بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
قال الشيخ الإمام العالم أبو الفرج عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ الصالح شهاب الدين أحمد بن رجب رحمه الله تعالى:
الحمد الله الذي أسكن عباده هذه الدار وجعلها لهم منزلة سفر من الأسفار وجعل الدار الآخرة هي دار القرار وجعل بين الدنيا والآخرة برزخا يدل على فناء الدنيا باعتبار وهو في الحقيقة إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار فسبحان من يخلق ما يشاء ويختار ويرفق بعباده الأبرار في جميع الأقطار وسبق رحمته بعباده غضبه وهو الرحيم الغفار.
أحمده على نعمه الغزار وأشكره وفضله على من شكر مدرار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي المختار الرسول المبعوث بالتبشير والإنذار ﷺ وعلى آله وصحبه صلاة تتجدد بركاتها بالعشي والأبكار.
أما بعد فإن الله ﷾ خلق بني آدم للبقاء لا للفناء وإنما ينقلهم بعد خلقهم من دار إلى دار كما قال ذلك طائفة من السلف الأخيار منهم بلال بن سعد وعمر بن عبد العزيز ﵄ فأسكنهما في هذه الدار ليبلوهم أيهم أحسن عملا ثم ينقلها إلى دار البرزخ فيحبسهم هنالك إلى أن يجمعهم يوم القيامة ويجزي كل عامل جزاء عمله مفصلا هذا مع أنهم في دار البرزخ بأعمالهم مدانون مكافؤون فمكرمون بإحسانهم وبإساءتهم مهانون قال الله ﷾: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠٠] قال مجاهد: البرزخ الحاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا وعنه قال هو ما بين الموت إلى البعث.
قال الحسن: هي هذه القبور التي بينكم وبين الآخرة.
وعنه قال أبو هريرة هي هذه القبور التي تركضون عليها لا يسمعون الصوت
1 / 5
وقال عطاء الخراساني: البرزخ مدة ما بين الدنيا والآخرة.
وصلى أبو أمامة على جنازة فلما وضعت في لحدها قال أبو أمامة هذا برزخ إلى يوم يبعثون.
وقيل للشعبي: مات فلان قال: ليس هو في الدنيا ولا في الآخرة هو في برزخ وسمع رجلا يقول مات فلان أصبح من أهل الآخرة قال لا تقل من أهل الآخرة ولكن قل من أهل القبور.
وقد سألني بعض الإخوان الصالحين أن أجمع لهم ما ورد من أخبار البرزخ وأحوال الموتى الذاهبين فإن في سماع ذلك للقلوب عظه وهو يحدث لأهل الغفلة الأنتباه واليقظة فاستخرت الله تعالى في جمع ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة وأخبار سلف الأمة وما ورد في الاتعاظ بالقبور وكلام الحكماء من منظوم ومنثور كل ذلك على وجه الاختصار لأن استيعاب ذلك يوجب الملل للإطالة والإكثار.
والله المسؤول أن يجعلنا ممن يبادر الفوت ويراقب الموت ويتأهب للرحلة قبل الممات وينتفع بما سمع من العظات بمنه وكرمه.
وقد قسمته ثلاثة عشر بابا والله المسؤول أن يجعله عملا خالصا صوابا:
الباب الأول: في ذكر حال الميت عند نزوله قبره وسؤال الملائكة له وما يفسح له في قبره أو يضيق عليه وما يرى من منزله في الجنة أو في النار.
الباب الثاني: في ذكر كلام القبر عند نزوله إليه.
الباب الثالث: في اجتماع الموتى إلى الميت عند موته وسؤالهم إياه.
الباب الرابع: في اجتماع أعمال الميت إليه من خير أو شر ومدافعتها عنه وكلامها له وما ورد من تحسر الموتى على انقطاع أعمالهم ومن أكرم منهم ببقاء عمله عليه.
الباب الخامس: في عرض منازل أهل القبور عليهم من الجنة أو النار بكرة وعشيا.
الباب السادس: في ذكر عذاب القبر ونعيمه.
الباب السابع: فيما ورد من تلاقي أرواح الموتى في البرزخ وتزاورهم.
1 / 6
الباب الثامن: فيما ورد من سماع الموتى كلام الأحياء ومعرفتهم بمن يسلم عليهم ويزورهم ومعرفتهم بحالهم بعد الموت وبحال أقاربهم في الدنيا.
الباب التاسع: في ذكر محل أرواح الموتى في البرزخ.
الباب العاشر: في ذكر القبور وظلمتها على أهلها وتنويرها عليهم بدعاء الأحياء وما ورد من حاجة الموتى إلى دعاء الأحياء وانتظارهم لذلك.
الباب الحادي عشر: في ذكر زيارة الموتى والاتعاظ بهم.
الباب الثاني عشر: في استحباب تذكر القبور والتفكر في أحوالهم وذكر أحوال السلف في ذلك.
الباب الثالث عشر: في ذكر كلمات منتخبة من كلام السلف الصالح في الاتعاظ بالقبور وما ورد عنهم في ذلك من منظور ومنثور.
وسميته كتاب "أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور".
والله المسؤول أن يجعله خالصا لوجهه مقربا إليه نافعا في الدنيا والآخرة لجامعه ومن وقف عليه إنه أكرم المسؤولين وأعظم المأمولين.
