وقد حاول الملك أول الأمر أن يتعرف مصدر هذه الأنغام، فنظر إلى الوصائف فإذا هن قائمات في أماكنهن لا يأتين حركة ولا يحدثن حسا ، وليس في أيديهن أداة موسيقية أو ما يشبه الأداة الموسيقية من قريب أو بعيد، ونظر إلى شهرزاد فإذا هي قائمة في مكانها وعلى وجهها ابتسامتها الغامضة التي لا تقول شيئا، والتي تقول كل شيء، والتي لا تخلو مع ذلك من سخرية تحفظ وتهيج، وأدار الملك بصره في الغرفة ينظر في كل مكان يريد أن يتبين لهذه الأنغام الساحرة مصدرا فلا يرى شيئا، وإنما يخيل إليه أن هذا الجو الموسيقي الذي أحاط به وأحاط بمن حوله أشبه شيء بالجو الذي يعيش فيه أثناء أوقاته العادية، لا يعرف أين يبتدئ ولا أين ينتهي.
وكان أغرب ما في هذا الجو الموسيقي الرائع اختلاف أنغامه وائتلافها في وقت واحد، بل اختلاف الأصوات التي كانت تحمل هذه الأنغام وائتلافها، فكان هذا كله يلقي في روع الملك أن هناك أدوات موسيقية مختلفة لا تحصى تصدر عنها أصوات وأنغام متباينة، ولكن قوة بارعة ساحرة قد أشرفت عليها ودبرت ما بينها من اختلاف حتى أحالته إلى ائتلاف.
ولم يمض على إحساس الملك هذا الجو من حوله وقت طويل حتى أحس الملك أنه يغرق في هذا الجو وينسى نفسه قليلا قليلا، كأنما كانت الحياة الشاعرة تنساب من نفسه ومن جسمه شيئا فشيئا، وإذا هو يفنى في هذا الجو المحيط به فيصبح صوتا من أصواته أو نغمة من أنغامه، أو يصبح جزءا شائعا في كل صوت من هذه الأصوات، وحظا مفرقا في كل نغمة من هذه الأنغام، وقد نسي كيف ابتدأ هذا الجو، ولم يسأل نفسه كيف ينتهي، وإنما استسلم لهذا البحر الموسيقي الذي غمره كما يستسلم الغريق بعد أن يبذل آخر جهده في المقاومة، وبقي له مع ذلك شعور واحد، وهو أنه في حضرة شهرزاد، وأنها تنظر إليه ساخرة منه راثية له، وتبسم له ابتسامتها الغامضة كأنها تقول له: «ألم أنبئك أني سأظهرك من الأمر على ما لم تكن تقدر أنك ستظهر عليه، وأني سأطلعك في قصرك على ما لم تكن تظن أن قصرك يحتويه، وأني سأسحرك وأبهرك وأضطرك إلى هذا الاستسلام الذي انتهيت إليه، ومع ذلك فقد كنت تخيل إلى نفسك أنك بدأت تعرفني! فذق الآن هذه المعرفة، وتبين أنك لم تجهلني قط كما تجهلني الآن.»
وينظر الملك إلى شهرزاد واجما مبهوتا، ويريد أن يتكلم فلا يطاوعه لسانه، ويريد أن يتقدم فلا تطاوعه قدماه؛ ولكن شهرزاد تسعى إليه هادئة كأنها الحياة تسعى إلى الجسم الهامد، أو كأنها اليقظة تسعى إلى النائم المغرق في النوم، حتى إذا بلغته وضعت يدها على كتفه وقالت له في صوت لم يستطع أن يفرق بينه وبين هذا الجو الموسيقي المحيط به، وإنما خيل إليه أن الغرفة كلها تكلمه بهذا الصوت، قالت له: «لا ترع يا مولاي، فليس عليك من بأس»، ثم أخذت ذراعه ومضت به إلى مجلس من مجالس الغرفة فأجلسته رفيقة به وجلست إلى جانبه عطوفا عليه، وقالت له في صوتها هذا الجديد الغريب: «ألم أنبئ مولاي بأني سأذيقه من نعيم الحياة ألوانا لم يذقها قط، بل لم يذقها إنسان قبله قط! أفيرى مولاي أني قد وفيت بالوعد أو بدأت بالوفاء!»
