكوت أصعب من الكلام؟ وهل يمنعني التهيب عن إظهار خيال من أخيلة سلمى بالألفاظ الواهية إذا كنت لا أستطيع أن أرسم حقيقتها بخطوط من الذهب؟ إن الجائع السائر في الصحراء لا يأبى أكل الخبز اليابس إذا كانت السماء لا تمطره المن والسلوى.
كانت سلمى نحيلة الجسم، تظهر بملابسها البيضاء الحريرية كأشعة قمر دخلت من النافذة، وكانت حركاتها بطيئة متوازنة أشبه شيء بمقاطيع الألحان الأصفهانية، وصوتها منخفضا حلوا تقطعه التنهدات، فينسكب من بين شفتيها القرمزيتين مثلما تتساقط قطرات الندى عن تيجان الزهور بمرور تموجات الهواء ... ووجهها - ومن يا ترى يستطيع أن يصف وجه سلمى كرامة؟ بأية ألفاظ نقدر أن نصور وجها حزينا هادئا محجوبا وليس محجوبا بنقاب من الاصفرار الشفاف؟ بأية لغة نقدر أن نتكلم عن ملامح تعلن في كل دقيقة سرا من أسرار النفس، وتذكر الناظرين إليها بعالم روحي بعيد عن هذا العالم؟!
إن الجمال في وجه سلمى لم يكن منطبقا على المقاييس التي وضعها البشر للجمال، بل كان غريبا كالحلم أو كالرؤيا أو كفكر علوي لا يقاس ولا يحد ولا ينسخ بريشة المصور، ولا يتجسم برخام الحفار. جمال سلمى لم يكن في شعرها الذهبي، بل في هالة الطهر المحيطة به، ولم يكن في عينيها الكبيرتين، بل في النور المنبعث منهما، ولا في شفتيها الورديتين، بل في الحلاوة السائلة عليهما، ولا في عنقها العاجي، بل في كيفية انحنائه قليلا إلى الأمام، جمال سلمى لم يكن في كمال جسدها، بل في نبالة روحها الشبيهة بشعلة بيضاء متقدة سابحة بين الأرض واللانهاية. جمال سلمى كان نوعا من ذلك النبوغ الشعري الذي نشاهد أشباحه في القصائد السامية والرسوم والأنغام الخالدة. وأصحاب النبوغ تعساء، مهما تسامت أرواحهم تظل مكتنفة بغلاف من الدموع.
وكانت سلمى كثيرة التفكير قليلة الكلام، ولكن سكوتها كان موسيقيا ينتقل بجليسها إلى مسارح الأحلام البعيدة، ويجعله يصغي لنبضات قلبه، ويرى أخيلة أفكاره وعواطفه منتصبة أمام عينيه.
أما الصفة التي كانت تعانق مزايا سلمى وتساور أخلاقها فهي الكآبة العميقة الجارحة، فالكآبة كانت وشاحا معنويا ترتديه فتزيد محاسن جسدها هيبة وغرابة، وتظهر أشعة نفسها من خلال خيوطه كخطوط شجرة مزهرة من وراء ضباب الصباح. وقد أوجدت الكآبة بين روحي وروح سلمى صلة المشابهة، فكان كلانا يرى في وجه الثاني ما يشعر به قلبه، ويسمع بصوته صدى مخبآت صدره، فكأن الآلهة قد جعلت كل واحد منا نصفا للآخر يلتصق به بالطهر فيصير إنسانا كاملا، وينفصل عنه فيشعر بنقص موجع في روحه.
إن النفس الحزينة المتألمة تجد راحة بانضمامها إلى نفس أخرى تماثلها بالشعور وتشاركها بالإحساس، مثلما يستأنس الغريب بالغريب في أرض بعيدة عن وطنهما، فالقلوب التي تدنيها أوجاع الكآبة بعضها من بعض لا تفرقها بهجة الأفراح وبهرجتها. فرابطة الحزن أقوى في النفوس من روابط الغبطة والسرور. والحب الذي تغسله العيون بدموعها يظل طاهرا وجميلا وخالدا.
العاصفة
وبعد أيام دعاني فارس كرامة إلى تناول العشاء في منزله، فذهبت ونفسي جائعة إلى ذلك الخبز العلوي الذي وضعته السماء بين يدي سلمى، ذلك الخبز الروحي الذي نلتهمه بأفواه أفئدتنا فنزداد جوعا، ذلك الخبز السحري الذي ذاق طعمه قيس العربي ودانتي الطلياني وسافو اليونانية، فالتهبت أحشاؤهم وذابت قلوبهم، ذلك الخبز الذي عجنته الآلهة بحلاوة القبل ومرارة الدموع، وأعدته مأكلا للنفوس الحساسة المستيقظة لتفرحها بطعمه وتعذبها بتأثيره.
ولما بلغت المنزل وجدت سلمى جالسة على مقعد خشبي في زاوية من الحديقة، وقد أسندت رأسها إلى عمد شجرة فبانت بثوبها الأبيض كواحدة من عرائس الخيال تخفر ذلك المكان، فدنوت منها صامتا وجلست بقربها جلوس مجوسي متهيب أمام النار المقدسة، ولما حاولت الكلام وجدت لساني منعقدا وشفتي جامدتين، فاستأنست بالسكوت؛ لأن الشعور العميق غير المتناهي يفقد شيئا من خاصته المعنوية عندما يتجسم بالألفاظ المحدودة، ولكنني شعرت بأن سلمى كانت تسمع في السكينة مناجاة قلبي المتواصلة، وتشاهد في عيني أشباح نفسي المرتعشة.
وبعد هنيهة خرج فارس كرامة إلى الحديقة، ومشى نحونا مرحبا بي كعادته، باسطا يده إلي كأنه يريد أن يبارك بها ذلك السر الخفي الذي يربط روحي بروح ابنته، ثم قال مبتسما: هلما يا ولدي إلى العشاء فالطعام ينتظرنا. فقمنا وتبعناه وسلمى تنظر إلي من وراء أجفان مكحولة بالرقة والانعطاف، كأن لفظة «يا ولدي» قد أيقظت في داخلها شعورا جديدا عذبا يكتنف محبتها لي مثلما تحتضن الأم طفلها.
جلسنا إلى المائدة نأكل ونشرب ونتحدث، جلسنا في تلك الغرفة نتلذذ بألوان الطعام الشهية وأنواع الخمور المعتقة، وأرواحنا تسبح على غير معرفة منا في عالم بعيد عن هذا العالم، وتحلم بمآتي المستقبل، وتتأهب للوقوف أمام مخاوفه وأهواله. ثلاثة أشخاص تختلف أفكارهم باختلاف مقاصدهم من الحياة، وتتفق سرائرهم باتفاق قلوبهم بالمودة والمحبة، ثلاثة من الضعفاء الأبرياء يشعرون كثيرا ويعرفون قليلا، وهذه هي المأساة المستتبة على مسرح النفس. شيخ جليل شريف يحب ابنته ولا يحفل بغير سعادتها، وصبية في العشرين من عمرها ترى المستقبل قريبا بعيدا، وتحدق إليه لترى ما يخبئ لها من الغبطة والشقاء، وفتى كثير الأحلام والهواجس لم يذق بعد خمر الحياة ولا خلها، يحرك جناحيه ليطير سابحا في فضاء المحبة والمعرفة، ولكنه لا يستطيع النهوض لضعفه. ثلاثة جالسون حول مائدة أنيقة في منزل منفرد عن المدينة، تخيم عليه سكينة الدجى وتحدق إليه عيون السماء، ثلاثة يأكلون ويشربون وفي أعماق صحونهم وكؤوسهم قد أخفى القدر المرارة والأشواك.
ولم ننته من العشاء حتى دخلت علينا إحدى الخادمات وخاطبت فارس كرامة قائلة: في الباب رجل يطلب مقابلتك يا سيدي.
فسألها: من هو هذا الرجل؟ فأجابت: أظنه خادم المطران يا سيدي. فسكت دقيقة وحدق إلى عيني ابنته نظير نبي ينظر إلى وجه السماء ليرى ما تخبئه من الأسرار، ثم التفت نحو الخادمة وقال: دعيه يدخل.
فعادت الخادمة، وبعد هنيهة ظهر رجل بأثواب مزركشة وشارب معقوف الطرفين، فسلم منحنيا وخاطب فارس كرامة قائلا : قد بعثني سيادة المطران بمركبته الخصوصية لأطلب إليك أن تتكرم بالذهاب إليه، فهو يريد أن يباحثك بأمور ذات أهمية.
فانتصب الشيخ، وقد تغيرت ملامحه وانحجبت بشاشة وجهه وراء نقاب من التأمل والتفكير، ثم اقترب مني وقال بصوت تساوره الرقة والحلاوة: أرجو أن أعود وألقاك ههنا؛ فسلمى ستجد بك مؤنسا يبعد بأحاديثه وحشة الليل، ويزيل بأنغام نفسه تأثير الوحدة والانفراد. ثم التفت نحو ابنته وزاد مبتسما: أليس كذلك يا سلمى؟
فحنت الصبية رأسها وقد توردت وجنتاها قليلا، وبصوت يضارع نغمة الناي رقة قالت: سوف أجهد النفس لكي أجعل ضيفنا مسرورا يا والدي.
وخرج الشيخ مصحوبا بخادم المطران، وظلت سلمى واقفة تنظر من النافذة نحو الطريق حتى اختفت المركبة عن بصرها وراء ستائر الظلام، واضمحل ارتجاج الدواليب بتباعد المسافة، وتشرب السكون حرتقة سنابك الخيل، ثم جلست قبالتي على مقعد موشى بنسيج من الحرير الأخضر، فبانت بأثوابها الناصعة كزنبقة لوت قامتها نسمات الصباح على بساط من الأعشاب.
كذا شاءت السماء، فخلوت بسلمى ليلا في منزل منفرد تخفره الأشجار، وتغمره السكينة، وتسير في جوانبه أخيلة الحب والطهر والجمال.
ومرت دقائق، وكلانا صامت حائر مفكر يترقب الآخر ليبدأ بالكلام. ولكن هل هو الكلام الذي يحدث التفاهم بين الأرواح المتحابة؟ هل هي الأصوات والمقاطع الخارجة من الشفاه والألسنة التي تقرب بين القلوب والعقول؟ أفلا يوجد شيء أسمى مما تلده الأفواه وأطهر مما تهتز به أوتار الحناجر؟ أليست هي السكينة التي تحمل شعاع النفس إلى النفس، وتنقل همس القلب إلى القلب؟ أليست هي السكينة التي تفصلنا عن ذواتنا فنسبح في فضاء الروح غير المحدود مقتربين من الملأ الأعلى، شاعرين بأن أجسادنا لا تفوق السجون الضيقة، وهذا العالم لا يمتاز عن المنفى البعيد؟
ونظرت سلمى إلي وقد باحت أجفانها بسرائر نفسها ثم قالت بهدوء سحري: تعال نخرج إلى الحديقة ونجلس بين الأشجار لنرى القمر طالعا من وراء الجبل.
فوقفت مطيعا وقلت ممانعا: أليس الأفضل أن نبقى ههنا يا سلمى حتى يطلع القمر وينير الحديقة؟ أما الآن فالظلام يحجب الأشجار والأزهار، فلا نستطيع أن نرى شيئا. فأجابت: إذا حجب الظلام الأشجار والرياحين عن العين، فالظلام لا يحجب الحب عن النفس.
قالت هذه الكلمات بلهجة غريبة، ثم حولت عينيها ونظرت نحو النافذة، فبقيت أنا صامتا مفكرا بكلماتها مصورا لكل مقطع معنى، راسما لكل معنى حقيقة، ثم عادت فحدقت إلي كأنها ندمت على ما قالت، فحاولت استرجاع كلماتها من أذني بسحر أجفانها، ولكن سحر تلك الأجفان لم يسترجع تلك الألفاظ إلا ليعيدها إلى أعماق صدري أكثر وضوحا وأشد تأثيرا، وليبقيها هناك ملتصقة بقلبي متموجة مع عواطفي إلى آخر الحياة.
كل شيء عظيم وجميل في هذا العالم يتولد من فكر واحد أو من حاسة واحدة في داخل الإنسان. كل ما نراه اليوم من أعمال الأجيال الغابرة كان قبل ظهوره فكرا خفيا في عاقلة رجل أو عاطفة لطيفة في صدر امرأة ... الثورات الهائلة التي أجرت الدماء كالسواقي وجعلت الحرية تعبد كالآلهة كانت فكرا خياليا مرتعشا بين تلافيف دماغ رجل فرد عائش بين ألوف من الرجال. والحروب الموجعة التي ثلت العروش وخربت الممالك كانت خاطرا يتمايل في رأس رجل واحد. والتعاليم السامية التي غيرت مسير الحياة البشرية كانت ميلا شعريا في نفس رجل واحد منفصل بنبوغه عن محيطه؛ فكر واحد أقام الأهرام، وعاطفة واحدة خربت تروادة، وخاطر واحد أوجد مجد الإسلام، وكلمة واحدة أحرقت مكتبة الإسكندرية.
فكر واحد يجيئك في سكينة الليل يسير بك إلى المجد أو إلى الجنون. نظرة واحدة من أطراف أجفان امرأة تجعلك أسعد الناس أو أتعسهم، كلمة واحدة تخرج من بين شفتي رجل تصيرك غنيا بعد الفقر أو فقيرا بعد الغنى ... كلمة واحدة لفظتها سلمى كرامة في تلك الليلة الهادئة أوقفتني بين ماضي ومستقبلي وقوف سفينة بين لجة البحار وطبقات الفضاء. كلمة واحدة معنوية قد أيقظتني من سبات الحداثة والخلو، وسارت بأيامي على طريق جديدة إلى مسارح الحب حيث الحياة والموت.
خرجنا إلى الحديقة وسرنا بين الأشجار شاعرين بأصابع النسيم الخفية تلامس وجهينا وقامات الأزهار والأعشاب اللدنة تتمايل بين أقدامنا ، حتى إذا ما بلغنا شجرة الياسمين جلسنا صامتين على ذلك المقعد الخشبي نسمع تنفس الطبيعة النائمة، ونكشف بحلاوة التنهد خفايا صدرينا أمام عيون السماء الناظرة إلينا من وراء ازرقاق السماء.
وطلع القمر إذا ذاك من وراء صنين، وغمر بنوره تلك الروابي والشواطئ، فظهرت القرى على أكتاف الأودية كأنها قد انبثقت من اللاشيء، وبان لبنان جميعه من تحت تلك الأشعة الفضية، كأنه فتى متكئ على ساعده تحت نقاب لطيف يخفي أعضاءه ولا يخفيها.
لبنان عند شعراء الغرب مكان خيالي، قد اضمحلت حقيقته بذهاب داود وسليمان والأنبياء، مثلما انحجبت جنة عدن بسقوط آدم وحواء، هو لفظة شعرية لا اسم جبل - لفظة ترمز عن عاطفة في النفس وتستحضر إلى الفكر رسوم غابات من الأرز يفوح منها العطر والبخور، وأبراج من النحاس والرخام تتعالى بالمجد والعظمة، وأسراب من الغزلان تتهادى بين الطلول والأودية. وأنا قد رأيت لبنان في تلك الليلة مثل فكر شعري خيالي منتصب كالحلم بين اليقظة واليقظة. كذا تتغير الأشياء أمام أعيننا بتغير عواطفنا، وهكذا نتوهم الأشياء متشحة بالسحر والجمال عندما لا يكون السحر والجمال إلا في نفوسنا.
