الطمع قلما جمع
الجرو يتحدى فيلا
النملة1
الحمل الوديع
الغدير الصغير1
الثعلب والمرموط1
الذئب ينشد السلام
البرميل الفارغ والبرميل الملآن
البرميل ينضح بما كان فيه
السلطان الجديد
المهر ينتقد الفلاح المبذر
تعليم الأمراء
كما تزرع تحصد
الخنزير الكبير
مكافأة السنجاب
الثقة العمياء
الفلاح وخادمه
الوزة الغاضبة
الحمار يقلد وساما
الذئب والفارة
الطباخ وسنوره المحبوب
الأفعى تستعطف الفلاح
الذبابة المغرورة
النار! النار!
زهرة الحقل الزرقاء والخنفساء
معاهدة صداقة وعدم اعتداء
صياد الفراش
الحصاة والماسة
الغراب والبومة
أبو الأشبال يصطفي فيلا
العقاب والخلد
النقد الأثري
الغني والفقير
الذئب في بيت الكلاب
البخيل والكنز
الغرارة المغرورة
الفلاحان وحظهما
الكلب والحصان
القرد يطلب الثناء
الثلاثة الأصحاب
الحجر يغار من المطر
الغراب القدير1
الفلاح الحمار
أبو خالد السخي
الطحان الغبي
المزنة1 الفخورة
الدب والشهد
القرد يلبس النظارات
حاميها حراميها
العقاب والعنكبوت
الكوكو والحمامة
الموسيقيون
الكرمة والبلوطة
القرد في المرآة
الفار1 والوزة2 والسمكة والحنجل3
الغنم والذئاب
القروي يستجدي
الذئب وجروه
الفلاح واللص
الأفعى الشريرة
ظل الغبي
الطمع قلما جمع
الجرو يتحدى فيلا
النملة1
الحمل الوديع
الغدير الصغير1
الثعلب والمرموط1
الذئب ينشد السلام
البرميل الفارغ والبرميل الملآن
البرميل ينضح بما كان فيه
السلطان الجديد
المهر ينتقد الفلاح المبذر
تعليم الأمراء
كما تزرع تحصد
الخنزير الكبير
مكافأة السنجاب
الثقة العمياء
الفلاح وخادمه
الوزة الغاضبة
الحمار يقلد وساما
الذئب والفارة
الطباخ وسنوره المحبوب
الأفعى تستعطف الفلاح
الذبابة المغرورة
النار! النار!
زهرة الحقل الزرقاء والخنفساء
معاهدة صداقة وعدم اعتداء
صياد الفراش
الحصاة والماسة
الغراب والبومة
أبو الأشبال يصطفي فيلا
العقاب والخلد
النقد الأثري
الغني والفقير
الذئب في بيت الكلاب
البخيل والكنز
الغرارة المغرورة
الفلاحان وحظهما
الكلب والحصان
القرد يطلب الثناء
الثلاثة الأصحاب
الحجر يغار من المطر
الغراب القدير1
الفلاح الحمار
أبو خالد السخي
الطحان الغبي
المزنة1 الفخورة
الدب والشهد
القرد يلبس النظارات
حاميها حراميها
العقاب والعنكبوت
الكوكو والحمامة
الموسيقيون
الكرمة والبلوطة
القرد في المرآة
الفار1 والوزة2 والسمكة والحنجل3
الغنم والذئاب
القروي يستجدي
الذئب وجروه
الفلاح واللص
الأفعى الشريرة
ظل الغبي
أحاديث روسية
أحاديث روسية
تعريب
إلياس أنطون
مقدمة
بقلم كامل كيلاني
طلب إلي الصديق العزيز الأستاذ إلياس أنطون إلياس أن أراجع هذا الكتاب وأقدم له، ولم يكن أشهى إلى نفسي من أداء هذين الواجبين.
فأما مراجعة الكتاب فقد وجدت فيها ألوانا وفنونا من المتع العقلية، أذكرتني ما قرأته من طرائف «ابن المقفع» في «كليلة ودمنة»، وبدائع «لافونتين»، وروائع «إيزوب»، ورأيت أمامي ثروة من الحكم الأصيلة، تصاغ في وجازات قصصية بارعة، فتحوي في كلماتها القليلة من جليل المعاني نفائس وتوجيهات تضيق بالتعبير عنها مطولات الأسفار وضخام المجلدات، ولا عجب أن ترجح الدرة - على صغر حجمها وضآلة جرمها - أضعاف وزنها من الذهب.
وأما قابس هذه الحكم، وناظم عقدها، فهو مستغن عن التعريف بما بذله من جهود موصولة آتت، ولا تزال، تؤتي ثمارها كل يوم، فقد أسهم صاحبها في بناء نهضة الشرق الثقافية بأوفى نصيب، ولا زال الجميع يذكرون ما أفادوه من «معاجمه العصرية» من ثمرات لغوية ميسرة الجني، دانية القطوف، وما أفادوه مما نشره، ولا يزال ينشره، للصفوة المختارة من أعلام المؤلفين والمترجمين.
وقد عرفه شيوخ العصر - منذ حداثتهم - كما عرفه شباب الجيل، بما أسهم في وضع الأساس الثقافي، وما بذل في سبيل الفصحى من جهود مضنية، أجرها عند الله.
هذا بعض ما يقال في هذا الأثر النفيس، وقابسه البارع، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق، كما يقول المثل العربي القديم.
الطمع قلما جمع
طاف الشحاذ متوكئا على عكازته الطويلة، يتسول متنقلا من باب إلى باب، حاملا تحت ذراعه كشكوله العتيق البالي؛ ليلقي فيه ما يجود عليه به المحسنون، فكان يدلف من دار إلى دار، مستجديا «أهل الخير والإحسان» بنداءاته المألوفة، وأدعيته المعروفة؛ كأن يطلب من الله أن «يجعل دار المحسنين عامرا»، أو يذكر السامعين بأن «من قدم إحسانا بيديه التقاه»، أو بأن «الدنيا إلى زوال، وكل ما عليها فان، ولا يبقى منها غير وجه ربك ذو الجلال والإكرام»، أو بأن «القناعة كنز لا يفنى» أو بأن «ما عند الناس ينفد وما عند الله باق!»
1
وكلما مر بدار أخذ يناجيها بما يعن له من الآراء الفلسفية التي تتصل بالأنظمة الاجتماعية وعيوبها، خصوصا ما يتعلق بالأغنياء الذين لا يكتفون بما عندهم من مال وعقار، بل يدأبون في طلب المزيد ارتكانا على ما في هذه الأنظمة من الشرائع والقوانين الجائرة التي لا تحد من جشعهم.
وفي يوم ما، بينما كان يجول جولته المعتادة، وقف أمام دار مغلقة الأبواب والنوافذ، وأخذ يوجه إليها نجواه، قائلا: «في هذه الدار الخاوية كان يسكن التاجر الغني السيد «عبد الغني»، الذي لم يقنع بما حازه من خير كثير، فأخذ يعد سفنا لسفرة يئوب منها بأضعاف ما كان له من مال، ولكن السفن التي أنفق كل ما كان عنده في سبيل إعدادها، عصفت بها الرياح، فغرقت وابتلعها اليم بكل ما كان فيها.»
وسار قليلا ثم وقف أمام دار أخرى، ليس بها نافخ ضرمة،
2
وأمسك عصاه بيسراه، وأسند رأسه على كف يمناه، وطفق يخاطبها قائلا: «وأنت أيها القصر الخرب، ألم يقطنك رجل ثري كان يشار إليه بالبنان؟! ولكنه الطمع، عدو الإنسان الأكبر، دفعه إلى طلب المزيد بالمضاربات المالية، فأضاع كل ما كان له من مال وعقار، فما أحمق الناس الذين لا يملأ عيونهم إلا التراب ...»
واتفق حينئذ مرور «إلهة البخت» العمياء، فلما رأته وقفت تعترض طريقه، وقالت له: «أصغ إلى ما سأقوله لك، وتدبره أيها الرجل؛ فقد مضى علي زمن طويل وأنا أحاول الاتصال بك لمساعدتك وتحسين حالك؛ فافتح كشكولك؛ لأني سأصب فيه كل ما تطلبه نفسك من نقود ذهبية، شرط ألا تدع قطعة واحدة منها تسقط من الجراب إلى الأرض؛ لأنها إذا سقطت فكل ما قد يكون فيه من قطع الذهب، سوف يتحول إلى تراب في لحظة واحدة، فاحذر! ولا تنس أن كشكولك قد أنهكه الاستعمال، فلا تحمله أكثر مما يقدر على حمله.»
فما إن سمع منها هذا الشرط «البسيط» حتى أسرع وفتح أمامها كشكوله، فأخذت تصب فيه من ذهبها الوهاج، رويدا رويدا، ما أذهله عن التحذير والنصح الذي أسدته إليه منذ لحظة، فقالت له: ألا ترى أن فيما أغدقته عليك الكفاية؟ - كلا! يا سيدتي، أرجوك ... أيضا ...! أيضا ...! أيضا ... زيدي ... - ولكن ... أريدك أن تذكر أن كشكولك ليس جديدا، ويخشى عليه أن ينشق، إذا حملته فوق طاقته. - لا ...! لا خوف عليه ...! لا تخافي ...! إنه يسع أكثر مما فيه الآن ... أرجوك أن ...! - ولكني أرجوك بدوري ألا يذهلك رنين ذهبي عن حقيقة كشكولك، وعن الشرط الذي ذكرته لك عندما عرضت عليك هبتي ... - فقط ... أرجو أن تكملي جميلك ... بحبة أخرى من ...
وفي تلك اللحظة انشق الكشكول، فسقط ما كان فيه على الأرض، وصار ترابا، واختفت إلهة الحظ تاركة الشحاذ أفقر مما كان؛ وهو يقلب بين يديه كشكوله المشقوق، ويقرع سنه ندما وحسرة ...
الجرو يتحدى فيلا
كان الفيال يقود فيلا هائلا في أكبر طرق المدينة، ورآه جرو صغير، فطفق ينبح حول الفيل ويثب نحوه، كأنه يهاجمه ويستثيره لمنازلته ومصارعته.
فنظر إليه الفيال وانتهره في سخرية، وهو يقول له: أحقا ترغب، يا ضئيل، في مصارعة هذا الفيل؟ فإذا كان الأمر كذلك، فثق أن صوتك سيبح قبل أن يرمقك بنظره، أو يعيرك أقل اهتمام، ونصيحتي لك هي أن ترحم نفسك، وتريح حنجرتك، وتذهب في حال سبيلك.
فقال الجرو الخبيث: هون عليك يا صاح؛ لأني متيقن من صدق ما تقول، ولولا هذا اليقين لما كنت اجترأت على مهاجمة فيلك الجبار تلك المهاجمة التي ستجعل كل من يعلم بها يعجب لشجاعتي ويقول: «انظر إلى هذا الجرو الجريء! حقا إنه بطل صنديد، وداهية شجاع، وإلا لما أقدم على تحدي هذا الفيل.»
النملة1
عاشت في سالف الأزمان نملة، ذكر خبرها مؤرخ نملي عظيم، لا يتطرق أقل شك إلى صدق روايته؛ قال: إنها كانت موهوبة بقوة مدهشة، لم يسبق أن كان لغيرها من بني جنسها مثلها؛ فقد كانت تقوى على رفع حبتين كبيرتين من الشعير عن الأرض، وكذلك كانت لها شهرة ذائعة في الشجاعة والإقدام، حتى إنها إذا ما التقت بدودة هجمت عليها وصرعتها ومزقتها تمزيقا بلا أدنى خوف أو وجل، وقد قيل: إنها كانت لا تخشى بأس العنكبوت.
ولهجت بأخبار قوتها وبطولتها كل قرية النمل، فكانت تزهو بما يغدق عليها من عبارات المدح والثناء، حتى داخلها الغرور، فصارت تختال عجبا ودلالا، وكأنها تقول للأرض: «اشتدي، فما عليك قدي»، إلى أن آل بها الأمر إلى العزم على السفر إلى المدينة العظيمة؛ لتكسب فيها شهرة جديدة، وهكذا هرولت إلى قمة حزمة من التبن، كانت موضوعة بجانب سائق المركبة الذاهبة إلى المدينة وجلست فوقها، وهكذا دخلت المدينة دخول الفاتح العظيم.
ولكن ما أقسى الصدمة التي أصابت كبرياءها، عندما رأت أن أهل المدينة لم يهرعوا إلى الطرق والميادين والساحات العمومية التي مرت بها مركبتها الفخمة؛ لكي يحظوا برؤيتها، وتكتحل عيونهم بمشاهدة ألعابها البهلوانية وشقلباتها الاستعراضية، بل كانوا يروحون ويجيئون وينكبون على أعمالهم دون أن ينظروا إليها، أو يعيروها أقل التفات، فكم وكم حاولت أن تسترعي أنظارهم بالقفز والوثب ورفع المثقلات الكبيرة الحجم دون طائل!
وأخيرا عندما أعيتها الحيل وأضناها التعب، أدارت نظرها إلى الكلب الراقد بجانب مركبة سيده، وخاطبته قائلة: يا عزيزي «فيدو»، ألست ترى مثلي أن كل سكان هذه المدينة الكبيرة مجردون من الإحساس؛ فلهم عيون ولكنها لا تبصر، وآذان لا تسمع، فقد قضيت هنا أكثر من ساعة، أنهكت فيها بدني؛ لأريهم ما أنا عليه من القوة والمهارة في الألعاب التي تسحر الألباب، فلم يلتفت إلي واحد منهم، مع أن شهرتي قد عمت «بلدتنا»، حتى أصبحت أحدوثة أهلها، قالت ذلك، وإذ لم تسمع جوابا من «فيدو»، أدارت له وللمدينة ظهرها، واتجهت نحو قريتها ...
الحمل الوديع
عثر الحمل الساذج على جلد ذئب، فخطر له أن يلعب دورا مضحكا على رفاقه، فارتدى الجلد، وانسل بين أصدقائه وإخوانه في القطيع؛ كي يداعبهم بزيه الجديد.
وقبل أن يدرك ما سببه من الذعر والهلع في الحظيرة، كانت كلاب الحرس فوقه تنشب أنيابها في جلده ولحمه كي تمزقه إربا.
ولحسن حظه أن أدركه الراعي، ورآه تحت جلد الذئب، فزجر الكلاب عنه، وأنقذه من مصير محزن كان محققا. •••
فعلى الحملان الوادعة ألا تظهر بمظهر الذئاب الكاسرة.
الغدير الصغير1
جلس الراعي المسكين عند الغدير الصغير يندب حظه العاثر؛ لأن خروفا من خرافه غرق في النهر المجاور.
وحزن الغدير لحزن الراعي، وأخذ يواسيه ويعزيه، موجها إلى النهر عتابا مرا على أثرته
2
وقسوته، فقال: تبا لك أيها الغدار الشره، ما أقسى قلبك! أليس لجشعك حد، أو لطمعك نهاية؟ فلو استطاع الناس أن يستشفوا ما تحت مياهك العميقة العكرة، كما يقدرون على رؤية ما في مياهي القليلة الصافية، لاقشعرت أبدانهم اشمئزازا من هول ما يرون في جوفك القذر من فضلات الضحايا التي تبتلعها من وقت إلى آخر! وكنت تهرب خجلا؛ لتختفي عن الأنظار بالغور في جوف الأرض، أو الانحدار إلى هوة دامسة الظلام.
