الأقاصيص
بابا نويل
الأرملة مارينا
ركبوه العجل
وعظة بونا اسطفان
لا يسلم الشرف
طبيب امرأته
مذكرات شباط
البهائم تفكر في مصيرها
قصة السعادة
قصصي وأخباري
عين كفاع
عيد الصليب من عين كفاع
مجلس القرية يلوم الحكومة
رسالة إلى الرياس
وداع الرئيس حبيب باشا
بمناسبة الدستور والاستقلال
عن المونوبول والغلاء
رسالة شقت طريقا وبنت جسرا
صباحية
استسقاء
مار عبدا والمطران
أولى معاركي الأدبية
كيف تعلمنا
سنتان في مدرسة الحكمة
مدارس الأمس ومدارس اليوم
حقا قام ولكن بلا صيام
جينا للضيعة جينا
حكاية الماء
روداج
الأقاصيص
بابا نويل
الأرملة مارينا
ركبوه العجل
وعظة بونا اسطفان
لا يسلم الشرف
طبيب امرأته
مذكرات شباط
البهائم تفكر في مصيرها
قصة السعادة
قصصي وأخباري
عين كفاع
عيد الصليب من عين كفاع
مجلس القرية يلوم الحكومة
رسالة إلى الرياس
وداع الرئيس حبيب باشا
بمناسبة الدستور والاستقلال
عن المونوبول والغلاء
رسالة شقت طريقا وبنت جسرا
صباحية
استسقاء
مار عبدا والمطران
أولى معاركي الأدبية
كيف تعلمنا
سنتان في مدرسة الحكمة
مدارس الأمس ومدارس اليوم
حقا قام ولكن بلا صيام
جينا للضيعة جينا
حكاية الماء
روداج
أحاديث القرية
أحاديث القرية
أقاصيص وذكريات
تأليف
مارون عبود
الأقاصيص
بابا نويل
أول ما يواجهك في ذلك البيت العتيق فراش ممدود حد صندوق دهري أطول منه. صندوق ألبسته الأيدي التي تعاورته ثوبا دسما فتنكر تحته خشبه. في خواصر ذلك البيت اللبناني القائم سقفه على ثلاث قناطر، دقت أوتاد هنا وهناك، كانت هي (البورتشابو) في ذلك الزمان.
أما أروع ما في صدر ذلك البيت، فرف خشبي وضعت عليه قوارير فخارية مختلفة الأشكال، وشماعدين وثريات للشموع البيضاء والصفراء، وسرج وقناديل تضاء أمام صور وأيقونات وصلبان ومسابح تكاد تشغل مساحة لا تقل عن أربعة أذرع طولا في أربعة عرضا، فيخال الداخل إلى ذلك البيت أنه أمام مذبح لا ينقصه إلا (بيت الجسد).
وكان مندسا في ذلك الفراش هيكل بشري ما فيه إلا العظم والروح والجلد. أخذت الأيام من عرض أكتافه فدق واستطال. وأما لحية ذلك العملاق، فظلت محافظة على أبهتها ولم تخسر منها إلا مقدارا زهيدا لا ينقص من مهابة الشدياق ولا يحط من قدرها.
عمر الشدياق اسطفان كثيرا، فعزا العوام طول حياته إلى عفته، فمنهم من يؤكد أنه ما اشتهى امرأة قط، ومنهم من نزهه عن ذلك تنزيها. ولولا زجر الخوري للغلاة لقالوا: إنه حبل به أيضا بلا دنس.
وكانت امرأة طاعنة في السن من نساء القرية تنظر إلى زوجها الشيخ، وتصر شفتيها وتسكت كلما سمعت ما يقول الناس عن الشدياق، ولا تزيد على القول: أعرفه عندما كنا وليدات نرعى المواشي.
وفي ليلة عيد الميلاد سنة ألف وثمانمائة و... كان الشدياق اسطفان قد فات التسعين، فتململ في فراشه بعد ظهر ذلك النهار. وتنبهت ابنة أخيه مرتا إلى همهمته، فهي تنتظر الساعة، والانتظار صعب، فمغمغ قائلا: مرتا، هاتي اسقينا.
وأخذ الإبريق بيديه الثنتين، ومع ذلك لم يحكم توجيه أنبوبته إلى الهدف فشرب هو واللحاف، ولما أبطأ لهاثه تنهد وقال: سامع حس ناس، من عندنا يا مرتا؟ - عندنا متى يا جدي. - متاه، كيف الطقس؟ - الشمس مريضة يا عمي، ولكن النهار دافي جدا. - وهذا الذي جاء من أميركا إيش خبر عن الغائبين. - الليلة يسهر عندك مع الضيعة. - أهلا وسهلا، سمعت يا مرتا. - نعم سامعة. النقل حاضر.
وأخذ الشدياق ينسحب من تحت لحافه رويدا رويدا، وبعد جهد قعد في فراشه فبدا - حين تكوم - كأنه كرسي عمود في قلعة متهدمة. وأراد النهوض فعجز، ولكنه تماسك وابتدأ يصلي وهو يحاول شد صرمايته التي لم يرق لها أن ينتعلها. وظل يعالجها ويتلو صلاته بحرارة، حتى استظهر عليها، فمشى إذ ذاك يجر رجليه وكأنهما ليستا منه. ولولا تقوس ظهره لخلته ماردا أفلت من قماقم سيدنا سليمان؛ لحية بيضاء كأنها صوف فروة عتيقة، أصبحت خصلها جدائل لما بينها وبين المشط من عداوة. فهي بنت عم شعر الشنفرى لحا، وإذا ارتفع نظرك عنها قليلا وقع على حاجبين كأنهما رفرف فوق أنف مروس معقوف كمنقار نسر.
كان ملبوس الشدايقة غنبازا أسود مقلما، ولكن الهرم الذي اعترى غنباز الشدياق اسطفان أخذ الكثير من لونه وحلت محل أقلامه أنهار من الخواء نمت عن بطانة بيضاء. ومشى الشدياق غير محكم الزنار، فتجمع برداه، عن يمين وعن شمال، كستار مسرح مفتوح نصف فتحة، أما الممثلون فقد تواروا واضمحلوا. وما بلغ الباب القبلي حتى انهار على فروة مدت له. ثم أخذ يستوي على مهل حتى تمثل بشرا سويا، واستند إلى حائط البيت رازحا تحت أثقال التسعين التي تمطت بصلبها وناءت بكلكلها على منكبيه.
ونظر إلى الطبيعة بعينين جفت ماويتهما فرآها صفراء مغبرة فقال: عجيب! كيف اصفرت الدنيا، ما كانت هكذا منذ أيام. وحك صلعته كمن يشغل باله أمر خطير، وأطرق إطراقة طويلة. ورفع رأسه فإذا بدمعة تكرج في ثلم من وجنته لتنهار عند مدخل لحيته.
وطفق الشدياق يجهش ثم تعالى بكاؤه فلفت أنظار العابرين والعابرات. وشاع في القرية أن الشدياق اسطفان يبكي، وهو من لم ير قط باكيا فتضاربت في ذلك أقوالهم.
رأى الشمس جانحة لتتوارى خلف الجبل فانتحب. أدرك أنه إلى ما تصير إليه صائر، فراح يناجي نفسه: هي تغيب وتشرق، أما أنت يا اسطفان فإلى ظلمة القبر. لا شروق ولا غروب. إنه يضيق صدره وهو في فراشه اللين فكيف به متى وسدوه التراب. إنه يبرد، وهو نائم حد الموقدة فكيف به متى نام في قلب الأرض حيث يبقى في ظل الموت إلى الأبد.
ورأى نصف قرص الشمس قد أوشك أن يتوارى خلف الجبل فأرسل زفرة حرى. وأخذ يتحلحل ليعود إلى مرقده قبل أن يختفي كانون الله ويقرصه البرد.
وما ذكر الله والعذراء حتى عاد إليه إيمانه بالخلود والحياة الأبدية، فتشدد ونسي البكاء.
ذكر أن المسيحي الصالح لا يموت بل ينتقل من وادي البكاء والدموع إلى دار النعيم حيث يتمتع برؤية الله وجها لوجه.
ثم عاودته نوبة الشك فانخرط في البكاء وقال. هل بعد الشقا بقا، ترى نعيش ليوم عيدك يا مار مارون؟ آه يا حبيب القلب، نلتقي يا ترى في الخدر السماوي؟ من يعلم؟ وبينا هو غارق في تلك الظلمة سمع صوت امرأة تناديه: اسطفان، ضيعت إيمانك بالحياة الأبدية!
فتلفت فلم تقع عينه على أحد، فقال في قلبه: مؤكد، هذي العضرا مريم، من يقول لي هذا غيرها. ثم التفت وخاطبها كأنه يراها: لا تؤاخذيني يا ستي السيدة. الآخرة مخيفة، والموت يفزع. عذري معي، ابنك يسوع بكى في البستان. أنا متكل عليك يا حبيبتي. تعبنا وشقينا حتى نرى وجهك الحلو. لا تخيبينا.
وخاف الشدياق أن يعتب عليه الله فاستوى ما استطاع مادا بصره إلى فوق وقال يناجيه بأعلى صوته: يا صاحب الخيمة العالية، يا من تعيش في النعيم، ويمجدك الكاروبيم والساروفيم، ماذا عندك للشدياق اسطفان الذي قضى حياته متبتلا؟ هل تحاسبه على كل هفوة؟ ألا تتساهل معه؟ ألا تدخله أخدارك السماوية بعد أن عاش تسعين سنة تحت مظلتك الكبرى لا يهمه إلا طاعتك.
ارحمني يا الله كعظيم رحمتك. ما أرعب ساعة الميعاد يا الله؟ قلبي يدق، أنا خائف جدا. شددني يا الله. الشيطان يجربني دائما. أينما رحت أراه حاضرا. تف له. ما أبشع وجهه، وذنبه وقرونه.
وتذكر الشدياق أنه أمسى فراح يرتل وهو ماش، الميمر السرياني: برمشو صليبوخ روشيمنو على هادوماي ... إلخ.
وكان متى ومرتا قد أضرما النار في الموقد فحمي البيت، وارتمى الشيخ ليتربع قرب النار.
شيخ منودل، ينوس كرقاص الساعة. نسي الشك والفزع حين تدفأ. ولذعته النار قليلا، فتجهم وجهه وانقبض كأنه رأى في الموقد نار جهنم. تذكر عواقبه الأربع فارتاع وانكمش. وعلا اللهيب فخال أنه يرى من خلاله شبابيك الجنة مفتوحة مضاءة، فتهلل وتذكر عليقة موسى التي اشتعلت ولم تحترق، فانحرف فكره عن نيران الجحيم. إذن في النار ذكريات طيبة للمؤمنين، فما باله وهو الرجل الصالح الذي راض نفسه على الفضائل المسيحية، يفكر هذه الأفكار السوداء؟
لا شك في أن إبليس يجربه ليقطع أمله ويتزعزع إيمانه في أخريات حياته، فصلب على وجهه مرات وخرج من جو تلك الأفكار التي خاف منها، وصاح: مرتا بخري الصورة.
فنهضت مرتا بمجمرتها، تبخر الصورة فملأت رائحة البخور الجوري البيت، فتنشقه الشدياق وهو يهتف: إخايه! صار كصوفي أسكرته المشاهدة، حتى خيل إليه أنه يرى في دخان المبخرة الصاعد سلما مثل سلم يعقوب يرتقي به إلى سماوات ذي العرش، فأخذ يرتل بصوت رخيم لا ارتجاف فيه ولا اهتزاز، كأنه ابن أربعة عشر.
أنت الشفيع الأكرم
عند ابنك يا مريم
وما انتهى من إنشاد هذه المديحة حتى صرخ: يا بنت! بخرت صورة مار مارون؟
وبخرت البنت ورتل هو: لك شرف مفرد كبدر الضيا، وأومأ إلى متى فشاركه في ترتيلته التي لم يصرم حبلها إلا الفواق. وما ارفض موكب صلاته الحافل، حتى عاد إلى قعدة الأربعاء وهو يقول: ترى يكون لنا حظ ونسمع تهاليل الساروفيم، ونرى الراكب على الكاروبيم! ما أحلى هاتيك الساعة. قريبا نلتقي يا مار مارون.
وقدمت له مرتا العشاء وفيه ما تحرمه الكنيسة في صوم الميلاد - وهو ابن تسعين يحل له أكل كل طعام - فكف عنه يده ونفسه تشتهيه. لم يأكل إلا بضع حبات من الزيتون ورأس ثوم شواه. ولماذا الأكل، أليحرم الأجر؟ غدا نأكل إن شاء الله اللحوم والألبان، فديوك الميلاد تغلي على النار، وتغني في القدور كأنها جوقة ترتل: المجد لله في العلا ...
وقال لمرتا وهي ترفع الصينية: غدا نأكل مع الضيعة من طعام العيد. فمنذ صار الشدياق ذلك الشيخ الجليل الذي تقبل الناس يده ويلتمسون دعاءه وبركته، أخذ يدعو أهل الضيعة إلى مأدبة الميلاد التي يعدها لهم كل عام.
وعاد الشدياق إلى فراشه واحتبى بلحافه، ووفدت أهالي الضيعة عليه. المسنون يمسونه بالخير نصف ساجدين. تنحدر أيديهم من قمم رءوسهم لتستقر على ساحات صدورهم الرحبة. والصغار ينكبون على يديه يقبلونهما، سيان عندهم اليمنى أو اليسرى. وجلس الناس سطورا سطورا حوله وبين يديه، وطغت على البيت رائحة منبعثة من مصابيح الزيت المطفأة فأخذ بخناق الشيخ سعال ديكي، ولو لم يسرع أحدهم إلى فتح الأبواب لكان فطس وذهب مأسوفا على شبابه.
وساد البيت سكوت رهيب، لم يكن يسمع صوت نابس. فكأن الناس في صحراء لا أنيس فيها ولا جليس. الجميع يتطلعون إلى الشدياق بعيون مفتحة والشدياق يحرك شفتيه الراقصتين، يتمتم ولا يبين. وأخيرا انشق فمه وخرجت منه هذه الكلمات: هذه ليلة مباركة يا إخوتي، فيها ولد سيدنا يسوع المسيح بمذود البقر ليعلمنا التواضع. علينا أن نولد مثله كل سنة؛ لأنه - لاسمه السجود - قال: الذي لا يرجع إلى بطن أمه ويولد ثانية لا يستحقني. والولادة الثانية معناتها أن ينظف الإنسان نفسه وجسده حتى يعود طاهرا نقيا كالمولود جديدا.
فهز الرجال رءوسهم إعجابا، وتنهدت العجائز متأسفات على مواهب الشدياق كيف ضاعت ولم يصر كاهنا.
أما خوري الضيعة فكان يؤمن بإعجاب على كل ما قاله الشدياق ويتحسر في قلبه على قيراط من مثل فصاحته النادرة، ثم يقول للذين حوله: هذا رجل قديس، المثل الصالح أبلغ واعظ، وشدياقنا طاهر نقي مثل الآباء الأبرار.
وقبل أن يتوغل الشدياق في موعظته دخل المغترب الخواجه توما فهمس بعضهم: جا، جا.
وظل سمع الشدياق صادقا. فسأل: منو جا؟ فخبروه. والتفت الشدياق فرآه فهتف بلا شعور: بسم الأب والابن والروح القدس. هذا هو. لا ينقصه إلا الذنب.
وتقدم منه الخواجة توما بزيه الفرنجي الذي لم تر الضيعة مثله من قبل؛ لأنه أول من هاجر وعاد، فكاد الشدياق يتراجع لو استطاع ولكن الجدار خلفه، وسلم توما سلام الأمير كان فكاد يخلع يد الشدياق الهزيلة. لم يرق للشدياق ذلك السلام الخارج عن حظيرة الاحترام التي أقامتها القرية حول شدياقها، ولكن كل شيء مر بسلام. وقعد المستر توما قعدة بلادنا، جلس على طراحة في صدر الحلقة فتضايق وكاد بنطلونه ينشق، فقام ابن عم له وبنى له مقعدا من المساند والمخدات، والشدياق ينظر وقد غاظه خروج المساند من صفها. ولا سيما أن الخواجة توما جلس ولم يحتف كالآخرين. ما خلع نعليه حين داس البلاس الذي يصلي عليه الشدياق ويقبله مرات حين يسجد. وزادت في الطين بلة، حركات توما الغريبة الدار. لم تعجب الشدياق حركات توما وسكناته، وكان يجن حين يسمع منه بعض ألفاظ أميركية مثل: يس، وتنكيو، وفاري كود، وغود نايت وغيرها. ولكنه احتمل ذلك وهو يتمتم: مع آلامك يا يسوع. ما صبر الشدياق هذا الصبر إلا ليسمع من المستر توم أخبارا جديدة بلغته عنه: فقال الشدياق: توماه، أية ساعة جئت. - أمس الظهر يا عمي.
