قالت: «هممت بأن أسألك. ولكنني خفت أن ألهو بسماع جوابك عن مرور الوالي.»
قال: «لا تخافي لم تأت ساعته بعد. وإذا خرج فإنه أمامنا. إن هؤلاء الغلمان كانوا لابن المدبر صاحب خراج مصر قبل مجيء ابن طولون، ولهم حكاية لطيفة تدل على علو همة هذا الرجل. ذلك أن ابن طولون لما تولى إمارة مصر كان ابن المدبر صاحب الخراج عليها كما هو المارداني الآن. وكان ابن المدبر هذا شديدا على الناس وفيه دهاء، فأحب أن يكتسب ثقة ابن طولون أو يبتاع سكوته عن أعماله. فلما علم بقدومه خرج للقائه ثم بعث إليه هدية قيمتها عشرة آلاف دينار فردها، وكان قد شاهد هؤلاء الغلمان في خدمة ابن المدبر، فطلب إليه أن يعوضه من الدنانير بهؤلاء الغلمان فلم يسعه إلا الامتثال فأرسلهم إليه، وأصبح من ذلك اليوم يخافه.»
وكانت دميانة تسمع لحديث زكريا وعيناها شاخصتان نحو الباب الأوسط، وإذا بالغلمان يتنافرون منه ثم أطل ابن طولون على فرسه وعليه لباس الإمارة وقد تجلت الهيبة في محياه وبان التعقل في حركاته، وهو مع ذلك يلتفت إلى الناس ويبتسم وهم يتراكضون للتبرك بطلعته ولا سيما العامة وأهل الأسواق الذين يندر أن يشاهدوه.
خرج ابن طولون من الباب وحده، فاختلج قلب دميانة تطلعا إلى من يكون بعده. وإذا بفارس فتي عليه لباس فاخر وفي وجهه جمال باهر، تتجلى فيه دلائل الصحة والقوة، تحته فرس من جياد الخيل وفي ركابه غلامان عليهما ألبسة حمراء مزركشة قد شمرا سراويلهما عن ساقيهما، وكانت دميانة تتوقع أن ترى سعيدا وراء ابن طولون فرأت هذا الفارس ولم تعرفه فسألت زكريا عنه فقال: «هذا خمارويه ابن الأمير وهو خير أبنائه وأعزهم ولا يغرنك صغره؛ فإنه شديد البأس ولوع بالصيد ولا سيما صيد السباع فلا يسمع بسبع إلا خرج إليه ومعه رجال عليهم لبود، فيدخلون إلى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابة عنوة وهو سليم، ثم يضعونه في أقفاص من خشب محكمة الصنع يسع الواحد منها السبع وهو قائم، فإذا قدم خمارويه من الصيد سار إلى القفص وفيه السبع بين يديه وقد جمع في قصره كثيرا من السباع.»
ولما بلغ زكريا إلى هنا لاحظ دميانة لا تعيره التفاتها؛ لأن عينيها شائعتان نحو الباب. ولا تسل عن لهفتها لما رأت سعيدا مقبلا على جواد تعودت أن تراه مقبلا عليه في طاء النمل وقد جاء بعد خمارويه بنحو مائتي ذراع فلم تتمالك أن قالت: «سعيد؟ هذا هو سعيد!» ثم انتبهت لنفسها والتفتت إلى ما حولها فلم تجد أحدا غير زكريا فاطمأن خاطرها فقال لها زكريا: «هذا هو سيدي البطل.»
فقالت وعيناها تلمعان والفرح يطفح من قلبها: «زكريا هل تجد بين هؤلاء الفرسان أجمل من سعيد أو أقرب منه إلى القلب؟» ثم ندمت على هذه الخفة وتشاغلت بالمشاهدة وتتبعت مسير الموكب نحو المغافر حيث بنيت العين ولحظت بعد أن خرج الموكب من الميدان وسار في الصحراء أن ابن طولون أشار إلى سعيد، فأسرع إليه حتى حاذاه، وأخذا يتحدثان، فكاد قلبها يطير من الفرح، وأحست كأنها قبضت على السعادة بيدها.
وكان زكريا يراقب ما يبدو منها ويفرح لفرحها وقلبه ينعطف إليها ويتمنى لها السعادة ولو بذل نفسه في سبيل ذلك. فلما رأى فرحها شاركها فيه لكنه لم يكن ممن يستسلمون لظواهر الأمور وقد علمته الأيام ألا يفرح بالآمال إلا بعد تحقيقها، ولكنه ساير دميانة ووجه التفاته إلى مسير الموكب نحو العين.
ولم تكن دميانة ترى من ذلك الجمع غير سعيد، تراعي حركاته وسكناته، وتحسب الذين حوله أشباحا لا أجسام لها. ولما تباعد الموكب عنها وقفت ووقف زكريا، وأخذا يتطاولان لمشاهدة مسير القوم، فقالت دميانة: «إلى أين هم سائرون؟ إني أراهم بعدوا كثيرا.»
قال: «إلى العين يا سيدتي.»
قالت: «أين هي؟ إني لا أراها ولا أعرف محلها.»
Page inconnue