أما أنا، فلو أسعدني الحظ بما حباك
3
من قوة باهرة،
4
ومياه زاخرة؛ لكنت أصرفها في سبل غير سبلك، فما كنت أؤذي حتى الدجاجة الصغيرة، وكنت أنساب بكل لطف ودعة بين المساكن والحدائق حاملا الهناء والرخاء والبهجة لها ولكل الوديان والحقول والمروج التي يسعدها حظها بمروري بها في طريقي إلى البحر العظيم، دون أن أسلبها ورقة من أصغر حشائشها، أو زهرة من أحقر أعشابها - قال ذلك مخلصا، وكان مؤمنا بصدق ما قال.
وبعد قليل من الوقت، اكفهر الجو، وأظلمت السماء بالمعصرات
5
المطبقات،
6
ودوى الرعد القاصف، ولمع البرق الخاطف، ثم هطلت الأمطار الغزيرة، وأترعت مسايل المياه، فارتفع ماء الغدير، وصار سيلا عرمرما،
7
أشد طغيانا من النهر، فانطلق يرغي ويزبد ويهدر، جارفا كل ما اعترض سبيله من الأشجار الباسقة، ملتهما كل ما أدركه من حيوان وإنسان، حتى إن صديقه الراعي المسكين لم ينج من شره، هو وكوخه، وما بقي له من قطيعه ...
الثعلب والمرموط1
صاح المرموط بالثعلب قائلا: ولم هذه السمسمة
2
يا أبا الهياطل؟
3
إنك تعدو كالهارب من موت محقق.
فأجابه الثعلب - واللهاث يكاد يقطع أنفاسه - قائلا: ما أفظع التهم التي يلصقها الناس جزافا باسمي، وأنا بريء منها يا صديقي! فقد توليت حراسة بيت الدجاج القريب من هنا زمنا طويلا، لم تغمض فيه عيني طول الليالي، ولم أهنأ بأكل لقمة كل الأيام، حتى اعتلت صحتي، وبعد كل هذا الجهد الجاهد يسوءون سمعتي؛ إذ يقولون عني: إني لص سافل خسيس، فيا لها من تهمة يقشعر لشناعتها بدني! ... أأنا حقا حرامي؟ أيرضيك أن تلصق بصاحبك وصمة عار هو منزه عنه؟ أرجوك، وأتوسل إليك أن تحلف لهم بكل عزيز لديك على براءتي؛ لأنك - دون شك - لم ترني أسرق! أليس الأمر كذلك؟
وقال المرموط: حقا إني لم أرك تسرق الدجاج، يا صاح، ولكن الحق أولى أن يقال: وهو أني كثيرا ما رأيت زغبا
4
لاصقا بخطمك.
5
الذئب ينشد السلام
قال الذئب للعقعق
1
وداعا يا صديقي العزيز، فقد نويت هجر هذه الغابة المنحوسة، بعد أن يئست من نيل السلام والراحة وإدراك الهناء والطمأنينة فيها.
فكل المخلوقات هنا تكرهني، وتنظر إلي كما لو كنت عدوها اللدود.
فقال العقعق للذئب - متظاهرا بالحزن لوقع هذا الخبر في نفسه: وإلى أين فكرت في الرحيل يا هذا؟ - إلى أين ...؟ إلى أي مكان يبعدني عن هذه الغابة البغيضة، وسأحاول أن تكون بلادا نائية، سكانها أودع من الحملان، وكلابها أجبن من الخرفان، وكل أهلها يعيشون مجتمعين على الألفة والمودة، حيث يعم السلام، فأنعم بلذة الحرية، وأستنشق هواءها المنعش، فلا أضطر إلى الاختباء نهارا، وحرمان نعمة النوم ليلا ... و...
فقال العقعق: حسنا تفعل يا صاح! ولكن قل لي بالله عليك؛ ألا تنوي الإقلاع عن وحشيتك الكريهة وخلع أنيابك الحادة قبل دخول هذه البلاد السعيدة؟!
وقال الذئب: كلا، وألف كلا! إذ كيف أستطيع أن أحيا بدونها؟
فقال العقعق: إذن ثق أنك لن تجد سلاما أينما ذهبت.
البرميل الفارغ والبرميل الملآن
سار برميلان في طريقهما من المخزن القديم إلى المخزن الجديد، يدحرج كلا منهما فتى مفتول الساعدين.
وكان أحدهما ملآن بالشراب المعتق، والآخر فارغا جافا لا شيء فيه.
فكان الأول يسير سيرا وئيدا بلا ضوضاء، أما الثاني، فلأنه كان فارغا خفيفا كان يقفز ويترجرج، ويحدث قعقعة ودويا كدوي الرعد، حتى أجفل الذين كانوا في طريقه، وجعلهم يخلونه له فزعا وخوفا، أو اجتنابا لسماع صوته المزعج.
والآن؛ ألست ترى معي يا قارئي العزيز أن عظمة البرميل الملآن قد تجلت بتؤدته ورزانته وصمته، بينما قعقعة زميله الفارغ قد فضحت أمره؟! وأن ذلك يعزز المثل القائل: «إن البراميل الفارغة أكثر جلبة من البراميل الملآنة.»
البرميل ينضح بما كان فيه
استعار جار من جاره برميلا لحاجته إليه لوقت قصير، فأعاره برميله الذي كان يستعمله في نقل ماء شربه أو خزنه.
ورد الجار البرميل بعد أن قضى حاجته منه، وملأه صاحبه ماء زلالا؛ ليشرب منه بعد أن غسله بكل عناية؛ كي ينظفه مما علق به من ثفل الخمر الذي كان الجار قد خمره فيه، وعندما استقى من البرميل وجد طعم الخمر ورائحته قد أفسدا الماء، فمج به من فمه، ودلق - صب - ما كان منه في البرميل، وأعاد غسله بالماء الساخن والصابون الكثير، وبكل ما خطر له ولأصحابه من وسائل التطهير والتنظيف، ثم ملأه، وجرب أن يشرب من مائه، ولكنه وجد أن البرميل لم يزل ينضح بطعم ما كان فيه من الخمر، وعبثا كرر عمليات التنظيف، ولما أعيته الحيل، اضطر إلى بيعه بأبخس الأثمان؛ ليتخلص منه. •••
وفي هذه الحكاية عظة للوالدين والمربين، يجب عليهم ألا يحطوا من قدرها، فالعقل كالبرميل، لا يمكن التخلص من رائحة ما تضعه فيه، خلا كان أو خمرا؛ أي: خيرا كان أم شرا.
فلا تسمحوا لفلذة أكبادكم أن ينغمسوا في تعاليم ضارة، لا بد وأن تعلق بعقولهم ونفوسهم إلى آخر رمق من حياتهم.
السلطان الجديد
... وخاطب الوقوق
1
العندليب
2
قائلا: لقد طال عهد ملكك في هذه الغابة، وأظنك قد تعبت من العندلة
3
كل مساء؛ فإذا كان الأمر كذلك، فالأنسب أن تتنحى عن سلطانك لسواك.
فسأل العندليب الوقوق عمن يقترح ليتنازل له عن سلطانه.
فأجاب الوقوق قائلا: إني أقبل - عن طيبة خاطر - أن أتبوأ هذا العرش، وأضحي براحتي في سبيل القيام بمهام الملك والتغريد كل مساء إكراما لخاطرك.
فقال العندليب: حسنا نطقت! ففي هذه الليلة سأهجر الغابة، وأترك أحياءها تستمتع بشدوك وصداحك.
وعندما أقبل المساء ، جلس الوقوق على فرع شجرة، واستدعى طيور الغابة وحيواناتها، وخاطبها قائلا: لقد رحل العندليب بعد أن أوصاني أن أتبوأ عرشه، وأشنف آذانكم بصوتي بدلا منه، ثم طفق يوقوق بأعلى صوته كي يطربهم، وسكت هنيهة ليجيل بصره في ما حوله، فوجد أن رعيته قد فزعت من زعيقه، وانطلقت الواحدة في إثر الأخرى، وهي تقول: يا لصوت سلطاننا الجديد من وقع مصدع!
وغضب الوقوق، وذهب يبحث عن مكان العندليب حتى وجده، فقال له: نزولا على إرادتك قبلت أن أكون سلطان الغابة، ولكن الطيور - حتى الحيوانات - فزعت من صوتي، وهربت حتى لا تسمعني.
فأجابه العندليب قائلا: يا صديقي العزيز، قد أمكنني أن أتنازل لك عن سلطاني، ولكنني لم أستطع أن أمنحك صوتي ...
المهر ينتقد الفلاح المبذر
رأى المهر
1
فلاحا منهمكا في زرع حقل ببذور الشوفان، فثار ثائره، وقال في نفسه متهكما: يا لها من غباوة لا تحتمل! ألم نسمع من آبائنا وأجدادنا أن الإنسان هو سيد كل الحيوانات بلا منازع؛ لأن الخالق قد حباه عقلا أسمى من عقول بقية الخلائق، فما بالي أرى هذا الإنسان أسخف عقلا، وأقل تدبيرا من أحط البهائم؟! تأمل كيف سوغ له هذا العقل السامي أن يبعثر في الأرض كل ما معه من الشوفان اللذيذ الذي يمكن أن يشبع حصانين وأكثر، أو عددا كبيرا من الدجاج، فلو كان له عقل - كما يقولون - وأعطاني هذا الشوفان، لكنت أريه كيف يصح أن ينتفع به؟ أهذا ما يسمونه عقلا؟ حقا إنه جنون، جنون مطبق، بل أراه تبذيرا يستحق مرتكبه أقسى عقاب.
وكر الليل والنهار حتى أقبل الخريف والحصاد،
2
فأعطت الحصيدة
3
من حب الشوفان القليل الذي «بعثره» الفلاح في الحقل، بشوفان كثير، كفى المهر وأهله وإخوانه وجميع أهل المزرعة وطيورها كل فصل الشتاء الطويل.
تعليم الأمراء
كان للأسد، ملك الغابة، ابن وحيد، فلما طوى السنة الأولى من عمره السعيد، رأى والده أن الوقت قد حان للبدء في تثقيفه تثقيفا يليق بولي عهده، وفكر المستشارون أولا في أن يعهدوا بهذه المهمة إلى الخلد لما له من الشهرة الذائعة في حب النظام والترتيب، والتأني والتريث في كل أعماله وحركاته، حتى قيل عنه: إنه لا يأكل حبة حنطة ما لم يتحقق نظافتها، ثم عدلوا عنه لما تذكروا أنه لا يستطيع أن يدرك إلا ما يقع تحت أنفه، وأن لا قدرة له على إدراك ما هو بعيد عنه، خصوصا لأن مملكة أسامة
1
تختلف عن بيت الخلدان
2
اتساعا ورحابة، ثم فكروا في النمر؛ لرشاقته، وقوته، وشجاعته، وبراعته في فنون الحرب والقتال، ولكنهم عدلوا عنه لرعونته، ولقلة إلمامه بالأمور السياسية والشرعية والإدارية.
وعلم العقاب - ملك الطيور - بالخبر، فتقدم ليتولى أمر تربية ولي العهد، وابتهج ملك الغابة بهذا التوفيق الحميد؛ إذ من يمكن أن يفضل ملك الطيور في تعليم ولي عهد ملك الحيوانات؟ وهكذا صدر الأمر بإرسال ولي العهد إلى مسكن العقاب ليتهذب تهذيبا يليق بملك الغابة.
ومرت بضع سنوات، وأكمل ولي العهد تعليمه، وعاد إلى والده الملك، ودعا الملك شعبه المتعطش إلى رؤية ولي العهد المحبوب، وعندما اجتمع كل الشعب، ضم ابنه إلى صدره وقال له: يا ولي عهدي المحبوب! إني قد دنوت من القبر، وأرغب في أن أسلمك صولجان مملكتي، فقل لي أمام رعيتنا؛ كيف تنوي أن تسوس هذا الشعب الحبيب؟
وقال ولي العهد: يا أبت العظيم، إني تعلمت ما لم يتعلمه سواي من أفراد شعبنا المجتمع أمامنا هنا؛ ولذا تراني ملما بكل ما يحتاج إليه كل نوع من طيور السماء من الغذاء، فأنا أعلم من سواي بما يأكله كل جنس منها، وعدد البيضات التي يبيضها، وإن شاء الله وتبوأت العرش - بعد عمركم الطويل - فإني أنوي أن أعلم كل حيوانات الغابة، كيف يجب أن تبني أعشاشها وأوكارها ...
كما تزرع تحصد
مر الذئب مهرولا صوب القرية، يطلب النجاة من مطارديه، ولمح هرة مكنكنة على غصن شجرة، فخاطبها قائلا: دليني - بربك - على كوخ لرجل يكون أطيب أهل قريتكم قلبا، وأوفرهم كرما، وعجلي كي ألجأ إليه، وأحتمي به قبل أن تلحقني الكلاب المطاردة، التي تسمعين نباحها خلفي! - اذهب إذن إلى كوخ السيد حبيب بلبع، ولا تخف؛ لأنه مشهور بطيبة قلبه. - بلبعك هذا غاضب علي؛ لأني اختطفت حملا صغيرا من خرافه الكثيرة في الربيع الماضي. - جرب إذن دار السيد إبراهيم عبد الله؛ لأنه من أفاضل أهل القرية أجمعين! - يمكن أن يكون هذا الرجل كما تصفينه وأفضل، يا أختاه، ولكن الضرورة ألجأتني إلى سرقة جدي من غنمه منذ أسبوع، فلا أمل لي في حمايته إذن. - ما أحرج مركزك! والآن لم يبق لك من أمل إلا في الالتجاء إلى دار السيد أبي خليل، فهي ملجأ كل بائس مستغيث. - وهذا لا يمكنني الدنو منه، أو من داره؛ لأني أغريت على افتراس عجل من عجوله المسمنة منذ عهد قريب. - يا لك من أحمق تعيس! أتزرع حربا وترجو أن تحصد أمانا؟ ألم تسمع أن: «من يزرع الشوك لا يحصد به العنبا»؟ فعد أدراجك إذن، وإلى حيث ألقت رحلها أم عامر!
الخنزير الكبير
أفلت خنزير من زريبته، وذهب إلى حوش قصر صاحب الضيعة، وطاف بأرجاء ساحاته الفسيحة؛ طالبا مستودعات الأقذار؛ ليملأ بطنه منها، أو بركة موحلة ينغمس فيها، وتنقل من زريبة إلى إصطبل، ومن مزبلة إلى مطبخ، وكاد يطير فرحا عندما سقط في مستنقع أوساخ القصر، فجعل يتمرغ ويتقلب فيه، وأخيرا عاد إلى زريبته، بعد أن أشبع شهوته، خنزير لا شك فيه، تكسوه الأقذار من فرطوسته إلى ذيله، ولما رآه الراعي، قال له: والآن صف لي يا صاح، ما شاهدت في هذا القصر الفخم أثناء جولتك؟ فقد سمعت أوصافا عجيبة مدهشة ممن زاروا هذا القصر العجيب، حتى إن بعضهم ذكر أن غرفه تتلألأ بالدر والماس والياقوت.