فأجاب الشدياق: لا تؤاخذني، ما قمت بالواجب. عذري واضح ومقبول. - يس، يس القصد مشاهدتك. الحمد لله شاهدناك بخير. - كيف تركت جماعتنا؟ - الجميع بخير، يسلمون عليك.
فنكزه واحد ووشوشه: قل ويقبلون أياديك الطاهرة، ففتح توما فاه ليقولها، ولكن السبق كان للشدياق الذي قال: وكيف أحوالهم الروحية والمادية. - بألف خير صاروا شبعانين كلهم.
وسكت الشدياق وهز برأسه، وظل يحرك شفتيه، ولكنه لم يقل شيئا.
وأشار أحدهم على توما أن يخبر الشدياق عن الموارنة ويطريهم ففعل، فقال الشدياق: ما داموا متمسكين بمارونيتهم لا خوف عليهم. - يس، عندنا كل شيء، كنائس، مدارس، خوارنة، إذا رأيتهم حسبت أنك في لبنان. - عال، عال.
وانقشعت الغمامة عن وجه الشدياق وأخذ يتغنى متهللا بنشيد مار مارون الذي يعرفه كل قروي، فسانده الجمهور في تلك الرحلة الشاقة إلا توما فكان مثل الأطرش في الزفة.
وما انتهى الشدياق من نشيده حتى فتح توما فمه ليحكي، فأومأ إليه الشدياق بجمع كفه أن يمهله ليأخذ النفس. وأخيرا قال توما: سمعتك عند وصولي تحكي عن الميلاد، آه يا عمي لو عينك تنظر هذه الليلة في النايرك، هذي عندنا في النايرك وفي أوروبا ليلة عظيمة جدا. أحسن الهدايا تقدم للأولاد، سي، الأغنياء يعطون الأولاد الفقراء كل شيء، المأكولات الملبوس، اللعب. آه لو عينك تنظر يا عمي، كل بيت يعمل شجرة تكلفه المبلغ المرقوم، وفي هذه الشجرة أشكال وألوان. ثم هز توم رأسه وعامت على فمه لفظة فاري كود الكرسموس في أماركا.
فقال الشدياق: إيش دين هذه الشجرة؟ - هذه شجرة الكرسموس، يعني الميلاد. يعلقون فيها الملائكة والشموع، الشريط من كل لون، علب شوكولا وبسكوت وكاتو.
فقال الشدياق متعجبا: أسامي غريبة؟ ولأيش كل هذا؟ - إكراما للميلاد. - تبارك اسم سيدنا يسوع المسيح، واصل خبره لهناك؟ إذن في البلاد التي كنت فيها ناس تعرفه مثل الموارنة. - يس، يس ... معلوم ، كلهم نصارى يا عمي. - هذا حد علمي، عال عال. - يا ليتك تعرف كيف يتصورون الميلاد. - هات خبرنا، ولكن قوس حنكك مرتخ. شد البراغي واحك.
فضحك المستر توم وقال: تعودت اللفظ الأميركاني. ثم صر بوزه قليلا وقال: يتصورون الميلاد شيخا كبيرا لحيته لزناره وشواربه شبر وأكثر. يحمل على ظهره كيسا فيه هدايا للأولاد العاقلين. فينام جميع أولاد الأميركان تلك الليلة منتظرين هدايا سانت كلوز (بابا نويل) الذي ينزل إلى البيت من المدخنة، وفي الصباح يكون تحت مخدة كل ولد منهم سكربينه جديدة، فيها ملبس ولعب، وأشياء وأشياء.
فهز الشدياق رأسه وصاح: يه، يه، يه، يه، صار الميلاد بياع سكربينات! المسيح الذي قال: من لا يدخل من الباب فهو لص وسارق، ينزل من المدخنة، ما شاء الله عن بلادكم يا ابني. كل شيء فيها ينمسخ. نعم، كل شيء ... أنت، مثلا، رحت توما ورجعت توم وتومي. وقال باستهزاء: تعرف يا مستر توم، حكاية الميلاد عندنا غير حكايته في بلادكم. اسمع يا ابني حتى أخبرك: كان في ضيعتنا خوري اسمه الخوري نصر الله. كان متزوجا وماتت خوريته بلا أولاد. والخورية مثل الصنوبرة إذا انقلعت لا تفرخ، كما تعرف. وهذا الخوري كان من أغنياء الضيعة الكبار، وليس له إخوة حتى يأخذوا التركة. وهو في الوقت نفسه رجل تقي عمال خير، يريد أن يوزع مقتناه على المحتاجين. كان يعظ يوم أحد النسبة - أظن أن أميركا نستك أحد النسبة - هو الأحد الذي قبل الميلاد - كان يعظ يوم هذا الأحد ويوصي الناس أن يكونوا أتقياء، ويسيروا بخوف الله لتحل عليهم بركة الميلاد. ثم ينتظر عتمة ليلة عيد الميلاد ليحمل كيسا من الدراهم إلى عائلة فقيرة، ولهذا كان يقول لهم، من يعتقد أنه يستحق بركة الميلاد فليرد بابه ردا. وهكذا كان كل سنة يقصد بيتا ليترك فيه الكيس لتلك العائلة. وبقي يعمل ذلك سنين. وأخيرا عرف الناس أن الخوري هو الذي يحمل إليهم ذلك الكيس فصاروا يسلكون سلوكا حسنا، ويصلون إلى الله لتحل عليهم بركته مع هدية الميلاد.
هذه حكاية الميلاد عندنا لا حكاية ميلاد أميركانك الذين صيروا الطفل الإلهي لعبة أولاد. قالوا: إن أميركا فيها جنون كثير فيما صدقت لولا هذه الخبرية.
واندحر المستر توم في هذه المعركة فأراد فتح جبهة ثانية، فراح يحكي عن جورج واشنطون وتحريره أميركا.
فصاح الشدياق وكان صدره قد امتلأ غيظا: منو هذا جرج شنتان حتى تذكره وتنسى مار مارون؟ مار مارون حررك من عبودية الطاغوت. خرفت يا توم، رجعت إلينا تلفان، ما فيك شعرة من الموارنة.
وكان الناس يعجبون بحديث المستر توم ولكنه لما احتك بالشدياق سقط من عيونهم، وقال واحد: شخص مثل الشدياق حرام يموت.
ولما تقهقر المستر ثانية في معركة الأشخاص، راح يتحدث عن الاختراعات الحديثة فقال: اليوم اخترعوا آلة تحكي وحدها. مثلا، حديثنا الليلة، تلقطه هذه الآلة وتراجعه لنا ساعة نريد.
فلم يزد الشدياق على قوله: الدنيا فيها كذب كثير.
فاستاء توم وحلف للشدياق أنه رآها وسمعها، وكان نوى أن يحضر معه واحدة منها ولكنه جاء على عجل. ثم خبره عن الأوتوموبيل والبالون فاستولت على الشدياق الدهشة وأصابه شيء كالذهول. وفتش عن منفذ فوجده فقال: ربما أنها صحيحة وإلا فكيف صعد مار إلياس إلى السما في مركبته النارية.
وطاب للسامرين أن يتحدثوا عن الآلة المسماة بالفونوغراف والشدياق يسمع ولا يجادل، وعيون الناس شاخصة إليه، وظلوا مستغربين سكوته العميق حتى رأوه يحل حبوته ويتمدد ويصيح: ضعف الضو يا مرتا؟
ورأى الناس المصباح يزهر كما كان، ولكن مرتا رفعت الفتيلة ففاض النور، وبعد هنيهة صاح الشدياق: مرتا، الضو ضعيف يا جدي، مخطي السراج، صبي الزيت.
وجاء دور النقل وأخذ الجمهور يتلهى بأكل التين المطبع والزبيب واللوز والجوز. كانوا يلغون ويلغطون، والشدياق مشغول عنهم في انحلال جسده، فهو يموت عضوا فعضوا. وكان المستر توم يفيض في التحدث عن عجائب أمريكا والناس يصغون إليه مرتخية أفواههم.
وفي تلك الفترة قال الشدياق بصوت كأنه خارج من قعر بئر: أين الخوري؟
فاقترب منه الكاهن فقال له: أتت الساعة، صلوا جميعا لأجلي، صلوا يا إخوتي، اغفروا لي من أجل المسيح. حلني يا محترم.
فوقف الخوري على سلاحه منتظرا اللحظة الملائمة. واستحال البيت كنيسة، ركع الجميع يصلون ويرتلون طلبة المنازعين ليعاونوا الشدياق على رحيله من هذه الدنيا، وبصوت يكاد لا يسمع رتل الشدياق وعيناه مغمضتان، النشيد المريمي:
إن قلبي في هوى مريم
لم يزل مشغوفا مغرم
يرجو فرجا
من ثقل الآثام
وانقسم الجمهور جوقتين مرتلين، وسكت الشدياق ولكنه ظل يحثهم بهزة الرأس:
جرني عملي لقطع الرجا
ولم يبق لي قط ملجا
إلا مريم
حصن الخلاص والنجا
زيت الشفا بلسم النقا
خبز العبادة خمر التقى
يا سعد من في
باب مريم التقى
تمام سعادتنا في الثبوت
بعبادتك حتى نموت
هاللويا
ونحظى بالملكوت
ولم ينته النشيد حتى كان الشدياق قد انتهى، فاستحالت السهرة مأتما. وفيما هم يخلعون ثياب الشدياق ليلبسوه الثوب اللائق بمقابلة القديس بطرس، عثروا على ورقة فيها وصيته، فقرأها الكاهن على الجمهور: (1)
يهب مرتا بنت ابن أخيه بيته وما حوله من أرض وما فيه من متاع، بشرط أن تأخذ ابن عمها متى. (2)
يلتمس من غبطة البطريرك أن يحقق بعد موته ما حرمه إياه من حياته فتبنى كنيسة على اسم مار مارون وقد جعل لها وقفا ضيعة أخرى بكاملها. (3)
يقف ما بقي عنده من عقار على بناء مدرسة لأحداث الضيعة، ومن ريعها يدفع راتب المعلم ليدرسهم السريانية والعربية.
وأصبح الناس والشمس مكسوفة والضيعة في عتمة، فارتفع الشدياق عندهم إلى مرتبة الطوباويين. وفيما هم يأكلون مأدبة الميلاد التي أعدها لهم الشدياق قال واحد، والكلام يزاحم الطعام: بعدما رحت، فطلعت صوب بيت الشدياق فرأيت الملائكة طالعين نازلين من البيت.
وقال جاره: وأنا رأيت كوكبا طلع من البيت وحلق ثم اختفى خلف الجبل.
وقالت امرأة: طول الليل ونحن نسمع أغاني وتراتيل وصنوج ونواقيس تدق في بيت الشدياق.
وقال الخوري: الشدياق قديس لا شك فيه، فالشمس كسفت مرتين مثل هذا الكسوف: مرة يوم موت سيدنا يسوع المسيح، ومرة اليوم، هنيئا لنا صار عندنا قديس، وهو وحده يغل لنا ويدر علينا أكثر من ألف وقف.
الأرملة مارينا
1
الأرملة (مارينا) من (عين كفاع) بيتها علية مؤلفة من أربع غرف وبهو، مسقوف بالقرميد، وإلى جانبه الشمالي والقبلي بئر وقبو، تواجه بوابته كنيسة مار روحانا، المشيدة على أنقاض برج قديم، وفي ظلها تتفيأ المقبرة النائم فيها من رقدوا بالرب على رجاء القيامة.
أما عين كفاع فقرية متواضعة، قائمة على رابية بين الجبال، تطل على البحر من الجهة الشمالية، حيث يمتد نهر شتوي طويل متعرج، تتناوح حوله شماريخ الجبال فتكاد تتصافح، وتتفكك سلسلة ذلك المنظر الرائع عند جسر المدفون. وفي الجبال المنتصبة حول عين كفاع مغاور عديدة مفتحة الأشداق كحناجر المظلومين، أشهرها مغارة سيدة القطين التي كانت ديرا للحبساء الأبرار في ذلك الزمان، ولا تزال آثاره قائمة في قلب ذلك الصخر تلقي على الذين يبصرون دروسا وعبرا.
وأمام القرية - شرقا - ينبسط سهل صغير مقعر يسمونه (الوطا) كله أشجار زيتون يتخللها تين وسفرجل وإجاص، وأدواح سنديان وعفص وبطم تتعرش عليها الكرمة، فتغني الملاكين عن القلال. ويلتف الوطا - قبلة - حول القرية فيتصل غربا بواد يمتد حتى يتصل بالنهر الشتوي الذي كأنما سموه المدفون لاختفائه بين الجبال حتى تكاد لا تراه.
فعين كفاع كما رأيت جزيرة برية لا يدخلها قادم إلا من الجهة الشرقية فكأنها حصن طبيعي، وبيت جرجس يوسف عبود زوج مارينا ثاني بيت تراه إذا دخلت القرية من بابها الشرقي الشمالي، اشتراه جرجس ورممه فصار من بيوت القرية المعدودة، موقعه جميل، على كتف الوطا. وكان جرجس ميسورا فأنفق عليه أموالا كثيرة فجدد شباب التوت - رحم الله عهده - وأعد قسما لزراعة الدخان المثلثة الرحمات.
وما استراح جرجس من أعماله حتى تتالت عليه المصائب والبلايا، فلم ينعم طويلا بهذا البيت فكأنما أعده ليموت فيه. توفاه الله فجأة صباح عيد الميلاد منذ سنين، بعد وفاة ابنه يوسف الشاب بثلاثة أشهر، فترك زوجا أرملة لها بنون وبنات قاصرون وقاصرات.
وكثيرا ما علل الناس - في القرية وجوارها - مصائب جرجس ونكباته، فعدوها من عجائب العذراء - عليها السلام - فبيت جرجس وما يتبعها من عقار كان وقفا لها فاشتراه من بكركي بمئات الليرات الصفراء الرنانة.
السيدة (ضيقة) يقول أهل القرية، فكم أماتت من أبقار وغنم ومعزى وحمير رعت العشب من أرضها، وسركيس الكريدي مات محروقا؛ لأنه كان يزعج وكيل وقفها - الخوري يوسف مسرح - ويطالبه باسترداد عقار أبيه وجده الذي اغتصبه الوكيل المذكور وضمه لأملاك السيدة.
أجل لقد نكبت سيدة البياض قرية عين كفاع الهادئة بمصائب جمة، منذ وطئت أرضها أقدام هذا الخوري، لقد أقلقها في حياته، وأزعجها في مماته، فنكبة مارينا الأرملة التي ترى، من مآثر هذا الكاهن التي لا تحصى، فسجلات محاكم كسروان والبترون وبعبدا على عهد المتصرفية حافلة بالدعاوى التي أقامها المحترم، على أهالي القرية، ولم ينج منها إلا نفر.
عفاه رستم باشا بمرسوم خاص من الرسوم، فأخذ يقيم الدعاوى بلا روية، فتساق الناس إلى دوائر الحكومة. وليس أبغض إلى القروي الهادئ المطمئن من رؤية جندي يبلغه دعوة إلى محكمة. أما الخوري يوسف مسرح فماذا يهمه؟ فرسه عنده عليقها من كيس الوقف ومرعاها زروع القرية، ومن يردها عن زرعه يزور غزير، وينام في (بيت خالته). وهكذا قضى الخوري حياته بين كسروان والبترون وبعبدا وبتدين وبكركي وبيروت وحريصا؛ لأن دعاويه كانت تتناول حتى رئيسه الروحي بطرك الموارنة، فلا تراه إلا على فرسه رائحا جائيا على سيف البحر. وأخيرا ركب البحر ابن سبعين ليبلغ شكواه الحبر الأعظم بابا روميه.
2
ما انسلخ جلد الليل وانشق الفجر حتى كان الحمار وعليه خرج من الجنفيص بباب مارينا، وكان أولادها اليتامى يروحون ويجيئون واحدا إثر واحد، هذا يحمل الرداء، وتلك الحذاء، وذاك كيسا وتلك صرة، والمكاري يحشو بها الخرج مراعيا التوازن بين عينتيه، وكلما وضع قطعة هز رأسه أسفا.
