وكان طهمان بن زهمان نفسه أسعد الجن بهذا الحدث العظيم؛ فقد كان يحب ابنته ويعجب بها ويفتتن ببراعتها كما قلت، وكان يرى ارتقاءها إلى العرش حقا وعدلا قد رد السلطان إلى أهله ووكل الأمر إلى من ينبغي أن يوكل إليه الأمر، وكان يرى نفسه أسعد من تقدمه من ملوك الجن، فقد ختم ملكه عصرا قديما مضى بحسناته القليلة وسيئاته الكثيرة، وبدأ ملك ابنته عصرا جديدا يظهر أن الحسنات فيه ستكون أكثر جدا من السيئات، ومن يدري؟! لعله أن يكون خيرا كله، وكان طهمان بن زهمان ناعم البال قرير العين مبتهج النفس؛ لأنه يشهد هذه النقلة الخطيرة في حياة الجن، ويشهدها تتم على يد ابنته التي يؤثرها بالحب والعطف والحنان، وكان يقدر أنه قد أنفق ما أنفق من آلاف السنين، وأنه قد أشرف من حياته على آخرها، ولكنه مع ذلك يأنس في نفسه قوة وأيدا، ويحس أن سيمد له في العمر حتى يرى ابنته وهي تدبر أمور الملك، ولا يشك في أنه سيرى من تدبيرها العجب العجاب.
وانتهت أعياد المملكة، وآن للسفراء أن تستقبلهم الملكة، فاستقبلتهم في حفل ساذج يسير لم يتعوده القصر ولم تتعوده الرعية، فلم تقم زينات ولم يصطف الجند ولم تجلس الملكة للناس في ذلك البهو العظيم من أبهاء القصر، وإنما خلت إلى أبيها في غرفته تلك التي كانت تخلو فيها إليه، وأذنت للوزراء وقادة الجند وساسة الملك، فلما أخذ كل منهم مجلسه أذنت للسفراء؛ فلما أدخلوا عليها وتقدموا بتحية ملوكهم وسادتهم وهموا أن يطلبوا إليها السلم، أشارت بيدها فاستمعوا لها، فألقت إليهم هذه الكلمات في صوت هادئ ملأ قلوبهم رهبا ورعبا. قالت: «تعلمون أن هذه الحرب لم تثر بين دولنا وإنما أثارها أشخاص ملوككم على شخصي، فلا سفارة في هذه الحرب ولا سفارة في هذا الصلح؛ فعودوا إلى ملوككم موفورين، وأبلغوهم أن من أراد منهم صلحا فليلتمسه بنفسه ساعيا إليه لا مسفرا فيه.»
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.
وامتنع النوم على شهريار هذه المرة بعد أن انقطع حديث شهرزاد، ولكن أرقه لم يكن ثقيلا عليه ولا بغيضا إليه في هذه الليلة؛ فلم يحتج إلى أن ينهض من مضجعه، ولم يشعر بالحاجة إلى النشاط الذي يذهله عن نفسه ويشغله عن خواطره، وإنما كان حريصا أشد الحرص على أن يخلو إلى نفسه ويفرغ لخواطره بعد أن شغل عنها وقتا طويلا، بما مر به من الأحداث وما ألقي إليه من الأحاديث، وكان كل همه أن يخطئ النوم طريقه إليه، وأن يبقى هو في مضجعه وادعا مطمئنا يستعرض حياته هذه المعقدة أشد التعقيد الملتوية أشد الالتواء، يستحضر ماضيه البعيد والقريب، ويحاول أن يتصور حياته فيما يستقبل من الأيام، وكذلك أنفق بقية الليل مع نفسه ناظرا بين حين وحين إلى شهرزاد، وهي مغرقة في نومها الهادئ كأنها لم تقص عليه شيئا ولم تتحدث إليه بشيء، وكان يذكر أيامه تلك السود حين كانت امرأته تلك تخدعه عن نفسه وعن حبه وعن شرفه وتزدريه فيما بينها وبين نفسها أشد الازدراء، تستعين على ذلك بوصائفها وجواريها، غير حافلة بما أعطت على نفسها من عهد، ولا آبهة لجلال الملك ولا مقدرة لعواقب الخيانة والغدر، وكان يذكر مرارة الانتقام وحلاوته، ونار الغيرة تلك التي كانت تتأجج في صدره فتحرق قلبه تحريقا، وكانت مع ذلك بردا وسلاما على نفسه الجريحة الثائرة.
ثم كان يذكر تلك الأيام السود التي أنفقها بعد مصرع نساء القصر نهبا مقسما بين لذة الحب وشهوة الانتقام، يقبل على اللهو بقلب يظهر الفرح والمرح والابتهاج والغبطة، وفي ضميره الغيظ والحنق والبغض الذي لا يطفئ جذوته إلا الدم المسفوك. أكانت أياما يشرق فيها ضوء النهار، أم كانت ليالي مظلمة لا يهتدي الضوء فيها إلى سبيل؟!
أكان في تلك الأيام إنسانا يحس ويشعر ويفكر ويقدر، أم كان قوة مدمرة لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم؟!