فقال الخنزير: هذا كلام فارغ؛ لأني لم أر هناك لؤلؤا ولا ماسا، وكل ما لقيته لم يكن سوى ما تتوق له نفسي من القمامات والأقذار والأوساخ.
مكافأة السنجاب
طلب ملك الغابة خادما أمينا مخلصا، صغير السن، سليم البنية، خفيف الحركة، وتقدم السنجاب؛ ليحظى بشرف الخدمة، فقال له الملك: إني أقبلك في معيتي، فإن أنت أحسنت القيام بخدمتي في عنفوان شبابك، وهبت لك قدرا عظيما من أحسن ما في الغابة من البندق والجوز عندما تتقدم في العمر.
وهكذا قام السنجاب بأعباء منصبه بكل همة ونشاط، مزهوا بخدمة سيده الملك، لاهيا عما لبدنه عليه من حق، إلى أن فات سن الشباب، وأدركه العجز عن الاستمرار في تأدية واجباته، وتلبية أوامر سيده.
وأقاله ملك الغابة من منصبه، بعدما منحه وساما ولقبا ساميا، وكذلك أعطاه ما وعده به من أفخر أنواع البندق والجوز، وحمل السنجاب ما ناله بعرق جبينه، ذاهبا إلى جهة نائية من الغابة؛ ليستمتع به في ما بقي له من العمر، بعيدا عن متاعب الحياة وهمومها.
وأمسك بجوزة، وحاول عبثا أن يكسرها؛ لينعم بأكل لبها؛ وذلك لأن أسنانه كانت قد ذهبت مع شبابه الذي أفناه في سبيل الحصول على هذا الجوز الثمين.
الثقة العمياء
ضل الحمار الضرير طريقه، بعد غروب الشمس، وتاه في مسالك الغابة الكثيفة الواسعة، فظل يتسكع بين الأشجار، إلى أن وقف حائرا لا يدري: أفي سلامته أن يتحرك يمنة أم يسرة؟
وأدركته عندئذ بومة
1
كانت تحوم بين الأشجار، وعرضت عليه استعدادها لإرشاده حتى يخرج من الغابة بسلام، وكلنا نعرف أن البومة تستطيع أن تبصر في أحلك ظلام، فلا يخفى عليها كل ما يمكن أن يتعثر أو يتردى فيه الحمار من الحفر أو الحفائر، والوهاد أو المهاوي،
2
والنقر والأغوار، والبرك والمستنقعات، وقبل الحمار عرضها، فقعدت على ظهره وقادته في مسالك الغابة الوعرة إلى أن خرجت به سالما إلى السكة السلطانية عند بلوج الصباح.
واستصعب الحمار أن يفارق مثل هذا القائد الطيب، فتوسل إلى البومة؛ كي لا تفارقه، فتقوده إلى أن يهتدي إلى مثواه.
وقبلت البومة، عن طيبة خاطر، وظلت ممتطية ظهر الحمار، معتزة بمكانتها، وسار الاثنان في طريقهما.
وإذ طلعت الشمس وتبدد الظلام، شعرت البومة باضطراب نظرها، وأن الضوء قد أعشاها، فبدأت تزر عينيها، حتى إذا ما ارتفعت الشمس، واشتد ضياؤها، فقدت البومة كل قدرة على الإبصار، وأضحت عمياء كالحمار الذي تقوده، ولكن حب العظمة منعها من التنحي عن مركز القيادة الذي وصلت إليه في ظلام الليل، وصارت لا تصلح له في النهار، ولكي تجعل الحمار لا يشعر بما آلت إليه ، قالت له: حذار من أن تنحرف إلى اليسار؛ لأني أرى هناك بركة ماء ... فمال الحمار إلى اليمين، وسقط في هاوية كانت بادية للعيان، فهلك.
الفلاح وخادمه
بينما كان الفلاح يسير نحو داره عند غروب الشمس ومعه خادمه الأمين في طريق الغابة، إذ طلع عليه بغتة دب أسمر كبير الجسم، وفي أقل من لمح البصر، وجد نفسه في حضنه الرحب، وشعر بكتفه بين فكي الدب.
فأجال الدب نظره حوله؛ ليرى مكانا منعزلا هادئا يذهب إليه بفريسته ليتمتع بأكلة شبع هنيئة.
وزعق الفلاح هلعا يستغيث بخادمه، طالبا منه أن يتقدم لإنقاذه من هلاك محقق، وأطلق لسانه بتذكيره بواجب المروءة، وحلاوة التضحية في سبيل إجارة المستجير.
وتقدم الخادم معرضا حياته للخطر، وضرب الدب بفأسه عدة ضربات صرعته بعد أن مزقت جلده.
فلما أفاق الفلاح من ذهوله، وشعر بزوال الخطر، نظر إلى الدب الصريع، ثم حدج الخادم ببصره، وطفق يسبه ويلعنه بأقسى الشتائم وألعن اللعنات. •••
ولما سأله الخادم عن علة غضبه، قال له: ألم تدرك - إلى الآن - أيها الجاهل الأحمق، والنذل الجبان، فداحة ما سببت لي من الخسارة بجهلك ورعونتك؟!
تأمل وانظر، أيها الغبي، كيف أنك أضعت علي قيمة هذا الفرو الثمين بتمزيقه بضرباتك الطائشة التي تكررت بلا داع، حقا إنك تستحق أقسى قصاص!
الوزة الغاضبة
مر الراعي يسوق أمامه قطيعا من الوز، وفي يده قصبة طويلة كانت دائمة التنقل على ظهور أفراد القطيع، تستحثه على الإسراع في السير لإدراك سوق المدينة في معمعان حركته.
واستشاطت الإوزات غضبا لهذه المعاملة المهينة، واعترضت زعيمتهن طريق أول عابر سبيل، وزعقت في وجهه بأعلى صوتها قائلة: انظر يا سيدي كيف يعاملنا هذا الغبي الأبله؛ لأنه يجهل ماضينا المشرف الذي نستحق من أجله كل تبجيل واحترام، إنه لم يقرأ تاريخ «روما» العظيمة؛ ليعرف أن لأسلافنا فضل إنقاذها من الخراب والدمار ...
فأجابها عابر السبيل قائلا: هذه قصة لاكتها ألسن كل الناس، وهل تظنين أنكم - معاشر الوز - تستحقون رعاية الناس وإكرامهم، من أجل ما فعله أجدادكم وجدود أجدادكم؟ - طبعا! لا ريب في ذلك، وأظنك تعرف أن أسلافنا ... - نعم، نعم، أعرف كل ذلك، وقد قرأته في قديم الأسفار؛ لأنه حدث في سالف الأيام، ولكن خبريني بربك، ما الذي فعلته أنت أو أصحابك في هذه الأيام لخير الناس والإنسانية مما يجعلكم تطمعون في إكرامكم اعترافا بفضلكم؟ - نحن؟ نحن أنفسنا لم نأت عملا، ولكن أسلافنا ... - دعينا من ذكرى السلف، واتركيها ترقد مع أصحابها بسلام، أما أنت، وبنات وأبناء جنسك، فالفائدة الوحيدة المرجوة منكم الآن هي إشباع بطون الناس بلحومكم اللذيذة.
لا تقل أصلي وفصلي أبدا
إنما أصل الفتى ما قد حصل
الحمار يقلد وساما
يحكى أن رجلا أحب حماره الفاره
1
حبا جما؛ لأنه كان في نظره درة يتيمة، قل أن يجود بمثلها الزمان.
ولكي يطمئن عليه من الضياع، علق في عنقه جرسا صغيرا جميلا، له جلجلة بعيدة المدى.
ولأول وهلة طار الحمار فرحان بوسامه الرنان، فصار يتخطر ويتميس في مشيته، وكلما رن صوت الجرس في أذنيه زهي به، وازداد تيها وعجبا ودلالا، حتى خيل إليه أنه سلطان زمانه.
وهناك مسألة يجب أن نقررها، على رغم ما فيها مما كان يصح أن يبقى في طي الكتمان؛ وهي أن صاحبنا كان قد اعتاد أن يسمح لنفسه، من وقت إلى آخر، كلما نقت ضفادع بطنه،
2
أن ينزلق في حدائق أو حقول الجيران، من فتحة في السور أو فرجة في السياج؛ ليقرطم ما يصل إليه فمه من نبات القمح أو الشعير أو الشوفان، أو ما تقر عينه برؤيته من الخضراوات الغضة النضيرة كالخس والكرنب أو قرة العين،
3
وكان يحدث ذلك دون أن يشعر أحد بدخوله أو خروجه، أما الآن فإن الحال قد تبدلت، وأضحى ستره مفضوحا بذلك الوسام، فكان كلما حاول أن ينسل كعادته القديمة؛ ليشبع شهيته من حقول الجيران تنبه أصحابها من جرس
4
وسامه إلى وجوده، وحالوا بينه وبين رغبته بعصيهم الغليظة، حتى يعود أدراجه بعد أن يشبعوه ضربا مبرحا، يترك كل مرة حباره المؤلم بجلده.
وهكذا لم ينقض الصيف على حامل الوسام هذا حتى صار على الجلد والعظم لا يخشى عليه من عين الحسود أو سطو اللصوص إذا جرد عنقه من القلادة الرنانة. «اللص لا يسرق ناقوسا.»
الذئب والفارة
سرق ذئب خروفا سمينا من خراف القطيع الآمن، وجرى به لا يلوي على شيء إلى ناحية نائية من الغابة المجاورة، وطبعا لم ينتظر أن يكون الذئب مقراء
1
لخروف، وأن يعتني براحته وسلامة صحته، بل العكس ما وقع، وكان متوقعا؛
2
إذ غرز الذئب أنيابه الحادة في جسم الخروف، وأربه
3
إربا، فالتهم منه قدرا أغصه، بل أبشمه، وترك الباقي كي يأكله في وقعة تالية، وربض إلى جانبه يحرسه، ويفكر في وسيلة لاقتناص فريسة جديدة إلى أن غلبه سلطان النعاس فراح يغط في عالم الأحلام.
وكانت هناك فارة صغيرة، عضها الجوع، فقعدت ترقبه من بعيد، معللة نفسها بأن الذئب سيذهب بعد أن يشبع، فيترك فضلات مائدته للجياع المساكين أمثالها.
ولما رأت أن أملها لم يتحقق، وشعرت بأنياب الجوع تنهش أحشاءها، استحلت لنفسها قطعة صغيرة تمسك رمقها بها، إلى أن ترزق بما يكفي لسد حاجتها.
وسارت تتكسحب
4
حتى أدركت فضلات الفريسة، وقضمت منها قضمة صغيرة، ثم هرولت راجعة إلى جحرها في جذع الشجرة، وتنبه الذئب في اللحظة التي أطلقت فيها الفارة ساقيها الصغيرتين للريح؛ كي تنجو بغنيمتها التافهة، وأطلق بدوره صيحات الاستغاثة وطلب النجدة، قائلا: يا خفير!
5
يا بوليس!
6
أغيثوني! الحقوا الحرامي! فقد هرب بكل مالي، وجردني مما ادخرت لعيالي!
وقامت الدنيا وقعدت للقبض على اللص الخطير الذي يهدد الأمن العام وسلام الغابة، وتقديمه للمحاكمة؛ لينال ما يستحقه من صارم العقاب، على ما جناه عليه بطنه القاسي الذي لا يرعوي لقول آمر، ولا تهديد حاكم، إذا ما نقت ضفادعه.
7 «المعدة التي تهزأ عند الجوع بكل سلطان.»
الطباخ وسنوره المحبوب
اشتهر طباخ البلدة بالعلم الغزير وطلاقة اللسان، وذهب ذات يوم إلى حانة قريبة ليحيي الذكرى الأولى لوفاة نديم عزيز باحتساء كأسين من الخمرة على روحه المرحة الطاهرة، تاركا قطه المحبوب ليحرس مخزن الأطعمة اللذيذة التي تعب كثيرا في تهيئتها.
ولما عاد - وكان قد انتشى من الشراب - وجد الهر رابضا على الأرض، تحوطه قشور فطائر الشبارق والشطائر وفتات الكعك المبعثرة هنا وهناك، يهر كعادته هريرا لينا، وفي فمه وبين مخلبيه عظام دجاجة ينحضها
1
ويداعبها، فطار صواب الطاهي لهذا المنظر الذي أفزعه، وطفق يعنف الهر مغيظا، وراح ينهره بما حضره من عبارات كان يحرص كل الحرص على استظهارها ليلقيها في مثل هذه المناسبات؛ فقال له: ويحك أيها اللص الشره! قاتلك الله أيها الخائن الغدار والوغد اللئيم! ألم تخجل من فعلتك تلك بمرأى ومسمع من هذه الحيطان؟ لم يخطر لي ببال قبل الآن أن أجد فيك لصا شريرا بعد ما اشتهرت عند القاصي والداني بالتقوى والصلاح؛ لكثرة هريرك وخريرك الذي خدعت به الناس فحسبوه تمتمة بالصلاة والابتهال واللهج بذكر الله! ويل لمن اتخذ الدين مطية للدنيا! ويا له من عار شنيع حين يدري الجيران بأمرك، فيوصدون في وجهك أبواب بيوتهم ومطابخهم، وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل أظنهم سيلاحقونك باللعنات، ويصمونك بشتى الوصمات الشائنة؛ لأنك لم تحفظ لي ولهم حرمة الممالحة!
2
تبا لك أيها ال ...!
وانطلق لسان الطاهي بالشتم والتوبيخ واستنزال اللعنات، مأخوذا بإعجابه ببلاغة منطقه، بينما كان الهر الخبيث يحدجه بنظرة التعجب الودي، ويعمل لسانه وأسنانه للإتيان على ما كان باقيا بين يديه من طعام شهي. «ومن استرعى الذئب فقد ظلم.»
الأفعى تستعطف الفلاح
انسلت حية إلى كوخ فلاح، ولما رأت صاحبه انطلق لسانها ذو الشعبتين يلتمس منه بذلاقته - التي خدعت آدم وحواء - أن يسمح لها بالإقامة معه؛ لتؤانسه وتساعده على تربية صغاره، والاهتمام بشئون تثقيفهم وتلقينهم مبادئ الحكمة التي اختص الخالق بها بنات جنسها؛ ذلك لأنها سئمت عيشة الوحدة والكسل، فهامت على وجهها تبحث عن عمل نافع.