وبعد هنيهة أطلت مارينا من البوابة بوجهها الكالح المجعد وقامتها الطويلة النحيلة، عليها فسطان أسود بسيط طويل فضفاض مشدود على خصرها النحيل، فوقفت على عتبة الباب كأنها تتذكر إذا كانت ناسية شيئا من عدة السفر، فما وقع بصرها على المقبرة حتى صرخت بملء فيها: على من تركتني يا جرجس. قم وانظر مارينا على طرقات البحر، من يعول اليتامى يا جرجس، من يفض المشاكل يا جرجس، يا ويلي أنا امرأة أرملة مسكينة كلمتي غير مسموعة. من يخلصني يا ناس، من يخلصني. يا يوسف، قم وانظر أمك كيف صارت، الله يبلي الذين بلوني، يا ضيعان التعب! عشرين سنة في أميركا قضيناها حتى نرتاح في آخرتنا، أين الراحة، اشترينا الهم والتعب. راح المال والرجال، راح المال والرجال يا حسرتاه، يا ذلي!
فجاء أهل القرية جرد العصا على هذا الصراخ الشاذ - وفي القرى يستيقظون باكرا - والتموا على صراخ مارينا الذي لم يسمعوا مثله إلا يوم أصيب ابنها يوسف الشاب بنوبة أخذته، ويوم مات زوجها جرجس فجأة بعد ولده يوسف بثلاثة شهور.
فرأوا مارينا مصروعة فتجمعوا عليها يسعفونها. ودواء من يغمى عليه في القرى رقعة تحرق، فأفاقت مارينا وهي تردد: يا عذرا، يا عذرا، يا عذرا، الله ينتقم منك يا ...
فأخذ الناس يهدئون ثورتها ويصبرونها على بلواها، وهي تفور كالقدر الهائج قاذفة اللعنات بالمئات والألوف من قلب مقروح، ولما شفت نفسها همدت فقال لها المكاري: قومي يا مارينا، تعالي يا ست، الله يرضى عليك. النهار شبر، لا نصل إلى جبيل قبل غدا الرهبان. عجلي قومي راحت الغدوة. أيش ينفع الصراخ هنا، صرخي عند سيدنا البطرك. الله معك، يا الله قومي.
فما فاه المكاري بكلمة سيدنا حتى ازرق وجه مارينا وفاض على لسانها ما امتلأ به قلبها، وأعادت الكرة فامتلأ الجو سبابا وشتائم.
وكان بين الناس شيخ جليل يتعكز على عصاه، في قلبه إيمان كثير، ووجهه طافح بالطاعة المارونية، فغاظه ما سمع، فقال لمارينا: اسكتي يا بنت، لا تسبي الرؤساء.
فأقبلت عليه مارينا وانطرحت أمامه على الأرض صارخة: حقي يا عمي، حقي، حقي ضاع يا عمي جناديوس.
فتغرغرت عينا ذلك الشيخ، وبعد أخذ ورد، أقنعوها فركبت الحمار دامعة، فالتفت الشيخ بالحاضرين وقال: ما هذه الأيام التي وصلنا إليها؟!
وتوقع الجمهور أن يقول جناديوس أكثر من هذا فلم يزد، وسار في طريق بيته.
فما تقدمت مارينا بضع خطوات حتى قاقت الدجاجة، فصاحت: هش ... ولوت عنقها صوب بيتها توصي أولادها بالانتباه للدجاجات والبسة والخروف، ثم أدارت وجهها صوب الشمال توصي ابنتها رشيدة لتنام مع أخوتها، إذا لم ترجع مارينا من سفرتها في تلك الليلة، وسارت تبكي.
وبعد خطوات أخرى أوقفت الحمار ولم تلتفت؛ لأنه صعب المراس ثم صاحت: يا رنسية، بيعوا الدخان إذا جاء الحواط، ولا تخلوه ينقيه.
وما بلغت الوطا حتى صاحت: أوخ، نسيت الأوراق بالبيت، حنا بحياتك ارجع عني أو انتظرني، فعاد حنا يتذمر من رفقة النسوان، وجلب الصكوك وكل أوراق المرحوم جرجس، ولحق بمارينا في منتصف الوطا.
وكانت مارينا قد انضمت إلى بعض مكارين ذاهبين إلى جبيل بندر تلك الناحية، فأخذت تقص عليهم أخباره وتحدثهم عن مصائبها وبلاياها، مفتخرة على أيوب، وهي لا تدري من تلوم، وأخيرا أطلقت قنبلتها فأصابت شظاياها الجميع - من مارون إلى خليفته الجالس على كرسي أنطاكية.
وفيما هي مشغولة بالحديث أرخت من رسن الحمار، فسك بها فصاح المكارون بصوت واحد: مارشليطا، مارشليطا!
فما هوت مارينا إلى الأرض، واستوى الحمار وتابع سيره، ومضت مارينا في حديثها كأن لم يحدث شيء مما كان، والتفتت بالمكارين فإذا هم يضحكون وأيديهم على أفواههم، فكظمت غيظها، ولم تقل كلمة بل تنهدت طويلا.
3
ركبت السيارة من جبيل بعد ما بدلت، ورافقها أخوها زخيا في هذه الرحلة، فما تحركت السيارة حتى رسمت مارينا على وجهها إشارة الصليب وتوكلت على الرب يسوع.
وبعد مسير مائتي متر أطل تمثال سيدة مرتين فصلبت مارينا يدها على وجهها وصلت الأبانا والسلام، ثم قالت: سفرة موفقة يا ستي السيدة، لك مني كعب زيتون في وطاعين كفاع نذر حلال زلال.
والتفتت إلى زخيا وقالت: ما قولتك يا زخيا، هل تتحنن قلوبهم هذه المرة أم يصيبنا مثل كل مرة؟
وانقطعت عن حديثها فجأة؛ لأنها واجهت هيكلا آخر هو كنيسة مار زخيا، فمار زخيا شفيع الغرقى، ومارينا غارقة في بحر هائج، فبسملت وصلت كالعادة، الأبانا والسلام، ثم قالت لأخيها: قرفت الصلاة يا زخيا، ما رأيك بسفرتنا هذه المرة: فهز زخيا رأسه وقال لها: أنا نبي؟! التدبير عند الله يا أختي.
وأخذا في الحديث ورفيقهما الراهب يسترق حديثهما ولا يفوه بكلمة بل كان يهز رأسه حينا بعد حين، ويسرح بصره في البحر المعرورف، تارة يفتل شاربيه وطورا يمشط لحيته بأصابعه، ولشد ما كان دهش الراهب عندما استوقفت مارينا السائق بعجلة غريبة، فوقف بغتة. فصاح الراهب: أيش بك يا بنتي!
فقالت مارينا: مار ضومط يا محترم، أنا ناذرة أن أصلي راكعة أمام صورته، ربي ألهمني أن مار ضومط يساعدني، ولمار ضومط فضل على زوجي شفاه من (العصبي).
وانبطحت مارينا أمام صورة مار ضومط على السكة تصلي بعين دامعة وقلب جريح، ثم ناجت مار ضومط بصوت مسموع: بحياتك يا مار ضومط، كملها معنا، ولك مني ما تريد، وانحنت فقبلت عتبة صومعته الصغيرة، وألقت فلسها في صندوق النذور وعادت إلى السيارة، فقال السائق: خلصنا يا ست؟ فأجابته: إن كان الله قبل، سق.
فتحول الراهب من السيارة بعد أن قال لمارينا: رزقك الله حسب نيتك يا بنتي، ثم فتح صندوقة النذر وأخذ ما بها وحاسب السائق ووضع ما بقي في جيبه، وقال: وفقكم الله.
وسار صعدا إلى مار ضومط القريب من الصومعة، فهو رئيس ذاك الدير الذي يجترح قديسه العجائب، فهو اختصاصي بمرض العصبي، اختصاص مار شليطا بالبهائم، وقزحيا بالمجانين، واستأنف السائق السير. أما زخيا فظل يتبع الراهب بنظره حتى دخل الدير، فهز رأسه وتنهد. وبعد بضع دقائق أطل تمثال سيدة حريصا العظيم فقال زخيا لأخته: سيدة حريصا يا أختي!
فقالت مارينا: يه! وبسملت بعجلة وصلت صلاة غير خفيفة.
4
وصلت مارينا وأخوها زخيا قصرا عاليا يشرف على البحر تكتنفه أشجار الصنوبر، وأجراس قبته المثلثة تقرع كلها، فسأل زخيا عن السبب فأجيب: عيد جلوس سيد القصر المغبوط فلم ترق لمارينا هذه الصدفة، وعند تحولهما من السيارة في ساحة القصر التقيا بكاهن كهل قصير القامة بدين، نظارتاه سوداوان، فتقدمت منه مارينا وحيته قائلة: المجد لله يا معلمي.
فأجابها: دائما لله يا بنتي. وفيما هي تقبل يده قال لها: كيف حالك، وكيف حال أولادك؟ فأجابت بانكسار: بخير، بصلاتك ودعاك يا محترم.
أما زخيا فسلم على الخوري هازا يده، وكان بينهم ثلاثتهم حديث ثم تفرقوا.
وتقدمت مارينا من البوابة تريد الدخول فمنعها البواب قائلا: لا إذن لكم اليوم، اليوم عندنا مندوبو الحكومات ورؤساؤها وأعيان البلاد ووجوهها. قالوا لك أمس ما قالوه، فماذا تريدين منهم اليوم؟ فأجابت مارينا: أريد إما مالي، وإما عقاري. أطلب حقي. - لا إذن اليوم. - مالي هنا، حقي عندكم. - قلت لك: لا إذن، روحي إلى المحكمة.
فأدهش زخيا ما رأى، فوقف مسبوعا، ثم اقتحم الباب حتى كاد يشاجر البواب، فخافت مارينا لما رأت الشر في عيني أخيها، فتعلقت بردائه وأخذته وابتعدت مرددة: مليح، مليح.
أما البواب فهز رأسه وأقفل البوابة.
وظل زخيا يتمشى ذهابا وإيابا، أما مارينا فوقفت إلى جدار الكنيسة تسمع القداس من وراء الحائط كأنها يهودية إزاء جدار الهيكل في أورشليم.
وبينما كان الشمامسة يرتلون في الداخل: مستعد قلبي يا رب ...
كانت مارينا تتمتم في الخارج: اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا كما نحن نغفر لمن أخطأ إلينا ولكن نجنا من الشرير.
5
كان القداس (احتفاليا صارخا)، شمامسة يسبحون وكهنة يترنمون وأحبار يرتلون. ألفاظ خليط من السريانية والعربية، واهتزازات أصوات لا يقام لها وزن، فلا يسمع من الخارج إلا دندنة، ولا يفهم من كل ما يقولون إلا الخاتمة - هللويا كيرياليسون.
وأجالت مارينا يدها فأخرجت من عبها سبحتها الطويلة (الوردية) والتصقت بجدار الهيكل جهدها لتدنو من المذبح ويفي قداسها.
ومضت ساعة على انتصابها فأعياها التعب، فقرفصت ووجهها للحائط. ومرت ساعة ثانية ولما تنته (الرتبة والقداس) فرنق النوم في عينيها، فبدت لما بها من يأس، كالنمرة الهامدة. أما أخوها زخيا فجلس على صفة تجاه البوابة، يرقب النوافذ عله يرى من يعلمه إذا كانت مقابلة غبطته ممكنة. وبعد انتظار طويل لمح كاهنا يعرف وجهه، فجرأه عليه ما ذكره من حديثه مرة عن قضية أخته، فهذا الكاهن قال مرة: إن مارينا تطلب حقا صراحا لا صدقة، فتقابل بعنف وتطرد ، وقضيتها قضية وقف وأيتام وأرملة، كلها منوطة بذلك المقام لا سواه.
فسأله زخيا عن (المواجهة)، فهز الكاهن كتفيه، ثم فكر قليلا وأجاب: لا أظن. ثم تحول عنه، فانتقل زخيا مغيظا ودنا من أخته مارينا فسمعها تغمغم كمن في حلم، فتردد في إيقاظها إلا أن الضجر والسأم حركا يده فهز أخته فصرخت: بحياتك يا سيدنا.
استيقظت مارينا مضنوكة كمن أفاق من غيبوبة، وأخذت تفرك عينيها متنهدة، فما صدقت أنها ترى أمامها أخاها زخيا، وما هدأ روعها حتى قصت عليه حلمها الرهيب، وإليكه ملخصا: رأت البطريرك الحويك، ودار بينها وبينه حديث (قضيتها)، فخبرته أن المحكمة أزالت يدها عن العقار وهي لا تدري إلى من تلتجي. وبعد حديث غير قصير توارى البطريرك إلياس عن نظرها في الضباب. ورأت مارينا أنها في الكنيسة بين المصلين وراء غبطة البطريرك، وبعد هنيهة رأت شخصا عملاقا ضخم الجثة، عبوسا، عريض الجبهة مجعدها، أنفه مروس معقوف كمنقار الطير، مرتخي الشاربين، معتدل اللحية، قليل الشعر تحت العثنون، يلبس رداء مقورا عند العنق، لا ياقة له، قصير الأكمام يبدو منه الذراعان، وهو مزنر بقد، وفوق الرداء جبة فضفاضة، والدم يتفجر من وسطه كأنه نبع غزير يتدفق.
خرج هذا الشيخ الجبار من (السكرستيا) كأنه حاف، وتنهد وتأفف فأطفأت زفرته الشمع ثم انقلبت الشماعدين، وارتجفت الأيقونات، وتحرك الصليب، فذعر الجميع أيما ذعر. انشلت حركة الطقسيات وابتعد الناس عن الخورس، وتألبوا على بعضهم في صحن الكنيسة كقطيع غنم جافل، وهرب الذين استطاعوا، يدفع بعضهم بعضا، وعلا الصراخ وارتجف الشيوخ كأنما أصابتهم البرداء.
أما الشيخ الراعب، فسدد يده إلى المتقدمين في الأخوة، وقال لهم كلمات قليلة جدا تذكرت مارينا أنها سمعتها يوم الأحد في كنيسة الضيعة، عندما تلا إبراهيم ملحم الريش قربان، فخالت أن الكنيسة تقضقض لتنهدم فخافت جدا، فإذا بالبطريرك إلياس يلوح لها من بعيد ويصرخ بها: لا تخافي.
فصاحت مارينا بكل قواها: بحياتك يا سيدنا.
وانقطع خيط حلمها كما تقدم عندما أيقظها أخوها زخيا.
فشبك زخيا يده بيد أخته وقال لها: لا نتيجة لنا هنا يا أختي، لم يبق قدامنا إلا رومية إذا أردت، الحقائق لا تصح فكيف الأحلام؟!
فصاحت مارينا: رومية! إذا كان مع أبناء العرب مثلي لم أسلك، فكيف مع الطليان. يا الله، يا الله.
ثم سارت مع أخيها تولول قاذفة الدعوات الخيرية، ولما صارت بين يدي بيوت غادير وحارة صخر أسكتها أخوها زخيا.
6
رجعت إلى جبيل مع أخيها فرأت كاهنا تعهده يعبر الرؤى، فتذكرت حلمها المزعج وقصته عليه، فسمعه المحترم بكل إصغاء، ولما انتهت ألقى عليها أسئلة كثيرة يسألها غالبا معبرو الأحلام. وبعد تفكير هنيهة خالتها مارينا دهرا غرز الخوري يوسف الزناتي أصابعه في لحيته طويلا، فلاحت ثناياه من بين شفتيه المقلصتين، ثم انتزعها وتنهد كمن أثقل صدره وضيق نفسه هم ثقيل وقال: أما الشيخ الكبير يا بنتي فهو النبي أشعيا يهددنا بالويل كما تهدد ملوك وأحبار بني إسرائيل. وأما الكلام الذي سمعته فأظنه هذا: (ويل للذين يشترعون شرائع الظلم، والذين يكتبون كتابة الجور ليحرفوا حكم المساكين ويسلبوا حق بائسي شعبي، لتكون الأرامل مغنما لهم وينهبوا اليتامى).
فصاحت مارينا وقد تذكرت تلك الكلمات. - نعم نعم، أنت نبي يا محترم، والنتيجة؟
فرد الكاهن هازئا آسفا: النتيجة، النتيجة، النتيجة يا بنتي عيب علينا. صلي للعذراء مريم واشركي نيتك مع نية الكنيسة. قدامنا احتلال روماني، والطوفان قريب، الله ينجينا.
وانصرف الكاهن. وخابت مارينا في حلمها خيبتها في يقظتها، ثم تغلغلت بسوق جبيل.