والتفتت إلي سلمى وقد غمر نور القمر وجهها وعنقها ومعصميها، فبانت كتمثال من العاج نحتته أصابع متعبد لعشتروت ربة الحسن والمحبة: لماذا لا تتكلم؟ لماذا لا تحدثني عن ماضي حياتك؟
فنظرت إلى عينيها المنيرتين، ومثل أخرس فاجأ النطق شفتيه؛ أجبتها قائلا: ألم تسمعيني متكلما مذ جئت إلى هذا المكان؟ أو لم تسمعي كل ما قلته مذ خرجنا إلى هذه الحديقة؟ إن نفسك التي تسمع همس الأزهار وأغاني السكينة تستطيع أن تسمع صراخ روحي وضجيج قلبي.
فحجبت وجهها بيديها ثم قالت بصوت متقطع: قد سمعتك ... نعم سمعتك. سمعت صوتا صارخا خارجا من أحشاء الليل وضجة هائلة منبثقة من قلب النهار.
فقلت بسرعة وقد نسيت ماضي حياتي ونسيت كياني ونسيت كل شيء، ولم أعد أعرف سوى سلمى ولا أشعر بغير وجودها، وأنا قد سمعتك يا سلمى؛ سمعت نغمة عظيمة محيية جارحة تتموج لها دقائق الفضاء، وتهتز بارتعاشها أسس الأرض.
فأغمضت سلمى أجفانها وظهر على شفتيها القرمزيتين خيال ابتسامة محزنة، ثم همست قائلة: قد عرفت الآن بأنه يوجد شيء أعلى من السماء، وأعمق من البحر، وأقوى من الحياة والموت والزمن. وقد عرفت الآن ما لم أكن أعرفه بالأمس ولا أحلم به.
منذ تلك الدقيقة صارت سلمى كرامة أعز من الصديق وأقرب من الأخت وأحب من الحبيبة، صارت فكرا ساميا يتبع عاقلتي، وعاطفة رقيقة تكتنف قلبي، وحلما جميلا يجاور نفسي.
ما أجهل الناس الذين يتوهمون أن المحبة تتولد بالمعاشرة الطويلة والمرافقة المستمرة. إن المحبة الحقيقية هي ابنة التفاهم الروحي، وإن لم يتم هذا التفاهم بلحظة واحدة لا يتم بعام ولا بجيل كامل.
ورفعت سلمى رأسها ونظرت نحو الأفق البعيد حيث تلتقي خطوط صنين بأذيال الفضاء، ثم قالت: لقد كنت لي بالأمس مثل أخ أقترب منه مطمئنة وأجلس بجانبه في ظلال والدي، أما الآن فقد شعرت بوجود أقوى وأعذب من العلاقة الأخوية، قد شعرت بعاطفة غريبة مجردة عن كل علاقة؛ عاطفة قوية مخيفة لذيذة تملأ قلبي حزنا وفرحا.
فأجبتها: أليست هذه العاطفة التي نخافها ونرتجف لمرورها في صدورنا جزءا من الناموس الكلي الذي يسير القمر حول الأرض، والأرض حول الشمس، والشمس وما يحيط بها حول الله؟
فوضعت يدها على رأسي وغرست أصابعها بشعري، وقد تهلل وجهها وترقرقت الدموع في عينيها، مثلما تلمع قطرات الندى على أطراف أوراق النرجس، ثم قالت: من من البشر يصدق حكايتنا؟ من منهم يصدق أننا في الساعة التي تجيء بين غروب الشمس وطلوع القمر قد قطعنا العقبات واجتزنا المعابر الكائنة بين الشك واليقين؟ من منهم يعتقد أن نيسان الذي جمعنا لأول مرة هو الشهر الذي أوقفنا في قدس أقداس الحياة؟
قالت هذه الكلمات ويدها ما برحت على رأسي المنحني، ولو تخيرت في تلك الدقيقة لما فضلت تيجان الملوك وأكاليل الغار على تلك اليد الحريرية المتلاعبة بشعري. ثم أجبتها قائلا: إن البشر لا يصدقون حكايتنا لأنهم لا يعلمون بأن المحبة هي الزهرة الوحيدة التي تنبت وتنمو بغير معاونة الفصول، ولكن هل هو نيسان الذي جمعنا لأول مرة؟ وهل هي هذه الساعة التي أوقفتنا في قدس أقداس الحياة؟ أما جمعت روحينا قبضة الله قبل أن تصيرنا الولادة أسيري الأيام والليالي؟ إن حياة الإنسان يا سلمى لا تبتدئ في الرحم، كما أنها لا تنتهي أمام القبر، وهذا الفضاء الواسع المملوء بأشعة القمر والكواكب لا يخلو من الأرواح المتعانقة بالمحبة والنفوس المتضامنة بالتفاهم.
ورفعت سلمى يدها بلطف عن رأسي تاركة بين مغارس الشعر تموجات كهربائية يتلاعب بها نسيم الليل، فيزيدها نموا وحراكا، فأخذت تلك اليد براحتي، نظير متعبد يتبرك بلثم المذبح، ووضعتها على شفتي الملتهبتين وقبلتها قبلة طويلة عميقة خرساء، تذيب بحرارتها كل ما في القلب البشري من الإحساس، وتنبه بعذوبتها كل ما في النفس الإلهية من الطهر.
ومرت علينا ساعة كل دقيقة منها عام شغف ومحبة، تساورنا سكينة الليل، وتغمرنا أشعة القمر، وتحيط بنا الأشجار والرياحين، حتى إذا ما بلغنا تلك الحالة التي ينسى فيها الإنسان كل شيء سوى حقيقة الحب سمعنا وقع حوافر وهدير مركبة تقترب منا مسرعة، فانتبهنا من تلك الغيبوبة اللذيذة، وهبطت بنا اليقظة من عالم الأحلام إلى هذا العالم الواقف بمسيرة بين الحيرة والشقاء، فعرفنا بأن الوالد الشيخ قد عاد من دار المطران، فسرنا بين الأشجار ننتظر وصوله. وبلغت المركبة مدخل الحديقة، فترجل فارس كرامة وسار نحونا منحني الرأس بطيء الحركة، ونظير متعب رازح تحت حمل ثقيل تقدم نحو سلمى، ووضع كلتا يديه على كتفيها، وحدق إلى وجهها طويلا كأنه يخاف أن تغيب صورتها عن عينيه الضئيلتين، ثم انسكبت دموعه على وجنتيه المتجعدتين وارتجفت شفتاه بابتسامة محزنة، وقال بصوت مخنوق: عما قريب يا سلمى، عما قريب تخرجين من بين ذراعي والدك إلى ذراعي رجل آخر، عما قريب تسير بك سنة الله من هذا المنزل المنفرد إلى ساحة العالم الواسعة، فتصبح هذه الحديقة مشتاقة إلى وطء قدميك ويصير والدك غريبا عنك. لقد لفظ القدر كلمته يا سلمى فلتباركك السماء وتحرسك!
سمعت سلمى هذه الكلمات فتغيرت ملامحها وجمدت عيناها، كأنها رأت شبح الموت منتصبا أمامها، ثم شهقت وتململت متوجعة كعصفور رماه الصياد فهبط على الحضيض مرتجفا بآلامه، وبصوت تقطعه الغصات العميقة صرخت قائلة: ماذا تقول؟ ماذا تعني؟ إلى أين تريد أن تبعث بي؟
ثم شخصت به كأنها تريد أن تزيل بنظراتها الغلاف عن مخبآت صدره، وبعد دقيقة مثقلة بعوامل ذلك السكون الشبيه بصراخ القبور قالت متأوهة: قد فهمت الآن ... قد عرفت كل شيء ... إن المطران قد فرغ من حبك قضبان القفص الذي أعده لهذا الطائر المكسور الجناحين، فهل هذه هي إرادتك يا والدي؟
فلم يجبها بغير التنهدات العميقة، ثم أدخلها الدار وأشعة الحنو تنسكب من ملامحه المضطربة، فبقيت أنا واقفا بين الأشجار والحيرة تتلاعب بعواطفي مثلما تتلاعب العواصف بأوراق الخريف، ثم تبعتهما إلى القاعة. وكيلا أظهر بمظهر طفيلي يميل إلى استطلاع الخصوصيات أخذت يد الشيخ مودعا، ونظرت إلى سلمى نظرة غريق تلفت نحو نجم لامع في قبة الفلك، ثم خرجت دون أن يشعروا بخروجي، ولكنني ما بلغت أطراف الحديقة حتى سمعت صوت الشيخ مناديا، فالتفت وإذا به يتبعني، فعدت إلى لقائه، ولما دنوت منه أمسك بيدي وقال بصوت مرتعش: سامحني يا ابني فقد جعلت ختام ليلتك مكتنفا بالدموع، ولكنك سوف تجيء إلي دائما، أليس كذلك؟ ألا تزورني عندما يصير هذا المكان خاليا إلا من الشيخوخة المحزنة؟ إن الشباب الغض لا يستأنس بالشيخوخة الذابلة، كما أن الصباح لا يلتقي بالمساء، أما أنت فسوف تجيء إلي لتذكرني بأيام الصبا التي صرفتها بقرب أبيك، وتعيد على مسمعي أخبار الحياة التي لم تعد تحسبني من أبنائها، أليس كذلك؟ ألا تزورني عندما تذهب سلمى وأصبح وحيدا منفردا في هذا المنزل البعيد عن المنازل؟
لفظ الكلمات الأخيرة بصوت منخفض متقطع، ولما أخذت يده وهززتها صامتا أحسست بقطرات من الدموع السخينة قد تساقطت على يدي من جفانه، فارتعشت نفسي في داخلي، وشعرت نحوه بعاطفة بنوية عذبة محزنة تتمايل بين ضلوعي، وتتصاعد كاللهاث إلى شفتي، ثم تعود كالغصات إلى أعماق قلبي. ولما رفعت رأسي ورأى أن دموعه قد استدرت الدموع من أجفاني انحنى قليلا ولمس بشفتيه المرتجفتين أعلى جبهتي، ثم قال محولا وجهه نحو باب المنزل: مساء الخير ... مساء الخير يا ابني.
إن دمعة واحدة تتلمع على وجنة شيخ متجعدة لهي أشد تأثيرا في النفس من كل ما تهرقه أجفان الفتيان.
إن دموع الشباب الغزيرة هي مما يفيض من جوانب القلوب المترعة، أما دموع الشيوخ، فهي من فضلات العمر تنسكب من الأحداق، هي بقية الحياة في الأجساد الواهنة. الدموع في أجفان الشبيبة كقطرات الندى على أوراق الوردة، أما الدموع على وجنة الشيخوخة فأشبه بأوراق الخريف المصفرة التي تنثرها الرياح وتذريها عندما يقترب شتاء الحياة.
واختفى فارس كرامة وراء مصراعي الباب، وخرجت أنا من تلك الحديقة وصوت سلمى يتموج في أذني، وجمالها يسير كالخيال أمام عيني، ودموع والدها تجف ببطء على يدي. خرجت من ذلك المكان خروج آدم من الفردوس، ولكن حواء هذا القلب لم تكن بجانبي لتجعل العالم كله فردوسا. خرجت شاعرا بأن تلك الليلة التي ولدت فيها ثانية هي الليلة التي لمحت فيها وجه الموت لأول مرة.
كذا تحيي الشمس الحقول بحرارتها، وبحرارتها تميتها.
بحيرة النار
كل ما يفعله الإنسان سرا في ظلمة الليل يظهره الإنسان علنا في نور النهار. الكلمات التي تهمسها شفاهنا في السكينة تصير على غير معرفة منا حديثا عموميا، والأعمال التي نحاول اليوم إخفاءها في زاويا المنازل تتجسم غدا، وتنتصب في منعطفات الشوارع.
كذا أعلنت أشباح الدجى مقاصد المطران بولس غالب من اجتماعه بفارس كرامة، وهكذا حملت دقائق الأثير أقواله وأحاديثه إلى أحياء المدينة حتى بلغت مسمعي.
ما طلب المطران بولس غالب مقابلة فارس كرامة في تلك الليلة المقمرة ليفاوضه بشؤون الفقراء والمعوزين، أو يخابره بأمور الأرامل والأيتام، بل أحضره بمركبته الخصوصية الفخمة ليطلب منه ابنته سلمى عروسا لابن أخيه منصور بك غالب.
كان فارس كرامة رجلا غنيا، ولم يكن له وارث سوى ابنته سلمى، وقد اختارها المطران زوجة لابن أخيه، لا لجمال وجهها ونبالة روحها، بل لأنها غنية موسرة، تكفل بأموالها الطائلة مستقبل منصور بك، وتساعده بأملاكها الواسعة على إيجاد مقام رفيع بين الخاصة والأشراف.
إن رؤساء الدين في الشرق لا يكتفون بما يحصلون عليه أنفسهم من المجد والسؤدد، بل يفعلون كل ما في وسعهم ليجعلوا أنسباءهم في مقدمة الشعب ومن المستبدين به والمستدرين قواه وأمواله. إن مجد الأمير ينتقل بالإرث إلى ابنه البكر بعد موته، أما مجد الرئيس الديني فينتقل بالعدوى إلى الإخوة وأبناء الإخوة في حياته. وهكذا يصبح الأسقف المسيحي والإمام المسلم والكاهن البرهمي، كأفاعي البحر التي تقبض على الفريسة بمقابض كثيرة وتمتص دماءها بأفواه عديدة.
عندما طلب المطران بولس يد سلمى من والدها لم يجبه ذلك الشيخ بغير السكوت العميق والدموع السخينة، وأي والد لا يشق عليه فراق ابنته حتى ولو كانت ذاهبة إلى بيت جاره أو إلى قصر ملك؟ أي رجل لا ترتعش أعماق نفسه بالغصات عندما يفصله ناموس الطبيعة عن الابنة التي لاعبها طفلة وهذبها صبية ورافقها امرأة؟ إن كآبة الوالدين لزواج الابنة تضارع فرحهما بزواج الابن، لأن هذا يكسب العائلة عضوا جديدا، أما ذاك فيسلبها عضوا قديما عزيزا. أجاب الشيخ طلب المطران مضطرا، وانحنى أمام مشيئته قهرا عما في نفسه من الممانعة، وكان قد اجتمع بابن أخيه منصور بك وسمع الناس يتحدثون عنه، فعرف خشونته وطمعه وانحطاط أخلاقه، ولكن أي مسيحي يقدر أن يقاوم أسقفا في سوريا ويبقى محسوبا بين المؤمنين؟ أي رجل يخرج عن طاعة رئيس دينه في الشرق ويظل كريما بين الناس؟ أتعاند العين سهما ولا تفقأ؟ أو تناضل اليد سيفا ولا تقطع؟ وهب أن ذلك الشيخ كان قادرا على مخالفة المطران بولس والوقوف أمام مطامعه، فهل تكون سمعة ابنته في مأمن من الظنون والتآويل؟ وهل يظل اسمها نقيا من أوساخ الشفاه والألسنة؟ أو ليست جميع العناقيد العالية حامضة في شرع بنات آوى؟
هكذا قبض القدر على سلمى كرامة، وقادها عبدة ذليلة في موكب النساء الشرقيات التاعسات، وهكذا سقطت تلك الروح النبيلة بالحبائل، بينما كانت تسبح لأول مرة على أجنحة الحب البيضاء في فضاء تملأه أشعة القمر وتعطره رائحة الأزاهر.
إن أموال الآباء تكون في أكثر المواطن مجلبة لشقاء البنين؛ تلك الخزائن الواسعة التي يملأها نشاط الوالد وحرص الأم تنقلب حبوسا ضيقة مظلمة لنفوس الورثة. ذلك الإله العظيم الذي يعبده الناس بشكل الدينار ينقلب شيطانا مخيفا يعذب النفوس ويميت القلوب. وسلمى كرامة هي كالكثيرات من بنات جنسها اللواتي يذهبن ضحية ثروة الوالد وأماني العريس. فلو لم يكن فارس كرامة رجلا غنيا لكانت سلمى اليوم حية تفرح مثلنا بنور الشمس.