قالت: يحتمل أن يكون قد بلغك أننا معشر الأفاعي من الحيوانات العققة
1
التي تتنكر لمن يحسن إليها، أسوة بالذئاب والبشر ... عفوا يا سيدي! ... عفوا! وألف عفو! فقد زلق لساني بما اعتدنا أن نكرره فيما بيننا على سبيل التعميم، جهلا وخطأ؛ لأن بينكم - بلا شك - من لا ينطبق عليه هذا الوصف أمثال حضرتكم؛ كما أنكم تجملون أنتم عند اتهام الأفاعي بأنها مجلبة الشر والنحس إلى هذه الدنيا الجميلة، دون استثناء لأمثالي الذين عاشوا كل حياتهم عيشة شريفة مشرفة، وها أنت ترى بعينيك أنني جازفت بتعريض حياتي لخطر القتل؛ كي أعرض على حضرتكم استعدادي للقيام بكل ما تطلبونه مني من الأعمال الشريفة؛ خصوصا العناية بصغاركم؛ لأن هذا هو ما تصبو إليه نفسي منذ صغري؛ وإنني أعدكم بشرفي ... أني سأقدر لكم فضلكم ومعروفكم وأخدمكم بكل جوارحي.
وقال لها الفلاح: ربما كنت صادقة ومخلصة فيما عرضته علي، ولكني أخشى إن أنا مددت إليك يد الصداقة والترحاب أطمع ذلك غيرك من بنات جنسك بالدخول إلى منزلي، وغيرك يتبعه غيره حتى يمسي منزلي مباءة للأفاعي والحيات، وأظنك تربئين
2
بنفسك عن ضمان عدم نشوب أنياب بعضها في لحم عيالي، وعليه أرى نفسي مضطرا يا سيدتي أم عثمان،
3
الشهيرة بحكمتها، أن أخبرك أن أمثالي لا يمكنهم أن يسمحوا لأمثالك بالعيش في منازلهم، مهما انتحلنا لأنفسنا من الأعذار؛ لتسويغ هذا العمل.
وانهال على زائرته بضربة فأس كانت القاضية. «العرق دساس.»
الذبابة المغرورة
حطت ذبابة مزهوة
1
على العربة الملكية في أثناء مرورها في أحد شوارع العاصمة، ورأت غبارا مرتفعا، وأناسا على جانبي الطريق، يصفقون ويهتفون ابتهاجا برؤية ملكهم، وخيل إليها أن ما تراه قد حدث من أجلها، فقالت في نفسها: «لماذا لم يتح لي أن أعرف قبل الآن ما لي من الخطر
2
وعظمة الشأن، حتى أقمت بمروري الدنيا وأقعدتها، فأثرت كل هذا الغبار، وأحدثت هذه الضوضاء.»
قالت ذلك، ووثبت طائرة إلى ظهر أحد جوادي المركبة الملكية.
واتفق عندئذ انطلاق أول مدفع من مدافع الترحيب ونقز
3
الجواد الذي حطت على ظهره، فخاطبته قائلة: «أرجوك المعذرة؛ لأني ما كنت أعلم أن ثقلي عظيم بهذا المقدار الذي لا يحتمله ظهرك، وأرجوك أن تصبر قليلا حتى يهدأ الشعب من هتافه وتصفيقه الذي اشتد الآن عندما رآني أقود المركبة بنفسي.»
وعند ذلك هز الجواد ذيله فأصاب الذبابة فهوت صريعة ...
النار! النار!
اشترك ثلاثة في تجارة، ربحت ثروة عظيمة بعد عدة سنوات قضوها في الكد والجد والاقتصاد والحرمان.
وحان وقت اقتسام الأرباح؛ ليأخذ كل منهم نصيبه، فاجتمعوا في متجرهم، وحدث بينهم ما يكثر حدوثه في مثل هذه المناسبات في كل أنحاء العالم، وبخاصة في بلاد الشرق، من الأخذ والرد، والمشادة والمجادلة بخصوص حصة كل منهم، وبينما هم كذلك إذ دوى في كل المكان صوت استغاثة؛ لأن نارا شبت في ذات المبنى الذي كان فيه متجرهم، فقال أحدهم - وقد وقف مذعورا: «هيا بنا إلى الإسراع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبلما تلتهم النار كل شيء، ولنترك المحاسبة إلى ما بعد.»
وصاح الثاني قائلا: «ولكني لا أتزحزح من هنا قبل أن تعترفا لي بحقي في مبلغ الألف الذي يخصني بناء على نص الفقرة الثالثة من البند العاشر من عقد شركتنا المسجل ...»
وعندئذ اشتدت صيحات الهلع وطلب النجدة والغوث من جميع الجهات المحيطة بالمتجر؛ وكانت كلمة «النار! النار!» تتكرر بصوت مفزع.
وهم الشريكان؛ يقصدان النجاة، ولكن الشريك الثالث اعترض سبيلهما، وصاح بهما قائلا: «كلا! وألف كلا! فلا يمكن لأحدكما أن يخرج من هنا قبل أن نراجع ما بيننا من الحساب؛ لأرى كيف جاز لكما أن تغمطاني حقي وتنتقصان ثلاثة آلاف من نصيبي في أرباح الشركة، ولنقعد هنا حتى نستوثق من صحة الحساب وننهي ما بيننا من خلاف قبل أن نفكر في مبارحة هذا المكان.»
فأجابه الشريكان وقالا بنفس واحد: «هذا كلام فارغ! ونحن لا نسمح لمثلك باتهامنا بالخيانة، وعدم مراعاة واجب الأمانة، وسنثبت لك من دفاترك ودفاتر الشركة أن الميزانية التي أمامنا لا يشوبها أقل شك في صحة أرقامها ...»
وكان الجدل بخصوص حساب الأرباح التي تخص كلا منهم قد أنساهم خطر النيران المحدقة بهم، فاستمروا في خصامهم إلى أن أحاطت بهم ألسنة اللهب، فحالت دون نجاتهم، ثم التهمتهم ودفاتر حسابهم، وكل ما كان لهم من مال وسلع وعقار.
زهرة الحقل الزرقاء والخنفساء
كانت الزهرة الصغيرة الزرقاء التي نبتت منزوية في ركن مهجور من الحديقة الغناء تعاني غصة الشعور بالضعف والذبول ودنو الأجل، وفجأة انتصبت واقفة على عودها في صحوة موتها، وطأطأت رأسها لأن برد الليل لم يترك لها من القوة ما يمكنها من حملها منتصبة فوق عاتقها، وطفقت تناجي نسيم الفجر البارد الذي كان يداعب أوراقها، وقالت متأوهة - وهي تكاد تلفظ آخر أنفاسها: «آه، لو انبلج النهار، وأشرقت الشمس! إني أومن بأنها - جلت قدرتها - سترسل لي مع أشعتها الذهبية حياة جديدة ...!»
وسمعتها الخنفساء التي كانت جالسة بالقرب منها، فانتهرتها قائلة: «ما هذا الهذيان الضائع في جو هذا الفجر الصاقع؟ أتظنين أيتها النبتة الغبية الحقيرة أن الشمس بجلالة قدرها لها من وقتها الثمين ما يسمح بالتفكير في أمر سلامة زهرة لا قيمة لحياتها مثلك أو هلاكها؟ فلو كنت قد تجولت في أرجاء العالم الكبير - كما فعلت - لرأيت أن المروج الوسيعة، والمراعي الفسيحة، وحقول الغلال بأنواعها العديدة تستمد حياتها من هذه الشمس العظيمة التي ترجين منها العون على استبقاء حياتك، وعلمت أن هذه الشمس - عزت وجلت - لا تشرق إلا على الأشجار الباسقة، كالبلوط والأرز والحور والزان؛ لتمدها بأسباب الحياة، كما أنها تكسو النباتات والزهور العطرية بما يبهر الأنظار من الألوان البديعة التي تسيل الدموع من عيون المناجل عندما تضطرها قسوة الإنسان وجشعه إلى حصدها، أما أنت فلست بالعظيمة القدر أو الكبيرة الحجم، ولا بالجميلة المنظر أو الذكية الرائحة حتى تطمعي في رعاية هذه الشمس - جل جلالها - لأن لديها من الأمور الهامة ما لا يسمح لها بالاستغناء عن شعاع من أشعتها الذهبية ترسلها لأجلك، فالزمي الصمت، واذبلي لتموتي بسلام، فتستريحي وتريحينا من سماع توسلاتك وأنينك وآهاتك.» •••
ولكن الشمس المحبوبة أشرقت كعادتها في الصباح، وأرسلت أشعتها إلى كل ما وقع تحت بصرها، كبيرا كان أم صغيرا.
وهكذا شملت هذه الأشعة زهرتنا الصغيرة الزرقاء التي أذبلها برد الليل، فأعادت إليها حياتها وسعادتها.
معاهدة صداقة وعدم اعتداء
تناول الكلبان أكلة شبع من طعام وافر لذيذ في مأدبة أقيمت لتأييد السلام، ثم تمددا في ظل الشجرة الوارف، يتجاذبان أطراف الحديث في هدوء وسلام واطمئنان، وتحدثا عن كل ما يهمهما أمره، وعلى الخصوص عن عيشة
1
الكلاب أمثالهما، وعن تقلباتها العنيفة بين شظف ونعيم، وسادة أشرار وأبرار، وطهاة لؤماء وكرماء.
ثم تنقلا في الحديث من فلسفة الحياة إلى هناء الصداقة وجمال المحبة، التي تأمر بها كل الشرائع والأديان، وقال أولهما: ما أحلى المودة عندما تستحكم حلقاتها بين كلبين، مثلي ومثلك، مثلا، فنحن من أعضاء هذا البيت، وعلى كلينا تقع تبعة حراسة رتاجه،
2
ورد اللصوص عن أعتابه، وليست لنا مطامع كبيرة كغيرنا من المخلوقات الجشعة؛ لذلك يجب أن نتعايش بالألفة والمودة من الآن فصاعدا، فلا نسمح لخصام أن يشجر بيننا مهما عظمت أسبابه، وما دمت من رأيي فلنتعاهد على العيش أصدقاء مخلصين في السراء والضراء، وهات يدك لنتصافق على هذا العهد!
فنهض ثانيهما على مرفقيه، وهز رأسه استحسانا لهذا الكلام، ثم أقعى
3
ومد يده ليصافق رفيقه ... •••
وعندئذ شاء الحظ السيئ أن ينفتح شباك المطبخ وتلقى منه عظمة صغيرة أطارت صوابهما وبددت عهودهما، فكانت مثار نزاع تقطعت بسببه أواصر المحبة والصداقة والأخوة، وتمزق لحم كل منهما، بأنياب أخيه.
وهكذا تكون المحبة وإلا فلا!
صياد الفراش
في أفقر أحياء المدينة الروسية الصغيرة، عاش ثلاثة إخوة عيشة البؤس والمسغبة، ولازمهم النحس في كل ما مارسوه من الأعمال، فكانوا يندبون حظهم العاثر كلما نكبوا بخسارة.
وفي ذات يوم طرقت بابهم السيدة «فرتنى»،
1
واعتذرت لهم عن تقصيرها في أمرهم، وطلبت منهم أن يضيفوها على قدر ما تسمح أحوالهم.
وظهرت بوادر الحظ في كل أعمال الأخ الأكبر التجارية فأثرى، حتى قيل عنه: إنه أصبح «إذا مس التراب صار ذهبا»، بعدما كانت الحال عكس ذلك.
وكذلك نجح الأخ الثاني في كل ما قام به من مهام مناصبه الحكومية حتى بلغ أعلى المراكز.
أما الأخ الثالث فكان يصرف وقته من الصباح حتى المساء بالتلهي بصيد الفراش و«نش الذباب»، وقد قال أصحابه : إن حظه لما كان في السحاب كان عقله راقدا في التراب، فلما بارحتهم السيدة «فرتنى» بكى وانتحب؛ لأنها تركته كما كان عندما عرفته.
الحصاة والماسة
سقطت ماسة ثمينة من قلادة كانت في عنق صاحبتها العظيمة، وبقيت مطمورة في الأرض بين الحصى والتراب زمنا طويلا، إلى أن عثر عليها جوهري كان سائرا في طريقه إلى المدينة، فذهب بها إلى الملك وباعه إياها، فأمر الملك بوضعها في أظهر مكان من تاجه.
واتصل بحصاة كانت ترقد بجانب هذه الماسة خبر ما أدركته جارتها الماسة من حظ سعيد، فهزها سرور الأمل ببلوغ ما بلغته جارتها السابقة، وقالت لأول عابر سبيل رأته متجها نحو العاصمة: «أيها المواطن العزيز! أرجوك أن تمد يدك وتلتقطني، وتحملني معك إلى المدينة؛ لأني سئمت طول الرقاد هنا في أحضان الوحل والتراب، فقد كانت ترقد في جواري حصاة مثلي، بل أصغر مني حجما، ووقع عليها نظر فاضل مثلك، فالتقطها وحملها إلى قصر الملك حيث نالت حظوة (منزلة) في عينيه، فبلغت أعلى مراتب العز والجاه والسؤدد، أرجوك يا سيدي، وأستحلفك بكل عزيز لديك، أن تساعدني على الوصول إلى جلالة الملك؛ لأني واثقة من أني سأنال حظوة في عينيه كما نالت تلك الحجرة الصغيرة التي كانت جارتي.» •••
فالتقطها الرجل شفقة عليها، ووضعها في جيبه إلى أن بلغ بها المدينة، وكانت كل الوقت تعلل نفسها بحلاوة الأمل بقرب بلوغها منزلة صديقتها القديمة في تاج الملك، ولكن الذي وقع كان غير ما توقعت؛ لأن الذي حملها ألقى بها إلى حيث بقيت إلى أن وضعت في الموضع اللائق بها في رصف الطريق.
الغراب والبومة
اجتمع البوم بالغراب في مجلس أنس، ودار بينهما الحديث إلى أن قال أولهما لثانيهما: «كم وكم من المرات وددت لو أتيحت لي الفرصة لأعرب لك عن عظيم إعجابي بصوتك الرخيم وتقديري لجماله! والحق أقول لك: إني لا أجد بين كل الطيور الصداحة، التي تعج بها الغابة من يبزك أو يضارعك في حلاوة الصوت، وحسن الإيقاع والتنغيم والتطريب، فعندما أسمعك تصدح أتمنى ألا أحرم سماعك إلى آخر لحظة من حياتي، ولما تسكت أنتظر - على أحر من الجمر - عودك إلى الشدو والتغريد.»
فأجاب ثانيهما شاكرا لأولهما حسن تقديره؛ قال: «وأنا بدوري أنتهز هذه الفرصة السعيدة لأعبر لك عما أشعر به من فرط السرور، كلما سمعت تغريدك الشجي في سكون الليل، مما يحملني على الاعتقاد بأنه أحسن ما سمعت من أصوات الطيور قاطبة.»
وسمعهما «العصفور الدوري» وكان على مقربة من مجلسهما، فخاطبهما قائلا: «يا صديقي العزيزين، ليس لي ما أستطيع به أن أمنعكما أن تتقارضا الثناء وتتبادلا المديح والتمليق والإطراء، إلى أن يبح صوتكما، ولكن كل ذلك لا يمكن أن يغير وجه الحقيقة الراهنة التي يعرفها كل من له أذنان واعيتان ...» •••
والآن، أتعلم لماذا أطرى الغراب البوم؟
ذلك لأن البوم تملق الغراب! ...