ركبوه العجل
- ما أكبرها مصيبة يا أم سليم.
منصور أول فلاح خبير بتنقية الأشجار، كأنه تعلمها في مدرسة. يبني الحيط علو ثلاث قامات وطول يوم الجوع كأنه مخطوط بالميل. إذا دخل القرش عبه لا يقدر أحد أن يخرجه منه. حبس مؤبد. أمس طلب منه أخوه خمسة قروش فقامت قيامته. كان جوابه: من يكسر حق الفدان! حق الفدان مثل مال الوقف، لا تقربوا صوبه.
فأجابتها أم سليم: هنيئا لك يا أم منصور. ولد ممتاز، يسوى ألف تلميذ مدرسة مثل ابننا. ابننا لا يهمه إلا صقل شعره وفرقه يمينا وشمالا، يقف قبالة المرآة ساعة، ساعتين، والله يعلم متى ينتهي. إذا قلت له انقل الخروف من الشمس نظر إلي نظرة تفزع. كأنه يريد أن يأكلني بعينيه.
وبعد أن دقت على ظهر جارتها أم منصور دقات عنيفة صاحت بها: طيبي خاطرك يا أختي، ابنك ممتاز. جده ما كان متعلما وأملاكه نصف الضيعة. لا تتأسفي على العلم. - ولكنه من ناحية ثانية يا أم سليم، يضحك عليه أصغر ولد. يصدق كل ما يقوله له. أعلمه كل يوم ولا يتعلم. صدقيني، إذا قلت لك: فكري يرافقه أينما راح. أخاف عليه من أولاد الحرام.
فقالت أم سليم: ما دام لا يفرط بقرش فخوفك في غير محله.
فتنهدت أم منصور وقالت: وضحك الناس يا مستورة! راح الخنوص وجاء الخنوص.
وما فتحت أم سليم فمها لتجيب حتى كان أبو منصور منتصبا بالباب كالمارد يردد حديث زوجته، مقلدا نبرة صوتها وحركاتها قائلا: وضحك الناس يا مستورة. راح الخنوص وجاء الخنوص. الخنوص مستغن عن الكبير والصغير. اشكري ربك، عندك إبراهيم يسطو على طابور، وعندك خليل ينزع الدبس عن الطحينة. وعندك جميل مثل البدر. أم منصور يا أم سليم، تريد أولادها مثل بعضهم، والناس لا تكون شغل فبركة. إذا كان منصور لا يصلح للديوان، فهو أكبر معلم في سوق الفدان والبيت يلزمه كل شيء.
فتنهدت الأم وقالت: منصور مصمم على الرواح وحده لمشترى الفدان.
فصاح أبو منصور: من غير شر. يروح ويرجع مثل السبع. - أقنعه حتى تروح معه. - إذا ترجاني وباسها - وأشار إلى يده - وجها وقفا، رحت معه، وإلا فليذهب وحده. أهي سفرة إلى أميركا. يعرف الناس والناس تعرفه. - وهنا البلية يا رجل. خف ربك. - ومتى مت من يروح معه؟! اتركيه، الإنسان لا يتعلم إلا من كيسه.
وبينما كانت الأم والجارة والأب يتحاورون كان منصور على المصطبة قدام الباب سابحا في أحلام الشعراء يتأمل البقر تحرث الحقول ويتفتت قلبه حسرات، ندم لأنه كسر فدانه، ولم تقع عينه بعد على عجل يماشي البقرة الباقية عنده. جمع قواه العقلية وأخذ يقلب المشكلة على جميع وجوهها ، فما وجد أمامه إلا حلين: إما أن يبيع البقرة ويشتري زوجا ملائما، أو أن يفتش أيضا فلعله يجد. فتأفف وقال: تأخرنا، فات الفوت. أملاك الضيعة كلها تضحك وكرومنا معبسة. لا يضحك الأرض غير السكة. خيرات البشر على أكتاف البقر. طغاني الشيطان وكسرت فداني. الحق كله على خالي. ثم حرق على أنيابه وأعاد العبارة شادا على كل كلمة: كل الحق على خالي.
ودخل البيت فإذا بوالده يقول له: أمس كان الحق على عمك واليوم على خالك، وغدا على من؟
لم يجب منصور على تهكم والده، ولكنه قال لأمه: اليوم عملت مثلما قلت لي.
فتمتمت الأم: مصيبة. مصيبة جديدة. خير إن شاء الله. هات خبرنا.
فقال منصور: كنت مقيلا تحت الزيتونة الكبيرة في الوطا وكلبنا بارود نائم حدي. وجاء (كبر عقلك) أي الناطور. - مرحبا منصور. - مرحبا عمي فنيانوس. أهلا وسهلا. تفضل. تفضل.
وما استراح ومسح عرقه حتى قال: يا بارك الله، خروفك سمن.
فقلت له: أي خروف؟ فأشار إلى الكلب وقال: هذا.
قلت له: هذا خروف يا عمي فنيانوس!
فقال: كبر عقلك يا منصور. يا حيف عليك، لا تعرف الخروف.
فقلت له: هذا كلبنا بارود، وأنا ربيته جروا.
فقال: كبر عقلك. ماذا يقول الناس إذا عرفوا أنك تخلط بين الكلب والخروف؟!
فحرت في أمري وكدت أصدق ولكني تذكرت كلمتك: لا تصدق قبلما تجرب. فقلت لفنيانوس: وهذي الأذن أذن أيش؟
فأجاب: والو، أذن غنم. - وهذا الناب؟ - ناب غنم. - وهذا الصوف. - فهز رأسه وقال: صوف غنم. كبر عقلك.
ولما ضاقت حيلتي أمسكت بذنب الكلب فكشر عن أنيابه، فقلت له: وهذا الذنب ذنب أيش.
فقال لي: ذنب غنم يا منصور، قلت لك كبر عقلك.
ولما عجزت عن إقناعه وكدت أنا أصدق أنه غنم، قلت في نفسي، ما بقي إلا حجر واحد، اضربه يا ولد في الجوزة. وكأن فنيانوس فطن للعبة، فوقف ينفض ما علق من التراب بذيل شرواله استعدادا للذهاب، وما خطا خطوتين حتى صحت بالكلب: امسكه بارود. وأخذ (كبر عقلك) يركض والكلب يركض، وأنا أصرخ: كبر عقلك لا تهرب هذا خروف.
يا ليتك كنت حاضرة. كانت ضحكة لمن يضحك. فضحكت الأم بملء فيها، وقد أعجبها انتصار ابنها، وتضاحك الأب. وقد ارتاح إلى تقهقر فنيانوس أمام ابنه منصور، فقال لزوجه: تهنيك السلامة. لا يهمك شيء. ما على قلب منصور شر إذا راح وحده ليشتري العجل.
وعصاري ذلك النهار بارح منصور البيت متوكئا على عصا زعرور ذات عقد كان يسميها عصا الكلاب. وشرع منذ خرج من الضيعة يسأل كل فلاح يمر به عن عجل علوه كذا وصفته كذا. وكل فلاح يرشده إلى ما رأى وشاهد.
المهمة صعبة فقلما يبيع فلاح ثوره في بدء الربيع. لا يباع إلا العجل الذي فيه عيب، وهذا ما لا يريده منصور فأخذ يردد في طريقه: بعنا عجلنا لأنه ينفخ على الأولاد الصغار فمن يدرينا أننا لا نشتري عجلا ينطح الكبار. حقيقة أن مسألة شراء العجول مسألة دقيقة.
ووقف هنيهة يتأمل سوء المصير ويحسب للمستقبل ألف حساب. ثم مشى وهو يقول: الدنيا قسمة ونصيب. امش يا صبي، ما أحلى ما يقدر الله. وبعد ساعات بلغ مفترق الطرق فتحير أين يذهب، إلى جاج أم إلى مشمش. وبعد استراحة قليلة على العين أكل نقرة مما زودته به أمه، وحاول أن يشرب فلم يستطع لأن قامته القصيرة جدا لا تكفي للانحاء فوق الجرن الكبير وبلوغ رأس النبع، فالتفت يمنة ويسرة وإذ لم ير أحدا شرب من الحوض ومشى، فعلت نحنحة وقهقهة من أحد البيوت فمشى ولم يلتفت.
ودخل قرية جاج قرب الغروب يسأل عن العجل المطلوب، فأراه السمسار عدة عجول، فأعجبه واحد منها، ولكنه استغلاه فترك جاج قاصدا ترتج.
أما فلاحو جاج فقعدوا يتحدثون، فقال أحدهم: غدا يرجع صاحبنا ومعه عجل مخايل بطرس. هذا مشتر وهذاك بياع. فلا أقل من أن نتسلى ونضحك. خسرنا البيعة، فلا أقل من أن نربح السلوى. غدا الأحد، لا شغل ولا عمل، فكلما مر على واحد منا يحدثه عن العجل أنه حصان ويبارك له فيه.
وقعدوا صباح الأحد ينتظرون عودة الخنوص، وإذا به مقبل قرب الظهر. يقود عجلا أسود اللون ذا قرنين معقوفين في جبهته نكتة بيضاء. كان منصور يقوده معتزا معجبا بما اشترى وكأنه يقود جوادا أصيلا لا عجل بقر. فحياه أول واحد ببرودة، وقال له: كنت قلت يا شاطر: إنك طالب حصان كنا أريناك عشرين حصانا، وكلها أحسن من هذا. هذا حصان مخايل بطرس، آه. فهز منصور برأسه ومشى، وما خطا بضع خطوات حتى وقف آخر في طريقه وصاح به: الله يوفقك، حصان مخايل بطرس أصيل. ولكن فهمنا منك أنك تطلب عجلا لا حصانا. ما عليك لوم، الإنسان يغير فكره عشرين مرة بالساعة.
فضحك منصور وتمشى. فإذا بامرأة تقول له: اركب يا شب، تقود الحصان وتمشي. ثم نبرت كمن أفاق من غفلة وقالت: الحق معك، الركوب قلة احترام للضيعة. كلك لطف، مع السلامة.
وبلغ ساحة القرية فلقي رجالا كثيرين شيوخا وكهولا وشبانا فاستوقفوه. وتساقطت عليه الأسئلة من كل فج، كل واحد يبدي رأيا. هذا يقول: لو كان اشترى حصان مرهج كان أرخص وأحسن. وآخر: هذا نصيب. السر في التوفيق. وأخذوا يطوفون حول العجل، هذا يمتدح محاسنه وهذاك يذكر بعض عيوبه، وأخيرا قالوا كلمتهم المعروفة: مسمار خيل أي وسط، وباركوا لمنصور فيه من كل قلبهم فمضى في سبيله.
وتربصوا لمنصور في ظاهر القرية ليروا ماذا يفعل متى غاب عن الأبصار. أما منصور فطفق يغربل أقوالهم فقال في نفسه: مستحيل أن يكذبوا كلهم. ووقف قليلا يتأمل العجل فقال في نفسه: عجل جميل، نعم إنه مثل الحصان، أما أنه حصان فهذا بعيد. ثم مد يده إلى أحد قرنيه وقال: ما رأيت بعد حصانا له قرون.
وإذا بشيخ من وراء الحيط يقول له: كم حصانا رأيت في حياتك، الخيل أشكال يا ابني، إياك أن تنغش وتبيعه على أنه عجل. هذا حصان، مؤكد. الخيل تفلح مثل البقر. لا تندم.
ومشى منصور على خيرة الله، وتذكر وصية الوالدة: لا تصدق ما لم تجرب فقال في نفسه: ماذا نخسر إذا جربنا.
وتذكر حادثته الطريفة مع (كبر عقلك) الناطور فتجرأ وضحك. ومشى وهو يتلفت خلفه ليرى إذا كان لا يراه أحد. ولما استوثق من الوحدة، قرب العجل من حائط على جانب الطريق ونط. ولكن ما رؤي على ظهره حتى كان بين أرجله، وهو يعركه بقرونه.
وأقبل المتآمرون لمؤاساة ضحيتهم. وللقرى ما للدول صليب أحمر، فتفرقوا فرقا، هؤلاء يسعفون منصور المهشم، وأولئك يركضون وراء العجل الشارد، إلا واحدا لم يأت عملا غير وقوفه عند رأس الخنوص وقوله: الحق معه، هذا عجل، التجربة أكبر برهان.
وعظة بونا اسطفان
فغال قرية لاطية في لحف جبل، تنظر إليها من عين كفاع فلا ترى إلا قبة كنيستها الشامخة - اليوم - كأنها أصبع جبارة تومئ بها إلى الأعالي. أما بيوت القرية فمستكنة في ظلال الأشجار صيفا شتاء، ولعلها القرية اللبنانية الوحيدة التي لا ترى بيوتها الشمس بالمرة حين يقصر عمر النهار.
ولو درجت العادة أن تعطى قرية الوسام الزراعي لاستحقت قرية فغال أرفع النياشين. إنها غزيرة المياه، فكأن عيونها أنداء تدر للقرية خيرات كثيرة، وتنعش أشجارها المتلازة فتعيش متعانقة متآخية لا تعرف الانقسام الطائفي، فاللوزة تعانق التينة والزيتونة حد المشمشة. والتوت - رحم الله أيام التوت - قائم بين هذه كلها. والبحر ترقص أمواجه قبالة الضيعة، فتضاحكها راضية، وتتوعدها وتهاجمها من بعيد، غاضبة.
إذا سرت في هذه الضيعة الغابة تلتبس عليك الطريق، ولا ترى بيتا من بيوتها المظللة بالأشجار المختلفة حتى تطأ عتبته. أهل قرية فغال عاملون قانعون يتقون الله، شعارهم: على قد بساطك مد رجليك لا ينفقون فوق طاقتهم. فأكره ما يكرهون الدين، ولذلك تراهم دائنين لا مديونين. يحبون الأرض ويتكلون على كرمها فيحرثونها ويسقونها من الينابيع المتفجرة من صدر الجبل النائمة قريتهم في حضنه، ومن يتكل على الأرض لا يبتعد عن خالقها.
إنهم ككل أبناء القرى يتكلون على السماء فإذا لم تمطر رفعوا إليها أبصارهم واستسقوها مصلين مبتهلين. إن بدعة المطر الاصطناعي لم تعث بينهم ولو حدثتهم عنه لأجابوك: لا نريده غصبا عن الله. أما السياسة فلها أخصاء يسمونهم زعماء. فهؤلاء يروحون ويجيئون ويعيشون على هامش المدينة ليكونوا سفراء القرية. وهم يسمونهم لبطالتهم مهندسي طرقات. وقد يبطر واحد من هؤلاء ويطغى فيستحيل حاكما بأمره إذا تعرف بأصحاب النفوذ. يتقرب من المسئولين ليستبد بالأهلين المساكين. والزعامة عند هؤلاء محل قومسيون نقال، وغالبا ما تكون في ذلك الزمان، في بيت خوري الضيغة؛ لأن تحت جبة كل أكليريكي، كبيرا كان أم صغيرا، حاكما مستبدا.
وإذا تغلغلت في قرية فغال بدا لك في رأس الضيعة بيت ضخم بالنسبة إلى البيوت الأخرى المتواضعة. فهو مؤلف من ثلاث غرف قائمة لصق بيت طويل عريض، ينام سقفه الخشبي على قناطر معمدة. في هذا البيت الواسع يسهر جمهور القرية شاتين مصطلين بناره التي لا تطفأ؛ لأن في هذا البيت تنام قفة عظام ليلا نهارا. عجوز تسعينية عقلها وحواسها كاملة وإن كانت ملامحها غير قابلة للوصف.
أما الغرف فواحدة يسمونها الصالون وإن كانت لا تتسع لعشرة أشخاص، والثانية لمنامة الخوري البتول وحده. وهذا الخوري مديد القامة كبير الهامة لا يقل تكعيب هيكله عن ثلاثة أذرع معمارية. لا يتزنر على خصره بل تحت إبطيه؛ لأن كرشه يحتاج إلى حبل جمل، وكان زناره عرض أصبعين حتى لا ينطوي فوق كرشه.
كانت تنام مع هللون العجوز بنت بنتها، الست لوسيا الأرملة الشابة. وكانت تداعب جدتها ولا تبالي بزواجر أمها. وكانت الجدة تحب هذه البنت حبا جما رغم شيطنتها، وتستجيب لأكثر رغباتها. فأقبلت البنية على جدتها تطلب منها حكاية المساء كما عودتها كل ليلة، فقعدت البنت على حافة فراش ستها وأصغت تنتظر الحكاية العتيدة.