1 / 7
الباب الأول: في ذكر حال الميت عند نزوله قبره وسؤال الملائكة له وما يفسح له في قبره أو يضيق عليه وما يرى من منزله في الجنة أو النار
قال الله تعالى ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: ٢٧] .
وخرجا في الصحيحين١ من حديث البراء بن عازب ﵁ عن النبي ﷺ قال: " ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ نزلت في عذاب القبر".
زاد مسلم: يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله ونبي محمد فذلك قوله ﷾: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ .
في رواية للبخاري قال: إذا أقعد العبد المؤمن في قبره أتي ثم شهد.
أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ . وخرج الطبراني من حديث البراء بن عازب عن النبي ﷺ قال: "يقال للكافر من ربك فيقول لا أدري فهو تلك الساعة أصم أعمى أبكم فيضرب بمرزبة لو ضرب بها جبل صار ترابا فيسمعها كل شيء غير الثقلين".
قال: وقرأ رسول الله ﷺ: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ .
وخرج أبو داود من حديث المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب: عن النبي ﷺ قال: "إنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له من ربك؟ وما
_________
١ رواه البخاري "ح ١٣٩٦"، ومسلم "ح ٢٨٧١"
1 / 8
دينك؟ ومن نبيك؟ " ١.
وفي رواية له قال: "ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول ربي الله فيقولان: ما دينك فيقول ديني الإسلام فيقولانك له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقولك هو رسول الله ﷺ فيقولان: له وما يدريك فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت".
وفي رواية له: فذلك قوله ﷿ ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [إبراهيم: ٢٧] .
قال: " فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة وألبسوه من الجنة قال فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره".
قال: وذكر الكافر قال: "وتعاد روحه إلى جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان: له من ربك فيقول: هاه هاه لا أدري فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار قال فيأتيه من حرها وسمومها".
قال: "ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه".
وفي رواية له: "ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار ترابا قال فيضربه ضربه يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير ترابا قال ثم تعاد فيه الروح".
وخرجه النسائي وابن ماجه مختصرا. وخرجه الإمام أحمد بسياق مطول والحاكم وقال: على شرط الشيخين.
وفي رواية للإمام أحمد: "ثم يقيض له أعمى أبكم أصم في يده مرزبة لو ضرب بها
_________
١ صحيح أخرجه احمد "٤/٢٨٧، ٢٨٨، ٢٩٥، ٢٦٦"، وأبو داود "ح ٤٧٥٣"، وعبد الرزاق في مصنفه "ح ٦٧٣٧" مطولا، والنسائي "ح ٢٠٠٠"، وابن ماجة "ح ١٥٤٨" وهو في المشكاة "ح ١٦٣٠" وصححه الشيخ الألباني.
1 / 9
جبل كان ترابا فيضربه ضربه فيصير ترابا، ثم يعيده الله كما كان فيضربه ضربه أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين".
قال البراء بن عازب: "ثم يفتح له باب إلى النار ويمهد له من فرش النار" كذا خرجه من رواية يونس بن خباب عن المنهال بن عمرو.
وخرجه ابن منده من هذا الوجه أيضا وزاد في حديثه: "لو اجتمع عليها الثقلان ليقلبوها لم يستطيعوا فيضربه بها ضربة يصير ترابا وتعاد فيه الروح فيضربه بين عينيه ضربة فيسمعها من على الأرض ليس الثقلين فينادي مناد أن افرشوا له لوحين من نار وافتحوا له بابا إلى النار".
وخرجه أيضا من طريق عيسى بن المسيب عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب عن النبي ﷺ وقال فيه في حق المؤمن: "فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما ويفحصان الأرض بأشعارهما فيجلسانه".
وذكر في الكافر مثل ذلك وزاد فيه: أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف.
وقال: فيضربانه بمرزبة من حديد لو اجتمع عليهما ما بين الخافقين لم يقدروا على قلبها.
وخرجاه في الصحيحين١، من حديث قتادة عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا أتاه الملكان فيقعدانه فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل محمد ﷺ فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله ﷺ فيقال له أنظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة قال فيراهما جميعا".
قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره مد بصرة ثم رجع إلى حديث أنس قال وأما المنافق والكافر فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد ضربه فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين.
_________
١ الحديث أخرجه البخاري "ح ١٣٣٨"، ومسلم "ح ٢٨٧٠".
1 / 10
وخرجه أبو داود١ بزيادات أخر منها: إن المؤمن يقال له: " ما كنت تعبد فإن الله هداه قال كنت أعبد الله فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول هو عبد الله ورسوله فما يسأل عن شيء غيرها".
وزاد فيه أيضا: "فيقول دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي فيقال له: اسكن".
وذكر في الكافر: أنه يسأل عما كان يعبد ثم عن هذا الرجل.
وخرجا في الصحيحين٢ من حديث أسماء بنت أبي بكر أن النبي ﷺ قال في خطبته يوم كسفت الشمس: "ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدجال يؤتى أحدكم فيقال له ما علمك بهذا الرجل فأما المؤمن أو الموقن فيقول محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا فيقال له نم صالحا فقد علمنا إن كنت لمؤمنا، وأما المنافق والمرتاب فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته".
