أما أصحاب شعبان فكانا اثنين، وقد اتخذ كلاهما موقف الشاهد، سعيدين غاية السعادة بهذا المخلوق الجديد على المكان والجديد على هذه الحياة جميعا، ولكنه عندما سأل شعبان سؤاله الأخير هذا كانا أشد صخبا من شعبان. وسأله أحدهما وكان شعبان يدعوه كريم: ألم تقل إنك عرفت نسوانا كثيرات في البلد؟!
وفي نفس النغمة الوقور المتعتعة قال سباعي: يا سي كريم أفندي، اسم الله على مقامك، النسوان اللواتي عرفتهن شيء والنسوة هنا شيء آخر بالمرة، لم يرد صنفه علي مطلقا، ولم يخطر لي على بال أن في العالم نسوانا بهذا الشكل، بالتأكيد هؤلاء صنف آخر من الناس لا أعرفه أنا ولا أبي.
وتتم الليلة كما ينبغي أن تتم مثل هذه الليالي، ويحس سباعي أنه بهذه الليلة أصبح من طبقة أخرى غير طبقة أهله، ولكن العجيب أن سباعي مع كل هذه المتعة التي شعر بها والتي أوغلت في العميق من كيانه كان يدرك أن مثل هذه الليالي إنما هي لهو يتمتع بها من يحبها ليلة كل شهر أو ليلتين، ولكنها لا يمكن أن تكون حياة بأكملها كما كان يعتبرها شعبان. كان الأمر بين الاثنين مختلفا كل الاختلاف؛ فقد كان شعبان لا يريد من الحياة إلا هذه الحياة، وكان عمله في الأرض عمل مرغم لا راغب، مدركا أن أباه سينضب عليه موارد المال إذا هو لم يقم بواجبه كفلاح يعينه على زراعة الأرض الواسعة بما يستأجر من الأوقاف. أما سباعي فقد كان يرى في الزراعة حياته ويرى في مثل هذه الليلة لهوه.
كان من الطبيعي أن تتوطد العلاقة بين شعبان وسباعي، وتكاثرت الزيارات بينهما. وفي يوم حزم سباعي أمره بعد أن فكر وأطال التفكير وتدبر الأمر مع نفسه، فأحكم التدبير وقصد إلى شعبان في بيت أبيه. - أنا أحببتك حبا لا تدري قدره. - هذه مقدمة لشيء تريد أن تقوله. - أي نعم. - قل. - أريد أن أكون قريبك وصاحبك. - فهمت. - وما رأيك؟ - لا بد أن أتأكد من صحة فهمي أولا. - أنت تفهمها وهي طائرة. - يكون أحسن لو قعدت. - أخطب إليك الست أختك قدرية. - هل شفتها؟ - شفتك أنت. - على كل حال أسأل أبي. - طبعا. - ولكن لا بد أن تشوفها. - ومن غير شوف. - لا بد. - أمرك، كيف؟ - هذا أمر ميسور، والحقيقة أنا أفضل أن تشوفها قبل أن أكلم أبي. - كيف؟ - حتى يتكلم أبوك بعد ذلك، وتجري الأمور في طريقها الطبيعي. - ولكن معنى كلامك أنك لا ترفضني. - أنا لا أملك الرفض أو القبول. - أعرف ذلك، ولكن معنى أن تسمح لي برؤية الست أختك أن الأمر ليس بعيد الاحتمال.
وتنبه شعبان إلى الموقف، وسارع يقول: أنا لا أستطيع أن أقول شيئا مطلقا، وأنا أسمح لك برؤية أختي لأني أعتبرك أخا، وأحب إذا فاتحت أبي في هذا الموضوع أن أكون واثقا أنك جاد فيه؛ لأن التقدم منك ثم الرجوع مسألة قد تسيل فيها دماء. - أنا أعرف تماما وظيفة أبو سريع عندكم، ولا أحب أن أكون أنا أو يكون أبي من بعض مهام وظيفته. - إذن تراها. - يا ليت، متى؟ - الآن. - كيف؟ - اسمع، اخرج من الباب الأمامي قدام الخدم ولف وعد لي من باب الشرفة. - أمرك.
وخرج سباعي وعاد، وفتح شعبان حجرة مجاورة وأدخله فيها. - سأنادي قدرية وأنت تستطيع أن تراها من هنا، وسأجعلها تقعد بحيث لا تراك، فحين تراها وتسمعها روح إلى بيتك من هذا الباب الذي يخرج من الشرفة إلى الحديقة إلى الخارج.
ووجم سباعي قليلا، وقال: وكيف سأقول لك إني وافقت؟ - قلها بكرة، لا أريد أن أعرف رأيك اليوم على كل حال. - أمرك.
ودخل سباعي الحجرة، وأبقى شعبان بابها نصف مفتوح حتى إذا رأته قدرية حسبت أنه نصف مقفل، وأنه ترك هكذا عن إهمال لا عن عمد.
ونادى شعبان من بهو البيت الأسفل: قدرية، قدرية. - نعم يا شعبان فيه حاجة؟
وأطلت عليه من أعلى فقال: ماذا تصنعين؟ - لا شيء، أسمع الفونوغراف. - أنا زهقان، لماذا لا تحضرين الكوتشينة وتجيئين نتسلى؟ - حاضر، جاية.
Page inconnue