قال الملك في صوته الخافت الذي كان كأنما يأتي من بعيد: «ألا تنبئينني آخر الأمر من أنت وماذا تريدين؟!»
قالت متهالكة: «ألا يشغلك ما تسمع عن هذه الفكرة الملحة عليك المضنية لك؟! أليس خيرا من ذلك أن تسأل عن هذه الموسيقى من أين تأتي وإلى أين تمضي؟!» قال: «فإنها تأتي منك وإليك تعود.»
قالت: «فإذا لم يستطع سمعك أن يشغلك عني وعما أريد، فستشغلك عيناك يا مولاي. انظر!»
ونظر الملك من وله فرأى عجبا، لقد كان يعلم أن شهرزاد قد أقبلت به منذ حين على غرفة من غرفات القصر لها جدران تحدها وباب يغلق من دونها، ومن هذا الباب قد دخلت الوصائف آنفا، ومن هذه الجدران قد نبعت أنغام الموسيقى كما ينساب الماء من العيون الجارية، لكنه الآن ينظر فلا يرى جدران الغرفة، وينظر فلا يرى للغرفة سقفا ولا بابا، وإنما يرى نفسه في مكان متباعد الأرجاء مترامي الأطراف، قد زين أحسن زينة وأروعها وأعظمها تأنقا ورشاقة، وقد تقدم هذا المكان في بحيرة تحيط به من جهاته الثلاث، واتصل بالقصر من جهته الرابعة، فكأنه يد قد مدها القصر في هذه البحيرة لتأخذ منها شيئا، وهذا المكان الواسع الرائع يغمره الجو الموسيقي ذاك كما كان يغمر تلك الغرفة الضيقة الساذجة، ولكن شيئا آخر قد ظهر في هذا المكان، فهؤلاء أزواج من الفتيات والفتيان قد حسنت وجوههم واعتدلت قدودهم وغمرهم بشر عجيب وهم فرحون مرحون، يعبثون هنا ويجدون ويتراقصون في هذه الناحية ويسمرون في تلك الناحية، والملك مسحور مبهور يرى كل شيء ولا يحقق في نفسه مما يرى شيئا، وشهرزاد تقول له في صوتها الهادئ الذي يقع في نفسه كأنه قطعة من هذا الجو الفرح المرح: «لا بأس عليك يا مولاي! فإنك ترى هؤلاء الأزواج من الفتيان والفتيات، وتسمع لأصواتهم الجادة والعابثة، ولكنهم لا يرونك ولا يسمعون لنا حين نتحدث؛ لأنهم لم يخلقوا بعد، ولكنهم سيخلقون في يوم من الأيام. ألم أحدثك بأني ساحرة؟! فقد قصصت عليك العجب من أنباء الماضي، فأنا أقص عليك العجب من أنباء المستقبل، ولكنك يا مولاي لا تؤمن بالقصص، وإنما تتلهى به كما يتلهى به عامة الناس، ولو قد آمنت بالقصص كما تؤمن به شهرزاد، لما رأيت فيما تشهد الآن سحرا ولا فتنة، ولرأيت في هذا العالم الذي يبتدعه القصص ملجأ تأوي إليه ووزرا تعتصم به إذا ضاقت نفسك بهذه الحياة الراكدة التي يحياها الناس حين ينامون وحين يستيقظون وحين يضطربون في أمورهم اليومية. هلم يا مولاي، فقد بدأنا رحلة لم نتقدم فيها إلا قليلا.»
ثم تنهض متثاقلة، وتنهض الملك متلطفة، وتمضي به أمامها وقتا لا يدري الملك أطال أم قصر. ولكنها قد انتهت به إلى حافة البحيرة، فوقفت وأشارت بيدها في الفضاء أمامها، وقالت للملك: «انظر يا مولاي! ألا يشوقك أن تستمتع بما يستمتع به هؤلاء من النعيم!»
وينظر الملك فيرى أسرابا لا تحصى من الزوارق قد ملأت البحيرة مختلفة ألوانها مزدانة أجمل زينة وأروعها، يغمرها الضوء فكأنها تسبح فيه كما تسبح في الماء، تصدر عن بعضها الموسيقى، ويصدر عن بعضها الغناء، وكلها يصور الفتنة والسحر والجمال.
Page inconnue