وخرجه الإمام أحمد٣ ولفظه: "ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم ويسأل الرجل ما كنت تقول وما كنت تعبد فإن قال: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ويصنعون شيئا فصنعته قيل له: أجل على شك عشت وعليه مت هذا مقعدك من النار وإن قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قيل له على اليقين عشت وعليه مت هذا مقعدك من الجنة".
وخرج الترمذي وابن حبان في صحيحه٤ من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "إذا قبر الميت - أو قال: أحدكم - أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول ما كان المنكر والآخر النكير فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول ما كان يقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول هذا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ذراعا ثم ينور له فيه ثم يقال له
_________
١ هي عند أبي داود برقم "٤٧٥١".
٢ الحديث أخرجه البخاري "ح ٨٦"، ومسلم "ح ٩٠٥".
٣ أخرجه احمد في المسند "٦/٣٥٤، ٣٥٥".
٤ أخرجه الترمذي "ح ١٠٧٧"، وابن حبان "ح ٧٨٠/ زوائد".
1 / 11
نم فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك وإن كان منافقا قال سمعت الناس يقولان شيئا فقلت مثله لا أدري فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه" ١.
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة أيضا عن النبي ﷺ قال: "إن الميت يصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا مشغوف ثم يقال له فيم كنت فيقول كنت في الإسلام فيقال له ما هذا الرجل فيقول محمد رسول الله ﷺ جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه فيقال له هل رأيت الله فيقول ما ينبغي لأحد أن يرى الله فيفرج له فرجه قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضا فيقال له انظر إلى ما وقاك الله ثم يفرج له فرجه قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له هذا مقعدك ويقال له على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله تعالى ويجلس الرجل السوء في قبره فزعا مشغوفا فيقال له فيم كنت فيقول لا أدري فيقال له ما هذا الرجل فيقول سمعت الناس يقولون قولا فقلته فيفرج له فرجه قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له: أنظر إلا ما صرف الله عنك ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضا فيقال له هذا مقعدك على الشك كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله تعالى".
وخرج الطبراني من حديث أبي هريرة ﵁ قال: شهدنا مع رسول الله ﷺ جنازة فلما فرغ من دفنها وانصرف الناس قال نبي الله ﷺ: إنه الآن يسمع خفق نعالهم أتاه منكر ونكير أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهما مثل صياصي البقر وأصواتهما مثل الرعد فيجلسانه فيسألانه ما كان يعبد ومن كان نبيه فإن كان ممن يعبد الله قال كنت أعبد الله ونبيي محمد ﷺ جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا فذلك قول الله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ [إبراهيم: ٢٧]، الآية فيقال له: على اليقين حييت وعليه مت وعليه تبعث ثم يفتح له باب إلى الجنة ويوسع له في حفرته وإن كان
_________
١ أخرجه أحمد في مسند "٦/١٣٩، ١٤٠" ولكنه من حديث عائشة، وابن ماجة "ح ٤٢٦٨" وصححه البوصيرى في زوائده، والألباني في صحيح ابن ماجة.
1 / 12
من أهل الشك قال لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فيقال له على الشك حييت وعليه مت وعليه تبعث ثم يفتح له باب النار ويسلط عليه عقارب وتنانين لو نفخ أحدهم في الدنيا ما أنبتت شيئا تنهشه وتؤمر الأرض فتنضم حتى تختلف أضلاعه".
وخرج الإمام أحمد من حديث جابر١ عن النبي ﷺ قال: "إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا دخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه جاءه ملك شديد الانتهار فيقول له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول المؤمن: إنه عبد الله ورسوله فيقول له الملك: أنظر إلى مقعدك من النار قد أنجاك الله منه وأبدلك بمقعدك الذي ترى من الجنة فيراهما كليهما فيقول المؤمن: دعوني أبشر أهلي فيقال له أسكن".
وأما المنافق فيقعد إذا تولى عنه أصحابه وأهله فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل قال: لا أدري أقول ما يقول الناس فيقال: لا دريت هذا مقعدك الذي كان لك في الجنة أبدلك الله به مقعدك في النار.
قال جابر: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "يبعث كل عبد على ما مات عليه المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه" ٢.
وأخرج ابن ماجه من حديث جابر عن النبي ﷺ قال: "إذا دخل الميت القبر مثلت الشمس عند غروبها فيجلس يمسح عينيه ويقول دعوني أصلي" ٣.
وخرج الإمام أحمد٤ أيضا من حديث عائشة عن النبي ﷺ قال: "وأما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تسألون فإذا كان الرجل الصالح أجلس في قبره غير فزع ولا مشغوف ثم يقال له فيم كنت فيقول في الإسلام فيقال ما هذا الرجل الذي كان فيكم فيقول محمد رسول الله ﷺ جاءنا بالبينات والهدى من عند الله فصدقناه فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضا فيقال له: أنظر إلى ما وقاك الله منه،
_________
١ صحيح: أخرجه أحمد في المسند "٣/٣٤٦".