ولكن هللون كانت مضطربة تفكر بعواقبها الأربع: الموت والدينونة، والجحيم والنعيم. وفيما هي منتظرة وصول الواعظ الشهير الأب اسطفان البنتاعلي، فنادت بأعلى صوتها المرتجف: يا خوري بطرس، وأين صار بونا اسطفان؟
وشخصت عينا هللون إلى الباب؛ لأنها كانت تستدل على مجيء الخوري بطرس من العتمة التي تسبقه وتنتشر رويدا رويدا ثم تسد الباب لأن الخوري كان عملاقا ضخما بلا جبة فكيف به إذا تثقل في كانون. وبعد هنيهة دخل الخوري ليقول: أبونا اسطفان صار في عين كفاع. واليوم ختم الرياضة. والليلة يكون عندنا افحصي ضميرك جيدا.
فقالت هللون: يهمني أن أسمع وعظته أولا، وبعد ذلك أفحص ضميري وأعترف وأتناول.
فقال الخوري: أظن أنك عارفة أن الليلة ليلة البربارة. - وكيف! معلوم عارفة.
فطوقت كاترين عنق ستها وقالت بغنج صبياني بريء: فإذن يا ستي احكي لي حكاية البربارة. - تكرم عيونك ولكن بشرطين: أولا أن تقولي سيرة القديسة بربارة، وثانيا أن تتلثمي لأن بربارة كانت قديسة، ولا يجوز أن تسمعي سيرتها وشعرك منبوش مثل الجنية. اسم الصليب وذكر الصلبان.
فأخذت البنت تتلثم وتتوقر، وتترصن، وأرهفت أذنيها للسمع، وبدأت هللون بقصة القديسة بربارة. وغادر الخوري المكان.
والتفتت البنت إلى ستها مستغربة خروج عمها الخوري حين بدأت ستها بالحكاية القديسة، فقالت العجوز: عمك يا بنتي سمعها في السنكسار أربعين خمسين مرة. ما لك وما له، اسمعي أنت.
بربارة يا بنتي قديسة كبيرة ولها أعظم إكرام في الكنيسة. أبوها وثني اسمه ديو سقوروس. كان يحبها جدا لطباعها الكريمة وجمالها. رباها في حصن منفرد حتى لا تقع عليها عيون الرجال.
فقالت البنت: وكيف قدرت عاشت، وحدها، يا ستي؟
فقالت الجدة: عاشت وحدها لأنها ما كانت مثل بنات اليوم. وفي الحصن أخذت تتأمل في الدنيا وشكت بآلهة أبيها وآمنت بالمسيح له المجد.
فقالت البنت: قلت يا ستي: إنه رباها وحيدة في حصن، فمن دلها على المسيح؟ - إلهام رباني. تقبريني يا شاطرة! بس اسكتي ولا تقاطعيني. ولما بلغت، أراد أبوها أن يزوجها بأمير من أمراء البلد فرفضت، وطلبت منه أن يبني لها حماما فبناه وأمر أن تفتح فيه طاقتان، فأشارت هي أن تفتح فيه ثلاث.
وقالت البنت: ما الفرق بين الثنتين والثلاث طاقات؟
فأجابت هللون: على اسم الثالوث يا بنتي، لا تكثري السؤالات. القصة طويلة حتى نخلصها قبل وصول بونا اسطفان والهيلجي: رسمت القديسة بربارة إشارة الصليب على عمود رخام بالحمام فأثرت أصابعها به، وظل رسم الصليب عليه. ثم أخذت تكسر أصنام والدها وتبزق عليها. ودرى أبوها بعملها فهب ليفتك بها بسيفه، فهربت من وجهه وركض خلفها. وكانت في الطريق صخرة تسدها فانشقت الصخرة حتى مرقت بربارة ثم عادت الصخرة إلى حالها كأنها لم تنشق.
فابتسمت الصبية كاترين ولحظت العجوز ذلك فقالت لحفيدتها: آمني يا ابنتي، لا تشكي بعجائب الله. ثم تابعت سرد حكايتها: ودار أبوها الدورة فوجد بعد التفتيش أن بنته بربارة مختبئة في مغارة فضربها بقساوة وجرها بشعر رأسها إلى بيته. ثم قادها إلى الحاكم، ولكن الحاكم لاطفها لأنها أعجبته. ووعدها وعودا كثيرة إذا كفرت بالمسيح وسجدت للأصنام. فلم ترض لا بكثير ولا بقليل. ولما عجز الحاكم عن ردها إلى دينه، وهو دين أبيها، أصدر أمره بتعذيبها. فجلدوا جسدها الطاهر فامتلأ جراحات.
وأجهشت البنت للبكاء فقالت جدتها: اصبري يجيئك الخبر. وألبسوا بربارة ثوبا من شعر، وألقوها في حبس الدم فظهر لها المسيح وعزاها. وشفى جراحها.
فاطمأن قلب البنت كاترين حين شفيت بربارة. أما الجدة فقالت: وفي ثاني يوم قدمت للحاكم فأمر أن يمزقوا جلدها بأمشاط حديدية، وأحرقوا خواصرها بشموع وقطعوا ثدييها.
فصرخت البنت، فجاء عمها الخوري وقال لهللون: لا تفزعي البنت بحكاية البربارة.
فقالت هللون: يه، أنت خوري ووكيل بطرك وتقول: لا تفزعي البنت بحكاية بربارة! أهي حكاية يا خوري بطرس؟
فاستحضكت كاترين وقالت هللون: ما وصل بونا اسطفان؟
فقال الخوري: بونا اسطفان على الطريق. بحياتك لا تفزعي البنت.
فعقدت هللون نونتها وازداد وجهها تجعدا وقالت: لو كانت البنت في القداس ألا تسمع السنكسار؟ أنا ما زدت ولا نقصت. والتفتت بكاترين وقالت: وصلنا عند قطعوا ثدييها وساقوها عريانة في أسواق المدينة والجلادون يضربونها بالكرابيج، فابتهلت إلى الله فسترها بثوب من نور فلم يعد أحد يبصر عريها.
وأخيرا حكم الحاكم مرسيانوس بقطع رأسها. فاستأذنه أبوها بذلك، فأخذها إلى الجبل القريب وهناك قطع رأسها بيده.
فصاحت البنت: أما والد وحش. ديب كاسر. ستي، كيف حفظت السنكسار مثل كرج الماء! فصرت هللون أصابع يدها إشارة الانتظار فأصغت البنت وقالت الجدة: وبينما كان الوالد القاسي راجعا إلى بيته وثيابه مصبوغة بدم الشهيدة البتول ، أرعدت السماء بغتة وانقضت عليه صاعقة ومات. وبعد أيام قليلة مات الحاكم فجأة.
فصاحت البنت: آهيك. وقالت هللون: ولذلك يصلي الناس للقديسة بربارة كيلا يموتوا بغتة بلا اعتراف ومناولة. البربارة سلام الله على اسمها عجائبها كثيرة. منها أن رجلا كان متعبدا لها، ولما احترق بيته وأحاطت به النار صرخ يا قديسة بربارة! فجاءت إليه حالا وهو على آخر رمق فسترته بثوبها وحمته من النار، وظل حيا حتى اعترف وتناول ودهن بزيت المسحة وفاضت روحه.
وما أنهت هللون حكاية بربارة حتى سمع حداء الغوغاء في القرية:
هيلجي برباره
والقمح بالكواره
فقالت هللون: سمعت يا بنتي هذا الاحتفال؟ هو تذكار طواف بربارة عريانة في شوارع المدينة. واقترب الغناء ودخل المعيدون بيت الخوري وخلفهم صبيان القرية وشبابها، وهم يصرخون:
هيلجي هيلجينا
أيش ما كان عندك عطينا
وتقدم (المسود) يرقص عند فراش هللون ويهتف:
شيحا فوق شيحا
صاحبة البيت مليحا
فصاحت هللون: أعطوهم وبحبحوا.
ودخل الخوري بطرس وهو يقول: عجلوا روحوا، جاء المحترم بونا اسطفان. لك البشارة يا ست هللون!
فهتفت هللون: الله يبشرك بالخير، ويرزقك آخرة صالحة.
ودخل المحترم بونا اسطفان الصالون بقامته المربوعة يتغربل ويتدحرج كأنه برميل سنمورة. لون وجهه أسود ولا يعرف من ثوبه إلا إذا تبسم. فلو كان علمانيا لكان (مسودا) بلا صبغة. وعاد الخوري بطرس لاستقبال الواعظ في القاعة، ودار بينهما حديث هللون العجوز وأنها تنتظر بحرارة، تريد أن تسمع وعظ بونا اسطفان.
فقال المحترم: وكيف نعظ امرأة بمفردها، وماذا أقول لها؟
فقال الخوري بطرس: الكلام الذي يدور على لسانك.
فقال الأب اسطفان: قولوا لها تستعد. أنا حاضر.
فنادت هللون بنتها لوسيا لترتب فرشتها وتساعدها على الجلوس جلسة لائقة بكلام الله وبكهنوت الواعظ الجليل.
وبعد هنيهة دخل المحترم البيت يتوكأ على عصاه الأبنوسية، وأعطى هللون يده فقبلتها، ثم ابتدأت المعركة البتراء، وما قال حضرته:
حصاني كان دلال المنايا
فخاض غبارها وشرى وباعا
حتى ضربت هللون صدرها تلتمس شفاعة القديس الذي تخيلته. وكاد الخوري بطرس يقرض شفته السفلى المندلقة من شدة العض عليها سترا للضحك، وتابع المحترم:
وسيفي كان في الهيجا طبيبا
يداوي رأس من يشكو الصداعا
فاشتد القرع وتحمست الشيخة وقد أخذتها بلاغة الوعظ، فقال لها خوري الرعية: توفي صدرك، قتلت حالك يا بنت الحلال. ولما قال بونا اسطفان:
ولو أرسلت رمحي مع جبان
لكان بهيبتي يلقى السباعا
امتلأت هللون إيمانا، وظنت أنها إذا قالت للجبل انتقل ينتقل. واقعنسس المحترم وازداد كرشه نتوءا حين رفع عقيرته وأنشد مسك الختام.
إذا التنين هرول من أمامي
يظن البحر باعا أو ذراعا
وكان يشد على هذه الكلمات: حصاني، وسيفي، ورمحي، والتنين. فرسم بذلك الصورة الواضحة التي أراد طبعها في مخيلة هللون. واقترب من العجوز وصلى على رأسها متمنيا لها خلاص نفسها.
وجاء حفيدها طانيوس شقيق كاترين يسأل جدته عن موضوع الوعظة فأجابته: والو! خمنتني خرفت. من من القديسين راعي الحصان وحامل سيف، وناقل رمح وقاتل التنين غير مار جرجس! يقبرني حصانه، وسيفه ورمحه. نسيت يا ابني أن صورته على الليرة الإنكليزية، خذ تفرج عليه وحطها بعبك.
وهم طانيوس بإخبارها أن مار جرجسها هو عنتر عبس، فنكزه خوري الرعية الذي حضر تمثيل الرواية المؤلمة فأمسك عن الكلام. وقال الخوري وهو يلملم أذيال جبته استعدادا للخروج: إيمانك أحياك يا ست هللون.
فأجابته متهللة: الحمد لله، قبل الرب طلبتي فما مات قبلما سمعت كلام الله من بوز بونا اسطفان.
فقال الخوري: حظك كبير. ثم خرج وهو يتمتم: الكنيسة القريبة لا تشفي.
لا يسلم الشرف
قالت له جارته أم جميل، وهو عائد إلى بيته: سعيد! كنت سهران؟
هاجته لهجتها. تذكر الخزية التي أخذ فيها زوجته مساء أمس، وخال أن أم جميل تعرض به. وإلا فما معنى قولها: كنت سهران! ومن لا يسهر؟ ما هذي أول مرة أسهر فيها. أم جميل عارفة إذن بخيانة زوجتي، إن شرفي الصريع يصيح بي: خذ بثأري. انتقم لي. - لعينيك أيها الشرف الرفيع، لا أكون سعيد المهيار إن لم يرق على جوانبك الدم، قال هذا وهو يلج باب بيته، ثم هرع إلى حيث ترقد زوجته، ويده على مسدسه. •••
سعيد في العقد الرابع من عمره. رخو، عظيم البطن، تخال أنه حامل. وجهه منتفخ كالرغيف السخن، وفي وسطه أنف كالفستقة عششت حواليه طفيليات مزرقة تكاد تطر: مربوع القامة، زاره الشيب زيارة ضيف محتشم، ثم هاجمه بطبل وزمر، لسنة خلت، فحط رحاله في صدغيه وحاصر هناك. إذا تطلعت إلى عينيه رأيت البؤبؤ الأسود يرقص رقصا موقعا في تلك اللجة الحمراء فتخال أنك أمام حبة زعرور مسوسة.
كثيرا ما كان يتغنى سعيد بحلاوة فمه ويشبهه بالخاتم، ولكنه يقطع الحديث بغتة حين يتذكر حاجبيه العريضين المتصافحين بحرارة عند سفح جبهته الضيقة. أما فكه الأعلى فنافر يقفز بغنج إلى الأمام متنكرا بعض الشيء تحت شاربين هزيلين.
لبس القنباز في فجر حياته، ثم بدل به الحلة الفرنجية فتناسى ماضيه السعيد وأصبح يأنف من التحدث عن زرعه وضرعه. وتعالى على لداته، فصار لا يطيق الجلوس معهم لأنهم متأخرون، لا يعرفون رجال السياسة معرفته لهم. إنه يحب السياسة حبا بريئا، ويحدثك عن كبار رجالها بلا كلفة، ولا ينسى أن يخص اللامعين منهم بكلمة ثناء باردة. وإذا ما انفرجت شفتاك هزءا ظنك معجبا بحديثه، فيتنحنح ويبصق، ويومئ قائلا: اسقونا. حتى إذا شرب تلفت يمينا وشمالا، وقال: هناكم الله. واستأنف حديثه بصوت كأنه مواء الهرة.
ويظل سعيد على هذه الحال يتحدث بحدة ويعيد كلمة: فقط، وإنما، وفهمت. ثم يقوم ويقعد، ويفرك رأسه حتى يصوصي الكرسي تحته، ويستشهد في سبيل القيام بالواجب، وإذا ظن أنك تصغي إليه انتفخ كالطاووس، وطفق يقص عليك ما اكتسبه من اختبارات في طوافه وتجواله. وإذا لم تعره الاهتمام العنيف، تبرم بك وبالناس.
يستولي سعيد على المبادرة أين وجد، ولا يفلت خيط الحديث عن نفسه وعن آبائه وأجداده. فأبوه حاتم، وجده جعفر، وخاله صمصامة العرب، فهو منسوب العم والخال ورث النبل والمروءة من طرفيهما. أما العلم فلا يحسد أحدا عليه. وما العلم؟ لقد علمه الدهر ما لا تعلمه عشرات المدارس في عشرات السنين، العلم اختبار وتجاريب. ثم تتسع حدقتاه ويقول لك: اسأل إذا كنت لا تصدقني.
وسعيد، عدا هذه المميزات الحلوة، واثق بشجاعته رغم أنف من لا يصدق. ولا ينعته بالجبان إلا من يحسده على مركزه الأدبي وتطوره الغريب في مراحل الحياة.
تزوج سعيد في الثلاثين من عمره، وعاش سنوات عيشة هانئة هادئة. فزوجته، كما يخبر، تخاف بطشه وجبروته، وتحبه حبا لا تشوبه شائبة. ألم تمرض قبل زواجها بعام عندما هددها بالترك فأشرفت على الموت؟
قال البعض: إنه سل، وقال آخرون: إنه داء لا شفاء منه، أما سعيد فهو وحده يعرف السبب. ثم كان الزواج وكانت حياة كلها نعيم. كم كانت تنصحه بمحبة وعطف: الصحة كنز يا حبيبي، لا تنهك قواك، أشفق على نفسك.
كل هذا يتذكره سعيد وما زال وقعه العذب في مسمعه. ولكنه عندما يتذكر ليلة أمس ينتفض كالمقرور وتتشنج أعصابه، ويقضقض عصلا في أسرتها الردى، وتطغى عليه رغبة ملحة تدفعه إلى الانتقام، فيسمع هاتفا يصيح به: سعيد؟ حان لك أن تثأر لكرامتك وشرف آبائك وأجدادك، أين العزة والناموس؟
الساعة المعلقة على الحائط تدق الواحدة بعد نصف الليل، وكل ما في الطبيعة يمهد لك الطريق: سماء ترغي وتزبد، عواصف يجن جنونها، ورعود تقهقه. الفرصة سانحة فاغتنمها. استرح من هذه الفاجرة. اقتلها. لا تسامحها هذه المرة مهما بكت، ومهما توسلت. إنها تكذب، وتكذب بجرأة ووقاحة. كن صخري الفؤاد فلا تؤثر بك دموعها وتوسلاتها. إذن أقدم ولا تخف.