أبو الأشبال يصطفي فيلا
لسبب ما، اصطفى ملك الحيوانات
1
فيلا ليكون جليسه ونديمه وأمين سره، وانطلقت ألسن أهل الغابة تلوك الخبر، وتعقب عليه بما يعن لأصحابها من آراء وملاحظات، فمن قائل: أن ليس للفيل من حسن المنظر، أو توقد الذهن، أو سرعة الخاطر ما يحبذ هذا الاختيار غير الموفق.
وقال أبو نوفل،
2
وهو يلوح بذيله تيها وعجبا: «لو كان للفيل مثل هذا، لكنت أدركت سبب اختياره لهذا المنصب السامي.»
وقال الدب: «أو لو كان له مثل مخالبي الحادة لما كان لأحد أن ينتقد هذا الاصطفاء.»
وقال الثور - وهو يهز رأسه محتجا: «أظن أن صاحب الجلالة أعجب بنابي الفيل الطويلين ظنا منه أنهما قرناي.»
وقال الحمار، بعد أن نفض رأسه فاهتزت أذناه: «يدهشني ألا أجد بينكم، أيها الرفاق، من أدرك أن للفيل أذنين طويلتين كهاتين ... ولأجلهما اصطفاه ملكنا المحبوب!»
العقاب والخلد
حلق العقاب وعنزته
1
فوق الغابة ليكتشفا أمنع مكان فيها، وأخيرا وجدا بلوطة عتيقة سامقة الفروع والأغصان، واختاراها ليبنيا فيها مقناتهما
2
حيث يربيان فراخهما في منجى من غدر الأعداء.
وشعر بهما خلد
3
يعيش في جحر تحت البلوطة؛ فناداهما محذرا من قرب سقوط البلوطة؛ لأن جذورها قد أبلاها الهرم، فأصبحت لا تقوى على احتمال ما فوقها من أثقال.
فقال العقاب لرفيقته: «ويح هذا الأعمى المغرور، إذ يظن أن ملك الطيور الذي ذاعت شهرته بحدة البصر، يقبل من مثله نصحا أو تحذيرا.»
وبنى العقاب وكره في أعلى مكان من البلوطة العتيقة هازئا بنصح جاره الخلد، ضاربا به عرض الحائط.
وجاء الربيع وأعقبه الصيف، وامتلأت أرجاء الوكر بباكورة فراخهما، وقرت أعينهما برؤيتهم يلعبون ويمرحون ويصئون (يصيحون).
وفي فجر أحد الأيام خرج العقاب يطلب صيدا لفطور فراخه، ورفيقته، وعاد فرحا يحمل لهم طعاما شهيا وافرا، فلم يجدهم في وكرهم فوق البلوطة، بل وجد البلوطة قد وقعت كما توقع الخلد، وسحقت تحت ثقلها وكره، بما كان فيه من فراخه مع رفيقته وهنائه.
فصاح من فرط يأسه قائلا: «ويل لي، ما أتعسني وأشقاني! لقد جوزيت بما أستحق على استخفافي بنصح الخلد وتحذيره، ولكن من كان يدري أن خلدا حقيرا له من الرأي ما يعتد به، أو يصح أن يركن إليه.»
فأجابه الخلد بكل هدوء وسكون: «ليتك نزلت من سماء كبريائك، ولم تشمخ بأنفك مزدريا بكلامي، وأنعمت النظر في ما ذكرته لك، ذاكرا أني أعيش مذقاعا
4
في بطن الأرض مع جذور الأشجار، فلا عجب إذا كنت أدري بمواضع الضعف ممن يعيشون في أعاليها.»
النقد الأثري
عثر أمي جاهل على قطعة من نقود أثرية، تعلوها قشرة سميكة من الصدأ والتراب، ورآها أحد هواة
1
النقود القديمة، وقدر قيمتها الأثرية، وعرض مبلغا معقولا ليشتريها به، فرفض، واستمهله للغد.
ولما خلا بنفسه، سكت برهة، ثم هز رأسه، وهمهم
2
قائلا: «إذا كانت قيمة هذا النقد - برغم ما هو عليه الآن من قباحة المنظر لما يكسوه من الصدأ والوسخ - قد بلغت هذا الحد الكبير، فكم وكم تكون قيمته بعدما أنظفه، وأجلوه، وأصقله، إلى أن يصير أشد لمعانا من قرص الشمس.»
وقام من فوره، وأحضر رملا ورمادا وليمونا (حامضا) وخرقة متينة، وطفق يحك قطعة النقود بالرمل أو الرماد المعجون بعصير الليمون، ويدلكها بكل جهده بالخرقة التي معه، حتى تصبب العرق من جبينه عليها.
وأخيرا خطر له أن يستعين بالسفن
3
والمبرد، إلى أن زال كل ما كان عليها من صدأ ووسخ، وزال معه كل أثر لنقش أو رسم أو كتابة، بارزة كانت أو غاطسة، وأصبح يلمع لمعانا يبهر الأنظار.
ولما عرضها للبيع، ولم يجد من يشتريها بفلس واحد، قال لنفسه: «حقا! إن الذي أراد البارحة أن يشتريها مني كان إما جاهلا أو معتوها.»
الغني والفقير
حدث في بعض السنين الخوالي أن عاش في المدينة غني يدخر القناطير المقنطرة من المال في خزائنه، وقد اشتهر بالبخل؛ حتى قيل: إنه لم يحسن بدرهم واحد على أحد من المعوزين والفقراء.
وصار سكان المدينة يتنادرون
1
على بعضهم بنوادر بخله، حتى بلغه خبر ذلك، فاستاء، ثم عزم على تطهير سمعته، ولا سيما بين أهله وجيرانه، مما لحقها من أدران
2
هذه الأخبار التي لا تشرف، فأعلن عزمه على مد الموائد في مساء يوم السبت من كل أسبوع لإطعام من يتقدم لتناول الطعام، ممن أخنى عليهم الدهر.
وانتشر الخبر كانتشار النار في الهشيم،
3
ولما رأى الجيران رتاج
4
الغني مفتوحا على مصراعيه مساء يوم السبت لاستقبال الضيوف الجائعة، لم يصدقوا أعينهم، وأشفقوا على غنيهم؛ إذ ظنوا أن هذا السخاء يمكن أن يؤدي به إلى اللحاق بضيوفه بعد زمن قصير.
ولكن البخيل كان أحرص على مصلحته من الذين أشفقوا عليه؛ ذلك لأنه أطلق كلابه المفترسة عصر يوم السبت، فانتشرت في الدار ومداخلها، فلم يجسر على الدنو منها أحد من الذين حضروا، وهم يعللون أنفسهم بأكلة شبع.
أما الذين دفعتهم مسبغتهم من البؤساء والمساكين إلى الصبر والانتظار، ومحاولة الدخول إلى موائد الطعام برغم يقظة الكلاب الحارسة، فإنهم - بعد أن دب اليأس في نفوسهم - ارتدوا على أعقابهم وقد رضوا من الغنيمة بالإياب.
5 •••
وهكذا جعل ألسنة أهل المدينة تلهج بذكر الكرم الحاتمي الذي تجلى
6
في فتح أبواب داره للجائعين من الفقراء والمساكين، وقد نسوا أن الكلاب المفترسة التي كانت تتولى حراسة أبواب هذا الغني قد حالت دون دنو أحد من هؤلاء الفقراء الجائعين إلى موائده الشهية.
الذئب في بيت الكلاب
كان ذلك في إحدى الليالي المظلمة، لما حاول الذئب أن يتسلق حائط حظيرة الغنم، وسقط في بيت كلاب حراستها.
فهاجت الكلاب وماجت، ونبحت نباحا عاليا، بينما كانت تتحفز للوثوب عليه لافتراسه.
وسمعهم الحراس، فظنوا أن لصا آدميا قد انسل إلى الحظيرة، فهرولوا إلى أبوابها، وأحكموا إغلاقها، ثم أوقدوا مشاعلهم الشديدة الضياء، واندفعوا يبحثون عن الحرامي اللعين، وبدلا من أن يجدوا لصا آدميا، وجدوا الذئب قابعا في ظئر (ركن)، منتصب الشعر، ساندا ظهره إلى الحائط، ناظرا إليهم بعينين تقدحان شررا، وأنيابه البادية تحت خطمه الشامر، تتهدد بتمزيق لحم كل من تحدثه نفسه بالاقتراب منه للقبض عليه.
وانتهز فرصة تردد الحراس؛ فخاطبهم بلسان معسول، وقال: «خبروني أيها الأصدقاء الأعزاء، ما الداعي لكل هذا الاضطراب واللجب؟ ألست صديقكم القديم! أو بالأحرى أخاكم الحميم؟ لقد أتيتكم بكل عواطف الإخلاص والحب، ولم يخطر ببالي أي خاطر أثيم نحوكم، فلننس ما مضى، والقديم عليه الرديم، ودعونا نتهادن إلى أن نتصالح، وإني أعدكم وعدا صادقا ألا آخذ من خرفانكم بعد الآن، وإذا شئتم أن تتركوا أمر حراسة غنمكم إلي فإني أقسم لكم، بكل ما هو عزيز علي وعليكم إني أحميها وأدافع عنها بكل قواي ...»
وهنا قاطعه رئيس الحراس قائلا: دعنا من كل هذا الكلام المعسول، وأعرني سمعك أيها الأغبر ذا الوجهين! واعلم أني أفهم جيدا طبيعة الذئاب، ويستحيل علي أن أسالم ذئبا قبل أن أنزع عنه جلده وأنيابه؛ لأني سمعت من آبائي وأجدادي: «أن من شب على خلق شاب عليه»، و«أن الطبيعة التي في البدن لا يغيرها غير الكفن.»
البخيل والكنز
كان العفريت يخفي كنزا ثمينا في سرداب
1
تحت بيت من بيوت المدينة، وفجأة أمره رئيس الشياطين بالرحيل إلى بلاد بعيدة يبقى فيها زمنا طويلا قبل أن يعود، ووقع صاحبنا في حيص بيص؛ لأن كنزه كان ثقيل الحمل يتعذر نقله من مخبئه، ويخشى عليه من الضياع إذا تركه قبل أن يودعه حرزا حريزا.
وخطر له أن يبني مخبأ منيعا يتولى رصده حارس أمين يدفع إليه أجرا كبيرا يتناسب وجسامة التبعة التي ستلقى على عاتقه، ولكنه تذكر أن ذلك يستغرق وقتا طويلا بين البناء والبحث عن «الحارس الأمين» الذي أصبح أندر من الكبريت الأحمر.
وأخيرا تذكر أن صاحب البيت الذي يعلو مخبأ كنزه مشهور بالبخل والشح، وأن لا أهل له، فهدته عبقريته إلى أن يوكل أمر الكنز إليه، فحمل كنزه وصعد به إليه، وبعد أن حياه أحسن تحية، وضع الكنز بين يديه، وقال له: «يا صديقي العزيز، قد كنت أحتفظ بهذا في سرداب تحت دارك، واليوم أمرت أن أرحل إلى بلاد بعيدة لست أعرف متى أعود منها، وبما أن ظروفي لا تسمح لي بحمله معي، فإني أتركه لك ملكا حلالا تنفقه - إن شئت - فيما يحلو لك أو يعود عليك بالهناء والسرور؛ لأنك أحق به من سواك، ولست أطلب منك سوى شيء لست أظنه يثقل عليك، وهو أن توصي بمالك لي بعد عمر طويل.»
قال ذلك، واستخفى من البخيل.
وبعد زمن عاد من البلاد البعيدة، وطبعا ذهب توا ليرى مصير كنزه ... فماذا وجد؟ وجد ما وثب له قلبه طربا ... وجد البخيل جثة هامدة مستوية على صناديق الكنز في السرداب لتحرسه.
فيا للبخيل من حارس للمال أمين!
الغرارة المغرورة
كانت غرارة
1
منبسطة عند مدخل الدار ليمسح فيها الخدم أرجلهم كلما دخلوا، وذات يوم خطر لصاحب الدار أن يستعملها لشأن آخر قد تصلح له، ورأى أن يختزن فيها كنزه فملأها نقودا؛ وبطبيعة الحال كان يخشى على ما فيها من الضياع، فوضعها في أحرز مكان من الدار، وتعهدها بعنايته الخاصة خوفا من أن تعبث بها يد خادم خائن، أو لص غدار، فأغلق عليها النوافذ والأبواب، ولم يسمح لأحد بالاقتراب منها إلا بكل خشوع ووقار، حتى أكرم الزوار لم يجرؤ على مسها.
فلهجت البلدة بالحديث عنها وعن محتوياتها الثمينة، فداخلها العجب والغرور والاعتداد بالنفس، وأدى بها ذلك إلى إبداء آرائها، وإصدار أحكامها على من حولها، كأن تقول عن فلان: إنه ماهر بارع، وإن فلانة غرة بلهاء، وهذا العالم الشهير حمار جاهل لا يعرف كوعه من بوعه، وذاك الذي تظنونه ثريا كبيرا ليس إلا رجلا فقيرا لا يملك شروى نقير.
وبحكم ما كان في الغرارة من المال الوفير كانت تطأطئ رءوس السامعين مؤمنة على ما تقوله من سفاسف الأقوال، وتبديه من سخائف الآراء.
وأخيرا لما فرغ ما كان فيها من الذهب الخداع، طرحها صاحب الدار حيثما كانت لتنظيف الأحذية ومسح البلاط.
الفلاحان وحظهما
سئل أعرابي: لماذا لا تشرب الخمر؟
فأجاب: لا أشرب ما يشرب عقلي!
السلام عليك يا صديقي إبراهيم!
وعليك السلام يا عزيزي صادق! خبرني كيف أنت؟ وكيف حالك الآن؟ لأني لم أقابلك منذ زمن طويل.
آه، يا أخي إبراهيم! ليتني لم أقابلك حتى لا أزعجك بسماع أخباري التي لا تسر إلا الأعداء، فقد حرقت داري غير متعمد، واحترق بحريقه كل ما كنت أملك من حطام الدنيا، فأصبحت خالي الوفاض،
1
أعاني المتربة
2
كما ترى، ولا يمسك روحي بجسدي إلا ما يجود به علي أهل الخير.
وكيف حدث ذلك أيها الصاحب العزيز؟
حدث في ليلة عيد الميلاد المجيد؛ إذ ضيفنا بعض الأصحاب لنحيي معهم سهرة هذا العيد باحتساء بضع كئوس من الخمر كالعادة المتبعة عند بعض الناس في مثل هذه المناسبات، ولما انتشيت من الشراب، تذكرت حصاني المحبوب، فأشعلت شمعة لأستنير بها في ذهابي إليه بقليل من طعام العيد؛ كي يشاركنا في فرحنا ومرحنا؛ ولو أردت الحق لقلت: إني لم أكن أدري تماما ما الذي خرجت لأفعله، ولسبب ما، سقطت الشمعة من يدي فأشعلت البيت وملحقاته، وأتت النيران على كل ما كان لي فيه.