٢ الحديث أخرجه مسلم "ح٢٨٧٨" بلفظ "يبعث كل عبد على ما مات عليه".
٣ حسن: أخرجه ابن ماجه "ح ٤٢٧٢" وحسنه البوصيرى في زوائده، والألباني في صحيح ابن ماجة.
٤ أخرجه احمد "٦/١٤٠".
1 / 13
ثم يفرج له فرجه قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال هذا مقعدك منها ويقال له على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله وإن كان الرجل السوء أجلس في قبره فزعا مشغوفا فيقال له فيم كنت فيقول لا أدري فيقال له ما هذا الرجل الذي كان فيكم فيقول سمعت الناس يقولون قولا فقلت كما قالوا فيفرج له فرجه إلى الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له أنظر إلى ما صرف الله عنك ثم يفرج له فرجه قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضا ويقال له هذا مقعدك منها على الشك كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله ثم يعذب".
وخرج الإمام أحمد أيضا من حديث أبي سعيد الخدري١ قال: شهدنا مع رسول الله ﷺ جنازة فقال رسول الله ﷺ: "يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا دفن الإنسان وتفرق عنه أصحابه جاءه ملك في يده مطراق فأقعده قال ما تقول في هذا الرجل فإن كان مؤمنا قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فيقول له صدقت ثم يفتح له بابا إلى النار فيقول هذا كان منزلك لو كفرت بربك فأما إذا آمنت بربك فهذا منزلك فيفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض إليه فيقول له أسكن ويفسح له قبره وإن كان كافرا أو منافقا فيقول له: ما تقول في هذا الرجل فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فيقول: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقول: هذا منزلك لو آمنت بربك فأما إذا كفرت به فإن الله ﷿ أبدلك به هذا ويفتح له باب إلى النار ثم يقمعه قمعة بالمطراق يسمعها خلق الله ﷿ كلهم غير الثقلين" فقال بعض القوم: يا رسول الله ما أحد يقوم عليه ملك بيده مطراق إلا هيل عند ذلك فقال رسول الله ﷺ: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [إبراهيم: ٣٧] .
وخرج أبو بكر في كتاب "السنة" من حديث عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ أنه قال: "كيف أنت يا عمر إذا كنت من الأرض في أربعة أذرع في ذراعين فرأيت منكرا ونكيرا"؟ قلت: يا رسول الله وما منكر ونكير؟ قال: "فتانا القبر يبحثان الأرض بأنيابهما ويطآن في أشعارهما أصواتها كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف ومعهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل منى لم يقدروا على رفعها وهي أيسر من عصاي هذه" قال: قلت يا رسول الله وأنا على حالي هذه قال: "نعم" فقلت: إذا أكفيكهما.
_________
١ صحيح: أخرجه احمد في المسند "٣/٣، ٤".
1 / 14
وفي رواية أيضا "فامتحناك فإن التويت ضرباك ضربه صرت رمادا" وفي إسناده ضعف.
وخرجه الإسماعيلي من وجه آخر فيه ضعف أيضا عن عمر عن النبي ﷺ نحوه وزاد فيه: "يأتيان الرجل في صورة قبيحه يطآن على شعورهما ويحفران الأرض بأنيابهما وزاد فيه يقولان له: من ربك فإن كان مسلما يقول: ربي الله وإن كان فاجرا فيقول: لا أدري فيضربانه ضربه لو كان جبلا صار ترابا فيصيح صيحة ما يبقى شيء إلا سمعها إلا الثقلين الجن والإنس فذلك قوله ﷾: ﴿وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ [البقرة: ١٥٩] .
وقد روى حديث عمر هذا من وجوه أخر مرسلة.
وخرج الإمام أحمد وابن حيان في صحيحه١، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ ذكر فتاني القبر فقال عمر: أترد إلينا عقولنا يا رسول الله فقال رسول الله ﷺ: "نعم كهيئتكم اليوم" فقال عمر: بفيه الحجر".
وخرج أبو داود عن عثمان بن عفان٢ ﵁ قال: كان النبي ﷺ إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل".
وفي حديث يونس عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب عن النبي ﷺ أنه ذكر سؤال المؤمن في قبره وإن الملك ينتهره قال وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فذكر قوله تعالى ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [إبراهيم: ٢٧] الآية أخرجه الإمام أحمد٣.
وكذا رواه جرير عن الأعمش عن المنهال وفي حديثه: "إن المؤمن يقول ذلك ثلاث مرات ثم ينتهرانه انتهارة شديدة وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن".
_________
١ صحيح: أخرجه أحمد في المسند "٢/١٧٢"، وابن حبان "ح/٧٧٨/زوائد" وصحح إسناده العلامة احمد شاكر، قال ﵀ في تحقيق المسند "٦/١٧٥": وقول عمر "بفيه الحجر" مما أعطاه الله بفضله ومنه، ومن قوة العقل، وثبات الجنان، وصادق الإيمان، وقوة الحجة، ثقة بربه، واستمساكا بالعروة الوثقى، ﵀ ورضي عنه، وآتانا من فضله ورحمته بعض ما أوتى عمر" أ – هـ.
٢ صحيح: أخرجه أبو داود "ح ٣٢٢١"، وفي المشكاة برقم "١٣٣" وصححه العلامة الألباني هناك.