وبينما هو غارق في نجواه، في تلك الليلة الصاخبة، تمثل له شرفه كالوطواط الجريح ففرت دمعة من بين هدبيه فصاح: جبان، أي والله جبان. - جبان، جبان. ها ها. وضحك ضحكة بلهاء عندما تذكر هذا اللقب الذي يثير حقده فتقلصت شفتاه وجمدت عيناه. وقرصه البرد فاندس في فراشه وهو يقول: أنا جبان؟! لا لا لا. ما بقي من عمر هذه الشقية غير دقائق معدودات. ورصاصات مسدسي، هذه الرصاصات الجهنمية ستطفي هاتين العينين. عفوت عنك مرتين وثلاثا. يكفي! يكفي! لا رحمة بعد الآن.
أريد أن أطهر فراشي، أريد أن يسلم شرفي الرفيع من الأذى . بعد دقيقة أمزقك أيتها الحية الرقطاء. أتظنين أني صدقت كلامك أمس: لا والله أبدا، سأنتقم منك أفظع انتقام، هذا عار لا يطاق، هذا عرين أسد فكيف تدخله الكلاب.
وكأنه خال زوجته الغافية تبتسم فاهتاج وصاح: ما بالك تبتسمين! أمهلي يا زانية. قريبا يلف هذا الجسد في خرق قذرة كسيرتك، وترقدين في المزبلة إلى الأبد. المزبلة أطهر منك يا لعينة.
وبينما كانت تلك الأفكار تتنازعه قبض على المسدس وهم بإطلاقه، ولكنه عدل عما صمم عليه. أراد أن يكون ختام المأساة التي مثلتها زوجته الخائنة أكثر عنفا وهولا. مرت في خاطره فكرة عابرة لم يلبث أن ابتسم لها ابتسامة رضى. فالخطة التي كاد أن ينفذها لا ترضي أنفته وإباءه. إذن يذبحها ذبحا ويتركها تتخبط في دمها طوال الليل. ستصرخ وتبكي وتولول طالبة النجدة ولكن من يسمع في هذه الليلة الصاخبة. إن المشهد المخيف الذي تصور وقوعه هو وحده يشبع نهم نفسه المتعطشة إلى الثأر لشرفه المهشم.
ونهض من فراشه يستطلع أحوال خنجره فوجده في أحسن حال، فابتسم له ابتسامة حامضة وقال: لهذا الخنجر ماض أبيض في أيام أجدادي السود. سأطبق أصابعي على قبضته كالكماشة وأحز عنقها، وكلما ازدادت صراخا زدتها حزا. لا شفقة ولا رحمة هذه المرة. الشرف فوق الرحمة.
سوف أقطع رأسها ولا يسلم عضو من أعضائها من شر هذا الخنجر المجيد التاريخ.
ثم استضحك وقال: انتقام حلو. سيقول الناس عني أني رجل بربري. فليقولوا ما شاءوا. لا تهمني أقاويلهم متى كان انتقامي شريفا. إن جريمة القتل شنيعة لا تليق بي. ولكن هذه الجريمة التي أواجه بها ربي بعد عمر طويل ستغفر لي: الزانية ترجم. وأي فرق بين الذبح والرجم! ثم صاح مخاطبا نفسه: اقتلها إذن لتبرهن للناس أنك غير جبان.
وفكر بالعاقبة فقال: سأخفي آثار الجريمة، لا جمل ولا جمال. حياة كالمعتاد. وإذا افتضحت أرفع جبيني عاليا وأصيح: انتقمت لعرضي. مرحبا بالقيود وأهلا بالسجن. سوف أمثل أمام القضاء مرتفع الرأس. سأخبر القضاة عن الأسباب، وعن ماضي وماضي عائلتي الشريف النظيف ، وكيف هدمت هذه العاهرة ذلك البناء المشمخر، ولوثت سيرة طيبة كالمسك. سأقول لهم: إني لا أخاف عقابا في سبيل الدفاع عن كرامتي الموروثة، وأقرع الحجة بالحجة وأريهم أنني أهيج كالبركان إذا مست كرامتي. المحاكمة تخيف الأنذال الجبناء وحدهم. سأكون هادئ الأعصاب حتى انتهاء المحاكمة، ومهما كانت الأحكام قاسية فما هي إلا سفاسف بالنظر لشرفي. سوف يتناقل الناس ولا شك، جيلا بعد جيل خبر انتقامي، ويحوكون حوله الروايات والأقاصيص المفزعة مثنين على المغامرة الجريئة. أما الجرائد، وهذا ما يكفيني فخرا، فستنقل إلى قرائها بحروف بارزة ضخمة، حكاية انتقامي لشرفي، وتضع في الصفحة الأولى صورة بطلها سعيد المهيار.
تيك، تاك، تيك.
وبينما كانت هذه الوساوس تزدحم فتتصادم في ذهن سعيد دقت الساعة دقاتها الخمس بعد نصف الليل وصاح الديك. استيقظت زوجة سعيد، وبعد أن تمطت في فراشها هنيهة قامت إلى القهوة تعدها. - سعيد، سعيد، القهوة حد راسك.
ففرك عينيه، وزفر زفرة عميقة، وأجاب: نعم. نعم.
ثم قال في نفسه: آه ما أطيب قلبها! حقيقة إني كنت فظا غليظ القلب ...
طبيب امرأته
أبصرت أسما أم شاكر قادمة فهتفت بها من بعيد: صحيح أن ابنك تزوج من المدينة؟ أين كان عقلك لما شاورك؟
فابتسمت أم شاكر ابتسامة مريضة، وقالت: ولكنها لطيفة جدا يا ست أسما.
فصفقت الأميرة كفا على كف وصاحت: مغشوشة أنت. مغشوشة. أمهلي حتى تحط رجلها في الركاب. الله لا يغرك منها. وقعت يا شيخة.
ومدت الست أسما يدها تصافح أم شاكر، وانطوت عليها توشوشها. امتلأت نفس الشيخة شكا فسارت في سبيلها واجمة تفكر. ثم انقشعت غمامة سوء الظن فقالت بصوت مسموع: لا عرس بلا قرص. متى عرفت الست أسما كل هذا؟
وكأنها في تلك اللحظة قد اهتدت إلى الحقيقة فصاحت: شهادتها مجروحة. كانت عينها على شاكر وخاب أملها. وما اطمأن قلبها قليلا حتى عاودتها حمى الشك فقالت: ومع ذلك من يدري! ربما كانت تعرف شيئا عن أمها، عن خالتها، عن عمتها، أما البنت فمسكينة. عمرها سبعة عشر. وما تاهت أم شاكر في مجاهل الظنون هنيهة حتى هبت الذاكرة لنجدتها ثانية فقالت لنفسها: لا يجيء على أبيه وأمه غير الغراب.
وما سري عنها حتى بدت لها امرأة أخرى تضاحكها من بعيد وهي تهتف: ساعة مباركة يا شيخة. ثم هزت برأسها فاصفر وجه أم شاكر. تهيأت لاستقبال صدمة جديدة ولكن هذه قالت: اشكري ربك على هذه النعمة. أنت عشت حتى زوجت المحروس، أما أنا، يا حسرتي، فمن يدري.
فاطمأن قلب أم شاكر وقالت: الله كريم يا أم يوسف. قالت هذا وراحت تجيل عينيها في غضون وجهها فلم يبد لها شيء غير التهنئة البريئة فحمدت الله ومضت بسلام. •••
السماء تتوعد وتتهدد، غيوم تحشد على حدود اليابسة إعلانا لحرب عوان، فكل ما على الأرض يرتجف ويرتعد، والغنم هرولت إلى المراح بدون إذن الراعي.
دخلت أم شاكر بيتها وأسرجت، فالظلام سريع الخطى، والسنديانة تتماسك قدام بيت الشيخ حين تزعزعها العاصفة. ومصاريع الأبواب تصطك كأنما البيت مصاب بالبرداء، والسراج يحرك ألسنته كأنه يتهزأ بالزوبعة.
وكان الشيخ قابعا في الزاوية فقال لزوجته: دبي للنار بالحطب. فشبت النار وقعدا يصطليانها. وما افتتحا الحديث حتى انقضت صاعقة هزت البيت، فهتفا بلسان واحد: قدوس. قدوس. قدوس.
الغيم يكب ما في جيوبه، وخيول البرق تتراكض يطارد بعضها بعضا فتخترق صميم قلب البيت وتشع فيه شعا. الصواعق كخيل الطراد وأبو شاكر وزوجه يصدانها عنهما بالقدوس والبسملة.
ونقلت السماء رحى حربها إلى الجنوب فقال الشيخ: ترى يخدمنا الحظ ونرمم هذا البيت؟ فكان الجواب صوت صاعقة قاما لها وقعدا. ثم تلتها واحدة أخرى غير مزمجرة، فاطمأن، وأشار بيسراه قائلا: بعيدة عنا.
فأجابت الأم: ومن يدريك أنها بعيدة عن ابننا؟
فأجاب أبو شاكر ساخرا: دائما ابنك، صار ابنك حكيما، وتقولين: ابني ابني. كأن ما في الدنيا أحد غير ابنك، قولي: تعبنا ولقينا. قولي: غدا نفك الرهن ونوفي الدين. العروس غنية.
فتنهدت الأم وقالت: هربنا من الدب وقعنا في الجب.
فصوب أبو شاكر نحو ذقنها شباة أنف ابن حرب، وأشار بهزة رأس وغمزة عين: خير إن شاء الله.
فأطرقت الشيخة وراح الشيخ ينظر إليها ويبرم شاربيه ويفتلهما بيديه الثنتين. ولما استقرت عقارب الساعة على العشرة وعشرة، وأبطأ عليه الجواب نكعها نكعة كادت تقلعها وصاح: قولي لي أي دب وأي جب؟ ابنك وحيد يا مستورة، أهي مصيبة إذا تزوج؟ ما تزوجت أنت؟ ما تزوجت أنا؟ ولكنها قصة الحماة والكنة.
فأجهشت أم شاكر وقالت، وهي تجر الكلمات جرا: عندك للسر موضع؟ فاستضحك أبو شاكر حتى أبدى نواجذه وصاح: هذا آخر زمان. الحرمة تسأل زوجها إذا كان عنده للسر مطرح، نعم عندي، وحق العضرا مريم، عندي قبر لا بئر. فحدقت إليه كأنها تسأله بعينيها الكتمان فصاح ثانية: عندي جهنم الحمرا، قولي يا بنت الحلال.
فتنهدت أم شاكر وقالت: خبرتني الست أسما أن عروس ابننا ترقص على الحبلين. قضت عمرها مع هذا وهذا.
فصاح الرجل: الله المجير من لسان النسوان. أهي بنت خمسين حتى تقول الست اسما عنها (قضت عمرها)؟ وقبل وبعد أنت كم سهر عندك من شب، كان بيتكم يفرغ ويمتلي كل ليلة عشر مرات وأخيرا كنت من نصيبي، وكنت من خير النساء.
ثم استضحك وأمسك طوقه بيده ونفضه قائلا: هذا إذا لم أكن مخدوعا.
فابتسمت الأم نصف ابتسامة واستطرد هو قائلا: كان يجب أن تفهمي يا زكية، إن جناب الست أسما كانت منتظرة ابنك. فحدقت إلى وجهه مستغربة كلامه، فحملق وكز قائلا: نا ... عم. إذا كانت هي بنت مير، فابنك دكتور وأبوه شيخ الضيعة.
وفيما هما يتناطحان زحفت المياه في صحن البيت فهبا يطاردانها. كان الشيخ أبو شاكر يسوق الماء صوب صحن الباب ويقول: هذي آخر سنة. وعد الصبي بهد البيت وبناء بيت يليق بالشيخ والدكتور.
فقالت الأم: أنا لا أطلب إلا أن يكون حظي ببنت أوادم.
فصرخ الأب: عدت إلى نغمتك الأولى ... اشطفي. اشطفي. مسحي وقولي: الله يرزق الست أسما ابن حلال مثل ابنك. •••
وراح الشتاء وجاء الصيف. أقبل العروسان على الضيعة فكانت في دار الشيخ أبي شاكر أيام وليلات جرى فيها النبيذ وسال العرق. كانت تهب من كل فنجان زوبعة دعوات للدكتور وعروسه. وكان الدكتور وأبوه يردون الكيل كيلين. أما العروس فكانت غريبة عما يدور حولها. كانت تجهل الكثير من عبارات القرية وأجوبتها، فتنبري حماتها للجواب رادة عنها هجمات من يقصدون لها امتحانا لزلاقة لسانها. كانت عين الحماة على كنتها تروزها، وكانت الكنة مسرورة سرورا يخالطه شيء من الازدراء. أدرك الدكتور ذلك فامتعض، أما أبوه المستأسد في الستين فما كان يدرك شيئا أو لا يبالي قط بما يدور حوله. ينفخ من أنف كالكير، وينظر بعيني نسر عتيق، وينطق بصوت أعرض وأحد من صوت الببغاء: شباب، كاس العريس. اشربوا. ابن كذا وكذا كل من لا يشرب. يا نسوان، كاس العروس ... كاس سعادتك يا ست أسما شرفتينا ...
فابتسمت الأميرة وشربت كاس الشيخ والعروسين فأجابها الشيخ: وطول عمر سعادتك.
كانت العروس تعجب بفتوة عمها الجبار، تهابه وإن ازدرت هندامه العتيق. تتحاشى مصافحته؛ لأن أصابعها الدقيقة تضيع في يده الرودانية.
ثم انقضى الصيف وانطوى بساط ليالي أفراحه البلدية، وعاد الطبيب وعروسه إلى المدينة ولم تبحث مشكلة الديون قط. فشاكر كان يفر بزلاقة كلما استدرجه والده إلى ذلك، فضرب الشيخ أبو شاكر لدائنيه موعدا جديدا، ولكل أجل كتاب.
ومر الخريف وبات الزيت في خوابيه، وهبط الشيخ إلى المدينة ليشتي عند ابنه الدكتور، وكم كانت دهشته ودهشة امرأته عظيمة حين قيل لهما: هذا بيت الدكتور شاكر.
اعتز الشيخ وكاد يخرج من ثيابه وقال: هذا بيت ... ولكن كلمة طائشة هاجت النمر. سمع أبو شاكر بنت الجيران تقول لأمها: جبليان، رجل وامرأته. فحول أبو شاكر نحوها وجهه الفرزدقي، وأراها عينيه الكبيرتين المحمرتين، وصلعته البراقة فوق حاجبين غليظين، وشاربين كقرني الكبش. فاقشعرت وتوارت في بيتها ترتعد. وهم أن يطاردها في عقر بيتها، فأمسكت أم شاكر بذيل شرواله وانكسر الشر.
وانشق الباب ودخلا بالكد، ولكنهما رأيا دنيا غير دنياهما. كراسي خيزران لماعة ومقاعد مخملية أرجوانية أين منها مقاعد الخيش المحشوة هشيما وقشا والمجللة بالشيت الرخيص. أواني أشكال وألوان يجهل الشيخ والشيخة عنها كل شيء حتى أسماءها، فكان ارتباك زال بعد حين. كان الاستقبال حارا ساعة القدوم السعيد ثم أخذ يفتر رويدا رويدا حتى صار باردا مثلوجا بعد أسبوع مست عزة أبي شاكر؛ لأنه لا يحب الوجوه الجامدة. قضى العمر شيخ شباب ولا يريد أن يموت إلا شيخ شباب. - شاكر. - نعم بابا. - لا بابا ولا بطرك.
فضحك الدكتور وأجاب: ولا خوري ولا مطران.
فعبس أبو شاكر وقال: ابتدأت تهزل معي؟ اوع هه. العين لا ترتفع فوق الحاجب. - أمرك لا تؤاخذني.
فصمت هنيهة ثم قال: بنت الطيان لو كان عندها مال قارون لا ترتفع على بيت بو شاكر. كأنه ما عندها علم ولا خبر عن جدك وجد جدك؟ بنت من هي حتى تتأبى علينا، بنت طيان ولو كان المال فوقها وتحتها. اسمع يا ابني ما قالت القدماء: زوان بلدك ولا القمح الصليبي. أكنت بلا عينين لما نقيتها، وجه أحمر مثل قفا السعدان. تضحك منا بنت الكلب كلما لفظنا القاف وقلنا هادا وما قلنا هيدي مثلها. وحق الذي قال لها كوني فكانت، نهار غد أطرح أملاكي بالمزاد. الله لا يردها عن يد بقرة سودا مثلها.