مر أسبوع وحب سلمى يجالسني في المساء منشدا على مسمعي أغاني السعادة، وينبهني عند الفجر ليريني معاني الحياة وأسرار الكيان. حب علوي لا يعرف الحسد لأنه غني، ولا يوجع الجسد لأنه في داخل الروح. ميل قوي يغمر النفس بالقناعة، مجاعة عميقة تملأ القلب بالاكتفاء، عاطفة تولد الشوق ولكنها لا تثيره، فتون جعلني أرى الأرض نعيما والعمر حلما جميلا. فكنت أسير صباحا في الحقول وأرى في يقظة الطبيعة رمز الخلود، وأجلس على شاطئ البحر وأسمع من أمواجه أغاني الأبدية، وأمشي في شوارع المدينة وأجد في طلعات العابرين وحركات المشتغلين محاسن الحياة وبهجة العمران.
تلك الأيام مضت كالأشباح واضمحلت كالضباب، ولم يبق لي منها سوى الذكرى الأليمة؛ فالعين التي كنت أرى بها جمال الربيع ويقظة الحقول لم تعد تحدق إلى غير غضب العواصف ويأس الشتاء. والأذن التي كنت أسمع بها أغنية الأمواج لم تعد تصغي لغير أنة الأعماق وعويل الهاوية. والنفس التي كانت تقف متهيبة أمام نشاط البشر ومجد العمران لم تعد تشعر بغير شقاء الفقراء وتعاسة الساقطين. فما أحلى أيام الحب وما أعذب أحلامها! وما أمر ليالي الحزن وما أكثر مخاوفها!
وفي نهاية الأسبوع، وقد سكرت نفسي بخمرة عواطفي، سرت مساء إلى منزل سلمى كرامة، ذلك الهيكل الذي أقامه الجمال وقدسه الحب لتسجد فيه النفس مصلية ويركع القلب خاشعا. ولما بلغته ودخلت إلى تلك الحديقة الهادئة أحسست بوجود قوة تستهويني وتستميلني وتبعدني عن هذا العالم وتدنيني ببطء إلى عالم سحري خال من العراك والجهاد، ومثل متصوف جذبته السماء إلى مسارح الرؤيا؛ وجدتني سائرا بين تلك الأشجار المحتبكة والزهور المتعانقة، حتى إذا ما اقتربت من باب الدار التفت، وإذا بسلمى جالسة على ذلك المقعد بظلال شجرة الياسمين، حيث جلسنا منذ أسبوع في تلك الليلة التي اختارتها الآلهة من بين الليالي وجعلتها بدء سعادتي وشقائي، فدنوت منها صامتا، فلم تتحرك ولم تتكلم؛ كأنها علمت بقدومي قبل قدومي، ولما جلست بجانبها حدقت إلى عيني دقيقة، وتنهدت تنهدة طويلة عميقة، ثم عادت ونظرت إلى الشفق البعيد حيث تعبث أوائل الليل بأواخر النهار. وبعد هنيهة مملوءة بتلك السكينة السحرية التي تضم نفوسنا إلى مواكب الأرواح غير المنظورة، حولت سلمى وجهها نحوي، وأخذت يدي بيد مرتعشة باردة، وبصوت يشابه تأوه جائع لا يقوى على الكلام قالت: انظر إلى وجهي يا صديقي، انظر إلى وجهي جيدا وتأمله طويلا واقرأ فيه كل ما تريد أن تفهمه مني بالكلام ... انظر إلى وجهي يا حبيبي ... انظر جيدا يا أخي.
فنظرت إلى وجهها، نظرت طويلا، فرأيت تلك الأجفان التي كانت منذ أيام قليلة تبتسم كالشفاه وتتحرك كأجنحة الشحرور قد غارت وجمدت واكتحلت بخيالات التوجع والألم، رأيت تلك البشرة التي كانت بالأمس ثنايا الزنبقة البيضاء الفرحة بقبلات الشمس، قد اصفرت وذبلت وتبرقعت بنقاب القنوط، رأيت الشفتين اللتين كانتا كزهرة أقاح تسيل عليهما الحلاوة قد يبستا وصارتا كوردتين مرتجفتين أبقاهما الخريف على طرف الغصن، رأيت العنق الذي كان مرفوعا كعمود العاج قد انحنى إلى الأمام كأنه لم يعد قادرا على حمل ما يجول في تلافيف الرأس.
رأيت هذه الانقلابات الموجعة في ملامح سلمى، رأيتها جميعها، ولكنها لم تكن في نظري إلا كسحابة رقيقة توشح القمر فتزيد منظره حسنا وهيبة. إن الملامح التي تبيح أسرار الذات المعنوية تكسب الوجه جمالا وملاحة مهما كانت تلك الأسرار موجعة وأليمة، أما الوجوه التي لا تتكلم بصمتها عن غوامض النفس وخفاياها فلا تكون جميلة مهما كانت متناسقة الخطوط متناسبة الأعضاء. إن الكؤوس لا تستميل شفاهنا حتى يشف بلورها عن لون الخمر. فسلمى كرامة كانت في عشية ذلك النهار كأس طافحة من خمرة علوية تمتزج بدقائقها مرارة العيش بحلاوة النفس. كانت تمثل على غير معرفة منها حياة المرأة الشرقية التي لا تغادر منزل والدها المحبوب إلا لتضع عنقها تحت نير زوجها الخشن ... ولا تترك ذراعي أمها الرؤوف إلا لتعيش في عبودية والدة زوجها القاسية.
وبقيت محدقا إلى وجه سلمى، مصغيا لأنفاسها المتقطعة، صامتا مفكرا، شاعرا متألما معها ولها، حتى أحسست أن الزمن قد وقف عن مسيره، والوجود قد انحجب واضمحل، ولم أعد أرى سوى عينين كبيرتين محدقتين إلى أعماقي، ولا أشعر بغير يد باردة مرتعشة تضم يدي. ولم أفق من هذه الغيبوبة حتى سمعت سلمى تقول بهدوء: تعال نتحدث الآن يا صديقي. تعال نحاول تصوير المستقبل قبل أن يحمل علينا بمخاوفه وأهواله. لقد ذهب والدي إلى منزل الرجل الذي سيكون رفيقا لي حتى القبر. قد ذهب الرجل الذي اختارته السماء سببا لوجودي ليلتقي الرجل الذي انتقته الأرض سيدا على أيامي الآتية. ففي قلب هذه المدينة يجتمع الآن الشيخ الذي رافق شبيبتي بالشاب الذي سيرافق ما بقي لي من السنين، وفي هذه الليلة يتفق الوالد والخطيب على يوم القران الذي سيكون قريبا مهما جعلاه بعيدا، فما أغرب هذه الساعة وما أشد تأثيرها! في مثل هذه الليلة من الأسبوع الغابر. وفي ظلال هذه الياسمينة قد عانق الحب روحي لأول مرة، بينما كان القدر يخط أول كلمة من حكاية مستقبلي في دار المطران بولس غالب. وفي هذه الساعة وقد جلس والدي وخطيبي ليضفرا إكليل زواجي، أراك جالسا بجانبي وأشعر بنفسك متموجة حولي، كطائر ظامئ يحوم مرفرفا فوق ينبوع ماء يخفره ثعبان جائع مخيف، فما أعظم هذه الليلة وما أعمق أسرارها!
فأجبتها وقد تخيلت القنوط شبحا مظلما قابضا على عنق حبنا ليميته في طفوليته: سيظل هذا الطائر حائما مرفرفا فوق الينبوع حتى يضنيه العطش فيرديه، أو يقبض عليه الثعبان المخيف فيمزقه ويلتهمه.
فقالت متأثرة وصوتها يرتجف كالأوتار الفضية: لا، لا يا صديقي، فليبق هذا الطائر حيا، ليبق هذا البلبل مغردا حتى المساء، حتى ينتهي الربيع، حتى ينتهي العالم، حتى تنتهي الدهور. لا تخرسه؛ لأن صوته يحييني، ولا توقف جناحيه؛ لأن حفيفهما يزيل الضباب عن قلبي.
فهمست متنهدا: الظمأ يقتله يا سلمى والخوف يميته.
فأجابت والكلام يتدفق بسرعة من بين شفتيها المرتعشتين: إن ظمأ الروح أعذب من ارتواء المادة، وخوف النفس أحب من طمأنينة الجسد ... ولكن اسمع يا حبيبي، اسمعني جيدا، أنا واقفة الآن في باب حياة جديدة لا أعرف عنها شيئا. أنا مثل عمياء تتلمس بيدها الجدران مخافة السقوط. أنا جارية أنزلني مال والدي إلى ساحة النخاسين فابتاعني رجل من بين الرجال. أنا لا أحب هذا الرجل لأنني أجهله، وأنت تعلم أن المحبة والجهالة لا تلتقيان، ولكنني سوف أتعلم محبته، سوف أطيعه وأخدمه وأجعله سعيدا، سوف أهبه كل ما تقدر المرأة الضعيفة أن تهب الرجل القوي. أما أنت فلم تزل في ربيع العمر، أمامك الحياة طريقا واسعة مفروشة بالأزهار والرياحين، سوف تخرج إلى ساحة العالم حاملا قلبك مشعلا متقدا، سوف تفكر بحرية، وبحرية تتكلم وتفعل، سوف تكتب اسمك على وجه الحياة لأنك رجل، سوف تعيش سيدا لأن فاقة والدك لا تجعلك عبدا، وأمواله لا تنزل بك إلى سوق النخاسين حيث تباع البنات وتشرى، سوف تقترن بالصبية التي تختارها لنفسك من بين الصبايا، فتسكنها صدرك قبل أن تسكنها منزلك، وتشاركها بأفكارك قبل أن تساهمها الأيام والليالي.
وسكتت دقيقة كيما تسترجع أنفاسها، ثم زادت بصوت تتابعه الغصات: ولكن أههنا تفرقنا سبل الحياة لتذهب بك إلى أمجاد الرجل وتسير بي إلى واجبات المرأة؟ أهكذا ينقضي الحلم الجميل وتندثر الحقيقة العذبة؟ أهكذا تبتلع اللجة نغمة الشحرور وتنثر الرياح أوراق الوردة وتسحق الأقدام كأس الخمر؟ أباطلا أوقفتنا تلك الليلة أمام وجه القمر وباطلا ضمنا الروح في ظلال هذه الياسمينة؟ هل تسرعنا بالصعود نحو الكواكب فكلت أجنحتنا وهبطت بنا إلى الهاوية؟ هل فاجأنا الحب نائما فاستيقظ غاضبا ليعاقبنا؟ أم هيجت أنفاسنا نسمات الليل فانقلبت ريحا شديدة لتمزقنا وتجرفنا كالغبار إلى أعماق الوادي؟ لم نخالف وصية ولم نذق ثمرا، فكيف نخرج من هذه الجنة؟! لم نتآمر ولم نتمرد، فلماذا نهبط إلى الجحيم؟! لا لا وألف لا ولا. إن الدقائق التي جمعتنا هي أعظم من الأجيال، والشعاع الذي أنار نفسينا هو أقوى من الظلام، فإن فرقتنا العاصفة على وجه هذا البحر الغضوب فالأمواج تجمعنا على ذلك الشاطئ الهادئ، وإن قتلتنا هذه الحياة فذاك الموت يحيينا.
إن قلب المرأة لا يتغير من الزمن ولا يتحول مع الفصول، قلب المرأة ينازع طويلا، ولكنه لا يموت. قلب المرأة يشابه البرية التي يتخذها الإنسان ساحة لحروبه ومذابحه، فهو يقتلع أشجارها ويحرق أعشابها ويلطخ صخورها بالدماء ويغرس تربتها بالعظام والجماجم، ولكنها تبقى هادئة ساكنة مطمئنة، ويظل فيه الربيع ربيعا والخريف خريفا إلى نهاية الدهور ... والآن قد قضي الأمر، فماذا نفعل؟ قل لي ماذا نفعل وكيف نفترق ومتى نلتقي؟ هل نحسب الحب ضيفا غريبا أتى به المساء وأبعده الصباح؟ أنحسب هذه العاطفة النفسية حلما أبانه الكرى ثم أخفته اليقظة؟ أنحسب هذا الأسبوع ساعة سكر ما لبثت أن قضت بالصحو والانتباه؟ ... ارفع رأسك لأرى عينيك يا حبيبي. افتح شفتيك لأسمع صوتك، تكلم، أخبرني، حدثني، هل تذكرني بعد أن تغرق العاصفة سفينتي أيامنا؟ هل تسمع حفيف أجنحتي في سكينة الليل؟ هل تشعر بأنفاسي متموجة على وجهك وعنقك؟ هل تصغي لتنهداتي متصاعدة بالتوجع منخفضة بالغصات؟ وهل ترى خيالي قادما مع خيالات الظلام مضمحلا مع ضباب الصباح؟ قل لي يا حبيبي، قل لي ماذا تكون لي بعد أن كنت نورا لعيني ونغمة لأذني وجناحا لروحي، ماذا تكون؟
فأجبتها وحبات قلبي تذوب في عيني: سأكون لك يا سلمى مثلما تريدينني أن أكون.
فقالت: أريدك أن تحبني، أريدك أن تحبني إلى نهاية أيامي، أريدك أن تحبني مثلما يحب الشاعر أفكاره المحزنة، أريدك أن تذكرني مثلما يذكر المسافر حوض ماء هادئ رأى فيه خيال وجهه قبل أن يشرب من مائه، وأريدك أن تذكرني مثلما تذكر الأم جنينا مات في أحشائها قبل أن يرى النور، وأريدك أن تفكر بي مثلما يفكر الملك الرؤوف بسجين مات قبل أن يبلغه عفوه، أريدك أن تكون لي أخا وصديقا ورفيقا، أريدك أن تزور والدي في وحدته وتعزيه في انفراده؛ لأنني عما قريب سأتركه وأصير غريبة عنه.
فأجبتها: سأفعل كل ذلك يا سلمى، سوف أجعل روحي غلافا لروحك، وقلبي بيتا لجمالك، وصدري قبرا لأحزانك. سوف أحبك يا سلمى محبة الحقول للربيع. سوف أحيا بك حياة الأزاهر بحرارة الشمس. سوف أترنم باسمك مثلما يترنم الوادي بصدى رنين الأجراس المتمايلة فوق كنائس القرى. سوف أصغي لأحاديث نفسك مثلما تصغي الشواطئ لحكاية الأمواج ... سأذكرك يا سلمى مثلما يذكر الغريب المستوحش وطنه المحبوب، والفقير الجائع مائدة الطعام الشهية، والملك المخلوع أيام عزه ومجده، والأسير الكئيب ساعات الحرية والطمأنينة. سوف أفكر بك مثلما يفكر الزارع بأغمار السنابل وغلة البيادر، والراعي الصالح بالمروج الخضراء والمناهل العذبة.