٣ عنده في المسند "٤/٢٢٦" وتقدم تخريجه مفصلا.
1 / 15
ورواه أبو عوانة، عن الأعمش وفي حديثه: "ويأتيه ملكان شديدا الانتهار" وذلك في حق الكافر والمؤمن.
وقد روى عن مجاهد: أن الموتى كانوا يفتنون في قبورهم سبعا فكانوا يستحبون أن يطعم عنهم تلك الأيام.
وعن عبيد بن عمير قال: المؤمن يفتن سبعا والمنافق أربعين صباحا.
وقال الإمام أحمد: أخبرنا يزيد بن هارون عن المسعودي عن العلاء بن الشخير حدثنا بعض حفدة أبي موسى الأشعري أن أبا موسى الأشعري أوصاهم قال إذا حفرتم فأعمقوا قعره أما أني والله لأقول لكم ذلك وأني لأعلم إن كنت من أهل طاعة الله ليفسحن لي في قبري ولينور لي فيه ثم ليفتحن لي باب مساكني في الجنة فما أنا بمساكني من داري هذه بأعلم من مساكني منها ثم ليأتيني من روحها وريحتها وريحانها ولئن كنت من أهل المنزلة الأخرى ليضيقن علي قبري وليهدمن من على الأرض وليفتحن الله إلي باب مساكني من النار فما أنا بمساكني من داري هذه بأعلم من مساكني منها ثم ليأتيني من شرها وشرورها ودخانها.
وروى المسعودي عن عبد الله بن المخارق عن أبيه قال: قال عبد الله يعني ابن مسعود: إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره فيقال له من ربك ما دينك من نبيك قال فيثبته الله تعالى فيقول ربي الله ديني الإسلام ونبي محمد ﷺ فيوسع له في قبره ويفرج له فيه ثم قرأ عبد الله ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ [إبراهيم: ٢٧] .
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا أحمد بن بحير حدثنا بعض أصحابنا قال مات أخ لي فرأيته في النوم فقلت له ما حالك حين وضعت في قبرك قال أتاني آت بشهاب من نار فلولا أن داعيا دعا لي لرأيت أنه سيضربني.
فصل
وقد أطلع الله من شاء من عباده على كثير مما ورد في هذه الأحاديث حتى سمعوه وشاهدوه عيانا ونحن نذكر بعض ما بلغنا من ذلك.
روى شبابه بن سوار حدثنا المغيرة بن مسلم، عن حصين، عن عبد الله بن عبيد
1 / 16
الأنصاري، قال كنت ممن دفن ثابت بن قيس بن شماس وكان أصيب يوم اليمامة فلما أدخلناه القبر سمعناه يقول محمد رسول الله أبو بكر الصديق عمر الشهيد عثمان الرحيم فنظرنا فإذا هو ميت.
خرجه أبو عبد الله بن مجلز عن محمد بن عبد الله الأصم عن شبابة بن سوار ابن محمد وخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت عن خلف البزار عن خالد الطحان عن حصين به ولفظه إن رجلا من قتلى مسيلمة تكلم فقال محمد رسول الله أبو بكر الصديق عثمان اللين الرحيم.
وخرجه ابن أبي الدنيا من طريق يزيد بن طريف قال مات أخي فلما ألحدوه وانصرف الناس وضعت رأسي على قبره فسمعت صوتا ضعيفا أعرف أنه صوت أخي وهو يقول الله فقال له الآخر فما دينك قال الإسلام.
ومن طريق العلاء بن عبد الكريم قال: مات رجل وكان له أخ ضعيف البصر قال أخوه فدفناه فلما انصرف الناس وضعت رأسي على القبر فإذا أنا بصوت من داخل القبر يقول من ربك ومن نبيك فسمعت صوت أخي وهو يقول الله ربي ومحمد ﷺ نبي قال الآخر فما دينك قال الإسلام.
وخرجه في كتاب القبور بلفظ آخر وهو قال فإذا أنا بصوت داخل القبر يقول من ربك ومن نبيك فسمعت أخي وعرفته وعرفت صوته قال الله ربي ومحمد نبيي ثم ارتفع شبه سهم من داخل القبر إلى أذني فاقشعر جلدي وانصرفت.
وقال أبو الحسن بن البراء العبدي في كتاب "الروضة" حدثني الفضل بن سهل الأعرج قال أحمد بن نصر حدثني رجل رفعه إلى الضحاك قال توفي أخ لي فدفن قبل أن ألحق جنازته فأتيت قبره فاستمعت عليه فإذا هو يقول ربي الله والإسلام ديني.
وروينا من طريق مزداد بن جميل قال قال أبو المغيرة ما رأيت مثل المعافري بن عمران بعدما دفن فسمعته وهو يلقن في قبره وهو يقول لا إله إلا الله فيقول المعافى: لا إله إلا الله.
