فابتدره قائلا: «حدثتني نفسي بأنك تريد شيئا وتكتمه عني، فنحن أخوان، لا ينبغي أن تكتمني أمرا تطلبه وقد قلت لك إن حياتي منة منك، وأنا إنما أرغبك في الذهاب معي إلى الفسطاط لأكافئك على صنيعتك؛ فالمال متوافر عندي فإذا كنت تؤثر البقاء هنا فامكث وأذن لي أن أغيب عنك ساعة ثم أعود إليك بهذا الجمل وأزودك بما يدل على اعترافي بجميلك.»
فازداد زكريا فرحا بالرجل وبصداقته ولم يعد يعرف كيف يشكره فقال: «لا فضل لي في شيء فعلته والفضل فضلك إذ أتيت بي من تلك الصحراء على جملك.»
فقال الرجل: «بل هو جملك، أستأذنك في ركوبه إلى الفسطاط وأعود به فهل أجدك هنا؟»
قال: «تجدني عند قاعدة الهرم الكبير.» فودعه ومضى. •••
افتقد زكريا بعد أن بقي وحده الأسطوانة والكتاب تحت أثوابه، فلما وجدهما في موضعهما بالكيس المعلق إلى عنقه. اطمأن وأخذ يتمشى حول الهرم حتى تجاوزه إلى تمثال أبي الهول، فوقف يتأمله حينا ثم عاد أدراجه ورأى الشمس تنحدر وتكاد تغيب، فاستوحش لانفراده بين تلك الرمال. ثم غربت الشمس وأخذ الظلام يتكاثف، فاستبطأ صاحبه وندم لأنه لم يسأله عن اسمه ومسكنه. على أن أكثر اهتمامه كان موجها إلى الجمل لشدة حاجته إليه بعد أن فقد ما كان يملكه من المال في بادية النطرون قبل دخوله الدير وأصبح لا يملك ما يستأجر به دابة تحمله إلى بلاد النوبة.
ومل زكريا الانتظار وتعب بصره من التشوف عن بعد لعله يرى صاحبه قادما، ثم صعد بعض درجات الهرم الكبير حتى وصل إلى مدخله، فوقف ببابه وعيناه شائعتان نحو الجيزة لعله يرى شبحا أو يؤانس نورا ويده لا تكاد تفارق إبطه يتحسس الكيس الذي به الأسطوانة والكتاب. وسرحت أفكاره في عالم الخيال فخيل إليه أن إسطفانوس علم بأمره فأرسل من يقبض عليه فلما تصور ذلك اختلج قلبه في صدره؛ لأنه أعزل ولا طاقة له بالدفاع، وجل همه ألا تذهب الأسطوانة منه، فمد يده وأخرج الكيس من تحت إبطه وتفقد ما فيه جيدا مخافة أن يكون قد خدع باللمس ، فرأى الأسطوانة والكتاب. وبينما هو يهم بأن يعيد الكيس إلى عنقه سمع خربشة، فاقشعر بدنه خوفا من وحشة المكان وكثرة الأفاعي والحشرات في تلك الخرائب، فأصاخ بسمعه والكيس لا يزال في يده وقد جمد الدم في عروقه، فسمع وقع أقدام وهمسا فانزوى في مدخل الهرم يحاول الاختباء ووجد المدخل ضيقا وعميقا كأنه قناة مربعة لا يتسع لدخوله إلا جالسا أو ممدا. فتربع هناك وانتظر منصتا وهو يحدق ببصره في جهة الصوت، فرأى بضعة رجال متزملين بعباءاتهم يتقدمهم رجل يخاطبهم همسا ويقول: «تركته هنا ولا نلبث أن نجده فلعله نائم.»