كنت أتكلم وسلمى تنظر إلى أعماق الليل وتتأوه بين الآونة والأخرى، ونبضات قلبها تتسارع وتتماهل كأنها أمواج بحر بين صعود وهبوط. ثم قالت: غدا تصير الحقيقة خيالا واليقظة حلما، فهل يكتفي المشتاق بعناق الخيال ويرتوي الظمآن من جداول الأحلام؟
فأجبتها قائلا: غدا يسير بك القدر إلى أحضان العائلة المملوءة بالراحة والهدوء، ويسير بي إلى ساحة العالم حيث الجهاد والقتال. أنت إلى منزل رجل يسعد بجمالك وطهر نفسك. وأنا إلى مكامن أيام تعذبني بأحزانها وتخيفني بأشباحها. أنت إلى الحياة وأنا إلى النزع. أنت إلى الأنس والألفة وأنا إلى الوحشة والانفراد. ولكنني سأرفع في وادي ظل الموت تمثالا للحب وأعبده. سأتخذ الحب سميرا وأسمعه منشدا وأشربه خمرا وألبسه ثوبا. عند الفجر سينبهني الحب من رقادي ويسير أمامي إلى البرية البعيدة. وعند الظهيرة سيقودني إلى ظل الأشجار، فأربض مع العصافير المحتمية من حرارة الشمس. وفي المساء سيوقفني أمام المغرب ويسمعني نغمة وداع الطبيعة للنور، ويريني أشباح السكينة سابحة في الفضاء. وفي الليل سيعانقني فأنام حالما بالعوالم العلوية حيث تقطن أرواح العشاق والشعراء. وفي الربيع سأمشي والحب جنبا لجنب مترنمين بين التلول والمنحدرات متبعين آثار أقدام الحياة المخططة بالبنفسج والأقحوان، شاربين بقايا الأمطار بكؤوس النرجس والزنبق. وفي الصيف سأتكئ والحب ساندين رأسينا إلى أغمار القش مفترشين الأعشاب ملتحفين السماء ساهرين مع القمر والنجوم. وفي الخريف سأذهب والحب إلى الكروم، فنجلس بقرب المعاصر ناظرين إلى الأشجار وهي تخلع أثوابها المذهبة متأملين بأسراب الطيور الراحلة إلى الساحل. وفي الشتاء سأجلس والحب بقرب الموقد تاليين حكايات الأجيال مرددين أخبار الأمم والشعوب. وفي أيام الشبيبة سيكون لي الحب مهذبا، وفي الكهولة عضدا، وفي الشيخوخة مؤنسا. سيظل الحب معي يا سلمى إلى نهاية العمر، إلى أن يجيء الموت، إلى أن تجمعني بك قبضة الله.
كانت الألفاظ تتصاعد مسرعة من أعماق نفسي، كأنها شعلات من نار تنمو وتتطاير ثم تتبدد وتضمحل في زوايا تلك الحديقة، وكانت سلمى مصغية والدموع تنهمر من عينيها، كأن أجفانها شفاه تجيبني بالدموع على الكلام.
إن الذين لم يهبهم الحب أجنحة لا يستطيعون أن يطيروا إلى ما وراء الغيوم ليروا ذلك العالم السحري الذي طافت فيه روحي وروح سلمى في تلك الساعة المحزنة بأفراحها المفرحة بأوجاعها. إن الذين لم يتخذهم الحب أتباعا لا يسمعون الحب متكلما، فهذه الحكاية لم تكتب لهم، فهم وإن فهموا معاني هذه الصفحات الضئيلة لا يمكنهم أن يروا ما يسيل بين سطورها من الأشباح والأخيلة التي لا تلبس الحبر ثوبا ولا تتخذ الورق مسكنا. لكن أي بشري لم يرشف من خمرة الحب في إحدى كاساته؟ أية نفس لم تقف متهيبة في ذلك الهيكل المنير المرصوف بحبات القلوب المسقوف بالأسرار والأحلام والعواطف؟ أي زهرة لم يسكب الصباح قطرة من الندى بين أوراقها؟ وأي ساقية تضل طريقها ولا تذهب إلى البحر؟
ورفعت سلمى إذ ذاك رأسها نحو السماء المزينة بالكواكب، ومدت يديها إلى الأمام، وكبرت عيناها، وارتجفت شفتاها، وظهر على وجهها المصفر كل ما في نفس المرأة المظلومة من الشكوى والقنوط والألم، ثم صرخت قائلة: ماذا فعلت المرأة يا رب فاستحقت غضبك؟! ماذا أتت من الذنوب ليتبعها سخطك إلى آخر الدهور؟! هل اقترفت جرما لا نهاية لفظاعته ليكون عقابك لها بغير نهاية؟! أنت قوي يا رب وهي ضعيفة، فلماذا تبيدها بالأوجاع؟! أنت عظيم وهي تدب حول عرشك، فلماذا تسحقها بقدميك؟! أنت عاصفة شديدة وهي كالغبار أمام وجهك، فلماذا تذريها على الثلوج؟! أنت جبار وهي بائسة، فلماذا تحاربها؟! أنت بصير عليم وهي تائهة عمياء، فلماذا تهلكها؟! أنت توجدها بالمحبة، فكيف بالمحبة تفنيها؟! بيمينك ترفعها إليك وبشمالك تدفعها إلى الهاوية، وهي جاهلة لا تدري أنى ترفعها وكيف تدفعها؟! في فمها تنفخ نسمة الحياة، وفي قلبها تزرع بذور الموت، على سبل السعادة تسيرها راجلة ثم تبعث الشقاء فارسا ليصطادها، في حنجرتها تبث نغمة الفرح ثم تغلق شفتيها بالحزن وتربط لسانها بالكآبة، بأصابعك الخفية تمنطق باللذة أوجاعها، وبأصابعك الظاهرة ترتسم هالات الأوجاع حول ملذاتها، في مضجعها تخفي الراحة والسلامة، وبجانب مضجعها تقيم المخاوف والمتاعب، بإرادتك تحيي ميولها، ومن ميولها تتولد عيوبها وزلاتها، بمشيئتك تريها محاسن مخلوقاتك، وبمشيئتك تنقلب محبتها للحسن مجاعة مهلكة، بشريعتك تزوج روحها من جسد جميل، وبقضائك تجعل جسدها بعلا للضعف والهوان. أنت تسقيها الحياة بكأس الموت والموت بكأس الحياة. أنت تطهرها بدموعها، وبدموعها تذيبها. أنت تملأ جوفها من خبز الرجل، ثم تملأ حفنة الرجل من حبات صدرها. أنت أنت يا رب، قد فتحت عيني بالمحبة، وبالمحبة أعميتني، أنت قبلتني بشفتيك، وبيدك القوية صفعتني، أنت زرعت في قلبي وردة بيضاء، وحول هذه الوردة أنبت الأشواك والحسك، أنت أوثقت حاضري بروح فتى أحبه، وبجسد رجل لا أعرفه قيدت أيامي؛ فساعدني لأكون قوية في هذا الصراع المميت، وأسعفني لأبقى أمينة وطاهرة حتى الموت ... لتكن مشيئتك يا رب، ليكن اسمك مباركا إلى النهاية.
وسكتت سلمى وظلت ملامحها تتكلم، ثم حنت رأسها وأرخت ذراعيها، وانخفض هيكلها، كأن القوى الحيوية قد تركتها فبانت لناظري كغصن قصفته العاصفة وألقته إلى الحضيض ليجف ويندثر تحت أقدام الدهر، فأخذت يدها المثلجة بيدي الملتهبة، وقبلت أصابعها بأجفاني وشفتي، ولما حاولت تعزيتها بالكلام وجدتني أحرى منها بالتعزية والشفقة؛ فبقيت صامتا حائرا متأملا، شاعرا بتلاعب الدقائق بعواطفي، مصغيا لأنة قلبي في داخلي، خائفا من نفسي على نفسي.
ولم ينبس أحدنا ببنت شفة في ما بقي من تلك الليلة؛ لأن اللوعة إذا عظمت تصير خرساء، فبقينا ساكتين جامدين كعمودي رخام قبرهما الزلزال في التراب، ولم يعد أحدنا يريد أن يسمع الآخر متكلما؛ لأن خيوط قلبينا قد وهت حتى صار التنهد دون الكلام يقطعها.
انتصف الليل، ونمت رهبة السكوت، وطلع القمر ناقصا من وراء صنين، وبان بين النجوم كوجه ميت شاحب غارق في المساند السوداء بين شموع ضئيلة تحيط بنعشه، وظهر لبنان كشيخ لوت ظهره الأعوام وأناخت هيكله الأحزان وهجر أجفانه الرقاد، فبات يساهر الدجى ويترقب الفجر، كملك مخلوع جالس على رماد عرشه بين خرائب قصره. إن الجبال والأشجار والأنهار تتبدل هيئاتها ومظاهرها بتقلب الحالات والأزمنة، مثلما تتغير ملامح وجه الإنسان بتغير أفكاره وعواطفه؛ فشجرة الحور، التي تتعالى في النهار كعروس جميلة يلاعب النسيم أثوابها تظهر في المساء كعمود دخان يتصاعد نحو اللاشيء، والصخر الكبير، الذي يجلس عند الظهيرة كجبار قوي يهزأ بعاديات الزمن يبدو في الليل كفقير بائس يفترش الثرى ويلتحف الفضاء. والساقية التي نراها عند الصباح متلمعة كذوب اللجين ونسمعها مترنمة بأغنية الخلود، نخالها في المساء مجرى دموع يتفجر من بين أضلع الوادي، ونسمعها تندب وتنوح كالثكلى. ولبنان الذي ظهر منذ أسبوع بكل مظاهر الجلال والرونق عندما كان القمر بدرا والنفس راضية قد بان في تلك الليلة كئيبا منهوكا مستوحشا أمام قمر ضئيل ناقص هائم في عرض السماء وقلب خافق معتل في داخل الصدر.
وقفنا للوداع، وقد وقف بيننا الحب واليأس شبحين هائلين؛ هذا باسط جناحيه فوق رأسينا، وذاك قابض بأظافره على عنقينا، هذا يبكي مرتاعا، وذاك يضحك ساخرا. ولما أخذت يد سلمى ووضعتها على شفتي متبركا دنت مني ولثمت مفرق شعري، ثم عادت فارتمت على المقعد الخشبي وأطبقت أجفانها وهمست ببطء: أشفق يا رب وشدد جميع الأجنحة المتكسرة.
انفصلت عن سلمى وخرجت من تلك الحديقة شاعرا بنقاب كثيف يوشي مداركي الحسية، مثلما يغمر الضباب وجه البحيرة، وسرت وأخيلة الأشجار القائمة على جانبي الطريق تتحرك أمامي كأنها أشباح قد انبثقت من شقوق الأرض لتخيفني، وأشعة القمر الضعيفة ترتعش بين الغصون كأنها سهام دقيقة تريشها أرواح الجان السابحة في الفضاء نحو صدري، والسكينة العميقة تخيم علي كأنها أكف سوداء ثقيلة ألقتها الظلمة على جسدي.
كل ما في الوجود وكل معنى في الحياة وكل سر في النفس قد صار قبيحا رهيبا هائلا، فالنور المعنوي الذي أراني جمال العالم وبهجة الكائنات قد انقلب نارا تحرق كبدي بلهيبها وتستر نفسي بدخانها، والنغمة التي كانت تضم إليها أصوات المخلوقات وتجعلها نشيدا علويا قد استحالت في تلك الساعة إلى ضجيج أروع من زمجرة لأسد وأعمق من صراخ الهاوية.
بلغت غرفتي وارتميت على فراشي كطائر رماه الصياد فسقط بين السياج والسهم في قلبه. وظلت عاقلتي تراوح بين يقظة مخيفة ونوم مزعج، وروحي في داخلي تردد في الحالتين كلمات سلمى: أشفق يا رب وشدد جميع الأجنحة المتكسرة.
أمام عرش الموت
إنما الزيجة في أيامنا هذه تجارة مضحكة مبكية يتولى أمورها الفتيان وآباء الصبايا، الفتيان يربحون في أكثر المواطن والآباء يخسرون دائما، أما الصبايا المنتقلات كالسلع من منزل إلى آخر فتزول بهجتهن، ونظير الأمتعة العتيقة يصير نصيبهن زوايا المنازل حيث الظلمة والفناء البطيء.
إن المدنية الحاضرة قد أنمت مدارك المرأة قليلا، ولكنها أكثرت أوجاعها بتعميم مطامع الرجل، كانت المرأة بالأمس خادمة سعيدة فصارت اليوم سيدة تعسة. كانت بالأمس عمياء تسير في نور النهار، فأصبحت مبصرة تسير في ظلمة الليل، كانت جميلة بجهلها فاضلة ببساطتها قوية بضعفها، فصارت قبيحة بتفننها سطحية بمداركها بعيدة عن القلب بمعارفها. فهل يجيء يوم يجتمع في المرأة الجمال بالمعرفة والتفنن بالفضيلة، وضعف الجسد بقوة النفس؟ أنا من القائلين إن الارتقاء الروحي سنة في البشر، والتقرب من الكمال شريعة بطيئة لكنها فعالة، فإذا كانت المرأة قد ارتقت بشيء وتأخرت بشيء آخر؛ فلأن العقبات التي تبلغنا قمة الجبل لا تخلو من مكامن اللصوص وكهوف الذئاب. ففي هذا الجبل الشبيه بالغيبوبة التي تتقدم اليقظة، في هذا الجبل القابض بكفيه على تراب الأجيال الغابرة وبزور الأجيال الآتية، في هذا الجبل الغريب بميوله وأمانيه لا تخلو مدينة من امرأة ترمز بوجودها عن ابنة المستقبل. وسلمى كرامة كانت في بيروت رمز المرأة الشرقية العتيدة، ولكنها كالكثيرين الذين يعيشون قبل زمانهم قد ذهبت ضحية الزمن الحاضر، ونظير زهرة اختطفها تيار النهر قد صارت قهرا في موكب الحياة نحو الشقاء.
وتزوج منصور بك غالب من سلمى، فسكنا معا في منزل فخم قائم على شاطئ البحر في رأس بيروت حيث يقطن وجهاء القوم والأغنياء، وبقي فارس كرامة وحده في ذلك البيت المنفرد بين الحدائق والبساتين انفراد الراعي بين أغنامه، ومضت أيام العرس وانقضت ليالي الأفراح، ومر الشهر الذي يدعوه الناس عسلا، تاركا وراءه شهور الخل والعلقم، مثلما تترك أمجاد الحروب جماجم القتلى في البرية البعيدة ... إن بهرجة الأعراس الشرقية تصعد بنفوس الفتيان والصبايا صعود النسر إلى ما وراء الغيوم، ثم تهبط بهم هبوط حجر الرحى إلى أعماق اليم، بل هي مثل آثار الأقدام على رمال الشاطئ لا تلبث أن تمحوها الأمواج.
وذهب الربيع وتلاه الصيف وجاء الخريف، ومحبتي لسلمى تتدرج من شغف فتى في صباح العمر بامرأة حسناء إلى نوع من تلك العبادة الخرساء التي يشعر بها الصبي اليتيم نحو روح أمه الساكنة في الأبدية، فالصبابة التي كانت تمتلك كليتي قد تحولت إلى كآبة عمياء لا ترى غير نفسها، والولع الذي كان يستدر الدموع من عيني قد انقلب ولها يستقطر الدم من قلبي، وأنة الحنين التي كانت تملأ ضلوعي أصبحت صلاة عميقة تقدمها روحي في السكينة أمام السماء مستمدة السعادة لسلمى والغبطة لبعلها والطمأنينة لوالدها، ولكن باطلا كنت أشفق وأبتهل وأصلي؛ لأن تعاسة سلمى كانت علة في داخل النفس لا يشفيها سوى الموت. أما بعلها فكان من أولئك الرجال الذين يحصلون بغير تعب على كل ما يجعل الحياة هنيئة ولا يقنعون، بل يطمحون دائما إلى ما ليس لهم، وهكذا يظلون معذبين بمطامعهم إلى نهاية أيامهم. وباطلا كنت أرجو الطمأنينة لفارس كرامة؛ لأن صهره لم يستلم يد ابنته ويحصل على أموالها حتى نسيه وهجره، بل صار يطلب حتفه توصلا إلى ما بقي من ثروته.
