فاطمأن خاطرها وتراجعت ومسحت عينيها، ثم مشت إلى غرفتها فلقيها أبوها، ولعله رأى أثر الدمع في عينيها، لكنه تجاهل فقال لها: «أنا ذاهب وقد أبيت الليلة خارجا أظن هذا يسرك يا دميانة إذ تفرغين للعبادة.» وضحك فسايرته في الابتسام، فخرج وعادت هي إلى همومها وزكريا يؤكد لها النجاة ويستمهلها حتى يمكن لسعيد عند ابن طولون بعد مد الماء في العين، وما هذا ببعيد.
أما مرقس فبعد اجتماعه بالمعلم حنا وعلمه بإنكاره الزواج بدميانة على ابنه. ذهب الكثير في آماله في المصاهرة؛ إذ كان يرجو أن يستفيد من نفوذ كاتب الخراج فضلا عن صداقته لإسطفانوس، ولكنه خامره الأمل في رجوع المعلم حنا عن رأيه حبا لابنه. ولعل هذا الابن يغير مظهره لدى أبيه عندما يتزوج فيبقى عزيزا عليه ثم إنه - من جهة أخرى - تمسك بقوله تنفيذا لكلمته وعملا بسلطته المطلقة على أهل منزله.
وفي اليوم التالي رأت دميانة أهل الدير في حركة ينظفون ويدبرون كأنهم يتأهبون لاستقبال زائر كبير، ورأت بعض الراهبات ينظرن إليها نظرة ذات مغزى، ولا سيما الرئيسة؛ فقد كانت تجاملها وتبتسم لها فتجاهلت، وسألت الرئيسة عن سبب هذا الاستعداد فقالت: إن سيدنا الأسقف قادم لزيارتنا في أصيل هذا اليوم وبما أننا استقبلناه بالأمس على غرة فرأينا أن نستعد لاستقباله اليوم استقبالا يليق بمقامه لأنه أسقف مدينة الفسطاط وله وجاهة وكلمة نافذة، فضلا عن مركزه الديني.»
فلم يعجبها هذا الخبر وأرادت أن تعيد الاستفهام عن سبب مجيئه، فخافت أن تسمع جوابا ينفر منه قلبها، فسكتت ومضت، فلقيها زكريا وقد علم أن الأسقف آت ليضع عربون الخطبة مع أبيها، فأخذ يشجعها ويؤكد لها مساعدته وأن تمنعها لا يجديها نفعا في ذلك الحال إلى أن قال لها: «إن الخطبة عقد يمكن حله وسواء حل هذا العقد أم لا فلا تخافي يا سيدتي. ومع ذلك فقد يكون أبوك قد اقتنع بكلام المعلم حنا فيؤجل الخطبة إلى وقت آخر.»
فقطعت كلامه قائلة: «لا تدع نفسك خادما؛ فإنك أحنى علي من أبي فإذا شئت فادعني ابنتك. وأما ما تقوله فلا يدعو إلى الطمأنينة، ولو كان أبي رجع عن عزمه لما كان ثمة داع إلى قدوم الأسقف.»
قال: «اتركي الأمر لي حتى أقول كلمتي.»
فقالت: «ومتى تقول كلمتك؟ هل تظنها تنفع؟»
قال: «أقولها عند اليأس وإذا لم تنفع فغيرها ينفع.» قال ذلك ومشى خوفا من أن تستزيده إيضاحا وهو حريص على الكتمان.
خطبة دميانة
في أصيل ذلك اليوم جاء مرقس إلى الكنيسة مرتديا أزهى ملابسه ليقابل الأسقف، ودنا من دميانة وهش لها وبش، وأمسك بيدها وأخذها إلى غرفتها، ومد يده وأخرج من جيبه عقدا من الجوهر يتلألأ كالشمس وقدمه إليها وهو يقول: «ما أجمل هذا العقد يا دميانة؟» وتوقع أن تمد يدها لتتناوله. فلما امتنعت استغرب وقال: «لماذا لا تأخذينه؟ إنه لك!» وتقدم نحوها ووضعه في عنقها وهي ساكتة، وحدثتها نفسها بأن تقطعه وتطرحه أرضا ولكنها أمسكت عملا بإشارة زكريا. فظنها أبوها رضيت فأكب على رأسها وقال: «اعلمي يا حبيبتي أن هذا العقد هدية من إسطفانوس، وهو آت مع الأسقف وأنت تعلمين كم يحبه ويجله؛ لأنه ابن المعلم حنا وهو لطيف العشرة. أتعلمين فيما هو آت مع الأسقف؟»
Page inconnue