ولم يكد زكريا يسمع الصوت حتى عرف أنه صوت صاحبه التاجر. فخالجه الشك في ذلك الرفيق وبالغ في الانزواء فانبطح في المدخل مستقبلا أرضه بصدره بحيث يطل رأسه إلى الخارج والمدخل مائل إلى الداخل بانحدار، فخاف إذا تراخى أن ينزلق إلى جوف الهرم وهو لا يعرف قراره والناس يتحدثون بأن الجن تسكنه. ولامست ساقه أرض المدخل فاقشعر بدنه من برده، وخيل إليه أنه لمس حشرة ولولا قلقه مما سمعه من تهامس القادمين ما استطاع المكث هناك لحظة. كل ذلك وهو قابض على الكيس بيده. وكان القوم قد اقتربوا منه وهم يجيلون نظرهم فيما حولهم، ولم يخطر لأحد منهم أن الرجل الذي يبحثون عنه في واجهة الهرم وأنه مختف في مدخله ولا هم يعرفون له مدخلا يختفي فيه الرجل والرجلان. فلما رآهم على مقربة منه أمسك نفسه وأصاخ بسمعه فسمع أحدهم يقول: «أين هو؟ إننا لا نرى بشرا ... كأنك خدعت المعلم، وقد لا يكون هو الرجل أو أنه خدعك.»
فقال: «لا ريب أنه هو بعينه وقد رأيت الأسطوانة في عنقه، سترونه وترنها.»
ثم رفع بصره إلى أعلى كأنه ينظر إلى المدخل، فاستولى الخوف علي زكريا؛ لعلمه أنه لا يقوى على الدفاع ولا الفرار خصوصا بعد أن تبين القوم وتحقق أنهم مدججون بالسلاح ولم يبق عنده شك في أن رفيقه بالأمس جاسوس استمهله وذهب ليشي به إلى المعلم مرقس، فبعث من يقبض عليه . وعلم أن المعلم مرقس لا يهمه من أمره إلا الحصول على الأسطوانة التي أخذها من منزله؛ لأن كل آماله فيها فأخذ يفكر فيما يصنعه بها. وإذا ببعضهم يتسلق الأحجار كأنه يهم بالصعود إلى باب الهرم، فازداد قلق زكريا وضاق نفسه حتى كاد يغمى عليه وعلم أنه غير ناج من ذلك الشرك فأخذ على نفسه إذا ظفروا به أن لا يظفروا بالأسطوانة؛ وذلك لعلمه بأن مرقس إن ظفر بها معه فسيقتله لا محالة، وأما إذا قبض عليه ولم يجدها معه فإنه يستبقيه ليساعده في البحث عنها. فتلمس الحائط بجانبه فوجد حفرة متسعة بين الأحجار فأدخل الكيس فيها وغطاها بحجر، فلم تعد تظهر لأحد. ثم تجمع حتى جلس القرفصاء بباب الهرم كأنه يتحفز للوثوب. وكان الرجل الصاعد قد تسلق درجتين أو ثلاثا، ثم وقف على حجر مرتفع ونظر إلى ما حوله ثم خاطب دليلهم قائلا: «إن اليهود لم يصدقوا عمرهم حتى يصدقوا اليوم. ها أنا ذا عند الهرم، فأين الرجل المطلوب؟ ووالله إن لم نجده لتذوقن العذاب.»
فعلم زكريا أن صاحبه يهودي احتال عليه. فارتعد فرقا وأمسك أنفاسه مخافة أن يدهمه عطاس أو سعال فينكشف أمره وإذا بالقوم قد تحولوا من هناك وهم يقولون: «إنه ليس هنا، فلنبحث عنه في مكان آخر.» ومشوا نحو الهرم الثاني فما صدق زكريا أن رآهم انصرفوا حتى خرج من المدخل وتنفس الصعداء وهبط متلصصا حتى صار على الأرض أمام الهرم الكبير فتربص حينا وهو قاعد حتى ظن القوم بعدوا فنهض ومشى يطلب الفرار ميمما وجهه شطر البساتين ليختبئ فيها. وفي الصباح يعود لأخذ الكيس.
Page inconnue