هذه قصتي ذكرتها لك بنصها وفصها، فخبرني بدورك عن نفسك؛ لأني أشعر مما أرى أنك لست أحسن حالا مني.
فأجابه إبراهيم - والحزن باد على نبرات صوته: لقد صدقت فيما قلت يا صديقي، فأنت أحسن حالا مني بما لا يقاس؛ لأنك ترى أمامك كسيحا عاجزا عن كل عمل سوى الندم والحسرة، والتعجب من بقاء روحه في جسده إلى الآن.
ففي سهرة عيد، لم يكن سعيدا، شربت مع الأصحاب نبيذا معتقا حتى انتشيت منه، وخطر لي أن أنزل إلى مخزن المئونة لأحضر برميلا صغيرا من البيرة،
3
ولكي أطمئن على البيت من الحريق، أطفأت الشمعة التي كنت أستنير بها، وفي حلكة الظلام شعرت بيد الشيطان اللعين تدفعني، وكانت الخمرة التي شربتها مع النبيذ قد لعبت برأسي، وفككت أوصالي
4
فلم أقو على الثبات، وسقطت، فتدحرجت على الدرج من فوق إلى تحت، وكان قد أغمي علي من شدة الألم، ولما أفقت من صدمة السقطة وجدتني كما تراني لا أستطيع المشي إلا متوكئا على عكازتي إلى آخر نسمة من حياتي.
وسمع الجار حديثهما؛ فخاطبهما بجفوة، قائلا: «لا تلوما إلا نفسيكما على ما جرى لكما يا صاحبي، فالشمعة في يد السكران مجلبة للأذى إن كانت والعة أو مطفأة.»
الكلب والحصان
بعد أن خدم الكلب والحصان صاحبهما سنين عديدة، جلسا يتناقشان في قيمة خدمة كل منهما، وفجأة صاح الكلب في الحصان قائلا: «لو كان لي أن أتصرف كما أرى وأشاء، لكنت طردتك من هذه المزرعة من زمن بعيد؛ لأنه: ما قيمة جر المحراث أو العربة؟ وليس لك غير ذلك من عمل تفخر بأدائه وتستحق عليه ما تناله من طعام وشراب، بينما تراني دائم الحركة في رعي الماشية نهارا، وحراسة حظائرها، ومساكن المزرعة ليلا و...»
فقاطعه الحصان قائلا: «هون عليك يا صاح! وكفى بعض ما ذكرته من الأعمال لتسويغ ما تأخذه أنت أيضا من أكل وشرب، فلست ممن يغمطون الناس حقوقهم، ولكني أود أن أوجه نظرك إلى أنني لو لم أشتغل بجر المحراث لحرث الأرض وزرعها، لما وجدت أنت ما تتعبك رعايته من الماشية، ولا ما يشغلك حراسته من الحظائر والمساكن.»
القرد يطلب الثناء
اشتهر عبد الخالق الفلاح بين جيرانه وأهل ضيعته بالأمانة والاستقامة في سلوكه، والجد والاجتهاد في عمله.
وقام يوما كعادته عند طلوع الشمس يحرث حقله بنشاطه المعهود حتى تصبب العرق من جبينه.
وكان كلما مر به أحد معارفه، حياه أحسن تحية، وأغدق عليه أطيب ثناء، كأن يقول له: «أسعد الله كل أوقاتك، وبارك الله فيك وفي زرعك، أيها الرفيق العزيز!»
فسمع القرد تلك العبارات الحلوة، وود لو ناله شيء منها، وفكر في عمل يعمله؛ يثير به اهتمام الناس، وإعجابهم ويستدر مديحهم وثناءهم.
وإذ عثر على جذل
1
دفعه أمامه، وأخذ يدحرجه إقبالا وإدبارا، حتى سال العرق من جبينه وكل جسمه، ولكن عبثا كان ذلك؛ إذ لم يعره واحد من كل الذين مروا به أقل اهتمام، ولا وجه إليه كلمة مدح أو ثناء أو إعجاب.
ولما أعيته الحيل، سأل أحد المارة عن سبب عدم اهتمام الناس به، فأجابه قائلا: لا تعجب لذلك يا صاح؛ لأن كل عملك ليس إلا جعجعة بلا طحن،
2
فلست تقصد به سوى توجيه أنظار الناس إليك للإعجاب بك، فهلا سمعت: «إن ثمرة العجب المقت.»
الثلاثة الأصحاب
تعب الثلاثة الأصحاب حتى عثروا على نزل
1
ريفي صغير يقضون فيه ليلتهم وهم في طريق عودتهم من العاصمة.
وطلبوا من صاحبه غرفة ينامون فيها، وطعاما يسدون به أرماقهم؛ لأنهم كانوا جياعا لنفاد زادهم، فأعطاهم غرفة فيها ثلاثة أسرة مريحة تركوا فيها أمتعتهم، ونزلوا إلى قاعة الأكل.
فقال أحدهم: «آه لو نجد ما نتبلغ به؛ حتى نقدر أن ننام.»
وأقبل صاحب الخان ووضع أمامهم صحافا نظيفة، وملاعق وشوكا وسكاكين صقيلة براقة، وسلطانية فيها من صبة
2
الكرنب ما لا يكفي واحدا منهم، وكذلك صحفة صغيرة فيها القليل من الثريد،
3
وثلاث قطع من الخبز مستديرة كالريال، وقال لهم: «يؤسفني أيها السادة ألا أجد الآن ما أقدمه لكم غير هذا الذي ترونه أمامكم، فهو كل ما بقي في مطبخي»، قال ذلك وذهب لينام.
ونظر ثلاثتهم إلى ما على المائدة وإلى بعضهم البعض، وقال أحدهم: إنه شيء خير من لا شيء.
وفكر أوسعهم حيلة في وسيلة شيطانية تنيله كفايته من الطعام، فقال: «ألم يبلغكم أن صديقنا إبراهيم سيجند في هذين اليومين؟»
وقال الصديقان بصوت واحد يدل على الدهشة: «ولم ذلك؟»
فقال ثالثهم، وكان أدهاهم:
4 «لأننا سنعلن الحرب على الصين؛ لأن إمبراطورها قد فرض ضريبة على الشاي الذي تصدره بلاده إلينا.»
قال ذلك وترك صاحبيه يتجادلان بكل حدة وحماس، ويتناقشان ويتبادلان الآراء في رسم خطة الحرب، وتوزيع الجيوش، وتعيين القواد، حتى يخلو له جو المائدة؛ ليلتهم كل ما عليها قبل أن يتفقا على قرار نهائي يضمن لدولتهما النصر على الإمبراطورية الصينية، والحصول على شايها بأرخص الأسعار.
الحجر يغار من المطر
وصاح الحجر قائلا: ما كل هذه الضجة التي يثيرونها حول زيارة قصيرة لمزنة
1
سوداء عابرة، صحبتها دفقة
2
من المطر الغزير لم تدم سوى ساعات معدودات، يعدونها
3
من أعظم النعم والبركات التي تغدقها
4
الطبيعة على الأرض.
أما أنا فقد مضت علي أجيال وقرون لا عد ولا حصر لها، وأنا راقد هنا، وادعا مستكينا، دون أن أحظى في كل حياتي الطويلة برؤية من يهتم بتوجيه كلمة شكر أو عبارة ثناء.
حقا إن هذا لظلم فادح!
وإذ سمعته الدودة الحكيمة، صاحت فيه قائلة: صن لسانك عن هذا الهراء،
5
يا صاح، ولا تتذمر، واعلم أن دفقة المطر التي صحبت زيارة المزنة السوداء القصيرة الأمد، قد أحيت ما كان مشرفا على الهلاك عطشا؛ من النبات والحيوان، هذا ما فعلته المزنة السوداء فجعلت الناس يضجون بالهتاف لها.
والآن خبرني بربك عما أسديته أنت إلى هؤلاء الناس في أثناء كل هذه العصور والأجيال التي قضيتها عندهم، حتى تنتظر منهم أن يلهجوا بحمدك؟
وثق أن وجودك هنا سواء لديهم والعدم، كما قال الشاعر:
وكل من لا خير منه يرتجى
إن جاء
6
أو راح على حد سوا
الغراب القدير1
حدث ذلك في عام 1812 عندما اقترب جيش «نابليون» من «موسكو» عاصمة «روسيا» القديمة؛ حيث نصب القائد الروسي شركا لنابليون وجيشه؛ جاعلا طعمه مدينة «موسكو» العظيمة، وذلك أن أمر بإخلائها من كل ما كان فيها من إنسان وطير وحيوان، وكل ما يمكن حمله من طعام ولباس وفراش، ثم إحراقها بكل ما يبقى فيها قبل وصول العدو إليها بوقت قصير، حتى لا يجد هناك ما يمكن أن ينتفع به لدفع غائلة شتاء «روسيا» القارس.
وهكذا هجرها أهلها من الكبير والصغير، والعظيم والحقير، وخرجوا منها أفواجا أفواجا كثول
2
نحل يهجر خليته.
وفي إبان هذه الهجرة، وقف غراب على سقف بيت، يرقب هذه الحركة الهائلة، ورأته دجاجة كانت في مركبة تسير مسرعة في طريق خروجها من المدينة، فنادته قائلة: «ما بالك أيها الرفيق تجلس مطمئنا كأنك لا تنوي الهجرة معنا امتثالا لأمر قائدنا العظيم؟! ألا تعلم أن العدو قد دنا من أبواب المدينة؟»
وقال الغراب: «ولم أرحل وأنا لست مطمعة
3
لأحد؟ لأن لحمي لا ينفع للأكل مشويا أو مسلوقا مثل لحمك.» •••
وبقي الغراب إلى أن دخل جيش العدو في الشرك المنصوب، ولما اشتدت بالجيش المجاعة، ولم يجد ما يأكله سوى الفئران والغربان، كان مصيره الاقتدار
4
لسد جوع الجيش الفرنسي.
الفلاح الحمار
استأجر فلاح ساذج حمارا نشيطا، وكلفه بحراسة الحديقة وحمايتها من الطيور كالعصافير والغربان؛ التي كانت تتردد عليها لالتقاط ما تعثر عليه من البذور أو الثمار.
وقام الحمار بواجبه بكل أمانة وإخلاص في إبعاد الطيور، ولم يسمح لفمه أن يمتد إلى ما كان في الحديقة من النباتات الناضرة التي جرى لعابه عند رؤيتها، وطبعا لم يكن في وسع الحمار أن يؤدي عمله وهو واقف لا يبدي حراكا، ولا يرفع نظره إلى ما فوقه، بل كان واجبه يضطره إلى الجري والوثوب من ناحية إلى ناحية؛ ليطرد ما يلوح له أنه سيهبط على الحديقة من الطيور الصغيرة أو الكبيرة، غير مكترث لما تخربه أرجله من أحواض الأزهار الجميلة، التي تعب البستاني في زرعها وتنسيقها والعناية بها!
ومر صاحب الحديقة، ووقع نظره على ما أصاب حديقته من الخراب والتلف، فطار طائره
1
وأسرع إلى حماره، وفي يده هراوة
2
وظل يهريه
3 (يضربه بالهراوة)
4
عقابا له على ما ارتكبه من تخريب وإتلاف. •••
ولكن قل لي بربك! على من يقع اللوم في هذا الأمر؟ أعلى الحمار الذي قام بما طلب منه القيام به خير قيام، وبكل نشاط وهمة وإخلاص؟ أم على الفلاح الذي أساء الاختيار؟ وأيهما كان أجدر بالعقاب؟
أبو خالد السخي
ورقد أبو خالد
1
عند كداس قت
2
ينعم بما ملأ به بطنه، وما ادخره لغده، وبعد غده، من دجاج صاحب الضيعة.
ومر به أبو كاسب،
3
وكان جائعا تبدو أمارات السغاب
4
على بدنه، وفي حركاته ، ومن نظراته، جلية واضحة، لا يمكن أن يتطرق إلى الناظر إليها أدنى شك في حقيقتها.
وأدار الذئب خطمه نحو الثعلب، وطفق يعوي قائلا: «أراني مشرفا على الموت جوعا يا ابن العم العزيز؛ لأني لم أوفق في كل يومي إلى ما أمسك به رمقي، فكلاب هذه البلاد في غاية الشراسة، ورعاتها في منتهى اليقظة.»
ورنا إليه
5
الثعلب؛ وبعد أن تثاءب وتمط
6
في كلامه، هز رأسه أسفا وحسرة، ثم قال: «إذا شئت فتفضل وخذ من هذا القت قدر ما تحب وتشتهي، فكله لك إذا أردت، وثق بأني لن أزاحمك عليه، ما دمت في حاجة إليه، أيها الحبيب الغالي.» •••
وشزره
7
الذئب، ثم أدار له ظهره ومضى في سبيله بعدما شغر
8
على قته.
الطحان الغبي
سرب
1
الماء من ثقبة
2
في جدار خزان المياه التي تدير الطاحون، ووجه الجيران نظر الطحان كي يتلافى الأمر قبل أن يتسع الخرق على الراتق،
3
ولكنه، لغباوته، لم يعبأ بمثل هذا الوكفان
4
الطفيف، وهز كتفه استخفافا.
ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد الطفيف، بل ازداد تسرب المياه من الثقب الذي اتسع بطبيعة ضغط المياه، وصاح الجيران بالطحان يستحثونه على وجوب الإسراع في سد الثغرة، فأجابهم وهو يتثاءب، دون اهتمام أو اكتراث: «ما عليكم من ذلك! فأنا لست بحاجة إلى خضم
5
لسير عملي؛ لأن الماء الموجود في هذا الحوز
6
يكفي لإدارة طاحوني مدى حياتي، وحياة أولادي، وأولادهم من بعدهم.»
واستنام
7
الطحان إلى هذا الاعتقاد، بينما ازداد الخرق اتساعا، وازداد الماء انهمارا حتى نضب (نشف) كل ما كان في الحوز.
واستيقظ الطحان على انقطاع صوت الطاحونة؛ لأنها وقفت عند انقطاع مورد الماء عن المسيل الذي يدير طارتها، وحاول عبثا أن يسد الخرق بعدما اتسع، ولما أخفق، طفق يرغي ويزبد ويقرع سن الندم. •••
وبينما هو كذلك، إذ أتت دجاجة لتشرب من المسيل كعادتها، فاستشاط الطحان غضبا، وصاح فيها قائلا: «إن هذا هو كل ما بقي لي، وأنت تريدين شربه وحرماني إياه. إليك عني!» وأخذ حجرا وألقاه عليها، فأصابها في مقتل.
8
وهكذا فقد الماء والدجاجة معا.
المزنة1 الفخورة
مرت سحابة مكفهرة فوق أرض لفحها القيظ، ولكنها لم تسكب من مائها قطرة واحدة على هذه البلاد الظامئة، واستمرت مندفعة في سيرها ترعد وتبرق، ولما صارت فوق البحر العظيم، أرخت لنفسها العنان، وصبت فيه شآبيبها.
