2
الملعونة المقيد بها الآن، إذا لم يكن الرجل الذي يزرع البطاطس ويحملها إلى السوق أشد مني نفعا وأكثر نشاطا. وما أعظم الحنق! ما أعظم الخمول الكريه المنتشر في الجماعات المهذبة! فشد ما يدأبون متطلعين إلى التقدم عن الغير! وما أحقر وأجشع هذه العاطفة تتجلى في كل ما يعلمون! وهنا الآن سيدة وقد أصمت الناس بتحدثها عن أسرتها وما تملك من واسع الضياع، ولو شهدها غريب وسمع تفاخرها لحسبها مجنونا قد اختلط عقله بحيازة رتبة أو لقب غير منتظر. ومما يزيد في السخرية منها أنها مع ذلك كله ليست إلا كاتبة لنائب أعمال في الجهات المجاورة. وليت شعري كيف يتعلم الإنسان أن يكون محتقرا بهذه الدرجة!
كل يوم أيها الصديق أرى أكثر من ذي قبل سخف الحكم على الناس بقياسهم بنا؛ إذ إنه من الصعب أن أخفض من نيران تخيلاتي والعواصف الثائرة بفؤادي. إنني أدع الناس راضيا، يسلكون ما يختارون لأنفسهم من السبل، وأرغب في الوقت عينه أن أعمل طبق أميالي، وأن ما يسوءني جد الإساءة هو ذلك التميز المضحك بين أبناء البلد الواحد، أنا أعلم كل العلم أن عدم التساوي في الصفات ضرورة لازمة، كما أعلم النفع الذي يجره ذلك على نفسي، ولكنني لا أرضى بصد اليسير من السرور، تهبه هذه الدنيا المملوءة بالآلام.
تعرفت في إحدى جولاتي الأخيرة إلى فتاة تدعى الآنسة بوير، لطيفة، أنيسة المعشر، بسيطة اللباس، وديعة الأخلاق، رغم تكلف جيرانها وتمسكهم بالتقاليد المرسومة، وقد سر كل منا بمعرفة صاحبه لأول مرة التقينا فيها، ورغبت إليها قبل الافتراق أن تسمح لي بزيارتها في منزلها، فأجابتني إلى ذلك بأدب صادق، حتى أخذت أتحين الفرص الملائمة بفارغ الصبر، وهي ليست بابنة هذه البقاع، ولكنها نزيلتها منذ زمن قريب مع عمتها التي خلا وجهها من أي أثر للطف، حتى نفرت منها لأول ما رأيتها، ولكنني عاملتها بكل عناية مرضاة لابنة أخيها، وطالما وجهت إليها الحديث، وقد حزرت في أقل من نصف ساعة ما حدثتني عنه الآنسة من أن عمتها الكهلة ذات ثروة قليلة وعقل أقل، لا يسرها شيء غير رضاها الخفي بتعديد أسلافها وذكر مناقبهم، وأن مولدها الشريف واق لها، وهذا ما تحيط به نفسها من السياج، وأن لهوها الوحيد هو أن تقف في شرفتها، تطل باحتقار ملكي على كل الرءوس الوضيعة، في زعمها، التي تمر من تحتها. وكان لها في أيامها الغابرة بعض الحسن، ولكن عز حياتها قد بدد على مهل، وطالما لعب هواها بأفئدة الشبان، وكذلك كان عصرها الذهبي، فلما طاح جمالها اضطرت أن تقبل ضابطا طاعنا في السن، وترضخ لطبعه الكئيب، وكذلك كان «عصرها النحاسي»، وهي الآن أرمل مهملة، ولولا لطف ابنة أخيها لهجرت كل الهجر، وهذا ما قد يسمى ب «عصرها الحديدي»!
الرسالة الثالثة والأربعون
8 يناير عام 1772
ما أغرب هؤلاء الناس هنا؛ فهم يدرسون بلا انقطاع علم الأشكال، وقد يشغل كل وقتهم فكرهم عاما كاملا في مسألة لا تتعدى في الأهمية كيف يتقدمون نحو طرف المنضدة الأعلى مقعدا واحدا! وليس هذا الضرب من الناس بالخامل؛ لأنه يزيد دائما في عمله بأن يصرف إلى الضئيل التافه تلك العناية التي يجب توجيهها إلى الأجل من الأمور. اجتمع في يوم من الأسبوع الفائت فريق عظيم للنزهة على الثلوج بالزحافات، وما لبثوا حتى تفرق جمعهم فجأة بمشاحنة تافهة عن الأسبقية! ألا يعلم الحمقى أن المركز لا يخلق السعادة الحقة، وأن من يشغل أكبر المناصب لا يظهر في أغلب الأحايين عاملا واضحا؟ فكم من ملك يحكمه وزيره، وكم من وزير يقوده كاتم سره! ومن يعد العامل الرئيسي في مثل هذه الأحوال إنما هو الذي يستطيع بكفاءته السامية أن يجعل قوى الغير وأميالهم خاضعة لإرادته.
الرسالة الرابعة والأربعون
20 يناير
من هذا الكوخ الحقير الذي أسكنه، والذي كان لي خير ملجأ أحتمي به من عاصفة ثائرة جائرة، أخاطب الآن عزيزتي شارلوت.
Page inconnue