ورنت في أذن أبي شاكر قهقهة فانتفض كالعقاب، ولو لم يقف ابنه بالباب لدخل غرفة العروس وانتهى كل شيء.
وتعلق الطبيب بأبيه يتملقه ويسترضيه: مص القصب عقدة وعقدة يا شيخ. فكشر أبو شاكر وصاح: هذي قصب. هذي عظم على مزبلة.
قال هذا وانتفض كالملدوغ، وبعد أن أطرق قليلا، أخذ امرأته بيدها وهو يومي برأسه: قومي. وخرجا دون أن يودعا. ولما ابتعدا قليلا قال لزوجته: العوض بالله، خسرناه يا أم شاكر، ابنك ما في يده شيء.
صار جحش المره. يخرب بيتها، كلها شبر وعندها هذا الفعل. دحروجة تقود رجلا طول المارد. ولكن البيت والمال لها، ويا ذل رجل يأكل من تحت يد امرأته.
بنت الحرام كانت تغطس عندنا في الدجاج والسمك واللحم، أما في بيتها فتطعم الناس بقانون. لا تنتظري الكرم من ناس يفتحون بابهم ربع فتحة. وابنك التنبل أي إكرام قدمه لوالده؟ لا أحوج الله والدا إلى ولده. لو أنفقت على نبش النبع نصف ما صرفت عليه كنت اغتنيت. لو كنا غرسنا أرضنا زيتونا ولوزا وتفاحا لكان عندنا الآن محصول يغنينا ويغنيه عن التلوث بالمرضى. ولكن أين المرضى؟ قعدنا عندهم جمعتين ما نظرنا وجه مريض، ولا استدعاء أحد. ابنك طبيب مراته، أما كان أحسن له ولنا لو بقي في الضيعة.
ثم وقف وأخذ ذراع امرأته وهزها هزة تعتعتها وقال: يفرجها ربك يا أم شاكر. كنت آكل اللقمة من قلب السبع ولا أزال بقوة الله.
فتنهدت وقالت بعين مكسورة وقلب منسحق: ولكن البيت مرهون.
فضرب أبو شاكر صدره وصاح: ولكن أنا مفكوك، تسلم أميركا.
فشهقت وكادت تسقط، فتلقاها بيده وقال: أنا وأنت يا مجنونة!
فصاحت وهي تشهق: لا أنا ولا أنت. نموت هنا، ولا نضيع في الغربة كما ضاع أخوك في بر البرازيل. •••
وبلغ الشيخ والشيخة الضيعة فامتلأ البيت بالمسلمين. وبعد أيام عاد الدائنون إلى إلحاحهم فقال لهم أبو شاكر بإباء: أبو شاكر لا يوطي نفسه للنسوان. لا قامرت ولا صاحبت، ولا سكرت. ركبني الدين لسببين: نبش النبع وتعليم ابني. لا النبع طلع ولا الصبي نفع، خذوا الخشبة التي فوق رأسي وأريحوني ...
فهزت كلمته أحدهم فقال: نمهلك سنة سنتين، وبدون فائض يا شيخ، ولا نخرب بيتا للسيف والضيف.
فتنفش أبو شاكر، ومد يديه إلى شاربيه، فعادت عقارب الساعة إلى العشرة وعشرة بعد ما كانت تشير إلى الثامنة والثلث، وجاءت القهوة فشربوها وانصرفوا.
وظلت الأيام والشهور تمر بلا جدوى، وأخيرا قضي الأمر وطرحت عقارات الشيخ فبات صريع الهم في الليل وأسير الذل في النهار، يؤلمه أن يسمع من كانوا يخدمون ضيوفه يقولون: بيت الشيخ مطروح بالمزاد، ماذا ينفع العلم الذي يخرب البيوت.
وكان يجن جنونه كلما وقعت عينه على تلك الوريقات الملصوقة على أبواب الكنيسة والدكاكين، محددة موعد المزايدة في عقار الشيخ. وقعد عصاري آخر يوم من أيلول يفكر كيف يخرج من مضيقه، فلم يلح له بصيص أمل فتنهد وقال بلا وعي: فرجك قريب يا رب.
وما كاد ينتهي من دعائه حتى ماد به البيت. سمع طقطقة على السطح أشبه بوقع حوافر معزى تركض فاستبق وزوجته الباب، وما أطلا حتى سمعا قرقعة انهيار الجدران هنا وهناك. رأيا الغبار يتصاعد والأرض تميد، فسقطت زوجته على الأرض مذعورة، فصاح بها: لا تخافي، الدنيا تنهز ولا تقع.
وسارت الهزة الأرضية في سبيلها وراح الشيخ يتفقد جدران بيته، فرأى العيب في واحد منها فقعد يناجي ربه وهو بين الباكي والضاحك: أهذا فرجك يا رب؟ طلبنا منك الفرج فزعزعت أركان البيت؟!
وما انتهى من معاتبة ربه ومحاورته حتى أقبل عليه الناطور صائحا: البشارة لك يا شيخ. عوض الله عليك وطلع النبع. والله العظيم ثخن بوز الجرة.
فالتفت الشيخ إلى زوجته وقال: صدقت. قلت لك كنت آكلها من قلب السبع، واليوم أكلتها من قلب الأرض.
فاستدارت عينا أم شاكر، وانشق فمها، ولكن الكلام بقي محاصرا هناك.
مذكرات شباط
شباط شهر ناقص لا تفعل فعله ملوك الشهور. حقا، إن كل ذي عاهة جبار. كانت أمي تخاف شباط وتخوفني منه. فلا تنتشر غيمة في الجو حتى تغرزني حد الموقد كالوتد، ولو قدرت أن تكتفني وتربطني بخناق، لفعلت.
كان حديث الشتاء حديث شباط متى جاء. فكلما مات شيخ أو عجوز كنت أسمعهم يقولون: أخذه أو أخذها شباط. وكانت أمي تردد، دائما، هذه اللازمة: ومن يعصي عليه. وأخيرا فارقت هي فيه.
ودخلنا المدرسة فأنستنا الشيطنة حديث شباط، إلى أن كانت سنة قارسة البرد فقلنا: راح شباط وراح معه الشتاء، فقال معلمنا وكان يفخم اللفظ ويؤثر الغريب من الكلام: رويدكم يا أولادي، راح الصن ونحن اليوم في الصنبر. فقلنا كالمستهزئين: وما الصنبر؟ فأجاب: هو ثاني أيام العجوز. فضحكنا ورددنا: أيام العجوز؟ فصاح: هيهيء. أي نعم أيام العجوز، المستقرضات في لغة العوام، أربعة أيام من شباط وثلاثة اقترضها شباط من إذار ليتشفى من عجوز شمتت به.
فقلت: وماذا عمل بها؟ فأجاب: سد بوزك. لا تضيع الوقت.
وفي الثامنة عشرة من عمري انتشرت الحمى في المدرسة فكانت لنا فرصة مرفع في شباط، والتلميذ يرحب بالطاعون إذا كان يعطي فرصة. وفي طريقي إلى البيت نزلت على صاحب لوالدي وبت عنده فكان حديث السهرة عن عنترة الشهور وكم جادت يداه بعاجل طعنة. فقال صاحب البيت: شباط قاشوش. فابتسمت، فقال لي: إن شاء الله تكبر وتخبرنا فيما بعد. فأوحت إلي كلمته أن أكتب مذكرات شباطية. ولما عدت إلى المدرسة شاورت (مرشدي) في الأمر فقال: اكتب، ولكن توق الفلسفة، فالتفت إليه مستفهما فأومأ بيده إيماءة من لا يريد البحث، وقال: ليس، اكتب. فشرعت في عملي بعد سنوات وهذا بعض ما كتبت: في الثانية والعشرين كنا ندرس كتاب الذمة - كانوا يسمون علم اللاهوت هكذا، يوم كانت شئون الذمة وشجونها تشغل البال - فرفعت أصبعي في أحد أيام شباط وقلت: مسألة.
فأجاب المعلم: هاتها. فقلت: هذي العلامات التي نراها على الأبواب في شباط، ألا تظن أنها مأخوذة عن العبرانيين عندما أمرهم الرب أن يعلموا بيوتهم بعلامة لئلا يدخلها غلطا ويقتل أبكارهم خطأ؟ فقال مغيظا: هذي من مذكرات شباط؟ اقعد يا ابني. بس.
في الخامسة والثلاثين بدأت أحس بوجود شهر اسمه شباط. أما في السنين التي مرت قبلها فكنت أفرح بقدومه ويعجبني ثلجه وهواه وشمسه وشتاه، وأتهلل حين أرى اللوزة تتخطر بثوب الزهر. وأذكر لما كنت صبيا، أنني رأيت جملا يرغي ويزبد دالقا جرابه الأحمر، فقلت لعشير أكبر مني وأخبر: أتقول قلبه يوجعه؟ فأجابني ضاحكا من سذاجتي: عجل، هات له الطست!
ولما بلغت الأربعين تهيبت شباط ولبست لاستقباله طاقا فوق طاق، فقالت الشباب: صرت تخاف شباط! فأجبت: درهم وقاية خير من قنطار علاج، فقال أحدهم: وكيف يكون قنطار العلاج إذا لم يكن هذي الثياب التي عليك.
وبين الخمسين والستين صرت كلما انقضى شباط أقول في قلبي: دعسنا رقبته. وفي الستين أحسست برقة جلد ووهن عظم، ولكنني كنت أتجاهى بقوتي عند من جاوزوا حد الأربعين، لتطمئن قلوبهم. يظهر أن الإنسان متى كبر يظهر من الضعف قوة.
في الثانية والستين غطى الثلج البلاد حتى المراكب في المينا، ومع ذلك انقضى شباط ولم يمت إلا طفلة بنت ستة شهور.
في السابعة والستين، غريب شباط، المرفع فيه، والأعراس فيه، وأكثر الأمراض والوفيات فيه، جمال تهدر. وسنانير تتنادى من كل فج - لكل خطاب يا بسين جواب - وفي زوايا البيوت شيوخ وعجائز تغص بسعالها وتشرق بريقها، متضايقين من ضجيج الحياة حولهم، فيصرخون ولعابهم يسيل: الله يقطع جنسكم، ما أفضى بالكم! وما يكون الجواب غير مواء موسيقي منغم.
في السبعين ارتخت ركبتاي فدعمتهما بالعصا. أغلقت الباب طول الشهر، صارت أخف نسمة هوا تفزعني. وإذا تجولت في يوم دافئ تحسبني فراشا يمشي على الأرض.
في الثالثة والسبعين زارني أبو الركب فهد حيلي، الله يهد عظامه، ولكن رحمة الله كانت واسعة. تخلصنا منه.
هذي السنة هي الخامسة والسبعون، الصحة مثل الحديد، لا رشح ولا من يحزنون. أكثر الناس ناموا جمعة وجمعتين، ما خلا بيت من فراش وفراشين. أنا كنت مثل السبع. نشكر الله!
في السابعة والسبعين راح شباط وفي ظهره مخباط. كل شباط ونحن بخير.
شباط الثامنة والسبعين كان هينا علينا كأنه شهر تموز. ما مرض أحد. صح فيه قول المثل: لو شبط ولو لبط ريحة الصيف فيه. الله يبعد الجراد. شمس شباط تخوف.
في التاسعة والسبعين. شباط هذه السنة متقلب مثل أكثر الناس. الحق مع من قال: شباط ما عليه رباط.
اليوم دعست في الثمانين - العمر كله إن شاء الله - ولكني تفكرت كثيرا في شباط هذه السنة الملعونة. الموت كثير، إذا قلنا من شدة البرد، فشهر كانون فحل الشتاء. ما عرفت لماذا ينتظر الناس شباط حتى يموتوا!
أنا اليوم في الثانية والثمانين. الصحة ممتازة. الأبواب كلها مسدودة. ومن أين يخش المقصوف العمر! ولكن قضية شباط ترافقني إلى القبر. لا نحل مشكلة حتى تجيئنا الثانية. قال لي أمس الشدياق جرجس، وهذا ملفان من تلاميذ رومية: إن أغلب العلماء والرجال الكبار ولدوا في شباط. استحيت أن أقول له: إني أنا من مواليد شباط. ولكني قلت في قلبي: إذن أنا عظيم وما عرفت حالي. طلبت دفتر العماد من الخوري وما فتحت أول وجه حتى عرفت أن الخوري من مواليده فقلت: النظرية صحيحة! ولما قلبت الدفتر كله رأيت أغلب بهاليل الضيعة ولدوا فيه، ما ترقينا شيئا!
في الرابعة والثمانين كان شباط قاسيا جدا. مات جمهور كبير. مشيت خلفهم كلهم. الهمة قوية وهذا أجر عظيم. وفي الخامسة والثمانين مات نحو عشرين نسمة في آذار ونيسان، وما مات أحد في شباط. سألت من هم أكبر مني فضحكوا وقالوا: لعل عزرايل خرف. قلت: يا ليت. ربما ينسانا.
شباط السابعة والثمانين أقسى شباط مر علينا. صواعق متلاحقة، أكتب والرعود تهز البيت هزا. قدوس قدوس قدوس. صاعقة قريبة جدا. نشكر الله.
في التسعين صح الصحيح وطينت الباب الشمالي والشبابيك كلها. تذكرت ما كنت أراه على الأبواب فقلت لابن ابن ابني: ارسم على الباب شكل صليب، فضحك الصبي واستفهم، فتذكرت مسألتي لمعلم اللاهوت من سبعين سنة، وقلت بصوت ربما يكون سمعه الصبي: آه، كم كنت جاهلا ومتمردا.
في الواحدة والتسعين زارني واحد من جيلي. دخل علي وهو يضحك ويقول: صارت تنفع اليوم صلبان شباط!
فقلت له: صرنا في الواحدة والتسعين.
في الثانية والتسعين: ظاهرة غريبة، أتخيل الموتى من رفاقي وأقاربي قاعدين حولي. ما هذي التصورات الغريبة!
في الثالثة والتسعين راح شباط وجاء آذار. عيدت مع المعيدين. أكلت خمس بيضات مسلوقة ولو أعطوا أكثر أكلت.
اليوم في الخامس من شباط بلغت الرابعة والتسعين. طينت الباب وأرخيت البلاس على الشباك الذي عند رأسي، صرت كأني محبوس في قنينة.
السنة كبيس واليوم آخر شباط. انتهى والحمد لله. حاولت أن أكتب فما طاوعتني أصابعي. فندهت فجاء ابن ابني، فقلت له: اكتب عني.
وهنا تغير الخط وكتب الحفيد: قعدت لأكتب ولكن جدي نتش الورقة من يدي وقال: غدا أكتب أنا بخطي. هذا طرف فالج، عارض ويزول. وكنت أرى حنكه يرتخي وأسمعه يقول: جدك يقنطر إن شاء الله - يعني أنه يبلغ المائة. وبعد قليل انعقد لسانه، ومات من ساعته وهو ينظر إلي بعينين يكسرهما الموت، فعرفت أن في وجهه كلاما لم يقله في الأربع والتسعين سنة.
البهائم تفكر في مصيرها
وعاد الثور والحمار لينزربا بعدما أنهكهما التعب. كانا تحت النير يحرثان الأرض طول النهار، فما دخلا المزرب حتى ربطهما صاحبهما، وراحا يلحسان ما علق في أرض المعلف من بقايا التبن والهشيم، ولما لم يظفرا بشيء انبطحا وجها لوجه وشرعا يعالجان مشكلتهما الاجتماعية المعقدة على مستوى عال، فقال الثور: نحرث ونحرث، والعشاء تبن وحشيش يابس، وعند طلوع الضوء يأتينا الطعام المعهود. أتقول: إن على وجه الأرض من هم أشقى منا!
فأجهش الحمار بالبكاء ثم نهق قائلا: نعم، نحن أشقى من عليها وأنا أشقى الأشقياء. أنت يا زميلي لك عمل واحد، تفلح الأرض وتستريح، أما أنا فأين كنت اليوم! أما كنت مشدودا معك لأن رفيقتك نفساء؟ ويوم لا تكون للفلاحة يد يفكر صاحبنا بإيجاد عمل لي، وإذا لم يجده خلقه. فإما أن يسوقني لحمل الحطب، وإما أن يذهب بي إلى الطاحون، وإن كان لا عمل عنده حط الجلال على ظهري وبسط فوقه طراحة وركب ليزور أحد أصحابه في القرى المجاورة. والأنكى من كل هذا الشقا والتعب مثلهم الذي يردد ويرددونه على مسمعي: حمله واركب. آخرته للكلاب.