2
وعندما دنت من الجبل طفقت تتبجح
3
بما أغدقت على البحر، فقال لها الجبل مؤنبا: «وما الفائدة من كل هذا الكرم الذي لم يقع في محله؟ فالبحر كان في غنية عن مائك، بينما الأرض التي مررت عليها إلى هذا البحر كانت - وما زالت - في أمس حاجة إلى قطرة من مياهك؛ لأنها أجدبت،
4
وأشرف أهلها على الهلاك جوعا وعطشا، فهي أولى وأحق بجودك وكرمك اللذين تتشدقين بهما.»
الدب والشهد
في الربيع الماضي، وقع اختيار حيوانات البرية على الدب ليتولى رعاية النحل وحراسة خلاياه، بصرف النظر عما اشتهر به من الولع بالشهد، وأقراص الشهد، ولكن من ينتظر من العجماوات أن تعقل إلى حد اجتناب مثل هذه الهفوات؟!
وعلاوة على ذلك، يجب ألا يغيب عن بالنا أن مهمة حراسة خلايا النحل لا تطيب لأي كان.
وقبل الدب حمل أعباء منصبه بكل خضوع وامتثال.
وبعد قليل قامت في الغابة ضجة؛ لأن الدب نقل ما كان في الخلايا من أقراص الشهد إلى وجاره في سفح الجبل.
وقامت قيامة الحيوانات وقعدت، وانتهى الأمر برفع الأمر إلى المحكمة، فحكم القاضي بعزل الدب، وأوجب عليه ملازمة جحره وحيدا طول فصل الشتاء، بلا أنيس أو جليس، وأهمل الحكم أمر الشهد المسلوب ولم يشر إلى وجوب رده إلى أصحابه.
وهكذا قضى «أبو سمرة» شتاء سعيدا، قرير العين بوحدته؛ يلحس عسله من أقراصه بلا شريك أو رقيب ...!
القرد يلبس النظارات
أسن
1
القرد، وبدت تنتابه منغصات الشيخوخة، ورأى أن نظره قد أدركه الضعف، فحزن، واستشار من يثق برأيهم من بني جنسه، فأشاروا عليه بلبس النظارات؛ أسوة بأولاد عمومتهم وأقاربهم من بني آدم، وهونوا عليه بتذكيره بأن هؤلاء لا يكترثون لهذا الأمر؛ لأنهم في مثل حالته، يضعون على عيونهم زجاجات صغيرة مستديرة، ينظرون من خلالها كما يحبون ويشتهون.
وأرشدوه إلى بائع هذه النظارات، فذهب إليه توا.
2
وبطريقة ما حصل منه على عدد وافر من أجمل ما كان عنده منها، وعاد بها إلى بيته وهو يكاد يطير من شدة الفرح، ووضعها أمامه، وأخذ يتأملها، ويزوك
3
حولها، وهو يهز رأسه ويفرك يديه إعجابا ببريقها، وابتهاجا بحصوله عليها.
ولما هدأت سورة الفرح أقعى
4
أمامها، وبدأ يفحصها ويجربها على عينيه برزانة وعلى مهل وتؤدة، إلى أن لاحت له بوادر خيبة أمله، فأخذ يقلبها بين يديه بحركة عصبية، أخذت تشتد وتتفاقم؛ حتى بلغت درجة الهياج (النرفزة)
5
عندما وضعها على أنفه في عدة أوضاع ومواضع، وعلى جبينه، كما يفعل بعض أبناء آدم من المتقدمين في السن، وبعدما رفعها وخفضها، ولحسها بلسانه، ونفخ فيها بفمه، ومسحها بشعر جسده دون فائدة، ثار ثائره، وفار فائره، وفي حميا غضبه زعق، وقال: «ما أسخف عقل هؤلاء الآدميين، وما أحمقهم؛ لأنهم يستعملون أشياء سخيفة كهذه لا فائدة لها.»
ثم أمسك بحجر كبير، ونزل عليها خبطا ودقا حتى هشمها تهشيما، وسحقها سحقا.
ولما هدأ غضبه، سكت لحظة، ثم هز رأسه، شأن الفيلسوف المتردد، وقال بصوت حزين: «ومن يعلم؟ فلعل عقلي أنا هو السخيف؟»
حاميها حراميها
يحكى
1
أن قرويا تقدم إلى شحنة
2
القرية يشكو حملا أكل فرختين من دجاجاته، وأحيلت قضيته إلى المحكمة.
وكان قاضيها يدعى أبا الحصين
3
من أهالي الناحية.
وقال القروي إنه ذهب باكرا في يوم الحادثة إلى خم
4
دجاجه، فوجد الحمل المتهم هناك يغط في نومه، وتفقد دجاجتين من دججه
5
كان يختصهما بعنايته، فلم يجد سوى ريشهما وبعض عظامهما، وإنه لا يستطيع أن يتهم أحدا سوى الحمل الذي بات في الخم، ودفع الحمل التهمة بقوله: إنه أمضى كل الليل مستغرقا في النوم في بيت الدجاج كعادته؛ لما بينه وبين الساكنين هناك من أواصر الألفة والوداد، لانعدام أسباب العداء بينه وبينهم، وطلب استدعاء الجيران، وكل أهل الضيعة؛ لكي يقرروا أمام المحكمة ما يعلمونه عن أخلاقه وسيرته، حتى يطمئن قلب حضرة القاضي إلى براءته من هذه التهمة الشنيعة، وعلاوة على ذلك، فإنه يقرر أمام المحكمة أنه لم يذق لحما، لا هو ولا أجداده؛ لأن معدهم لا تهضمه، وأسنانهم لا تقوى على مضغه.
وأنصت القاضي بكل جوارحه إلى أقوال المتهم ثم أطرق متظاهرا بالتفكير العميق، ثم هز رأسه، شأن الأسوف،
6
وحدد نظره إلى الحمل، ونطق بالحكم قائلا: «إن المحكمة لا يسعها قبول دفاع المدعى عليه؛ فكل المجرمين يعرفون كيف يسترون جرائمهم؛ ليبرئوا أنفسهم، وباعتراف المتهم ذاته قد ثبت للمحكمة أنه قضى ليلة الحادثة في بيت الدجاج، وأنه نام هناك نوما هنيئا، طبعا، بعدما أشبع شهوته بأكل لحم فريستيه، وكلنا نعرف ما للذة لحم الفراخ من إغراء جامح، فبناء عليه، أرى - من العدل - أن أحكم على المتهم بالذبح، وأن تستولي المحكمة على جثته، أما جزته فيعطاها المدعي تعويضا عن دجاجتيه، وليحي العدل!»
العقاب والعنكبوت
دوم العقاب
1
في كبد السماء، ثم انضرج
2
حتى حط على أرزة سامقة،
3
قائمة على قمة جبل شاهق الارتفاع، وجثم على أعلى فرع من فروع الأرزة، مأخوذا بجمال الطبيعة الساحر، يتأمل ما تحته وحوله من السهول والوديان والجبال والأنهار، والبحيرات، وشواطئ الأوقيانسات والبحار، وما يتخلل كل ذلك من حقول وقرى وبلدان، ثم طفق يناجي نفسه قائلا: «شكرا لمبدع الكائنات على ما اختصني به من نعمة بمنحي تلك الأجنحة القوية التي امتزت بها عن سواي من سائر المخلوقات؛ لأنها تساعدني على التحليق والوصول إلى هذا الارتفاع الذي أستطيع منه امتلاك ناصية الجو والبر والبحر، وأرى ما لا تقدر عين مخلوق آخر أن تراه من جمال هذه الخليقة الذي يخلب الألباب ...»
وفجأة سمع صئي آت من غصن فوق مجثم العقاب، يقول: «يا لك من فخور ثرثار! ارفع نظرك أيها الرفيق وانظر إلي، ألست تراني أحتل مكانا أرفع من مكانك؟»
ورفع الطائر العظيم نظره، فرأى عنكبة
4
تنسج من لعابها هللا
5
بين الأغصان التي فوق رأسه، كأنها تحاول أن تحجب عن عينيه بهاء الشمس، فسألها قائلا: «وكيف أمكنك الوصول إلى هذا المكان الذي لا يستطيع الوصول إليه من الطيور سوى أمثالي من العقبان القوية الجناح؟ وأنت - فيما يلوح لي - ضعيفة صغيرة عديمة الأجنحة، ولست أظن أنك استطعت أن تأتي إلى هنا زاحفة؟»
وأجابته العنكبة: «الحق أقول لك أيها الجار المغرور: إن فكرة الزحف من السهل إلى هذا الارتفاع الشاهق لم تخطر لي ببال، أما الذي فعلته حتى وصلت إلى هنا؛ فهو أني تعلقت بريشة من ريشات ذيلك، فوجدت نفسي هنا دون أن أكد أو أتعب، وها قد شرعت في بناء بيتي دون احتياج إلى معونة حضرتك، فلا تنفخ أوداجك
6
علي، ولا تحدج ببصرك في.»
وقد نسيت أن ريشات ذيل من تخاطبه بهذه اللهجة الجافية قد رفعتها من الحضيض إلى ذروة المجد! ... •••
وقبلما أتمت بربرتها كانت في طريقها إلى الهلاك؛ لأن هبة ريح دفعتها فألقتها عن الغصن إلى قرار هاوية سحيقة لا نجاة لها منها.
الكوكو والحمامة
جثم الكوكو
1
على غصن شجرة وارفة ينوح ويعتول،
2
وسمعته حمامة كانت جاثمة على فرع شجرة قريبة، فرثت له وسألته قائلة: «ما خطبك
3
يا صاح؟ وعلام
4
هذا النواح وتلك الوقوقة؟ ألأن الربيع قد ولى وولت معه وليفتك؟ أو لأن وجه الشمس بدأ يعبس لدخول الشتاء؟»
فأجابها قائلا: «ليت الأمر كان هذا أو ذاك، أيتها الصديقة، بل إنه أدهى وأمر، وسأذكره لك لتري وتحكمي.
فأنا ووليفتي كنا نهنأ في الربيع بأرغد عيش، ورزقنا صغارا من بيضات نزلت من صلبنا، فأودعناها عش أصحابنا حتى يحين حين خروجهم، لتقر بهم عيوننا، وتبتهج بمرآهم نفوسنا، فلما خرجوا وأشبوا،
5
أنكرونا، وجفونا، كأننا لم نكن علة وجودهم.
ثم نكف دمعة
6
كانت تترقرق في عينيه، وقال: تبا لهم! أهذا ما ينتظره الآباء من الأبناء؟ إن رؤيتي الدجاجة وهي تضم فراخها تحت جناحيها، أو تتبختر في وسطهم، أو الحمامة وهي تزق
7
جوازلها،
8
أو الوزة وهي تميس تيها بين صغارها، يثير في نفسي السخط والحسد؛ إذ أجدني جالسا كاليتيم الذي لم يذق حنان الوالدين، أو كالعاقر لم تحظ بمحبة الأولاد.»
وأجابته الحمامة متحسرة: «يا لك من مسكين! إن ما ذكرته يحملني على الرثاء بكل جوارحي لحالك، ولكن خبرني بربك، وقل الحق: هل فكرت في حياتك في بناء عش تضع فيه بيض رفيقتك لترخم عليه، وتتعهده بالعناية الواجبة إلى أن تخرج منه فراخك إلى عشك الدافئ، فتنعم بقربهم منك، وتحظى بهنائك بلذة الكد والتعب والتضحية في سبيل تنشئتهم؟ أما الذي أعلمه أنا، وكل معارفي، فهو أنك ووليفتك لم تفكرا إلا في «هناء ورغد» شخصيكما، ولم تجدا متسعا من وقتكما للتفكير في مصير فراخكما بعد نقفهم البيضات التي قذفتما بها في أعشاش، تعب غيركما في تهيئتها.»
وقال الكوكو: «حقا، إني لم أفكر في بناء عش؛ لأني أحسب أن من الغباوة أن أقضي أيام الصيف مرتبطا به، فأضني جسدي وجسد وليفتي باحتضان البيض حتى يفقس، ثم نحرم نفسينا ما نحصل عليه من غذاء لأجل تغذية ما يخرج من هذه البيضات؛ ولذلك كنت ألقي بها خلسة إلى أعشاش غيري، وأترك لهم الاستمتاع بما يعرف في عرفكم، أنتم البسطاء السذج «بلذة» الكد، والتعب، والتضحية.»
فجاوبته الحمامة قائلة: أشكر لك إفصاحك عن رأيك في أمثالي، ولو أنك لم تصفه باللباقة الواجبة في أمثال هذه المحادثات، ولكن، كيف تنتظر من صغارك أن يعرفوك ويلتفوا حولك بعد ما تركت متاعب فقسهم وإطعامهم وتربيتهم لسواك؟ ألم يبلغك ما قاله الحكماء: «لا راحة إلا بعد تعب؛ ولا لذة إلا بعد ألم، ولا هناء إلا بعد عناء، ولا نور إلا بعد ظلمة»؟ «وهل نسيت قولهم: إن ما تزرعه إياه تحصد، أو: من يزرع الشوك لا يحصد به العنبا»؟
ثم تركته وطارت ...
الموسيقيون
تفاهم تيس أشقر، وحمار أحمر، ودب أسمر، وقرد أبتر، على تأليف جوقة موسيقية، وحصلوا على كل ما يلزم للشروع في العمل من آلات، ومجسدات،
1
وحاملات المجسدات والمقاعد واتخذوا مجلسهم تحت شجرة «زيزفون» وارفة عند ملتقى الطرق، ولما استقر بهم المقام، طفقوا يعزفون على ما في أيديهم من آلات الطرب لتشنيف الآذان.
فصاح القرد قائلا: «رويدكم أيها الرفاق؛ لأني أشعر أن ضوضاء موسيقانا مزعجة حقا، ألم تروا كيف وضع المستمعون أصابعهم في آذانهم؟ لعلنا إن نحن بدلنا مواضعنا يتحسن عزفنا.
فيا أخي الدب، تعال واجلس هنا أمام أخينا التيس، وأنا أجلس هناك خلف زميلنا الحمار.»
ولما انتظم مجلسهم أخذوا يوقعون على آلاتهم ألحانا تزعج الشياطين.
فنهق الحمار، ثم قال: «أرى أني قد اكتشفت سر هذه الفوضى في موسيقتنا، فإذا غيرنا وضعنا، وجلسنا جنبا لجنب، لا بد أن عزفنا يصل إلى درجة من الإتقان، ترضي كل الآذان.»
وجلس الأربعة كما اقترح الحمار، وبدءوا يوقعون أنغاما ما أنزل الله بها من سلطان.
وارتفعت أصواتهم بتبادل اللوم والشتم، وسمع صخبهم عندليب كان جاثما في أعلى فرع من الشجرة، فاقترب منهم، ولما رأوه رفعوا أبصارهم نحوه، وتوسلوا إليه، بصفته موسيقار الطيور الأشهر، أن يرشدهم إلى الوضع الذي يجب أن يتخذوه في جلوسهم لكي يضمنوا حسن العزف على ما بين أيديهم من آلات موسيقية لا بأس بها؛ لأنهم يرون أن سبب فشلهم يرجع إلى جهلهم هذا الأمر فقط. •••
ونظر إليهم العندليب من مجثمه، وهز رأسه أسفا وحسرة، ثم قال: «أيها الرفاق الأعزاء، يؤسفني جدا أن أجيبكم بما يخيب أملكم؛ فقد قالوا: «حق يضر، خير من باطل يسر»، أو «الحق خير ما يقال.»