كان منصور بك شبيها بعمه المطران بولس غالب، وكانت أخلاقه كأخلاقه، ونفسه صورة مصغرة لنفسه، ولم يكن الفرق بينهما إلا بما يفرق الرياء عن الانحطاط. كان المطران يبلغ أمانيه مستترا بأثوابه البنفسجية، ويشبع مطامعه محتميا بالصليب الذهبي المعلق على صدره، أما ابن أخيه فكان يفعل كل ذلك جهارا وعنوة. كان المطران يذهب إلى الكنيسة في الصباح، ويصرف ما بقي من النهار منتزعا الأموال من الأرامل واليتامى وبسطاء القلب. أما منصور بك فكان يقضي النهار كله متبعا ملذاته ملاحقا شهواته في تلك الأزقة المظلمة حيث يختمر الهواء بأنفاس الفساد.
كان المطران يقف يوم الأحد أمام المذبح، ويعظ المؤمنين بما لا يتعظ به، ويصرف أيام الأسبوع مشتغلا بسياسة البلاد، أما ابن أخيه فكان يصرف جميع أيامه متاجرا بنفوذ عمه بين طالبي الوظائف ومريدي الوجاهة. كان المطران لصا يسير مختبئا بستائر الليل، أما منصور بك فكان محتالا يمشي بشجاعة في نور النهار.
كذا تبيد الشعوب بين اللصوص والمحتالين مثلما تفنى القطعان بين أنياب الذئاب وقواطع الجزارين، وهكذا تستسلم الأمم إلى ذوي النفوس المعوجة والأخلاق الفاسدة، فتتراجع إلى الوراء ثم تهبط إلى الحضيض، فيمر الدهر ويسحقها بأقدامه مثلما تسحق مطارق الحديد آنية الفخار.
وماذا يا ترى يجعلني الآن أشغل هذه الصفحات بالكلام عن أمم بائسة يائسة، وأنا قد خصصتها لتدوين حكاية امرأة تاعسة وتصوير خيالات قلب وجيع لم يلمسه الحب بأفراحه حتى صفعه بأحزانه؟! لماذا تراود الدموع أجفاني لذكر شعوب خاملة ومظلومة، وأنا قد وقفت دموعي على ذكرى أيام امرأة ضعيفة لم تعانق الحياة حتى احتضنها الموت؟ ولكن أليست المرأة الضعيفة هي رمز الأمة المظلومة؟ أليست المرأة المتوجعة بين ميول نفسها وقيود جسدها هي كالأمة المتعذبة بين حكامها وكهانها؟ أوليست العواطف الخفية التي تذهب بالصبية الجميلة إلى ظلمة القبر هي كالعواصف الشديدة التي تغمر حياة الشعوب بالتراب؟ إن المرأة من الأمة بمنزلة الشعاع من السراج، وهل يكون شعاع السراج ضئيلا إذا لم يكن زيته شحيحا؟ •••
مضت أيام الخريف وعرت الرياح الأشجار متلاعبة بأوراقها الصفراء مثلما تداعب الأنواء زبد البحر، وجاء الشتاء باكيا منتحبا وأنا في بيروت ولا رفيق لي سوى أحلام تتصاعد بنفسي تارة فتبلغها الكواكب، وتنخفض بقلبي طورا فتلحده بجوف الأرض.
إن النفس الكئيبة تجد راحة بالعزلة والانفراد فتهجر الناس مثلما يبتعد الغزال الجريح عن سربه ويتوارى في كهفه حتى يبرأ أو يموت.
فذات يوم سمعت باعتلال فارس كرامة، فتركت وحدتي وذهبت لعيادته ماشيا على ممر منفرد بين أشجار الزيتون المتلمعة أوراقها الرصاصية بقطرات المطر، متنحيا عن الطريق العمومية حيث تزعج ضجة المركبات سكينة الفضاء.
بلغت منزل الشيخ ودخلت عليه، فوجدته ملقى على فراشه مضنى الجسم، شاحب الوجه أصفر اللون، قد غرقت عيناه تحت حاجبيه فباتتا كهوتين عميقتين مظلمتين تجول فيهما أشباح السقم والألم، فالملامح التي كانت بالأمس عنوان البشاشة والانبساط قد تقلصت واكفهرت وأصبحت كصحيفة رمادية متجعدة تكتب عليها العلة سطورا عريبة ملتبسة. واليدان اللتان كانتا مغلفتين باللطف واللدانة قد نحلتا حتى بدت عظام أصابعهما من تحت الجلد كقضبان عارية ترتعش أمام العاصفة.
ولما دنوت منه سائلا عن حاله، حول وجهه المهزول نحوي وظهر على شفتيه المرتجفتين خيال ابتسامة محزنة، وبصوت ضعيف خافت خلته آتيا من وراء الجدران قال: اذهب، اذهب يا ابني إلى تلك الغرفة وامسح دموع سلمى وسكن روعها ثم عد بها إلي لتجلس بجانب فراشي ...
دخلت الغرفة المحاذية فوجدت سلمى منطرحة على مقعد وقد غمرت رأسها بزنديها وغرقت وجهها بالمساند، وأمسكت أنفاسها كيلا يسمع والدها نحيبها. فاقتربت منها ببطء ولفظت اسمها بصوت أقرب إلى التنهد منه إلى الهمس، فتحركت مضطربة كنائم تراوده الأحلام المخيفة، ثم استوت على مقعدها ونظرت إلي بعينين شاخصتين جامدتين كأنها ترى شبحا في عالم الرؤيا، ولا تصدق حقيقة وجودي في ذلك المكان.
وبعد سكوت عميق أرجعنا بتأثيراته السحرية إلى تلك الساعات التي سكرنا فيها من خمرة الآلهة، مسحت سلمى دموعها بأطراف أناملها وقالت متحسرة: أرأيت كيف تبدلت الأيام؟ أرأيت كيف أضلنا الدهر فسرنا مسرعين إلى هذه الكهوف المفزعة؟ في هذا المكان جمعنا الربيع في قبضة الحب، وفي هذا المكان يجمعنا الآن الشتاء أمام عرش الموت، فما أبهى ذلك النهار! وما أشد ظلمة هذا الليل!
قالت هذه الكلمات وقد ابتلعت الغصات أواخرها، ثم عادت فسترت وجهها بيديها كأن ذكرى الماضي قد تجسدت، ووقفت أمامها فلم تشأ أن تراها. فوضعت يدي على شعرها قائلا: تعالي يا سلمى، تعالي ننتصب كالأبراج أمام الزوبعة. هلمي نقف كالجنود أمام الأعداء متلقين شفار السيوف بصدورنا لا بظهورنا، فإن صرعنا نموت كالشهداء وإن تغلبنا نعش كالأبطال ... إن عذاب النفس بثباتها أمام المصاعب والمتاعب لهو أشرف من تقهقرها إلى حيث الأمن والطمأنينة. فالفراشة التي تظل مرفرفة حول السراج حتى تحترق هي أسمى من الخلد الذي يعيش براحة وسلامة في نفقه المظلم. والنواة التي لا تحتمل برد الشتاء وثورات العناصر لا تقوى على شق الأرض ولن تفرح بجمال نيسان ... هلمي نسر يا سلمى بقدم ثابتة على هذه الطريق الوعرة رافعين أعيننا نحو الشمس كيلا نرى الجماجم المطروحة بين الصخور، والأفاعي المنسابة بين الأشواك، فإن أوقفنا الخوف في منتصف الطريق أسمعتنا أشباح الليل صراخ الاستهزاء والسخرية، وإن بلغنا قمة الجبل بشجاعة تترنم معنا أرواح الفضاء بأنشودة النصر والاستظهار ... خففي عنك يا سلمى وجففي دموعك، وأخفي هذه الكآبة الظاهرة على محياك، وقومي نجلس بجانب فراش والدك لأن حياته من حياتك وشفاءه بابتسامتك.
فنظرت إلي نظرة ملؤها الحنان والرأفة والانعطاف، ثم قالت: أتطلب مني الصبر والتجلد وفي عينيك معنى اليأس والقنوط؟ أيعطي الفقير الجائع خبزه للجائع الفقير؟ أو يصف العليل دواء لعليل آخر وهو أحرى بالدواء؟
ثم وقفت وسارت أمامي منحنية الرأس إلى غرفة والدها. جلسنا بقرب مضجع الشيخ العليل وسلمى تتكلف الابتسام وهدوء البال وهو يتكلف الراحة والقوة، وكل منهما شاعر بلوعة الآخر، عالم بضعفه، سامع غصات قلبه، فكانا مثل قوتين متصارعتين يفني بعضهما بعضا في السكينة. والد دنف يذوب ضنى لتعاسة ابنته، وابنة محبة تذبل متوجعة بعلة والدها، نفس راحلة ونفس يائسة تتعانقان أمام الحب والموت، وأنا بينهما أتحمل ما بي وأقاسي ما بهما؛ ثلاثة جمعتهم يد القضاء ثم قبضت عليهم بشدة حتى سحقتهم؛ شيخ يمثل بيتا قديما هدمه الطوفان، وصبية تحاكي زنبقة قطع عنقها حد المنجل، وفتى يشابه غرسة ضعيفة لوت قامتها الثلوج، وجميعنا مثل ألعوبة بين أصابع الدهر.
وتحرك الشيخ إذ ذاك بين اللحف ومد يده النحيلة نحو سلمى، وبصوت أودعه كل ما في قلب الأب من الرقة والرأفة، وكل ما في الصدر العليل من السقم والألم قال: ضعي يدك في يدي يا سلمى.
فمدت يدها وألقتها بين أصابعه فضمها بلطف ثم زاد قائلا: لقد شبعت من السنين يا ولدي، قد عشت طويلا وتلذذت بكل ما تثمره الفصول، وتمتعت بكل ما تبرزه الأيام والليالي، قد لاحقت الفراش صبيا وعانقت الحب فتى وجمعت المال كهلا، وكنت في هذه الأدوار سعيدا مغتبطا ... فقدت أمك يا سلمى قبل أن تبلغي الثالثة، ولكنها أبقتك لي كنزا ثمينا، فكنت تنمين بسرعة نمو الهلال، وتنعكس على وجهك ملامح أمك مثلما تنعكس أشعة النجوم في حوض ماء هادئ، وتظهر أخلاقها ومزاياها بأعمالك وأقوالك ظهور الحلي الذهبية من وراء النقاب الرقيق، فتعزيت بك يا ولدي لأنك كنت مثلها جميلة وحكيمة ... والآن قد صرت شيخا طاعنا وراحة الشيوخ بين أجنحة الموت الناعمة، فتعزي يا ولدي لأنني بقيت لأراك امرأة كاملة، وافرحي لأني سأبقى بك حيا بعد موتي. إن ذهابي الآن هو مثل ذهابي غدا أو بعده، لأن أيامنا مثل أوراق الخريف، تتساقط وتتبدد أمام وجه الشمس، فإن أسرعت بي الساعات إلى الأبدية فلأنها علمت بأن روحي قد اشتاقت إلى لقاء أمك.
لفظ الكلمات الأخيرة بنغمة مفعمة بحلاوة الحنين والرجاء، ولاحت على وجهه المنقبض أشعة شبيهة بذلك النور الذي ينبثق من أجفان الأطفال، ثم مد يده بين المساند المحيطة برأسه، وانتشل صورة صغيرة قديمة يمنطقها إطار من الذهب قد نعمت حدوده ملامس الأيدي ومحت نقوشه قبل الشفاه، ثم قال دون أن يحول عينيه عن الرسم: اقتربي يا سلمى، اقتربي مني يا ولدي لأريك خيال أمك، تعالي وانظري ظلها على صفحة من الورق.
فدنت سلمى ماسحة الدموع من مقلتيها كيلا تحول بين ناظريها والرسم الضئيل، وبعد أن حدقت إليه طويلا كأنه مرآة تعكس معانيها وشكل وجهها، قربته من شفتيها وقبلته بلهفة مرارا متوالية ثم صرخت قائلة: يا أماه، يا أماه، يا أماه! ولم تزد على هذه الكلمة، بل عادت فوضعت الرسم على شفتيها المرتعشتين كأنها تريد أن تبث فيه الحياة بأنفاسها الحارة ...
إن أعذب ما تحدثه الشفاه البشرية هو لفظة «الأم»، وأجمل مناداة هي: يا أمي، كلمة صغيرة كبيرة مملوءة بالأمل والحب والانعطاف، وكل ما في القلب البشري من الرقة والحلاوة والعذوبة. الأم هي كل شيء في هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف، هي ينبوع الحنو والرأفة والشفقة والغفران، فالذي يفقد أمه يفقد صدرا يسند إليه رأسه ويدا تباركه وعينا تحرسه ...
كل شيء في الطبيعة يرمز ويتكلم عن الأمومة، فالشمس هي أم هذه الأرض ترضعها حرارتها وتحتضنها بنورها، ولا تغادرها عند المساء إلا بعد أن تنومها على نغمة أمواج البحر وترنيمة العصافير والسواقي، وهذه الأرض هي أم للأشجار والأزهار تلدها وترضعها ثم تفطمها. والأشجار والأزهار تصير بدورها أمهات حنونات للأثمار الشهية والبزور الحية. وأم كل شيء في الكيان هي الروح الكلية الأزلية الأبدية المملوءة بالجمال والمحبة.
وسلمى كرامة لم تكن تعرف أمها لأنها ماتت وهي طفلة، وقد شهقت متأثرة عندما رأت رسمها ونادتها: يا أماه، قسر إرادتها؛ لأن لفظة الأم تختبئ في قلوبنا مثلما تختبئ النواة في قلب الأرض، وتنبثق من بين شفاهنا في ساعات الحزن والفرح، كما يتصاعد العطر من قلب الوردة في الفضاء الصافي والممطر.
كانت سلمى تحدق إلى رسم أمها ثم تقبله بلهفة ثم تلزه إلى صدرها الخفوق، ثم تتأوه متنهدة، ومع كل تنهدة تفقد جزءا من قواها، حتى إذا ما وهت الحياة في جسدها النحيل هوت وسقطت بجانب سرير أبيها، فوضع كلتا يديه على رأسها قائلا: قد أريتك يا ولدي شبح أمك على صفحة من الورق، فأصغي إلي لأسمعك أقوالها.
فرفعت سلمى رأسها مثلما تفعل الفراخ في العش عندما تسمع حفيف أجنحة العصفورة بين القضبان، ونظرت إليه مصغية صاغرة كأن ذاتها المعنوية قد استحالت إلى أعين محدقة وآذان واعية.
فقال والدها: كنت طفلة رضيعة عندما فقدت أمك والدها الشيخ، فحزنت لفقده وبكت بكاء حكيم متجلد، ولكنها لم تعد من جانب قبره حتى جلست بجانبي في هذه الغرفة وأخذت يدي براحتيها وقالت: قد مات والدي يا فارس وأنت باق لي وهذه هي تعزيتي. إن القلب بعواطفه المتشعبة يماثل الأرزة بأغصانها المتفرقة، فإذا ما فقدت شجرة الأرز غصنا قويا تتألم ولكنها لا تموت، بل تحول قواها الحيوية إلى الغصن المجاور لينمو ويتعالى ويملأ بفروعه الغضة مكان الغصن المقطوع. هذا ما قالته والدتك يا سلمى عندما مات أبوها، وهذا ما يجب عليك أن تقوليه عندما يأخذ الموت جسدي إلى راحة القبر وروحي إلى ظل الله.