ثم كان يذكر شهرزاد حين عرضها عليه أبوها الوزير وفي نفسه كثير من خوف وقليل من رجاء، وحين أقبلت إليه مع الليل تظهر حبا وثقة وتضمر بغضا وخوفا، ومن وراء ما تظهر وما تضمر حيلة واسعة وذكاء عجيب نفاذ.
ثم يذكر هذه الليالي المتتابعة التي شغلته فيها شهرزاد بنفسها وقصصها عن الحب والبغض، وعن الغيرة والانتقام، وعن نفسه وملكه؛ حتى إذا انقضى القصص ورد إلى نفسه ملكا كما كان في تلك الأيام السود، ردت إلى نفسه خواطرها الحمر وعواطفها الثائرة وشهواتها المضطربة المختلطة، ورد إليها قبل كل شيء هذا القلق المتصل الذي يفسد الحياة على الأحياء، ونظر فإذا هو بين نفسه هذه المضطربة القلقة الثائرة التي لا يستطيع أن يخلو إليها، وبين شهرزاد هذه المحبة المبغضة الرحيمة القاسية الفاتنة المفتونة الواضحة الغامضة، التي لا يعرف لها كنها ولا يطمئن منها إلى حال، وهو مقسم بين هذين النوعين من العذاب، يخلو إلى نفسه فيشقيه القلق والخوف، ويخلو إلى زوجه فيشقيه الحب والشوق إلى المعرفة واليأس من إرضاء الحب ومن إرضاء الشوق إلى المعرفة.
ثم يذكر تلك الليلة التي آذنه فيها طائفه ذاك بأن شهرزاد ستستأنف الطب لنفسه نائمة بعد أن كانت تطب لها يقظة، وإذا هو يسمع من هذا القصص ما يسمع، فينعم بشهرزاد نائمة ويشقى بها مستيقظة.
وتشعر هي بذلك فتريد أن تطب له في الحالين، فتخلط يقظته بنومه وتجعله يحلم نائما ويقظان. وإلا فأين هو الآن؟! أين هو من قصره ومدينة ملكه؟! أين هو من جنده وحاشيته؟! أين هو من غرفته وأحراسه؟! ما هذا الزورق؟! وما هذه البحيرة التي يسبح فيها الزورق على غير هدى؟! كيف انتهى إليها! كيف حمل عليها؟! ماذا رأى فيها؟! ماذا عرف منها وماذا جهل؟! أنائم هو أم يقظان؟ أحالم هو أم عالم؟ أعاقل هو أم مجنون؟ ولكن ماذا؟ هذا صوت حلو يبلغ سمعه، إنه صوت شهرزاد ، إنها تتحدث إليه، لقد أفاقت من نومها، إذا أين هو من الزمن؟ أفي الليل هو أم في النهار؟! إنه يفتح عينيه ويقلبهما في كل وجه فيرى نورا لا يشبه النور وظلمة لا تشبه الظلمة. أنائم هو أم يقظان؟ أحالم هو أم عالم؟ أعاقل هو أم مجنون؟ ولكن حديث شهرزاد يصل إلى أذنه، ما في ذلك شك، إنها تدعوه وتلح في الدعاء، إن صوتها لا يخلو من دعابتها الساخرة الساحرة، إنها تنبئه بأنه ليس نائما ولا حالما ولا مجنونا، ولكنه يقظان عالم عاقل، يحس نفسه كما هي، ويحس الأشياء من حوله كما هي، ويسمع صوت شهرزاد التي تتحدث إليه ويفهم عنها حديثها حق الفهم، ولكنه لا يكاد يطمئن إلى هذا الحديث. إنه ينكر هذا الطور من أطوار الزمن الذي لا يشبه النهار كما عرفه ولا يشبه الليل كما ألفه؛ لأنه ليس في عالم الليل والنهار، وإنما هو في عالم غريب من عوالم القصص. أفق يا مولاي من نومك إن كنت نائما، ومن يقظتك إن كنت مستيقظا؛ فلست في عالم الليل والنهار، ولست في عالم النوم واليقظة، ولست في عالم الحلم والعلم، وإنما أنت في عالم يختلط فيه هذا كله، ويشتبه فيه هذا كله، ولا تميز فيه إلا نفسك وإلا حبيبتك، شهرزاد. أفق يا مولاي أو لا تفق؛ فإن كلا الأمرين سواء. اسمع مني وتحدث إلي أو لا تسمع مني ولا تتحدث إلي! فقد خلصت نفسك لي كما خلصت نفسي لك، فليفرغ كل منا لصاحبه، فقد غفل عنا كل شيء لأننا خرجنا من كل شيء وبعدنا عن كل شيء. افهم يا مولاي أو لا تفهم؛ فليس من المهم أن تفهم أو لا تفهم، وإنما المهم أن تتحدث نفسك إلى نفسي، وأن يصل إلى نفسي حديث نفسك سواء أحمله إلي الصوت أم انتهت به إلي نجوى الضمير.
Page inconnue