فإن الذي كان يجب عليكم أن تعلموه، قبل التفكير في تأليف فرقتكم، هو أن الموسيقى فن لا يمكن أن يحسنه إلا الذين درسوه ومارسوه من أصحاب الذوق السليم، أما نظام جلوس أفراد الفرقة فإنه لا يقدم ولا يؤخر على ما أعلم!»
الكرمة والبلوطة
زحفت الكرمة حتى بلغت سياج الحديقة، وبدأت تلف محاليقها
1
أو عنمها،
2
حول إحدى القوائم الخشبية التي كانت هناك.
وكانت بلوطة صغيرة قد نبتت وأورقت في الحقل خارج السياج، وبعيدة عنه، فنظرت إليها الكرمة، وخاطبت القائمة الخشبية قائلة: «ما أبهج منظرك وأفخمه بالنسبة إلى هذه البلوطة، التي على رغم كونها مكسوة بأوراق، فإن لون هذه الأوراق أخضر داكن، يقبض النفس، وأغصانها صلبة قاسية لا تصلح إلا للوقود، وإني لست أفهم علام تطعم الأرض مثل هذه النباتات العقيمة.
أما أنت فإنك ستصبحين باستقامة عودك، وجمال ما سأخلعه عليك من سربال ناضر منقطع النظير، قرة عيون الناظرين وبهجة خواطرهم.»
وحدث بعد أيام أن احتاج صاحب الحديقة إلى القائمة الخشبية، فنقلها إلى مكان بعيد، ثم نقل البلوطة إلى مكانها، حيث نمت وترعرعت، ومدت الكرمة محاليقها إلى أغصان البلوطة.
وكعادتها بدأت تطوقها بها، وتتملقها بأحسن وأبلغ ما تملقت به القائمة الخشبية من قبلها ...
القرد في المرآة
نظر قرد في مرآة؛ فرأى شبحا قبيح المنظر يحدق فيه، فأدار وجهه إلى دب كان واقفا إلى جانبه، فوكزه بمرفقه، وقال له: انظر! ما أقبح كلحة هذا الحيوان المخيف الذي أرى في المرآة، فلو كانت هذه السحنة - الهيئة - البشعة لي لقضيت على نفسي؛ كي لا يتضرر غيري من رؤيتي.
ولا أخفي عنك أني شاهدت بين أصحابي بعض وجوه، لها مثل كلوحة هذا الوجه، وأظن عددها لا يتجاوز الخمسة أو الستة، بين عدد وافر من هؤلاء الأصحاب الذين يزيد عددهم على مائة أو مائتين أو ...
فقاطعه الدب قائلا: «هون عليك يا صاح، ولا تكلف خاطرك مشقة إحصاء أصحابك، بل انظر إلى المرآة جيدا، تر فيها نفسك فتعرفها.» «يا عائب لا تعب، فلعل يكون لك في العيب نصيبا!»
الفار1 والوزة2 والسمكة والحنجل3
اجتمع أربعتهم لجر مركبة صغيرة ليس عليها ثقل،
4
وأخذ كل منهم مكانه حول المركبة، وشرعوا في عملهم بكل إخلاص، ولكن المركبة لم تتزحزح قيد أنملة،
5
وأعادوا الكرة؛ بعد أن تباحثوا وتشاحنوا لمعرفة أيهم المقصر في بذل جهده أسوة بشركائه، وبعد أن تفاهموا وتصالحوا وتعاهدوا على الإخلاص في العمل، بدءوا محاولتهم الثانية لجر المركبة، ولكنها على رغم إخلاص كل منهم في عمله، لم تتقلقل من مكانها.
وأخيرا بدا لهم أن يتفقوا على تركيز قواهم بالتوقيت الموسيقي المألوف لدى العمال أو الحمالين من بني الإنسان، عندما يرغبون في رفع شيء ثقيل يحتاج إلى مجهود عظيم موحد، وهو قولهم: هيلا ليصا! هيلا هب!
وجربوا هذه الطريقة أيضا فلم يفلحوا، ولما يئسوا من النجاح، ذهب كل منهم في سبيله، وبقيت المركبة تنتظر من يجرها. •••
وإن لم تكن - يا قارئي العزيز - قد أدركت إلى الآن سبب إخفاق هذه الجماعة؛ فإني أخبرك أنه يعود إلى اختلاف عناصر أفرادها، وتنافر طباعهم.
ذلك لأنه بينما كان الفار يجر المركبة متجها إلى الأمام، كانت الوزة تطير فتجرها إلى فوق، والسمكة تغوص فتجرها إلى تحت، والحنجل يتقهقر إلى خلف كعادته؛ لأنه لا يمشي إلا إلى الوراء، فيجرها معه في اتجاه معاكس لاتجاه الفار.
الغنم والذئاب
منذ الأزمنة المتغلغلة في القدم، والصراع قائم بلا هوادة بين قبائل الغنم وعشائر الذئاب.
وكانت كفة الظفر - دائما أبدا - راجحة في ناحية الذئاب المفترسة، التي لا نفع منها يرتجى؛ ذلك لأن الطبيعة العمياء قد سلحتها اعتباطا بأفضل معدات الهجوم والدفاع، بينما حرمت الغنم الوادع، النافع بصوفه ولبنه ولحمه، معدات الهجوم، ولم تزوده إلا بأضعف معدات الدفاع.
ولما ضاقت الغنم ذرعا بهذا الظلم الصارخ، التجأت إلى الزعماء والرؤساء، تطلب العون والتدبير لوضع حد لهذه الحال؛ التي لا يصح السكوت عليها.
وأظهر الزعماء اهتمامهم بالأمر، وعطفهم على هذه القضية، واجتمعوا وتشاوروا وتباحثوا وتناقشوا، وبعد اللتيا والتي تمكنوا من جعل رؤساء عشائر الذئاب يرضون بحضور مجلسهم للاستئناس برأيهم؛ إذ من العدل والإنصاف أن نعترف بما لبعضهم من العواطف الطيبة، والزهد في لحوم الضأن، إلا عندما يعضهم الجوع بأنيابه.
وانعقدت الجلسة بحضور نواب الطرفين المتنازعين، وأدلى كل برأيه، وبعد الأخذ والرد تقرر بالإجماع الموافقة على سن قانون اقترحه زعماء الذئاب.
وإليك نصه، كما ورد في محضر وقائع الجلسة، بعد الديباجة: «... فإذا اجترأ أحد الذئاب على مضايقة قطيع مسالم من الغنم، وتمادى حتى هاجم شاة قاصدا إلى افتراسها، فيصبح لتلك الشاة مطلق الحق، ارتكانا على هذا القانون، في أن تمسك بتلابيب هذا الذئب المعتدي، وتجره إلى المحكمة؛ لينال الجزاء العادل، إلخ ...» •••
وبرغم قيام هذا القانون العادل ... فإننا ما زلنا نرى ونسمع: أن الذئاب هي التي ما برحت تفترس الغنم.
القروي يستجدي
في ليلة ليلاء،
1
تسلل لص إلى دار غني، وخرج منه حاملا كل ما كان فيه من مال، وهكذا أصبح صاحب الدار معسورا؛ بعد أن أمسى ميسورا.
وألجأه الفقر إلى الشحاذة؛
2
وبدأ بأقرب من كان يظنه «صديقا لوقت الضيق».
فأجابه هذا، بعد أن هز رأسه، تحسرا عليه: «يا صديقي القديم، إن ما أصابك ليس إلا نتيجة طبيعية لكثرة ما كنت تتحدث به عن مالك وثروتك، حتى أطمعت هذا اللص اللئيم وأغريته بسرقتك، وهكذا ترى أنك قد أخطأت ضد نفسك، وفي حق أصحابك؛ لأنك أفقدتهم صديقا كانوا يدخرونه لوقت الضيق، وبما أنك قد أخطأت؛ فعليك أن تتحمل نتيجة خطئك وحدك، والله في عونك!»
وقال له صديق آخر: «هذا درس ينفعك يا صاح، ومنه تتعلم أن من له مثل ما كان لك من مال، يجب عليه أن ينام وراء باب مخزنه»، وصرفه بنظرة تشير إلى الباب الذي دخل منه، ولم يمد إليه يده، لا بخير ولا بشر.
أما الصديق الثالث؛ فكان أطولهم باعا؛
3
إذ قال: «إني آسف جد الأسف لما أصابك أيها الصديق، وثق أن كل عواطفي معك، وأرجو أن يعوضك الله أضعاف ما ضاع منك بإهمالك؛ إذ كان يجدر بك - كي تحافظ على ثروتك - أن تقتني كلب حراسة مثل كلبي.
ويسرني أن أعرض عليك جروين، لا حاجة لي بهما، وكنت على وشك إغراقهما لأتخلص منهما، فإن شئت فخذ أحدهما لتريحني من عناء إغراقه، ولا تنتظر مني أكثر من ذلك، والسلام عليك أيها الصديق العزيز!»
الذئب وجروه
لما رأى الذئب أن جروه العزيز قد اشتد ساعده، وحان وقت تعليمه وتدريبه وتثقيفه، بدأ يستصحبه في روحاته وجيآته وبعض غزواته، ولم يدخر وسعا في تلقينه ما يجب أن يلم به؛ كي يستطيع خوض معترك الحياة لكسب قوته وقوت عياله.
وفي صباح أحد الأيام، أرسله إلى ضواحي الغابة، عساه يجد فرصة سانحة لاقتناص خروف يتصبحون
1
به، وعاد الجرو يتقمز فرحا، وقال لأبيه: تعال حالا، كي أريك مصادا
2
قريبا نجد فيه صبحة
3
شهية، فقد رأيت عند منعطف الوادي قطيعا، كل خرفانه سمينة، فأسرع وتعال معي؛ لأن كل ما علينا عمله، هو الاختيار، ثم الخطف، ثم الأكل ...
وقال الأب لابنه: «مهلا يا ولدي العزيز! وخبرني أولا ماذا عرفت عن راعي هذا القطيع؟»
فقال الابن: «قد بلغني أنه راع دائم اليقظة، وأنه يرعى غنمه بكل فطنة ونشاط، ولكني جلت حول القطيع، وفحصته، واختبرت كلاب حراسته، وهم قليلو العدد؛ فلم أعرهم أقل اهتمام؛ لأنهم لفرط سمنهم وكسلهم، لا يخشى بأسهم.»
فهز الذئب رأسه، وهمهم
4
قائلا: «إن ما ذكرته يا بني لا يغريني بمداعبة حظنا مع هذا القطيع؛ لأنك قلت: إن راعيه فطين حكيم، وبما أنه كذلك، فلا بد من أنه عرف كيف يختار الكلاب الصالحة لحراسة خرفانه، وهيا بنا أدلك على قطيع آخر، يحرسه عدد وافر من الكلاب؛ ولأني أعرف أن راعيه غبي قليل الفطنة، فلست أخشى كلابه؛ لأنه لا يعرف كيف يختارها.
فحيثما تجد أن الراعي عديم الفطنة فكن واثقا من أن كلابه لا يخشى بأسها.»
الفلاح واللص
ذهب فلاح كان قد شرع في إنشاء مزرعة صغيرة إلى السوق، واشترى بقرة ومدلجة،
1
وفي أثناء عودته، سطا عليه لص لئيم، وجرده من كل ما كان معه.
وأخذ الفلاح المسكين يستعطفه، ويسترحمه، بكل ما حضره من العبارات المؤثرة، راجيا أن يرق له قلبه، وقال له: «ارحمني يرحمك الله، أيها الرفيق! فإني قد كددت وكدحت حولا كاملا حتى تمكنت بعرق جبيني من جمع ما اشتريت به هذه البقرة، وكم كنت أعلل نفسي بهذا اليوم المؤمل الذي أجد نفسي فيه صاحب بقرة في مزرعة صغيرة، والآن، إن أنت حرمتني إياها فإنك تهدم كل ما بنيته من الآمال، فتكسر قلبي و...»
فقال اللص مقاطعا، وقد بدا عليه التأثر: لا تجزع أيها الرفيق الطيب القلب، ولا تحسبني من اللصوص قساة القلوب الذين لا يرحمون ضحاياهم المساكين أمثالك! فهاك السطل فخذه فلا حاجة لي به؛ لأني سأبيع البقرة عند أول فرصة بعدما أتركك، فاذهب في سبيلك، وادع لي بالتوفيق والستر، وعليك السلام.
الأفعى الشريرة
اختبأت الأفعى في كومة حطب، وأخذت تتذمر وتجدف على ربها، وتشكو قسوة العالم وشره، وكانت عيناها تقدحان شرر الكره والبغض والحقد، المنبعث من طبيعتها الشريرة، فتراه منعكسا على كل ما يقع عليه نظرها.
وفيما هي كذلك؛ إذ مر بقرب مكمنها حمل وديع لعوب، ولم يفطن لما خبأه له القدر، إلا عندما أحس بأنياب الحية الخبيثة تنهش رقبته.
فأن المسكين من شدة الألم، وصرخ قائلا: «ما ذنبي حتى يقسو علي قلبك هكذا؟»
فأجابته الحية قائلة: «من أين لي أن أعرف ذنوبك، أو ما كنت تبادرني به لو كنت تركتك وشأنك؟! ومما لا أشك فيه، هو أنني لو لم أبادرك لكنت نفذت في ما حضرت إلى هنا لأجله؛ ولأني واثقة من أنك جئت لقتلي، عاجلتك وسبقت؛ فبدأت بقتلك حتى لا أندم عندما لا ينفع الندم.»
وقال الحمل المسكين، وهو يلفظ نفسه الأخير: «إني أؤكد لك أنك مخطئة، وقد أسأت ظنك بي!» «وكل إناء بما فيه ينضح!»
ظل الغبي
التفت غبي وراءه عند غروب الشمس؛ فرأى خيالا أسود طويلا يجري خلفه، وإذ لم يفطن إلى أنه ظل نفسه، تقدم نحوه بضع خطوات محاولا إمساكه، فابتعد عنه الظل بضع خطوات، وأسرع الخطى ليلحقه، ولكن الظل ابتعد عنه مسرعا أيضا، ثم جرى نحوه فجرى الظل منه كذلك، ولما أعيته الحيلة، أدار له ظهره قائلا: «والآن فأنا بدوري سأهرب منك، كما هربت أنت مني، يا شيطان!»
وأطلق ساقيه للريح.
وبعد أن قطع شوطا غير طويل، تلفت وراءه، فدهش، إذ رأى الظل يتعقبه، ويحتذي مثاله، ملتصقا بقدميه. •••
وهذا شأن إلهة الحظ؛ اتبعها تهرب منك، واهرب منها تتبعك!
Page inconnue