30 أغسطس
يا لي من شقي! فقد خادعت نفسي كثيرا، وارتكبت فعال الجهلاء! ما هذا الهيام الذي لا حد له؟ إنني لا أوجه صلاتي إلا إليها؛ فهي كل ما تصوره لي مخيلتي، وكل ما حوالي مهمل إلا ما كان ذا علاقة بها. إذا حضرت فما أسعد ساعاتي! ولكن إذا أرغمت على مفارقتها - كما يحصل كثيرا - وأنا أتأمل شكلها الجميل، مصغيا إلى صوتها الرخيم، آه يا صديقي! يغلبني السرور، فيخفق فؤادي ويضيع رشادي، وقد تنجدني الدموع، ثم، ثم أضطر متألما إلى مفارقتها، فأهيم على وجهي في المروج، أصعد الصخور الناتئة، واندفع بين الأدغال، ويقطع جسمي العوسج والشوك، وهكذا أخفض من عذابي بتغيير المنظر، وقد يضنيني الظمأ وينهكني العناء، فأنطرح على الأرض، وطالما استندت إلى شجرة معوجة، بقلب غاب مقفر ناء، في جوف الليل، وتحت أشعة القمر الفضية، فأخذني الكرى لشدة حاجتي إليه، حتى أيقظتني أشعة الشمس الذهبية.
أيتها السماء، إن أقبية السجن وأغلاله وملابسه الخشنة لا تعدل شيئا مما أحتمل الآن. الوداع! إن القبر وحده هو الذي يستطيع أن يضع حدا لويلاتي. القبر! ذلك المنزل الأمين ينتهي عنده كل بؤس وشقاء.
الرسالة الثامنة والثلاثون
3 سبتمبر
بلى، سأبرح المكان؛ لقد كنت مترددا، ولكنني مصمم الآن، والفضل لنصيحة صديقي القيمة. لقد قررت في الأسبوعين الماضيين مفارقتها، ولكنني الآن مصمم كل التصميم، لقد ذهبت منذ قليل إلى المدينة لزيارة صديقة ما، وألبرت ... وألبرت معها، وسأغادر هذا المكان في الحال.
الرسالة التاسعة والثلاثون
10 سبتمبر
وا لوعتاه أيها الصديق! ما كان أوحشها من ليلة تحملتها، ولكنها مرت، وأنا في انتظار الأشد والأسوأ. لن أراها قط قط، آه لو كان صديقي هنا، فارتميت بين ذراعيه الأمينين، وأطلقت العنان لفؤادي المفعم، ولتناولت من عطفه الشافي! إنني أبذل جهدي في حفظ نشاطي، وأحاول استعادة هدوئي وسكينتي، أنتظر بنافد الصبر ضوء الصباح؛ لتحملني جياد البريد التي طلبت إعدادها بعيدا عن هذا المكان، وشارلوت الآن نائمة مستريحة، ليت شعري أتدري أنها لن تراني أبدا، أبدا بعد الآن!
فارقتها فجأة، وكان لي من الثبات ما استطعت به كتمان ما اعتزمت عنها، مع أننا قطعنا بالحديث معا زهاء الساعتين، آه ما كان أبهى وأرق حديثها! وكان ألبرت قد وعد أن يلقاني في الحديقة مع شارلوت بعد تناول العشاء توا، وكنت واقفا على الشرفة تحت شجر الأبي فروة المظل، أعجب بالشمس الراحلة، فلم أرفع عنها عيني حتى غابت. في هذا المكان طالما اجتمعت بشارلوت - وكنت به ولوعا قبل تعارفنا - فكان استحسانها له جميل الوقع لدي عند بدء صداقتنا، وكما كانت رغباتنا متماثلة كان ودادنا متبادلا. والمسرح الذي يراه الإنسان من هذه الأشجار كبير واسع، ولكنني أذكر أنني وصفتها لك قريبا، وخصوصا تلك الشجيرات الباسقة التي تسد المنتهى، وكيف يظلم الطريق تدريجا بين أكتاف الغابة المجاورة، حتى ينتهي في مخبأ من الأشجار المظلة فيكون معتزلا جميلا. بل إنني لأذكر تلك الكآبة الحلوة، أحسست بها لأول مرة انتحيت فيها هذه الخلوة الهادئة، وكان ذلك في منتصف النهار، وربما كان إنذارا خفيا بأنها قد تكون في المستقبل مشهدا للألم والهناء.
Page inconnue