فأجابت سلمى متفجعة: فقدت أمي والدها فبقيت أنت لها، فمن يبقى لي إذا فقدتك يا والدي؟ مات والدها وهي في ظلال زوج محب فاضل أمين، مات والدها فبقي لها طفلة تغمر رأسها الصغير بثدييها وتطوق عنقها بذراعيها، فمن يبقى لي إذا فقدتك يا والدي؟ أنت أبي وأمي ورفيق حداثتي ومهذب شبيبتي، فبمن أستعيض إذا ما ذهبت عني؟
قالت هذا وحولت عينيها الدامعتين نحوي وأمسكت بيمينها طرف ثوبي ثم قالت: ليس لي غير هذا الصديق يا والدي، ولن يبقى لي سواه إذا ما تركتني. فهل أتعزى به وهو متعذب مثلي؟ هل يتعزى كسير القلب بالقلب الكسير؟ إن الحزينة لا تتصبر بحزن جارتها كما أن الحمامة لا تطير بأجنحة مكسورة. هو رفيق لنفسي ولكنني قد أثقلت عاتقه بأشجاني حتى لويت ظهره وسملت عينيه بعبراتي، فلم يعد يرى غير الظلمة. هو أخ أحبه ويحبني مثل جميع الإخوة يشترك بالمصيبة ولا يخففها، ويساعد بالبكاء فيزيد الدمع مرارة والقلب احتراقا.
كنت أسمع سلمى متكلمة وعواطفي تنمو وصدري يضيق حتى شعرت بأن أضلعي تكاد تتفجر حناجر وفوهات. أما الشيخ فكان ينظر إليها وجسده المهزول يهبط ببطء بين الوسائد والمساند، ونفسه المتعبة ترتجف كشعلة السراج أمام الريح، ثم بسط ذراعيه وقال بهدوء: دعيني أذهب بسلام يا ولدي، لقد لمحت عيناي ما وراء الغيوم، فلن أحولهما نحو هذه الكهوف. دعيني أطير فقد كسرت بأجنحتي قضبان هذا القفص ... لقد نادتني أمك يا سلمى فلا توقفيني ... ها قد طابت الريح وتبدد الضباب عن وجه البحر فرفعت السفينة شراعها وتأهبت للمسير فلا توقيفها ولا تنزعي دفتها، دعي جسدي يرقد مع الذين رقدوا، ودعي روحي تستيقظ لأن الفجر قد لاح والحلم قد انتهى ... قبلي روحي بروحك ... قبليني قبلة رجاء وأمل ولا تسكبي قطرة من مرارة الحزن على جسدي لئلا تمتنع الأعشاب والأزهار عن امتصاص عناصره، ولا تذرفي دموع اليأس على يدي لأنها تنبت شوكا على قبري. ولا ترسمي بزفرات الأسى سطرا على جبهتي؛ لأن نسيم السحر يمر ويقرأه فلا يحمل غبار عظامي إلى المروج الخضراء ... قد أحببتك بالحياة يا ولدي وسوف أحبك بالموت، فتظل روحي قريبة منك لتحميك وترعاك.
والتفت الشيخ إلي وقد انطبقت أجفانه قليلا فلم أعد أرى سوى خطين رماديين مكان عينيه، ثم قال وسكينة الفناء تسترق ألفاظه: أما أنت يا ابني فكن أخا لسلمى مثلما كان والدك لي. كن قريبا منها في ساعات الشدة، وكن صديقا لها حتى النهاية، ولا تدعها تحزن لأن الحزن على الأموات غلطة من أغلاط الأجيال الغابرة. بل اتل على مسمعها أحاديث الفرح وأنشدها أغاني الحياة فتسلو وتتناسى ... قل لأبيك أن يذكرني، سله فيخبرك عن مآتي أيامي عندما كان الشباب يحلق بنا إلى الغيوم ... قل له إنني أحببته بشخص ابنه في آخر ساعة من حياتي ...
وسكت دقيقة وظلت أشباح ألفاظه تدب على جدران الغرفة، ثم عاد فنظر إلي وإلى سلمى بوقت واحد وقال همسا: لا تدعوا طبيبا ليطيل بمساحيقه ساعات سجني، لأن أيام العبودية قد مضت، فطلبت روحي حرية الفضاء، ولا تدعوا كاهنا إلى جانب فراشي، لأن تعازيمه لا تكفر عن ذنوبي إن كنت خاطئا، ولا تسرع بي إلى الجنة إن كنت بارا. إن إرادة البشر لا تغير مشيئة الله، كما أن المنجمين لا يحولون مسير النجوم. أما بعد موتي فليفعل الأطباء والكهان ما شاءوا، فاللجة تنادي اللجة، أما السفينة فتظل سائرة حتى تبلغ الساحل ... •••
عندما انتصف ذلك الليل المخيف فتح فارس كرامة عينيه الغارقتين في ظلمة النزع، فتحهما لآخر مرة، وحولهما نحو ابنته الجاثية بجانب مضجعه، ثم حاول الكلام فلم يستطع، لأن الموت كان قد تشرب صوته فخرجت هذه الألفاظ لهاثا عميقا من بين شفتيه: ها قد ذهب الليل ... وجاء الصباح ... يا سلمى. يا. يا سلمى ...
ثم نكس رأسه وابيض وجهه وابتسمت شفتاه وأسلم الروح.
ومدت سلمى يدها ولمست يد والدها فوجدتها باردة كالثلج، فرفعت رأسها ونظرت إليه فرأت وجهه مبرقعا بنقاب الموت، فجمدت الحياة في جسدها وجفت الدموع في محاجرها، فلم تتحرك ولم تصرخ ولم تتأوه، بل بقيت محدقة به بعينين جامدتين كعيني التمثال، ثم تراخت أعضاؤها مثلما تتراخى طيات الثوب البليل، وهبطت حتى لمست جبهتها الأرض ثم قالت بهدوء: أشفق يا رب وشدد جميع الأجنحة المتكسرة. •••
مات فارس كرامة وعانقت الأبدية روحه واسترجع التراب جسده، واستولى منصور بك على أمواله، وظلت ابنته أسيرة تعاستها ترى الحياة مأساة هائلة تمثلها المخاوف أمام عينيها.
أما أنا فكنت ضائعا بين أحلامي وهواجسي، تنتابني الأيام والليالي مثلما تنتاب النسور والعقبان لحمان الفريسة، فكم حاولت أن أفقد ذاتي بين صفحات الكتب لعلني أستأنس بأخيلة الذين طواهم الدهر، وكم جربت أن أنسى حاضري لأعود بقراءة الأسفار إلى مسارح الأجيال الغابرة، فلم يجدني كل ذلك نفعا، بل كنت كمن يحاول إخماد النار بالزيت، لأنني لم أكن أرى من مواكب الأجيال سوى أشباحها السوداء، ولا أسمع من أنغام الأمم غير الندب والنواح، فسفر أيوب كان عندي أجمل من مزامير داود، ومراثي أرميا كان أحب لدي من نشيد سليمان، ونكبة البرامكة أشد وقعا في نفسي من عظمة العباسيين، وقصيدة ابن زريق أكثر تأثيرا من رباعيات الخيام، ورواية هملت أقرب إلى قلبي من كل ما كتبه الإفرنج.
كذا يضعف القنوط بصيرتنا، فلا نرى غير أشباحنا الرهيبة، وهكذا يصم اليأس آذاننا، فلا نسمع غير طرقات قلوبنا المضطربة.
بين عشتروت والمسيح
بين تلك البساتين والتلول التي تصل أطراف بيروت بأذيال لبنان يوجد معبد صغير قديم العهد محفور في قلب صخرة بيضاء قائمة بين أشجار الزيتون واللوز والصفصاف. ومع أن هذا المعبد لا يبعد أكثر من نصف ميل عن طريق المركبات، فقد قل من عرفه من محبي الآثار والخرائب القديمة، فهو مثل أشياء كثيرة خطيرة في سوريا مختبئ وراء ستائر الإهمال، فكأن الإهمال قد أبقاه محجوبا عن عيون الأثريين ليجعله خلوة لنفوس المتعبين ومزارا للمحبين المستوحشين.
والداخل إلى هذا المعبد العجيب يرى على الجدار الشرقي منه صورة فينيقية الشواهد والبينات، محفورة في الصخر، قد محت أصابع الدهر بعض خطوطها ولونت الفصول معالمها؛ وهي تمثل عشتروت ربة الحب والجمال جالسة على عرش فخم، ومن حولها سبع عذارى عاريات واقفات بهيئات مختلفة، فالواحدة منهن تحمل مشعلا، والثانية قيثارة، والثالثة مبخرة، والرابعة جرة من الخمر، والخامسة غصنا من الورد، والسادسة إكليلا من الغار، والسابعة قوسا وسهاما، وجميعهن ناظرات إلى عشتروت، وعلى وجوههن سماء الخضوع والامتثال.
وعلى الجدار الثاني صورة أخرى أحدث عهدا وأكثر ظهورا، تمثل يسوع الناصري مصلوبا، وإلى جانبه أمه الحزينة ومريم المجدلية وامرأتان ثانيتان تنتحبان. وهذه الصورة البيزنطية الأسلوب والقرائن تدل على كونها حفرت في القرن الخامس أو السادس للمسيح.
وفي الجدار الغربي كوتان مستديرتان، يدخل منهما شعاع الشمس عند أصيل النهار، وينسكب على الصورتين فتظهران كأنهما طليتا بماء الذهب.
وفي وسط المعبد حجر من الرخام مربع الشكل على جوانبه نقوش ووسامات قديمة الطراز، قد انحجب بعضها تحت كتلات متحجرة من الدماء، تدل على أن الأقدمين كانوا ينحرون ذبائحهم على هذا الحجر، ويصبون فوقه قرابين الخمر والعطر والزيت.
ولم يكن في هذا المعبد الصغير شيء آخر سوى سكينة عميقة تعانق النفس، وهيبة سحرية تبيح بتموجاتها أسرار الآلهة، وتتكلم بلا نطق عن مآتي الأجيال الغابرة ومسير الشعوب من حالة إلى حالة ومن دين إلى دين، وتستميل الشاعر إلى عالم بعيد عن هذا العالم، وتقنع الفيلسوف بأن الإنسان مخلوق دين يشعر بما لا يراه، ويتخيل ما لا تقع عليه حواسه، فيرسم لشعوره رموزا تدل بمعانيها على خفايا نفسه، ويجسم خياله بالكلام والأنغام والصور والتماثيل التي تظهر بأشكالها أقدس ميوله في الحياة وأجمل مشتهياته بعد الموت.
في هذا الهيكل المجهول كنت ألتقي سلمى كرامة مرة في الشهر، فنصرف الساعات الطوال ناظرين إلى الصورتين الغريبتين مفكرين بفتى الأجيال المصلوب فوق الجلجلة، مستحضرين إلى مخيلتينا أشباح الفتيان والصبايا الفينيقيين الذين عاشوا وعشقوا وعبدوا الجمال بشخص عشتروت، فحرقوا البخور أمام تماثيلها، وهرقوا الطيوب على مذابحها، ثم طوتهم الأرض فلم يبق منهم سوى اسم تردده الأيام أمام وجه الأبدية.
كم يصعب علي الآن أن أدون بالكلام ذكرى تلك الساعات التي كانت تجمعني بسلمى، تلك الساعات العلوية المكتنفة باللذة والألم، والفرح والحزن، والأمل واليأس، وكل ما يجعل الإنسان إنسانا والحياة لغزا أبديا. ولكن كم يصعب علي أن أذكرها ولا أرسم بالكلام الضئيل خيالا من أخيلتها ليبقى مثلا لأبناء الحب والكآبة.
كنا نختلي في ذلك الهيكل القديم، فنجلس في بابه ساندين ظهرينا إلى جداره مرددين صدى ماضينا، مستقصين مآتي حاضرنا، خائفين مستقبلنا، ثم نتدرج إلى إظهار ما في أعماق نفسينا، فيشكو كل منا لوعته وحرقة قلبه وما يقاسيه من الجزع والحسرة، ثم يصبر واحدنا الآخر، باسطا أمامه كل ما في جيوب الأمل من الأوهام المفرحة والأحلام العذبة، فيهدأ روعنا وتجف دموعنا وتنفرج ملامحنا، ثم نبتسم متناسين كل شيء سوى الحب وأفراحه، منصرفين عن كل أمر إلا النفس وميولها. ثم نتعانق فنذوب شغفا وهياما. ثم تقبل سلمى مفرق شعري بطهر وانعطاف، فتملأ قلبي شعاعا، وأقبل أطراف أصابعها البيضاء، فتغمض عينيها، وتلوي عنقها العاجي، وتتورد وجنتاها باحمرار لطيف يشابه الأشعة الأولى التي يلقيها الفجر على جباه الروابي. ثم نسكت وننظر طويلا نحو الشفق البعيد حيث الغيوم المتلونة بأنوار المغرب البرتقالية.
ولم تكن اجتماعاتنا مقتصرة على مبادلة العواطف وبث الشكوى، بل كنا ننتقل على غير معرفة بنا إلى العموميات، فنتبادل الآراء والأفكار في شؤون هذا العالم الغريب، ونتباحث في مرامي الكتب التي كنا نقرأها ذاكرين حسناتها وسيئاتها، وما تنطوي عليه من الصور الخيالية والمبادئ الاجتماعية، فتتكلم سلمى عن منزلة المرأة في الجامعة البشرية وعن تأثير الأجيال الغابرة على أخلاقها وميولها، وعن العلاقة الزوجية في أيامنا هذه وما يحيط بها من الأمراض والمفاسد. وإني أذكر قولها مرة: إن الكتاب والشعراء يحاولون إدراك حقيقة المرأة، ولكنهم للآن لم يفهموا أسرار قلبها ومخبآت صدرها، لأنهم ينظرون إليها من وراء نقاب الشهوات، فلا يرون غير خطوط جسدها، أو يضعونها تحت مكبرات الكره، فلا يجدون فيها غير الضعف والاستسلام.
وقولها لي مرة أخرى وقد أشارت بيدها إلى الرسمين المحفورين على جدران الهيكل: في قلب هذه الصخرة قد نقشت الأجيال رمزين يظهران خلاصة ميول المرأة ويستجليان غوامض نفسها المراوحة بين الحب والحزن، بين الانعطاف والتضحية، بين عشتروت الجالسة على العرش ومريم الواقفة أمام الصليب ... إن الرجل يشتري المجد والعظمة والشهرة، ولكن هي المرأة التي تدفع الثمن.
ولم يدر باجتماعاتنا السرية أحد سوى الله وأسراب العصافير المتطايرة بين تلك البساتين، فسلمى كانت تجيء بمركبتها إلى المكان المدعو بحديقة الباشا، ثم تسير الهويناء على الممرات المنفردة حتى تبلغ المعبد الصغير، فتدخله مستندة إلى مظلتها، وعلى وجهها لوائح الأمن والطمأنينة، فتجدني منتظرا مترقبا مشتاقا بكل ما في الشوق من الجوع والعطش.
ولم نخف قط عين الرقيب ولا شعرنا بوخز الضمير؛ لأن النفس إذا تطهرت بالنار واغتسلت بالدموع تترفع عما يدعوه الناس عيبا وعارا، وتتحرر من عبودية الشرائع والنواميس التي سنتها التقاليد لعواطف القلب البشري، وتقف برأس مرفوع أمام عروش الآلهة.
إن الجامعة البشرية قد استسلمت سبعين قرنا إلى الشرائع الفاسدة، فلم تعد قادرة على إدراك معاني النواميس العلوية الأولية الخالدة. وقد تعودت بصيرة الإنسان النظر إلى ضوء الشموع الضئيلة، فلم تعد تستطيع أن تحدق إلى نور الشمس. لقد توارثت الأجيال الأمراض والعاهات النفسية بعضها عن بعض حتى أصبحت عمومية، بل صارت من الصفات الملازمة للإنسان، فلم يعد الناس ينظرون إليها كعاهات وأمراض، بل يعتبرونها كخلال طبيعية نبيلة أنزلها الله على آدم، فإذا ما ظهر بينهم فرد خال منها ظنوه ناقصا محروما من الكمالات الروحية.
