قال الملك: «ألم يأن لك يا ابنتي أن تكاشفي أباك بشيء من هذه الأسرار التي عميت عليه وعلى أهل المملكة جميعا؟! وما أرى إلا أنها معماة على أعدائنا، فانظري إليهم حائرين ينفقون جهودا لا تحصى، ويحتملون أثقالا لا تستقصى، ويرون مع ذلك أنهم ثابتون في أمكانهم التي كانوا يريدون أن يغيروا علينا منها.»
ولم يكن الملك يقول إلا حقا! فقد كانت تلك المناظر التي وصفناها آنفا قائمة كما هي لم تتبدل: بحر مضطرب مصطخب تكاد أمواجه تبلغ السماء، ولكنها لا تكاد تبلغ الساحل، ورياح متناوحة متصايحة، وسحاب متراكم متراكب، وقطع من الجبال تدور في الجو تلتقي لتفرق وتفترق لتلتقي، ورعية الملك طهمان بن زهمان قد ثاب إليها الأمن وعادت إليها الطمأنينة، وجعلت تشهد هذه المناظر الرائعة معجبة بها راضية عنها، متسلية بما تشهد منها، كأنها في ملعب من ملاعب التمثيل، أو في ميدان من هذه الميادين التي تعرض فيها الأعاجيب.
وقد أخذ أفراد الرعية يتحدث بعضهم إلى بعض عن بدائع هذا السر وروائعه، ويسأل بعضهم بعضا عن مصدره ومدبره، وقد سرى فيهم سريان البرق أن الأميرة هي مصدر هذا السحر وهي التي دبرته وقدرته، وردت ملوك الجن مدحورين في البر والبحر والجو جميعا.
وكان أفراد الرعية يسمعون عن الأميرة أحاديث مختلطة مضطربة، يعرفون جمالها الرائع وحسنها البارع، ويعرفون فتنتها وفطنتها، ويعرفون ذكاءها ونفاذ بصيرتها إلى ما لم تنفذ إليه قط بصائر الملوك والملكات، ولكن هذا كله كان يلقى إليهم إلقاء، فيصدق حينا ويرفض حينا آخر، ويسمع في غير اكتراث أكثر الأحيان، فأما الآن وقد رأت الرعية ما رأت وشهدت ما شهدت، فأما الآن وقد كان الهول منها قيد إصبع ثم رد عنها ردا عنيفا، فأما الآن وهي ترى الهول قريبا منها بعيدا عنها، محدقا بها عاجزا عن أن يصيبها؛ فقد أصبح إيمانها بالأميرة فتنة لا تشبهها فتنة، وأصبح اسم الأميرة في كل فرد من أفراد الرعية لفظا يدل على حقيقة واقعة لا على لون من ألوان المجاز؛ فكل فرد من أفراد الرعية مفتون بالأميرة مشغوف بحبها هائم بقدرتها على ابتكار الأعاجيب، وربما كان الملك أعظم من أفراد رعيته جميعا افتتانا بابنته وإعجابا ببراعتها وإكبارا لسحرها هذا الذي ظن به الظنون، ثم تبين أنه لم يوجه إلى الشر كما تعود السحرة من الجن والإنس أن يوجهوا سحرهم، وإنما هو موجه إلى الخير كل الخير، موجه إلى عصمة النفوس وحقن الدماء وإقرار الأمن وحماية الصلات التي تقوم بين الدول على المودة والمعروف. وهو من أجل ذلك يلح على ابنته في عطف مرة وفي استعطاف مرة أخرى أن تكشف له عن أسرار هذا السحر، وأن تبين له دخائل هذه المعجزات، وابنته تطاوله وتماطله، تلطف به حينا وتعنف عليه حينا آخر، والعدو من حول المملكة والمدينة ماض في جهاده العنيف السخيف الذي يكلفه كل جهد، ولا يبلغه من وراء هذه الجهود شيئا.
وتمضي على ذلك الأيام تتلوها الأيام، والليالي تتبعها الليالي، حتى انصرفت رعية طهمان بن زهمان عما كانت ترى، وأعرضت عما كانت تشهد، وأهملت ما كانت تخافه كل الخوف، وازدرت ما كانت تعجب به كل الإعجاب، ومضت تضطرب في حياتها تستأنف منها ما كانت قد تركته حين ألمت بها نذر الحرب، وكان الواحد من الجن من أهل المملكة يغدو على عمله ويروح إلى أهله ويتصرف في أمره كأن وطنه لم يتعرض لمحنة ولم يلم به مكروه، وكأن جند العدو لا يملأ من حوله البر والبحر والجو، وما يعنيه من عدو يفني قوته دون أن يبلغ منه شيئا؟
فلما كان ذات يوم جلس الملك يحاور ابنته ويداورها، يريد أن يعرف منها جلية هذا الأمر الغريب، وهي تلقاه بالإباء حينا وبالدل والدعابة حينا آخر، ولكن وزيره يدخل سعيدا متهللا، فيحيي ثم يؤذن الملك بأن سفراء العدو قد أقبلوا يلقون بأيديهم ويسألون السلم.
قال الملك: «فوجه هذا الحديث إلى التي حاربتهم فحربتهم، فأما أنا فلست لكم بملك منذ اليوم؛ لقد أخذت نصيبي من الملك وتركت ما بقي منه لابنتي هذه؛ فهي ملكتكم منذ الآن، وهي التي ستلقى السفراء وستملي عليهم شروط السلم كما تشاؤها هي لا كما أشاؤها أنا.»
ثم نهض الشيخ متثاقلا فضم ابنته إليه ضما طويلا، ثم أجلسها مكانه وقدم إليها تحية الملوك. هنالك تقدم الوزير إلى الملكة فحياها تحية الملك، ثم خرج فأذن في القصر والمدينة والمملكة بما كان من ارتقائها إلى العرش ونهوضها بأعباء السلطان، وبأنها هي التي ستلقى السفراء وستملي عليهم شروط السلم كما تشاء.
وما أكثر ما وصفت لك يا مولاي ابتهاج المدن والممالك حين ينزل ملك عن العرش ويرقى إليه ملك آخر! فقد ابتهج قصر فاتنة ومدينتها ومملكتها بارتقائها إلى عرش آبائها كما تعودوا أن يبتهجوا كلما تخلى عن عرشهم ملك وارتقى إليه ملك، ولكن ابتهاجهم في هذه المرة كان خالصا صفوا لا يخالطه حزن ولا يشوبه أسى.
فقد كان طهمان بن زهمان حيا بينهم ينتظرون أن يروه لم يفارقهم إلى غير رجعة، وكان حبهم له يزيد في ابتهاجهم بابنته، وكان إعجابهم بفاتنة يخرج بابتهاجهم عن الأطوار المألوفة، ولو أن رعية عبدت ملكا لعبدت رعية فاتنة ملكتها.
Page inconnue