كأنها السيوف في الهيجاء
ما بين كر دائم وفر
وقد يتكاثر النخيل في بعض الأماكن حتى تتألف منه غابات غضة تتغنى فوقها الطيور وتتخللها أكواخ الفلاحين.
ناهيك بما يقع عليه بصرك من الأبنية الفخمة من آثار الفراعنة - وأكثرها في الصعيد - أما الصاعد في السفينة إلى الفسطاط فلا يقع بصره من تلك الآثار إلا على أهرام الجيزة وقد يرى أبا الهول.
هذا والسفينة تسير نهارا وترسو ليلا ولا سيما في الربيع؛ إذ يكون النيل في معظم انخفاضه وفي قاعه صخور يعرف الربان موضعها في النهار، ويخشى أن يخدعه بصره أو تخونه ذاكرته في الليل، فلا يسيرون في النيل فيه.
قضى ركاب دهبية المارداني أياما في طريقهم من قرية طاء النمل إلى شبرا وقد تباطئوا عمدا؛ لكي يصلوا إلى الاحتفال في إبانه، وكانوا يتمتعون بمناظر الضفتين على نحو ما ذكرنا إلا دميانة؛ فقد كانت تقضي معظم نهارها منفردة تصلي أو تتذمر وزكريا يؤانسها ويعزيها، وقد ندمت على مجيئها وآثرت أن تغضب أبوها يوما أو يومين ولا تحمل نفسها ما لا طاقة لها به من تكلف اللطف والمسايرة على الطعام أو عند الكلام.
وكانوا قد نصبوا في الدهبية مظلة جميلة فرشوا أرضها بالطنافس وزينوا جوانبها بأغراس الرياحين والأزهار، يجلسون فيها للحديث أو الشرب أو التفكه. ولم تجلس دميانة هناك قط ولم يظهر ذلك غريبا لأبيها؛ لأنه تعود أن يراها منفردة في البيت تقضي أوقاتها في الصلاة أو القراءة أو تشغل نفسها بأمور بيتية لا تهمه. أما إسطفانوس فلم يكن يدخر وسعا في التحبب إليها تارة بتقديم الفاكهة أو الزهور وآونة بلفتها إلى منظر جميل أو موقف غريب لعله يسمع منها كلمة استحسان أو تلطف أو ما يدل على وقوعها في شرك جماله أو الافتتان بحديثه أو ذكائه أو الإعجاب بمنصب أبيه ونفوذه.
وكان يحسب ركوبه في دهبية المارداني كافيا لرفع منزلته في عيون الناس. ولو كان من أهل الشعور الرقيق لأدرك من أول مقابلة أنها لا تطيق رؤيته ولا تريد عشرته - ولو أظهرت اللطف أحيانا عملا بأدب السلوك واحتراما لرأي أبيها.
وأطل ركاب الدهبية على شبرا في ظهر يوم صفا جوه، فلم تقع أبصارهم إلا على خيام مضروبة وأعلام منصوبة، وبين ذلك شجر النخيل يناطح السحاب على ضفتي النيل وفي الجزر بينهما. فانتهر إسطفانوس تلك الفرصة، وتقدم إلى دميانة، وكانت واقفة قرب السارية تتلهى بما يقع عليه بصرها في الضفتين محاذرة أن تلتقي به أو يقابل وجهها وجهه، فرارا من سماع حديثه، فلما رأته يمشي إليها استعاذت بالله وعلا وجهها الاحمرار، فتلهت بصليب معلق في عنقها كانت شديدة الحرص عليه إذ أهدته إليها راهبة من دير المعلقة كانت قد زارت طاء النمل لجمع النذور وهي تعتقد فيه القداسة والكرامة. فلم يبال إسطفانوس ارتباكها. أو لعله حسبها استحيت من مقابلته كما يستحي الحبيب من محبه. واغتنم انفرادها عن سائر أهل السفينة ليطارحها الغرام وأحب أن يتدرج إلى ذلك بأسلوب لطيف فقال: «لا أدري أأهنئك بهذا الصليب يا دميانة أو أهنئه بك؟»
فأدركت قصده وأحبت أن تؤنبه فقالت: «أبمثل هذا الكلام يتحدثون عن صليب السيد المسيح؟»
Page inconnue