أما الذين سيعيبون سلمى كرامة محاولين تلويث اسمها، لأنها كانت تترك منزل زوجها الشرعي لتختلي برجل آخر، فهم السقماء الضعفاء الذين يحسبون الأصحاء مجرمين وكبار النفوس متمردين، بل هم كالحشرات التي تدب في الظلمة وتخشى الخروج إلى نور النهار كيلا تدوسها أقدام العابرين.
إن السجين المظلوم الذي يستطيع أن يهدم جدران سجنه ولا يفعل يكون جبانا. وسلمى كرامة كانت سجينة مظلومة، ولم تستطع الانعتاق، فهل تلام لأنها كانت تنظر من وراء نافذة السجن إلى الحقول الخضراء والفضاء الواسع؟ هل يحسبها الناس خائنة لأنها كانت تجيء من منزل منصور بك غالب لتجلس بجانبي بين عشتروت المقدسة والجبار المصلوب؟ ليقل الناس ما شاؤوا؛ فسلمى قد اجتازت المستنقعات التي تغمر أرواحهم، وبلغت ذلك العالم الذي لا يبلغه عواء الذئاب وفحيح الأفاعي. وليقل الناس ما أرادوا عني؛ فالنفس التي شاهدت وجه الموت لا تذعرها وجوه اللصوص، والجندي الذي رأى السيوف محتبكة فوق رأسه وسواقي الدماء تجري تحت قدميه لا يحفل بالحجارة التي يرشقه بها صبيان الأزقة.
التضحية
ففي يوم من أواخر حزيران، وقد ثقلت وطأة الحر في السواحل وطلب الناس أعالي الجبال، سرت كعادتي نحو ذلك المعبد واعدا نفسي بلقاء سلمى كرامة حاملا بيدي كتابا صغيرا من الموشحات الأندلسية التي كانت في ذلك العهد - ولم تزل إلى الآن - تستميل روحي.
بلغت المعبد عند الأصيل، فجلست أرقب الطريق المنسابة بين أشجار الليمون والصفصاف، وأنظر من وقت إلى آخر إلى وجه كتابي هامسا في مسامع الأثير أبيات تلك الموشحات التي تستهوي القلب برشاقة تراكيبها ورنة أوزانها، وتعيد إلى النفس ذكرى أمجاد الملوك والشعراء والفرسان الذين ودعوا غرناطة وقرطبة وإشبيلية تاركين في قصورها ومعاهدها وحدائقها كل ما في أرواحهم من الآمال والميول ، ثم تواروا وراء حجب الدهر والدمع في أجفانهم والحسرة في أكبادهم.
وبعد ساعة التفت، فإذا بسلمى تميس بقدها النحيل بين الأشجار المحتبكة، وتقترب نحوي مستندة على مظلتها كأنها تحمل كل ما في العالم من الهموم والمتاعب، ولما بلغت باب الهيكل وجلست بقربي نظرت إلى عينيها الكبيرتين، فرأيت فيهما معاني وأسرارا جديدة غريبة توحي التحذر والانتباه، وتثير حب الاستطلاع والاستقصاء.
وشعرت سلمى بما يجول في خاطري، فلم تشأ أن يطول الصراع بين ظنوني وهواجسي، فوضعت يدها على شعري وقالت: اقترب مني، اقترب مني يا حبيبي، اقترب ودعني أزود نفسي منك، فقد دنت الساعة التي تفرقنا إلى الأبد.
فصرخت قائلا: ماذا تقولين يا سلمى؟! وأية قوة تستطيع أن تفرقنا إلى الأبد؟!
فأجابت: إن القوة العمياء التي فرقتنا بالأمس ستفرقنا اليوم. القوة الخرساء التي تتخذ الشرائع البشرية ترجمانا عنها قد بنت بأيدي عبيد الحياة حاجزا منيعا بيني وبينك، القوة التي أوجدت الشياطين وأقامتهم أولياء على أرواح الناس قد حتمت علي أن لا أخرج من ذلك المنزل المبني من العظام والجماجم.
فسألتها قائلا: هل علم زوجك باجتماعاتنا فصرت تخشين غضبه وانتقامه؟
فأجابت: إن زوجي لا يحفل بي ولا يدري كيف أصرف أيامي؛ فهو مشغول عني بأولئك الصبايا المسكينات اللواتي تقودهن الفاقة إلى أسواق النخاسين فيتعطرن ويكتحلن ليبعن أجسادهن بالخبز المعجون بالدماء والدموع.
فقلت: إذا ماذا يصدك عن المجيء إلى هذا المعبد والجلوس بجانبي أمام هيبة الله وأشباح الأجيال؟ هل مللت النظر إلى خفايا نفسي فطلبت روحك الوداع والتفريق؟
فأجابت والدمع يراود أجفانها: لا يا حبيبي. إن روحي لم تطلب فراقك لأنك شطرها، ولا ملت عيناي النظر إليك لأنك نورهما. ولكن إذا كان القضاء قد حكم علي أن أسير على عقبات الحياة مثقلة بالقيود وبالسلاسل، فهل أرضى أن يكون نصيبك من القضاء مثل نصيبي؟
فقلت: تكلمي يا سلمى وأخبريني عن كل شيء، ولا تتركيني ضائعا بين هذه المعميات.
فأجابت: لا أقدر أن أقول كل شيء؛ لأن اللسان الذي أخرسته الأوجاع لا يتكلم، والشفاه التي ختم عليها اليأس لا تتحرك، وكل ما أقدر أن أقوله لك هو أني أخاف عليك من الوقوع في شرك الذين نصبوا لي الحبائل واصطادوني.
فقلت: ماذا تعنين يا سلمى؟ ومن هم الذين تخافين علي منهم؟
فسترت وجهها بيدها وتأوهت ملتاعة ثم قالت مترددة: إن المطران بولس غالب قد صار يعلم بأنني أخرج مرة في الشهر من القبر الذي وضعني فيه.
فقلت: وهل علم المطران بأنك تلتقين بي في هذا المكان؟
فأجابت: لو علم بذلك لما رأيتني الآن جالسة بقربك، ولكن الشكوك تخامره والظنون تتلاعب بأفكاره، وقد بث علي العيون لترقبني، وأوعز إلى خدمه ليتجسسوا حركاتي حتى صرت أشعر بأن للمنزل الذي أسكنه والطرقات التي أسير عليها نواظر تحدق بي وأصابع تشير إلي وآذانا تسمع همس أفكاري.
وأطرقت هنيهة ثم زادت والدمع ينسكب على وجنتيها: أنا لا أخاف على نفسي من المطران؛ لأن الغريق لا يخشى البلل، ولكنني أخاف عليك وأنت حر كنور الشمس أن تقع مثلي في أشراكه، فيقبض عليك بأظافره وينهشك بأنيابه، أنا لا أخاف من الدهر لأنه أفرغ جميع سهامه في صدري، ولكنني أخاف عليك وأنت في ربيع العمر أن تلسع الأفعى قدميك وتوقفك عن المسير نحو قمة الجبل، حيث ينتظرك المستقبل بأفراحه وأمجاده.
فقلت: إن من لا تلسعه أفاعي الأيام وتنهشه ذئاب الليالي يظل مغرورا بالأيام والليالي. ولكن اسمعي يا سلمى، اسمعيني جيدا، أليس أمامنا غير الفراق لنتقي صغارة الناس وشرورهم؟ هل سدت أمامنا سبل الحب والحياة والحرية، فلم يبق غير الاستسلام إلى مشيئة عبيد الموت؟
فأجابت بلهجة يساورها القنوط والحسرة: لم يبق أمامنا غير الوداع والتفرق.
فأخذت يدها وقد تمردت روحي في داخلي وتبدد الدخان عن شعلة فتوتي، فقلت متهيجا: لقد استسلمنا طويلا إلى أهواء الناس يا سلمى ... منذ تلك الساعة التي جمعتنا حتى الآن ونحن ننقاد إلى العميان ونركع أمام أصنامهم. مذ عرفتك، ونحن في يد المطران بولس غالب مثل كرتين يلعب بنا كيفما أراد، ويقذفنا حيثما شاء، فهل نبقى خاضعين لديه محدقين بظلمة نفسه حتى يلوكنا القبر وتبتلعنا الأرض؟ هل وهبنا الله نسمة الحياة لنضعها تحت أقدام الموت؟ وأعطانا الحرية لنجعلها ظلا للاستعباد؟ إن من يخمد نار نفسه بيده يكون كافرا بالسماء التي أوقدتها. ومن يصبر على الضيم ولا يتمرد على الظلم يكون حليف البطل على الحق وشريك السفاحين بقتل الأبرياء. قد أحببتك يا سلمى وأحببتني، والحب كنز ثمين يودعه الله النفوس الكبيرة الحساسة، فهل نرمي بكنزنا إلى حظائر الخنازير لتبعثره بأنوفها وتذريه بأرجلها؟ أمامنا العالم مسرحا واسعا مملوءا بالمحاسن والغرائب، فلماذا نسكن في هذا النفق الضيق الذي حفره المطران وأعوانه؟ أمامنا الحياة وما في الحياة من الحرية وما في الحرية من الغبطة والسعادة، فلماذا لا نخلع النير الثقيل عن عاتقينا ونكسر القيود الموثقة بأرجلنا، ونسير إلى حيث الراحة والطمأنينة؟ قومي يا سلمى نذهب من هذا المعبد الصغير إلى هيكل الله الأعظم. هلمي نرحل من هذه البلاد وما فيها من العبودية والغباوة إلى بلاد بعيدة لا تطالها أيدي اللصوص ولا يبلغها لهاث الأبالسة، تعالي نسرع إلى الشاطئ مستترين بوشاح الليل، فنعتلي سفينة تقلنا إلى ما وراء البحار، وهناك نحيا حياة مكتنفة بالطهر والتفاهم، فلا تنفثنا الثعابين بأنفاسها، ولا تدوسنا الضواري بأقدامها. لا تترددي يا سلمى، فهذه الدقائق أثمن من تيجان الملوك وأسمى من سرائر الملائكة. قومي نتبع عمود النور فيقودنا من هذه الصحراء القاحلة إلى حقول تنبت الأزاهر والرياحين.
فهزت رأسها وقد شخصت عيناها بشيء غير منظور في فضاء ذلك الهيكل، وسالت على شفتيها ابتسامة محزنة تعلن ما في داخل نفسها من الشدة والألم، ثم قالت بهدوء: لا، لا يا حبيبي، إن السماء قد وضعت في يدي كأسا مفعمة بالخل والعلقم، وقد تجرعتها صرفا، ولم يبق فيها غير قطرات قليلة سوف أشربها متجلدة لأرى ما في قعر الكأس من الأسرار والخفايا. أما تلك الحياة الجديدة العلوية المكتنفة بالمحبة والراحة والطمأنينة فأنا لا أستحقها ولا أقوى على احتمال أفراحها وملذاتها؛ لأن الطائر المكسور الجناحين يدب متنقلا بين الصخور ولكنه لا يستطيع أن يسبح محلقا في الفضاء ، والعيون الرمداء تحدق إلى الأشياء الضئيلة ولكنها لا تقوى على النظر إلى الأنوار الساطعة، فلا تحدثني عن السعادة لأن ذكرها يؤلمني كالتعاسة، ولا تصور لي الهناء لأن ظله يخيفني كالشقاء ...
ولكن انظر إلي لأريك الشعلة المقدسة التي أوقدتها السماء بين رماد صدري ... أنت تعلم بأنني أحبك محبة الأم وحيدها، وهي المحبة التي علمتني أن أحميك حتى ومن نفسي. هي المحبة المطهرة بالنار التي توقفني الآن عن اتباعك إلى أقاصي الأرض، وتجعلني أميت عواطفي وميولي لكي تحيا أنت حرا نزيها، وتظل في مأمن من لوم الناس وتقولاتهم الفاسدة.
إن المحبة المحدودة تطلب امتلاك المحبوب، أما المحبة غير المتناهية فلا تطلب غير ذاتها. المحبة التي تجيء بين يقظة الشباب وغفلته تستكفي باللقاء وتقنع بالوصل وتنمو بالقبل والعناق. أما المحبة التي تولد في أحضان اللانهاية وتهبط مع أسرار الليل، فلا تقنع بغير الأبدية، ولا تستكفي بغير الخلود، ولا تقف متهيبة أمام شيء سوى الألوهية ...
عندما عرفت بالأمس أن المطران بولس غالب يريد أن يمنعني عن الخروج من منزل ابن أخيه ويسلبني اللذة الوحيدة التي عرفتها مذ تزوجت، وقفت أمام نافذة غرفتي ونظرت نحو البحر مفكرة بما وراءه من البلاد الواسعة والحرية المعنوية والاستقلال الشخصي، وتخيلت نفسي عائشة بقربك محاطة بأخيلة روحك، مغمورة بانعطافك، ولكن هذه الأحلام التي تنير صدور النساء المظلومات وتجعلهن يتمردن على التقاليد الباطلة ليعشن في ظل الحق والحرية لم تمر في خاطري حتى جعلتني أستصغر نفسي وأستضعفها، وأرى محبتنا واهية محددة لا تستطيع الوقوف أمام وجه الشمس. فبكيت بكاء ملك أضاع ملكه وغني فقد كنوزه، ولكنني ما لبثت أن رأيت وجهك من خلال دموعي، وأبصرت عينيك محدقتين إلي، فتذكرت ما قلته لي مرة وهو: هلمي يا سلمى نقف أمام الأعداء متلقين شفار السيوف بصدورنا، فإن صرعنا نمت كالشهداء وإن تغلبنا نعش كالأبطال؛ لأن عذاب النفس بثباتها أمام المصاعب والمتاعب هو أشرف من تقهقرها إلى حيث الأمن والطمأنينة ...
هذه الكلمات قلتها لي يا حبيبي عندما كانت أجنحة الموت ترفرف حول مضجع والدي، وقد ذكرتها بالأمس وقد كانت أجنحة اليأس تصفق حول رأسي، فتقويت وتشجعت وشعرت وأنا في ظلمة السجن بنوع من الحرية النفسية التي تستهون الشدائد وتستصغر الأحزان، ورأيت حبنا عميقا كالبحر، عاليا كالنجوم، متسعا كالفضاء، وقد جئت اليوم إليك، وفي نفسي المتوجعة المنهوكة قوة جديدة، وهي المقدرة على تضحية الأمر العظيم للحصول على أمر أعظم، تضحية سعادتي بقربك لكي تبقى أنت شريفا بعرف الناس بعيدا عن غدرهم واضطهادهم ...
كنت أجيء بالأمس إلى هذا المكان والقيود الثقيلة تغل قدمي الضعيفتين، أما اليوم فقد جئت شاعرة بعزم يهزأ بثقل القيود ويستقصر الطريق. كنت أجيء مثل طيف طارق خائف، أما اليوم فقد جئت مثل امرأة حية تشعر بوجوب التضحية وتعرف قيمة الأوجاع، وتريد أن تحمي من تحبه من الناس الأغبياء ومن نفسها الجائعة. كنت أجلس حذاءك مثل ظل مرتجف، وقد أتيت اليوم لأريك حقيقتي أمام عشتروت المقدسة ويسوع المصلوب. أنا شجرة نابتة في الظل، وقد مددت أغصاني اليوم لكي ترتعش ساعة في نور النهار ... قد جئت لأودعك يا حبيبي، فليكن وداعنا عظيما وهائلا مثل حبنا، ليكن وداعنا كالنار التي تصهر الذهب لتجعله أشد لمعانا.
