Les Chagrins du violoniste
أحزان عازف الكمان
Genres
واستطاع أخيرا أن يعثر على كرسي جلس عليه وهو يتمتم بأن يلطف الله بالعباد.
أما صالح فلم يطق الصبر وانفلت مسرعا إلى نقطة الشرطة الملحقة بقسم الحوادث والطوارئ، وتمكن بعد جهد من اختراق الزحام والوصول إلى الشاويش علام الذي يعرفه حق المعرفة وكم أكل معه العيش والملح في الأيام والليالي السابقة. أفهمه علام أن عليه الانتظار لأن الموضوع كبير والبهوات مشغولون. أفهمه كذلك أنهم ينتظرون مثله انصراف المسئول الخطير والاطمئنان على المصابين وأسر في أذنه بأسرار مهمة سرعان ما فقدت - ككل الأسرار في بلادنا - سريتها ولم تنعم بدفء الكتمان لحظات، ثم طمأنه في النهاية أن البيك العقيد ومعه البيك وكيل النيابة لن يكون لديهما وقت ولا جهد لإطالة التحقيق وسيخلصان المحضر بأسرع مما يتصور، ثم ابتسم مداعبا: هذا إن بقي لديهما وقت كاف ولم يؤجلا موضوعكم للصباح رباح.
رجع صالح يجر جسده النحيل الطويل جرا إلى زميله عبد الحق الذي يبدو أن النعاس غلب جفنيه وخلايا مخه فصدر عنه شخير خفيف. أيقظه من غفلته وهو يهتف به: يا بختك يا أخي، ويجيئك نوم وسط الزلزال؟
فتح عبد الحق عينيه المحمرتين وسأله دون أن يزايله الهدوء الذي عرفه عنه: وماذا فعلت أنت أيها الهمام وسط حقول الألغام؟ - عرفت كل شيء، هل فيك من يحفظ السر؟
ضحك عبد الحق ثم وضع كفه على فمه وهو يحس بالذنب الشديد: لم يبق سرا بعد أن وصل إلى طرف لسانك.
قال صالح متخذا سمت العارف ببواطن الأمور: الموضوع كبير وخطير، آخرة التسيب والفوضى وبعزقة المال بغير حساب.
سكت عبد الحق فاستطرد: ابن الوزير كسر له ضلعان وجاءه ارتجاج في المخ، أما البنتان ... - هل كان معه أحد؟ - طبعا طبعا، شباب هذه الأيام، الكاسيت العالي والشرب والمسخرة والاستفزاز، كان لا بد أن يحدث ما حدث. - وما للناس وما لهم؟ - يا أخي افهم، قلت لك استفزوا الناس بالمسخرة والضوضاء ، كانوا في الهرم بالقرب من مزرعة خضار فخرج عليهم الفلاحون بالنبابيت، والنتيجة ما سمعته الآن؛ الابن ربك هو العالم بحاله والبنتان واحدة كسر في العمود الفقري والأخرى كدمات في الوجه والصدر ونزيف حاد بين الفخذين. - ربنا يلطف بعبيده. - هذا هو كل ما عندك؟ - ماذا تقصد يا صالح؟ - هذه هي الحوادث وإلا فلا، لو كان من حظنا أن نسعفهم لكان الحال غير الحال. - يا أخي ارض بنصيبك واحمد الله. - له الحمد في كل الأحوال، لكن هل يرضى الأولاد؟ أحمد ابني يريد الجينز الأمريكاني وفاطمة مصرة على الجزمة البوت ماركة أديداس، وحسين، على فكرة، هل سيسأل أحد عن صاحبنا؟
قال عبد الحق في ضيق لم يستطع أن يخفيه: وماذا يهمك أنت؟ الله ورسوله أعلم.
أشار صالح بيده في سخط وأسند ظهره إلى الحائط وهو ينظر في غيظ إلى زميله وإلى الراقد تحت المفرش الأصفر ثم قال وهو ينغم صوته ويردد أغنية محفوظة: مفقود يا ولدي مفقووود. (وأنت في الحق مفقود في نظر الحياة والأحياء لا في نظر السائق وحده، لم يعرفك أحد ولم يحاول أحد أن يعرفك، لكن من ينكر أنك بالموت تكتمل الآن وتصبح مؤهلا للبهاء أو للفناء؟ وبعد أن تسلمتك الأيدي الخفية ووضعت على رأسك تاج العدم الخالد، هل تنداح من حدقتك النعسانة الحدائق والمرايا والقباب الذهبية لمدائن الغد المأمول والمستحيل، أم تراك تتدحرج كعادتك في آبار الشجون وأغوار السجون وأنهار الجنون التي تسحبك إلى قاع الحزن الأبدي أو الأبد المحزون؟
بالموت وبالصمت تكتمل الآن، تعرف أنك جئت منه ووصلت إليه، أن البداية والنهاية تتحدان فيه، أنه هو الذي كان وهو الذي سيبقى ويكون، الصمت أنت الآن والوحدة والكمد، والأرض نفسها مهجورة بلا سند، والحب لما لم يجد مكانا في صحارى القلب طار وابتعد، وحين ساد الجوع للحنان والأمان واستشرى الظلام واستبد، لم يبق غير القحط والبدد، لا شيء غير الموت غير الصمت لا أحد.)
Page inconnue