Les Chagrins du violoniste
أحزان عازف الكمان
Genres
ليتك تقبله الآن من روح إلى روح.
(كتبت هذه القصص بين عامي 1986 و2005م.)
الزلزال
كان من الضروري، بل من الحتمي، أن يكتب غريب محمد غريب هذا الخطاب إلى صديقه العزيز شفيق السيد الذي لم يره منذ وقت طويل. الغريب في أمر غريب أنه لم يكتف بأن يوقع عليه باسمه، بل أضاف إليه أسماء أخرى كان صديقه أو بعض أصحابه ومعارفه يطلقونها عليه في ليالي السمر الطويلة، بينما تطل من عيني صديقه ومن عيون الأصحاب نظرات تلمع وتخبو وتمتزج فيها السخرية بالحب بالإشفاق: الحكيم والمسيح والظل الباهت والصوت الخافت، والبومة والعنكبوت والفقمة، وأسماء وصفات أخرى لم يجد داعيا لذكرها، ووجه الضرورة التي دفعته لكتابة الخطاب أنه رأى صديقه الحبيب في الحلم وأخذ يعاتبه ويجادله جدالا أشد مما فعل في لقائهما الأخير الذي لا يذكر إن كان قد تم قبل أسابيع أو شهور أو سنين، وسنصرف النظر الآن عن هذا اللقاء الأخير وموعده البعيد أو القريب، ونقتصر على الإشارة الموجزة للجدل الذي اشتبكا فيه بالأفكار والكلمات بأعنف مما يشتبك اليوم أبطال أفلام العنف والكاراتيه وغيره من فنون الصراع. أكد غريب لصديقه أن الزلزال قادم لا شك عنده في ذلك، وشرح الأسباب والمبررات شرحا مستفيضا سنجده يكرره في خطابه؛ لذلك ينبغي علينا أن نبدأ بقراءة الخطاب نفسه قبل أن نعرف شيئا عن مصيره:
لا أملك إلا أن أكتب إليك يا شفيق بعد أن تعذر علي لقاؤك والاتصال بك. أصبح هذا أمرا حتميا بعد أن صور لي الوهم - الذي ظللت أجتره حتى كاد أن يبلغ مبلغ اليقين - أنك غاضب علي أو في نفسك شيء مني. أجل أجل. منذ تلك الليلة التي تحدثنا فيها عن الزلزال والكوارث والبراكين. قلت إن الموت قادم لا مفر منه، وكل الدلائل تؤكد أننا سنلقى مصير الفيران التي تهرب من السفينة الغارقة لتغرق في قاع البحر، أو سنموت ميتة النائمين الذين يدخل عليهم اللصوص في الليل ويذبحونهم بالسكاكين. صرخت بأن الزلزال قادم، وأنني أحس بعلاماته ونذره وإشاراته، وإذا كان الموت هو المصير المحتوم فلنمت مفتوحي الأعين بشرف وكبرياء. ضحكت طويلا واتهمتني بالرومانسية المريضة والتمسح بالمتنبي وعداوة البشر وكأن الزلزال الذي روع مدينتنا الكبرى وبعض المدن الصغيرة والقرى البائسة لم يكفني فراح خيالي السقيم يتوهم أفظع ألوان الدمار. أكدت لك، وأنت تنظر إلي مذهولا لأنني رفعت صوتي عاليا وضربت مائدة العشاء الذي دعوتني إليه بكفي ضربة مدوية: كيف أصدق أن صديقي لا يفهمني؟ أنا أقصد الزلزال الآخر؛ الزلزال الذي يرج العقول لا الأجسام، يهز الوعي النائم لا البيوت الآيلة للسقوط، يخرج المخلصين والصادقين من تحت رماد الجحود والإهمال والتجاهل، حتى الكذابين والأدعياء والأبطال الجوف وسائر المعذبين في الأرض - كما تعودت أن تسميهم - لا أتمنى أن تسقط على رءوسهم ذرة تراب ولا غبار واحدة. إنه زلزال آخر يا صديقي. قلت وأنت تلوي فمك بامتعاض وتنفث دخان سيجارتك في وجهي: نريد النور والأمل ونريد البناء والعمل بينما تتكلم أنت وغيرك عن الزلزال؟ وضعت وجهي بين كفي لأكتم صوتي الذي ارتفع فجأة: ومن منا لا يريد النور والأمل والإنسان الجديد؟ من منا لا يعمل له؟ هل عشنا وشقينا إلا من أجله؟ وكيف تنتظر أن يأتي بغير زلزال؟ لنختلف حول طبيعته، لكن كيف نختلف حول ضرورته؟ سكت وأدرت وجهك للحائط ورحت تحدق في لوحة راهب بوذي مستغرق في التأمل والصمت.
رحت أؤكد لك أن الزلزال قادم لا محالة، وأخذت أتلو عليك الحجج والبراهين كأي محام يرفع صوته أمام قضاة مصابين بالصمم والخرس والعمى:
عندما تتربع الذئاب على عروش الغابة وتصبح الأسود طعاما للنمل والذباب والضباع والكلاب؛ فلا بد أن يحدث الزلزال.
وعندما يعظ اللص بالأمانة، ويمتدح الفاجر الفضيلة، ويدعو الخائن إلى الوفاء، ويمجد القاتل البراءة والشرف، ويثرثر الكذاب عن الصدق، والمزور عن النزاهة، ويصبح الكل عدوا للكل والجميع مسلطين على الجميع والكلاب تتصارع على الغنيمة التعسة العاجزة؛ فكيف لا يأتي الزلزال؟
وحين يبشر الجراد بالخضرة والربيع، ويرتدي المسخ زي البطل والقديس، ويخطب الأبكم ويغني الأخرس وتسيل أنهار العلم والحكمة من أفواه الجهلاء والحمقى والبلهاء؛ فحتم أن يحدث الزلزال.
وكلما عم الضجيج واستشرت الضوضاء حتى صمت الآذان وعطلت العقول وجعلت الأعلى صوتا هو السيد المسموع ومن لا يظهر في الإعلان والإعلام فهو غير موجود؛ هل تتوقع نبوءة أصدق على اقتراب الزلزال؟
Page inconnue