ولم تترك لي سلمى مجالا للكلام والاحتجاج، بل نظرت إلي وقد برقت عيناها، فأحاطت أشعتها بوجداني، واتشحت ملامح وجهها بنقاب من الهيبة والجلال، فبانت كمليكة توحي الصمت والتخشع. ثم ارتمت على صدري بانعطاف كلي ما عهدته فيها قبل تلك الساعة، وطوقت عنقي بزندها الأملس، وقبلت شفتي قبلة طويلة عميقة محرقة أيقظت الحياة في جسدي، وأثارت الأسرار الخفية في نفسي، وجعلت الذات الوضعية التي أدعوها «أنا» تتمرد على العالم بأسره لتخضع صامتة أمام الناموس العلوي الذي اتخذ صدر سلمى هيكلا ونفسها مذبحا. •••
ولما غربت الشمس وامحت أشعتها الأخيرة عن تلك الحدائق والبساتين انتفضت سلمى ووقفت في وسط الهيكل، ونظرت طويلا إلى جدرانه وزواياه، كأنها تريد أن تسكب نور عينيها على رسومه ورموزه، ثم تقدمت قليلا وجثت خاضعة أمام صورة يسوع المصلوب، وقبلت قدميه المكلومتين مرات متوالية، ثم همست قائلة: ها قد اخترت صليبك يا يسوع الناصري، وتركت مسرات عشتروت وأفراحها، قد كللت رأسي بالأشواك بدلا من الغار، واغتسلت بدمي ودموعي بدلا من العطور والطيوب، وتجرعت الخل والعلقم بالكأس التي صنعت للخمر والكوثر، فاقبلني بين تابعيك الأقوياء بضعفهم، وسيرني نحو الجلجلة برفقة مختاريك المستكفين بأوجاعهم المغبوطين على كآبة قلوبهم.
ثم انتصبت والتفتت نحوي قائلة: سأعود الآن فرحة إلى الكهف المظلم حيث تتراكض الأشباح المخيفة، فلا تشفق علي يا حبيبي ولا تحزن من أجلي؛ لأن النفس التي ترى ظل الله مرة لا تخشى بعد ذلك أشباح الأبالسة، والعين التي تكتحل بلمحة واحدة من الملأ الأعلى لا تغمضها أوجاع هذا العالم.
وخرجت سلمى من ذاك المعبد ملتفة بملابسها الحريرية، وتركتني حائرا ضائعا مفكرا مجذوبا إلى مسارح الرؤيا حيث تجلس الآلهة على العروش، وتدون الملائكة أعمال البشر، وتتلو الأرواح مأساة الحياة، وتترنم عرائس الخيال بأناشيد الحب والحزن والخلود.
ولما صحوت من هذه السكرة وكان الليل قد غمر الوجود بأمواجه القاتمة، وجدتني هائما بين تلك البساتين، مسترجعا إلى حافظتي صدى كل كلمة لفظتها سلمى، معيدا إلى نفسي حركاتها وسكناتها وملامح وجهها وملامس يديها، حتى إذا ما اتضحت لي حقيقة الوداع، وما سيجيء من ألم الوحشة ومرارة الشوق، جمدت فكرتي وتراخت خيوط قلبي، وعلمت للمرة الأولى أن الإنسان وإن ولد حرا يظل عبدا لقساوة الشرائع التي سنها آباؤه وأجداده، وأن القضاء الذي نتوهمه سرا علويا هو استسلام اليوم إلى مآتي الأمس، وخضوع الغد إلى ميول اليوم. وكم مرة فكرت منذ تلك الليلة إلى هذه الساعة بالنواميس النفسية التي جعلت سلمى تختار الموت بدلا من الحياة، وكم مرة وضعت نبالة التضحية بجانب سعادة المتمردين، لأرى أيهما أجل وأجمل، ولكنني للآن لم أفهم سوى حقيقة واحدة، وهي أن الإخلاص يجعل جميع الأعمال حسنة وشريفة، وسلمى كرامة كانت الإخلاص متأنسا وصحة الاعتقاد متجسدة.
المنقذ
ومرت خمسة أعوام على زواج سلمى ولم ترزق ولدا ليوجد بكيانه العلاقة الروحية بينها وبين بعلها، ويقرب بابتسامته نفسيهما المتنافرتين، مثلما يجمع الفجر أواخر الليل وأوائل النهار.
والمرأة العاقر مكروهة في كل مكان؛ لأن الأنانية تصور لأكثر الرجال دوام الحياة في أجساد الأبناء، فيطلبون النسل ليظلوا خالدين على الأرض.
إن الرجل المادي ينظر إلى زوجته العاقر بالعين التي يرى بها الانتحار البطيء، فيمقتها ويهجرها ويطلب حتفها كأنها عدو غدار يريد الفتك به، ومنصور بك غالب كان ماديا كالتراب وقاسيا كالفولاذ وطامعا كالمقبرة، وكانت رغبته بابن يرث اسمه وسؤدده تكرهه بسلمى المسكينة وتحول محاسنها في عينيه إلى عيوب جهنمية.
إن الشجرة التي تنبت في الكهف لا تعطي ثمرا، وسلمى كرامة كانت في ظل الحياة فلم تثمر أطفالا. إن البلبل لا يحوك عشا في القفص كيلا يورث العبودية لفراخه، وسلمى كرامة كانت سجينة الشقاء، فلم تقسم السماء حياتها إلى أسيرين. إن أزاهر الأودية هي أطفال يلدها انعطاف الشمس وشغف الطبيعة، وأطفال البشر أزاهر يلدها الحب والحنو، فسلمى كرامة لم تشعر قط بأنفاس الحنو وملامس الانعطاف في ذلك المنزل الفخم القائم على شاطئ البحر في رأس بيروت، ولكنها كانت تصلي في سكينة الليالي ضارعة أمام السماء لتبعث إليها بطفل يجفف بأصابعه الوردية دموعها، ويزيل بنور عينيه خيال الموت عن قلبها.
وقد صلت سلمى متوجعة حتى ملأت الفضاء صلاة وابتهالا، وتضرعت مستغيثة حتى بدد صراخها الغيوم، فسمعت السماء نداءها وبثت في أحشائها نغمة مختمرة بالحلاوة والعذوبة، وأعدتها بعد خمسة أعوام من زواجها لتصيرها أما وتمحو ذلها وعارها.
الشجرة النابتة في الكهف قد أزهرت لتثمر.
البلبل المسجون في القفص قد هم ليحوك عشا من ريش جناحيه.
القيثارة التي طرحت تحت الأقدام قد وضعت في مهب نسيم المشرق ليحرك بأمواجه ما بقي من أوتارها.
سلمى كرامة المسكينة قد مدت ذراعيها المكبلتين بالسلاسل لتقتبل موهبة السماء.
وليس بين أفراح الحياة ما يضارع فرح المرأة العاقر عندما تهيئها النواميس الأزلية لتصيرها أما. كل ما في يقظة الربيع من الجمال، وكل ما في مجيء الفجر من المسرة يجتمع بين أضلع المرأة التي حرمها الله ثم أعطاها.
لا يوجد نور أشد سطوعا وأكثر لمعانا من الأشعة التي يبعثها الجنين السجين في ظلمة الأحشاء.
وكان نيسان قد جاء متنقلا بين الروابي والمنحدرات عندما تمت أيام سلمى لتلد بكرها، وكأن الطبيعة قد وافقتها وعاهدتها، فأخذت تضع حمل أزاهرها وتلف بأقمطة الحرارة أطفال الأعشاب والرياحين.
مضت شهور الانتظار وسلمى تترقب الخلاص مثلما يترقب المسافر طلوع كوكب الصباح، وتنظر إلى المستقبل من وراء دموعها، فتراه مشعشعا، وقد طالما ظهرت الأشياء القاتمة متلمعة من خلال الدموع.
ففي ليلة وقد طافت أشباح الظلام بين تلك المنازل في رأس بيروت، انطرحت سلمى على مضجع المخاض والأوجاع، فانتصب الموت والحياة يتصارعان بجانب فراشها، ووقف الطبيب والقابلة ليقدما إلى هذا العالم ضيفا جديدا، وسكنت حركة عابري الطريق وانخفضت نغمة أمواج البحر، ولم يعد يسمع في ذلك الحي سوى صراخ هائل يتصاعد من نوافذ منزل منصور بك غالب ... صراخ انفصال الحياة عن الحياة ... صراخ محبة البقاء في فضاء اللاشيء والعدم ... صراخ قوة الإنسان المحدودة أمام سكينة القوى غير المتناهية ... صراخ سلمى الضعيفة المنطرحة تحت أقدام جبارين: الموت والحياة.
عندما لاح الفجر ولدت سلمى ابنا، ولما سمعت إهلاله فتحت عينيها المغلقتين بالألم، ونظرت حواليها، فرأت الأوجه متهللة في جوانب تلك الغرفة ... ولما نظرت ثانية رأت الحياة والموت ما زالا يتصارعان بقرب مضجعها، فعادت وأغمضت عينيها وصرخت لأول مرة: يا ولدي.
ولفت القابلة الطفل بالأقمطة ووضعته حذاء أمه، أما الطبيب فظل ينظر بعينين حزينتين نحو سلمى ويهز رأسه صامتا بين الدقيقة والأخرى.
وأيقظت نغمة الفرح بعض الجيران فجاؤوا بملابس النوم ليهنئوا الوالد بولده. أما الطبيب فبقي ينظر بعينين كئيبتين نحو الوالدة وطفلها.
وأسرع الخدم نحو منصور بك ليبشروه بقدوم وريثه ويملئوا أيديهم من عطاياه. أما الطبيب فلبث واقفا ينظر بعينين يائستين إلى سلمى وابنها.
ولما طلعت الشمس قربت سلمى ولدها من ثديها ففتح عينيه لأول مرة ونظر في عينيها واختلج وأغمضها لآخر مرة، فدنا الطبيب وأخذه من بين ذراعيها، وانسكبت على وجنتيه دمعتان كبيرتان ثم همس في سره قائلا: هو زائر راحل!
مات الطفل وسكان الحي يفرحون مع الوالد في القاعة الكبرى ويشربون نخبه ليعيش طويلا، وسلمى المسكينة تحدق إلى الطبيب وتصرخ قائلة: أعطني ولدي لأضمه، ثم تحدق ثانية فترى الموت والحياة يتصارعان بجانب سريرها.
مات الطفل ورنات الكؤوس تنمو وتتكاثر بين أيدي الفرحين بمجيئه.
ولد مع الفجر، ومات عند طلوع الشمس، فأي بشري يستطيع أن يقيس الزمن ليخبرنا ما إذا كانت الساعة التي تمر بين مجيء الفجر وطلوع الشمس هي أقصر من الدهر الذي يمر بين ظهور الأمم وتواريها؟
ولد كالفكر، ومات كالتنهدة، واختفى كالظل، فأذاق سلمى كرامة طعم الأمومة، ولكنه لم يبق ليسعدها ويزيل يد الموت عن قلبها.
حياة قصيرة ابتدأت بنهاية الليل وانقضت بابتداء النهار، فكانت مثل قطرة الندى التي تسكبها أجفان الظلام ثم تجففها ملامس النور.
كلمة لفظتها النواميس الأزلية، ثم ندمت عليها وأعادتها إلى سكينة الأبدية ...
لؤلؤة قذفها المد إلى الشاطئ ثم جرفها الجزر إلى الأعماق ...
زنبقة ما انبثقت من أكمام الحياة حتى انسحقت تحت أقدام الموت ...
ضيف عزيز ترقبت سلمى قدومه، ولكنه ما حل حتى ارتحل، وما فتح مصراعي الباب حتى اختفى.
جنين ما صار طفلا حتى صار ترابا ... وهذه حياة الإنسان بل حياة الشعوب، بل حياة الشموس والأقمار والكواكب ... وحولت سلمى عينيها نحو الطبيب، وتنهدت بشوق جارح ثم صرخت قائلة: أعطني ابني لأضمه بذراعي ... أعطني ولدي لأرضعه ...
فنكس الطبيب رأسه وقال والغصات تخرسه: قد مات طفلك يا سيدتي فتجلدي وتصبري لكي تعيشي بعده.
فصرخت سلمى بصوت هائل، ثم سكتت هنيهة، ثم ابتسمت ابتسامة فرح ومسرة، ثم تهلل وجهها وكأنها عرفت شيئا لم تكن تعرفه وقالت بهدوء: أعطني جثة ولدي ... قربه مني ميتا.
فحمل الطبيب الطفل الميت ووضعه بين ذراعيها، فضمته إلى صدرها وحولت وجهها نحو الحائط وقالت تخاطبه: قد جئت لتأخذني يا ولدي. جئت لتدلني على الطريق المؤدية إلى الساحل. ها أنا ذا يا ولدي فسر أمامي لنذهب من هذا الكهف المظلم.
وبعد دقيقة دخلت أشعة الشمس من بين ستائر النافذة، وانسكبت على جسدين هامدين منطرحين على مضجع تخفره هيبة الأمومة وتظلله أجنحة الموت.
فخرج الطبيب باكيا من تلك الغرفة، ولما بلغ القاعة الكبرى تبدلت تهاليل المهنئين بالصراخ والعويل. أما منصور بك غالب فلم يصرخ ولم يتنهد ولم يذرف دمعة ولم يفه بكلمة، بل لبث جامدا منتصبا كالصنم قابضا بيمينه على كأس الشراب. •••
في اليوم التالي كفنت سلمى بأثواب عرسها البيضاء، ووضعت في تابوت موشى بالمخمل الناصع. أما طفلها فكانت أكفانه أقمطته وتابوته ذراعي أمه وقبره صدرها الهادئ.
حملوا الجثتين في نعش واحد، ومشوا ببطء متلف يشابه طرقات القلوب في صدور المنازعين، فسار المشيعون وسرت بينهم، وهم لا يعرفونني ولا يدرون ما بي.
بلغوا المقبرة فانتصب المطران بولس غالب يرتل ويعزم، ووقف الكهان حوله ينغمون ويسبحون، وعلى وجوههم الكالحة نقاب من الخلو والغفول.
ولما أنزلوا التابوت إلى أعماق الحفرة همس أحد الواقفين قائلا: هذه أول مرة رأيت فيها جسدين يضمهما تابوت واحد ...
وقال آخر: كأن طفلها قد جاء ليأخذها وينقذها من مظالم زوجها وقساوته.
وقال آخر: تأملوا بوجه منصور بك فهو ينظر إلى الفضاء بعينين زجاجيتين كأنه لم يفقد زوجته وطفله في يوم واحد.
وقال آخر: غدا يزوجه عمه المطران ثانية من امرأة أخرى أوفر ثروة وأقوى جسما.
وظل الكهان يرتلون ويسبحون حتى فرغ حفار القبور من ردم الحفرة، فأخذ المشيعون إذ ذاك يقتربون واحدا واحدا من المطران وابن أخيه، يصبرونهما ويؤاسونهما بمستعذبات الكلام، أما أنا فبقيت واقفا منفردا وحدي، وليس من يعزيني على مصيبتي، كأن سلمى وطفلها لم يكونا أقرب الناس إلي.
عاد المشيعون وبقي حفار القبور منتصبا بجانب القبر الجديد وفي يده رفشه ومحفره، فدنوت منه وسألته قائلا: أتذكر أين قبر فارس كرامة؟
فنظر إلي طويلا ثم أشار نحو قبر سلمى وقال: في هذه الحفرة قد مددت ابنته على صدره، وعلى صدر ابنته مددت طفلها وفوق الجميع قد وضعت التراب بهذا الرفش.
فأجبته: وفي هذه الحفرة أيضا قد دفنت قلبي أيها الرجل، فما أقوى ساعديك!
ولما توارى حفار القبور وراء أشجار السرو، خانني الصبر والتجلد فارتميت على قبر سلمى أبكيها وأرثيها.
Page inconnue