وخرج ابن أبي الدنيا في كتاب "القبور" من حديث مرثد بن حوشب قال كنت جالسا عند يوسف بن عمرو وإلى جانبه رجل كأن شق وجهه صفحة من حديد، فقال
1 / 17
له يوسف حدث مرثدا بما رأيت قال كنت شابا قد أتيت هذه الفواحش فلما وقع الطاعون قلت أخرج إلى ثغر من هذه الثغور ثم رأيت أن أحفر القبور فإذا بي لليلة بين المغرب والعشاء قد حفرت قبرا وأنا متكئ على تراب قبر آخر إذا أقبل بجنازة رجل حتى دفن في ذلك القبر وسوينا عليه التراب فأقبل طائران أبيضان من المغرب مثل البعيرين حتى سقط أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ثم أثاراه ثم تدلى أحدهما في القبر والآخر على شفيره قال فجئت فجلست على شفير القبر وكنت رجلا لا يملأ جوفي شيء قال فضرب بيده إلى حقوه فسمعته يقول ألست الزائر أصهارك في ثوبين ممصرين تسحبهما كبرا تمشي الخيلاء فقال أضعف من ذلك فضربه ضربه امتلأ القبر حتى فاض ماء أو دهنا قال ثم عاد فعاد عليه مثل القول الأول حتى ضربه ثلاث ضربات كل ذلك يقول له ويذكر أن القبر يفيض ماء أو دهنا قال رفع رأسه فنظر إلى فقال أنظر أين هو جالس أبلسه الله قال ثم ضرب جانب وجهي فسقطت فمكثت ليلتي حتى أصبحت قال ثم أخذت أنظر إلى القبر فإذا هو على حاله وأذكر جلوسي وذكر نحو هذا أو شبهه وكذلك شواهد اتساع اللحد وانفراجه.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "المختصرين" بإسناده عن أبي غالب صاحب أبي أمامة أن فتى بالشام حضره الموت فقال لعمه أرأيت لو أن الله دفعني إلى والدتي ما كانت صانعة بي قال إذا والله تدخلك الجنة فقال والله لله أرحم بي من والدتي فقبض الفتى فجزع عليه عبد الملك بن مروان قال فدخلت القبر مع عمه فخطوا له خطا فلم يلحدوه قال فقلنا باللبن فسويناه عليه فسقطت لبنة فوثب عمه فتأخر قلت ما شأنك قال ملئ قبره نورا وفسح له مد بصره.
وبإسناده عن محمد بن أبان عن حميد قال كان لي ابن أخت فذكر شبها بهذه الحكاية إلا أنه قال فاطلعت في اللحد فإذا هو مد بصري قلت لصاحبي رأيت ما رأيت قال نعم فليهنك ذلك قال فظننت أنه بالكلمة التي قالها.
وروى في كتاب "ذكر الموت" بإسناده عن أبي بكر بن أبي مريم عن الأشياخ قال كان شيخ من بني الحضرمي بالبصرة وكان شيخا صالحا وكان له ابن أخ يصحب الفتيان الفساق فكان يعظه فمات الفتى فلما أنزله عمه في قبره فسوى عليه اللبن شك في بعض أمره فنزع بعض اللبن فنظر فإذا قبره أوسع من جبانة البصرة وإذا هو في وسط منها فرد عليه اللبن وسأل امرأته عن عمله فقالت كان إذا سمع المؤذن
1 / 18
يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ﷺ يقول: وأنا أشهدت به وأكفيها من تولى عنها.
وقال أبو الحسن بن البراء حدثني عبد الرحمن بن أحمد الجعفي حدثني علي بن محمد حدثنا يزيد بن نوح النخعي قرابة لشريك بن عبد الله قال صليت في الكوفة على ميت ثم دخلت فبره حتى أصلحت عليه اللبن فبينا أنا أصلح عليه اللبن وقعت لبنة في القبر فإذا أنا بالكعبة والطواف قد مثلا لي في القبر فسويت عليه اللبن وصعدت.
قال ابن أبي الدنيا في كتاب "من عاش بعد الموت": حدثنا زكريا بن يحيى حدثنا كثير بن يحيى بن كثير البصري حدثنا أبي حدثنا أبو مسعود الجويري حدثني شيخ في مسجد الأشياخ قال كان يحدثنا عن أبي هريرة قال بينا نحن حول مريض لنا إذ هدأ وسكن حتى ما يتحرك منه عرق فسجيناه وأغمضناه وأرسلنا إلى ثيابه وسدره وسريره فلما ذهبنا لنحمله لنغسله تحرك فقلنا سبحان الله سبحان الله ما كنا نراك إلا قد مت!
قال: فإني قد مت وذهب بي إلى قبري فإذا إنسان حسن الوجه طيب الريح قد وضعني في لحدي فطواه بالقراطيس إذ جاءت إنسانه سوداء منتنة الريح فقالت هذا صاحب كذا وكذا أشياء والله استحي منها كأنما اقلعت عنها ساعتي تيك.
قلت: أنشدتك الله أترد عني هذه.
قالت: انطلق نخاصمك.
فانطلقت إلى دار فيحاء وسعة فيها كأنها فضة وفي ناحية منها مسجد ورجل قائم يصلي فقرأ سورة النحل فتردد في مكان منها ففتحت عليه فانفتل فقال السورة معك؟
قلت: نعم
قال: إما إنها سورة النعم، ورفع وسادة قريبة منه فأخرج منها صحيفة فنظر فيها فبدرته السوداء: فقالت: فعل كذا وفعل كذا.
1 / 19
قال: وجعل الحسن الوجه يقول وفعل كذا وفعل كذا وفعل كذا يذكر محاسني فقال الرجل عبد ظالم لنفسه ولكن الله تجاوز عنه لم يجئ أجل هذا بعد أجل هذا يوم الإثنين.
قال: فقال لهم انظروا فإن أنا مت يوم الإثنين فأرجو لي ما رأيت وإن لم أمت يوم الإثنين فإنما هو هذيان الوجع.
قال: فلما كان يوم الإثنين صح حتى بعد العصر ثم أتاه أجله فمات.
وفي الحديث: فلما خرجنا من عند الرجل قلت للرجل الحسن الوجه الطيب الريح ما أنت قال أنا عملك الصالح قلت فما الإنسانة السوداء المنتنة الريح قال وذلك عملك الخبيث أو كلام يشبه هذا.
وفي كتاب ابن أبي الدنيا خرج لأبي القاسم إسحاق بن إبراهيم بن سنين الختلي قال سمعت عبد الله بن محمد العنسي يقول حدثه عمرو بن مسلم عن رجل حفار للقبور قال حفرت قبرين وكنت في الثالث فاشتد علي الحر فألقيت كسائي على ما حفرت واستظليت فيه فبينا أنا كذلك إذا رأيت شخصين على فرسين أشهبين فوقفا على القبر الأول فقال أحدهما لصاحبه أكتب قال ما أكتب قال فرسخ في فرسخ ثم تحولا إلى الآخر فقال أكتب قال وما أكتب قال مد البصر ثم تحولا إلى الآخر الذي أنا فيه فقال أكتب قال وما أكتب قال فتر في فتر.
فقعدت أنظر الجنائز فجيء برجل معه نفر يسير فوقفوا على القبر قلت ما هذا الرجل قالوا إنسان قراب يعني سقاء ذو عيال ولم يكن له شيء فجمعنا له فقلت ردوا الدراهم على عياله ودفنته معهم ثم أتي بجنازة ليس معها إلا من يحملها فسألوه عن القبر الذي قال مد البصر قلت من ذا الرجل فقالوا إنسان غريب ما ت على مزبلة لم يكن معه شيء قال فلم آخذ منهم شيئا فصليت معهم وقعدت أنتظر الثالث فلم أزل أنتظر إلى العشاء فأتي بجنازة امرأة لبعض القواد فسألتهم الثمن فضربوا برأسي ودفنوها فيه.
1 / 20
الباب الثاني: في كلام القبر عند نزوله إليه
خرج الترمذي من حديث عبيد الله بن الوليد الوصافي عن عطية، عن أبي سعيد قال دخل رسول الله ﷺ مصلاه فرأى أناسا كأنهم يكتشرون أو يضحكون فقال: أما إنكم لو أكثرتم من ذكر هاذم اللذات لأشغلكم عما أرى: الموت فأكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه لم يأت يوم على القبر إلا يتكلم فيه فيقول أنا بيت الغربة أنا بيت الوحدة أنا بيت التراب أنا بيت الدود فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر مرحبا وأهلا أما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري فإذا وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك فيتسع له مد بصره ويفتح له باب إلى الجنة وإذا دفن العبد الكافر أو الفاجر قال القبر لا أهلا ولا مرحبا أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري فإذا وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك".
قال: " فيلتئم عليه القبر حتى تلتقي وتختلف أضلاعه".
وقال رسول الله ﷺ بأصابعه، وأدخلها بعضها في جوف بعض.
قال: " ويقيض له سبعين تنينا لو أن واحدا منهم نفخ على الأرض ما أنبتت شيئا ما بقيت الدنيا فتنهشه وتخدشه حتى يفضي به إلى الحساب".
قال: قال رسول الله ﷺ: "القبر إما روضه من رياض الجنة أو حفره من حفر النار" وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه١.
قلت الوصافي شيخ كوفي صالح أشغلته العبادة عن حفظ الحديث حتى وقعت المنكرات في حديثه وفي آخر حديثه هذا رويت عن أبي سعيد من وجه آخر موقوفة ومرفوعة وسنذكر فيما بعد إن شاء تعالى وباقي حديثه لا يعرف عن أبي سعيد عن النبي ﷺ ولكن روي معناه من وجوه أخر.
_________
١ ضعيف: أخرجه الترمذي "ح ٢٤٦٠" وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفيه عبيد الله بن الوليد الوصافي. قال غنه الحافظ في "التقريب" ضعيف.
1 / 21
روى بقية بن الوليد عن أبي بكير بن أبي مريم عن الهيثم بن مالك الطائي عن عبد الرحمن بن عائد عن أبي الحجاج الثمالي قال: قال رسول الله ﷺ: "يقول القبر للميت حين يوضع فيه ويحك يا ابن آدم من غرك بي ألم تعلم أني بيت الفتنة وبيت الظلمة وبيت الوحدة وبيت الدود ما غرك بي إذا كنت تمر بي فدادا.
قال: فإن كان مصلحا أجاب عنه مجيب القبر فيقول أرأيت إن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قال فيقول القبر إني إذا أعود عليه خضرا ويعود جسده نورا وتصعد روحه إلى الله تعالى١. خرجه ابن أبي الدنيا وأبو أحمد والحاكم في كتاب الكنى قال أبو الحجاج الثمالي واسمه عبد الله بن عبيد ويقال عبد الله بن عبد له صحبه.
وقد روى هذا الكلام معاوية بن صالح أخبرني مخبر عن عمرو بن عائد الأزدي عن غضيف بن الحارث الكندي سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول إن العبد إذا وضع في قبره فذكره بنحوه خرجه أبو الحسن بن البراء عن علي بن المديني عن زيد بن الحباب عن معاوية وكذا رواه يحيى بن جابر الطائي عن ابن عائد الأزدي وهذا الموقف أصح.
وروى محمد بن أيوب الرملي عن أبيه عن الأوزاعي عن ابن المنكدر عن جابر رفعه قال إن للقبر لسانا ينطق به يقول يا ابن آدم كيف نسيتني ألم تعلم أني بيت الوحشة وبيت الغربة وبيت الدود وبيت الضيق إلا ما وسع الله ﷿ أيوب بن سويد فيه ضعف وابنه محمد متروك.
قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر الفقيه الحنبلي في كتاب الشافي في الفقه حدثنا إسماعيل بن إبراهيم الشيرازي حدثنا محمد بن حماده قال قرئ على عبد الرزاق وأنا حاضر عن الثوري عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب قال خرجنا مع رسول الله ﷺ في جنازة فوجد القبر لم يلحد فجلس وجلسنا حوله فقال رسول الله ﷺ "إذا وضع الميت في قبره ثم
_________
١ ضعيف: عزاه العراقى في تخريج الإحياء "٤/٤٨٢" لأبي الدنيا في كتاب القبور، والطبراني في مسند الشاميين وأبو أحمد الحاكم في الكنى من حديث الحجاج الثمالى بإسناد ضعيف
1 / 22
سوي عليه كلمته الأرض فتقول أما علمت أني بيت الوحشة والغربة والدود فماذا أعددت لي؟ " غريب جدا وحديث البراء بن عازب معروف وقد سبق بعضه ولا نعرف هذا اللفظ فيه من غير هذا الوجه والشيرازي غير معروف.
وخرج ابن منده من طريق عروة بن مروان الرقي حدثنا محمد بن سلمة عن حفيص عن مجاهد عن البراء بن عازب عن النبي ﷺ فذكر الحديث بطوله وفيه قال: قال رسول الله ﷺ: "إذا وضع الميت في لحده تقول له الأرض إن كنت لحبيبا وأنت على ظهري فكيف إذا صرت اليوم إلي سأريك ما أصنع بك فيفسح له في قبره مد البصر".
وخرج ابن أبي الدنيا من طريق داود بن فائد قال صعدت مع عبد الله بن عبيد بن عمير في جنازة فقال بلغني أن رسول الله ﷺ قال: "إن الميت يقعد وهو يسمع خطى مشيعيه فلا يكلمه شيء إلا قبره فيقول ويحك أي بني آدم أليس قد حذرتني وحذرت ضيقي وهولي ودودي فما أعددت لي؟ " ١.
ومن طريق عبد أبي بكر المكي حدثني عبيد بن عمير قال ليس من ميت يموت إلا نادته حفرته التي يدفن فيها أنا بيت الظلمة والوحدة والإنفراد فإن كنت في حياتك مطيعا كنت اليوم عليك رحمة وان كنت لربك عاصيا فأنا اليوم عليك نقمة أنا البيت الذي من دخلني مطيعا خرج مسرورا ومن دخلني عاصيا خرج مني مثبورا.
وروى هناد بن السري عن حسين الجعفي عن مالك بن مغول عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال يجعل الله للقبر لسانا ينطق به فيقول ابن آدم كيف نسيتني أما علمت أني بيت الأكلة وبيت الدود وبيت الوحدة وبيت الوحشة؟.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن عمر بن ذر قال إذا دخل الميت حفرته نادته الأرض أمطيع أم عاص فإن كان صالحا ناداها مناديه ناحية القبر عودي عليه خضراء كوني عليه رحمة فنعم العبد كان الله ﷿ ونعم المورد إليك قال فتقول
_________
١ ضعيف: عزاه العراقي في تخريج الأحياء "٤/٤٨٣" لإبن أبي الدنيا في القبور مرسلا، وابن المبارك في الزهد بلاغا، ولم يرفعه.
1 / 23
الأرض: الآن استحق الكرامة.
وبإسناده عن محمد بن السماك الواعظ قال بلغنا أن الرجل إذا وضع في قبره فعذب أو أصابه بعض ما يكره ناداه جيرانه من الموتى أيها المخلف في الدنيا بعد إخوانه وجيرانه أما كان لك فينا معتبرا أما كان لك في تقدمك إيانا فكرة؟ أما رأيت انقطاع أعمالنا عنا في المهلة؟ فهلا استدركت ما فات إخوانك؟.
قال: فتناديه بقاع القبر أيها المغتر بظاهر الدنيا هلا اعتبرت بمن غيب عنك من أهلك في بطن الأرض غرته الدنيا قبلك ثم سبق له أجله إلى القبور وأنت تراه محمولا تهادى به أحبته إلى المنزل الذي لا بد منه.
1 / 24