فخار العجل يقول: ألا يكفيك يا ذكي أنك تموت موتة ربك! لا تذبح مثلي متى شيخت أو قصرت، فتموت قبل الأوان.
وفي تلك الهنيهة الحافلة بالتأملات العقلية دخل صاحبهما يحمل سل التبن فقطعا الحديث لئلا يتسرب إليه شيء من أسرارهما الاجتماعية. ولما امتلأ المعلف تبنا قاما، وهما يقولان معا: وهل يعطى حمار وثور غير مثل هذا العشاء؟
فقال الثور: نحن ولت أيامنا، وانقضى زمان عزنا. رحم الله نصيف اليازجي القائل:
متى ترى الكلب في أيام دولته
فاجعل لرجليك أطواقا من الزرد
هذا زمان الكلاب والقطط يا أخي. ليس الكلاب التي تطارد الوحوش الضارية، ولا القطط التي تصطاد الفيران والجرذان، بل تلك التي تجلس في الأحضان، وتتبادل وأصحابها القبلات وتدلل وتأكل خير الطعام من ألباننا ولحومنا، ومن السمك والسردين واللحوم المعلبة، أما نحن الذين نخدم خدمة نصوحا، ونستخرج الخيرات من قلب الأرض فنرضى بالأكل من حيث كان ... ليس من يبالي بنا، فلولا كتفي وظهرك من أين كانت تأكل الناس؟! أما كانوا يحلون محلنا ليقوموا بأعمالنا وأشغالنا الشاقة؟
فقاطعه الحمار قائلا: ولماذا لم تقل كتفي أيضا، أما كنا اليوم نفلح الأرض معا؟ - بلى يا صاحبي، فلولانا ما أعطت الأرض غلة. تأمل، نزرع ما نزرع تحت المطر، محتملين البرد ولا نذوق حبة من الحبوب التي نسقيها عرق جلودنا. وإذا نبت الزرع وحاولنا رعيه أو أن نقضم قضمة منه، علا الصياح من كل فج عميق، وانقضوا علينا بعصيهم، كأن لا حق لنا بشيء من إنتاجنا. الحق مع الذي قال: ابن آدم كافر أسود رأس.
فقال الحمار: وط صوتك لئلا يسمع صاحبنا. قرب حتى أوشوشك. أما سمعت بعد بالآلات التي تفلح وتزرع وتقلب الأرض ظهرا لبطن! قصرت حياتنا على وجه الأرض. سوف يستغنى عنا.
فقال الثور: كيف! ومن أين يأتون باللحوم والألبان إذا انقرضنا، أيأكل بعضهم لحم بعض؟
فضحك الحمار وقال: ما أقل عقلك يا بهيم، صحيح أنك فدان! نسيت أن عندهم الغنم والمعزى وحيوانات أخرى.
فتضاحك الثور وقال: كل عشرين رأس غنم لا تحلب قدر بقرة واحدة. ولكن أنت ما يحل بك يا مسكين! فجلدك لا يسكف ولحمك لا يؤكل.
فاستضحك الحمار وقال هازئا: ناس كثيرون يأكلون لحمي، فإذا ضاق بوجهي هذا المحيط وقل الرزق أهاجر، مع الذين يهاجرون، أما قال الشاعر: وأرض الله واسعة الفضاء.
فهز الثور قرنيه استخفافا وقال: هذا آخر زمان، الحمار فيه يقول الشعر. إلى أين تهاجر يا جحش، ومن يستقبلك على البور أو في المطار، نحن همل ليس من يسأل عنا. الكلاب خير منا. الكلاب محظوظة في هذا الزمان. فبعد ما كانوا يتنجسون منها، حتى قالوا: فلان قعد مني مقعد الكلب، صار للكلاب صدر الديوان.
فحرك الحمار أذنيه وقال: سبحان الله! الدنيا أدوار، وهذا الإنسان يلعب بمقدراتنا.
وسمع الثور حس صاحبه فأسر الكلام وقال الحمار: هس، هس، ذهبت أيام البراذع والجلال والجلاجل، كما مضت الأيام التي لم تكن تذبح فيها بقرة. - أنا ما رأيت يوما أبيض في حياتي، فكل أيامي إما أن أكون محملا وإما مركوبا، واليوم صرت أفلح. اكتمل النقل بالزعرور كما يقولون.
وشق الفلاح باب القبو فكفا عن الكلام وشرعا يقضمان. فرد الباب عليهما وذهب، وبعد ساعة زمان جاء وفكهما وأطلق سراحهما ليرعيا في مرج قريب، فصادفا جملا وبغلا وقعدوا جميعا يتشاكون فقال البغل: أنتما يا حمار ويا ثور، رضيتما بالتبن الحاف فصار طعامكما الدائم، ألا تعرفان الإنسان طميعا بخيلا شحيحا؟! الحق على من خلفاكم وعوداكم هذه العيشة الذليلة. الذنب ذنب المربي، أما أنا فلا بد لي من الشعير، كما لا بد لأخي الجمل من الفول والكرسنة. أضربنا عن الطعام فوقف العمل، واضطر صاحبنا أن يرضينا ليشتغل ويقبض.
فشقشق الجمل وقال: هاتيك أيام راحت وا حزني عليها. أيام كنا نأكل فيها الكرسنة والفول المنقوعين، أما اليوم فلا فول ولا مكيول. ولا من يحزنون. كنت فيما مضى أشكو الأحمال الثقيلة، أما في هذه الأيام فالحمل نادر والأكل أندر. هذا الزمان كما قلنا، زمان الكلاب والقطط، تأكل خير أكل وتنام على صوف، ولا تعمل شيئا.
فنظر الحمار إلى الثور نظرة ذات معنى فقال البغل: صرح يا ابن أبي، قل بماذا تفكر، فنحن في المصيبة سواء.
ولما استوثق الحمار من أخيه البغل قال له: اسأل خالك الحصان، أما مر ورآني مكدونا قبالة هذا العجل لأن رفيقته نفساء.
فقال البغل: وماذا عملت يا حمار! هم يتزوجون ويخلفون وأنت تشتغل عنهم! قل لي ماذا عملت؟ - ماذا عملت؟ أكلت كم عصا ومشيت غصبا عن رقبتي. فتقدم البغل ينظر إلى الجرح الذي أحدثه النير في رقبة الحمار، ثم هز رأسه وقال: لم يسموك حمارا عن عبث، فلو كنت عملت مثلي لنجوت.
فصاح الحمار: وماذا عملت؟ علمني حتى أعمل مثلك.
فقال البغل: تعنفصت ولبطت وكدشت، ولما لم أنقد له خاف وتركني، وجاء بك يا جحش لتحل محلي.
فقال الحمار: الحكم إذن على الطائع.
فقال البغل: هذي يا ابن أمي شريعة الناس، ما بلغك بعد قول شاعرهم: ومن لا يظلم الناس يظلم. إذا أردت أن تعرف أخلاق أمة ففتش عن أمثالها، فمثل البشر يقول: الفاجر أكل ماله ومال التاجر. يعد الإنسان ألف عشرة قبل أن يركب بغلا، بينما تراه يركب الحمار ارتجالا. يقولون في مثلهم: الحيط الواطي كل الناس تركبه، أنت حيطك واطي، فعبثا تشكو: شكوى الجريح إلى البئزان والرخم.
وهنا تدخل الثور ليعرض قضيته فقال له البغل: سد بوزك. ولا كلمة. أنت أقل فهما من الحمار. ولذلك قال الشاعر:
علي نحت القوافي من معادنها
وما علي إذا لم تفهم البقر
كان يقدر الشاعر أن يقول: الحمر بدلا من البقر ولا ينكسر الشعر ولا القافية، فكيف تترك ابن آدم يجيعك ويكدنك مع الحمار! ألا يحط هذا من مقامك، مع أنه معك سلاح ليس لأحد منا.
فأجاب الثور: أنا معي سلاح؟ أين هو سلاحي؟
فقال الجمل: معلوم، ألا تراه، أنت أعمى يا ترى؟!
فقال البغل للجمل: اسكت يا هبيل، كل الحيوانات تحكي ما عداك. أنت طمعت البشر فينا، رقبتك باع ويقودك ولد أقل من ذراع.
وبربر الجمل ودلق جرابه الأحمر، فقال البغل: هس. ولا كلمة. فلو عرفت قوتك لما أناخوك، وحطوا على ظهرك الجبال من الأحمال، ثم نهضت بها ومشيت.
فقال الثور للبغل: يا سيدنا، قطعت حديثك معي ورحت تحدث غيري. قلت لي معك سلاح ولم تدلني عليه.
فنط الحمار وقال: أعرفتم من منا هو الحمار؟ هذا هو الحمار ألا تعرف يا ثور أنك صاحب سلاح لا ينزع منك؟! فوالله ثم والله ثم والله لو كان لي أحد قرنيك لما تركت إنسانا يقودني.
فأجابه البغل: ولكن لك حافر فلماذا تتركه يسوقك؟!
ولما حان وقت المغيب جاء صاحبهما ليسوقهما إلى الزريبة كالمعتاد، فلبطه الحمار لبطة موفقة أطلعت روحه، فمات لساعته وكر الحيوانان إلى مزربهما لا يلويان على شيء.
ثم كان البحث عن القاتل فاتهم من اتهم. وبينما كانت التحقيقات جارية كان الحمار والثور يتحاوران، فقال الحمار للثور: هل وصلك خبر الكلب العجيب الذي ينبش المجرم ويقبض عليه؟
قال الثور: صحيح! ويعرفهم تماما.
فقال الحمار: هكذا يقولون، حقا إنه ذكاء عجيب.
فقال الثور: ما هذا ذكاء. هذي قوة شم.
فأجاب الحمار: أنت لا تعترف لأحد بشيء. شم أنت مثله لنرى ما يكون. نسيت أنه ابن جنسنا ويقبض على الناس متى اعتدوا. هذا فخر لنا يا حبيبي. فخر وأي فخر أن يخوف المجرمين من البشر كلب. ويقر الأمن فيما بينهم.
فمغمغ الثور: تف لهذا الزمان ما أردأه! صار المقام الرفيع فيه للكلب. كان يمشي خلفنا ذليلا، وكانوا يتنجسون منه إذا لمسهم لمسا، فصار ينام على السرير، يأخذون حليبنا ليطعموه إياه في صحن صيني ونحن ما زلنا نأكل في المعالف، وننام على زبلنا وزبل غيرنا، ونشرب من الجرن العفن الأزرق.
فقال الحمار: لا تحسد الكلاب، يكفي أن فرعا منا يأخذ بثأرنا من البشر. الناس الجبناء الذين يغدرون، ويقتلون في الخفاء. فلو كانت لهم سلامة النية والشجاعة ما احتاجوا إلى كلاب تدل على المجرمين منهم. حسبنا فخرا أن حيوانا واحدا من جنسنا يكشف مظالم الإنسان المستبد المعتقد أن الله سلطه علينا فيذبحنا ساعة يشاء. ثم يذبح أخاه الإنسان ليأخذ ماله وهو غير محتاج إليه. هل سمعت أن حيوانا اهتم للغد، فطالب بأكثر من القوت؟ ومع ذلك يسعون للاستغناء عنا بآلات صماء، فما عساه يحل بنا في الغد؟ حقيقة إن المستقبل مظلم.
فقال الثور: والله ما أعرف لماذا لا نفكر بأن يكون لنا ضمان جماعي يؤمننا مخاوف الشيخوخة عند العجز عن السعي، أما قال المثل: من سعى على رجله رعى، وهل يحمل الرجل غير البطن الملآن.
فقال الحمار: أنا متكل على الذي خلقني. ومع ذلك أقول، وأعني ما أقول، إذا كان ليس عند الناس في لبنان مثل هذا الضمان، فكيف يكون لنا نحن البهائم.
وبينما هما يتناجيان انشق باب القبو فدخل كلب غريب لم يعرفا له صورة وجه من قبل، فظناه الكلب الذي تحدثت الصحف عن عبقريته والاستقبال الذي جرى له في المطار، فنفخ الثور وعج. ونهق الحمار وحاول أن يقطع الرسن. تمثل له شبح جريمته وتذكر حديث الكلب الذي ينبش المجرمين، فخال أنه هو، وأنه جاء ليقبض عليه، أما الثور، وهو البريء من كل إثم، فتشدد وقال: مرحبا بالضيف، شرفتنا بهذه الزيارة أيها النسيب العزيز، الضيف له الكرامة، ولكن بيتنا خال حتى من عظمة، وكل ما نرجوه منك غض النظر عن جريمتنا، ولا تفضحنا بين الناس فيشمتوا بنا. كن نصيرا لبني عمك، فنحن كلنا من ذوي الأذناب وهم بشر ظالمون. إذا قتلنا واحدا منهم خطأ فكم قتلوا من الملايين منا عمدا. كن حيوانا ولا تبع دم بني عمك بطعام مريء يعدونه لك، كنا مظلومين ففار دمنا وقتلنا صاحبنا عن غير سابق تصور وتصميم.
أما الكلب فوقف مبهوتا صامتا لا يفهم شيئا مما حكاه الثور. وتشجع الحمار وقاطع الثور قائلا: يقولون إنك ذكي جدا يا بن العم، والذكي مثلك لا يجهل المادة الكلية القائلة: جناية العجماء جبار، وخصوصا أن الجاني حمار، ثم زوى ما بين عينيه ونصب أذنيه وقال: إذا كان (الاجتهاد) يبرئ الإنسان العاقل من جناية القتل عمدا، أفلا يبرئ هذا النص الواضح كعين الشمس جحشا مثلي! كن فهيما. هذا نص وليس حيلة تلبس رداء القانون.
فابتهج الثور واستضحك في عبه وقال: ومتى تعلم الحقوق هذا الحمار.
ولم يفهم الحمار ما قاله الثور وأتم حديثه: ثم لو سلمتني ماذا يصير؟ إنهم يخلون سبيلي بلا كفالة. في هذا البلد جناة كثيرون، فإذا أردت أن تبيض وجهك مع أصحابك فاقبض على واحد منهم بدلا مني. لا تخف أن تتعب ضميرك، ففي اليوم الواحد ترتكب عدة جنايات.
وبينما كان الثور يحاول إقناع الكلب، والكلب لا يفهم شيئا مما يقال، كان الحمار يتهيأ لمغامرة. يريد أن يموت قبل أن يستسلم لكلب، فلو كان أسدا أو نمرا لهان عليه الأمر. إذا كان المثل يقول: يأكلها السبع ولا يأكلها الضبع، فكيف بالكلب؟!
ولم تنجل الغمرة إلا عندما لف الكلب ذنبه وخرج. وظل الحمار حينا قلقا مشغول الفكر يبكته ضميره حتى عرف أن الكلب سوقي لا بوليصي ، وقد مر من هناك عرضا.
قصة السعادة
بين ثنايا جلباب الدهور وغضون جبين الأزل فتشت عنها فلم أجدها. وبتلسكوب هذا الزمان حدقت إلى خيالها الضئيل فرأيته يتوارى ويضمحل وراء ضباب المدنية.
في صحارى الآمال وعلى شواطئ بحار المطامع، بحثت عنها فوجدت الرياح ذرتها رملا في الأحداق فعميت عنها العيون وابتلعتها اللجج، فكان الغائص عليها من المغرقين.
قالوا: إنها بذور إلهية نثرتها يد الخفاء على وجه الكرة الأرضية قبل ظهور الحياة، فبحثت جيولوجيا فلم أجدها بين بقايا إنسان الكهوف وفئوس ومدى الصوان.
لقد التقط عقبان الأبد ونسور الأزل بذور الآلهة وطارت محلقة في الأفق المجهول. سمعت حفيف أجنحتها ولم أرها. ما رأيت إلا شبح العدم جاثما على جبهة الوعر، يرقب ساعة يبحث فيها عن عرشه المفقود ويعصب رأسه بثلجه.
إنه ليوم رهيب يوم ظفر العدم، إذ تصبح أشباح النوابغ رمما بالية، يضحك منها الفناء ويهزأ بها اللا شيء. يوم يقبض العدم على قضيب ملكه (ويؤدب المتشردين). هذا هو لقب نوابغ الأرض في مملكة العدم.
تصفحت الأسفار وقرأت سطورها وما بين السطور فلم أجد إلا شكوكا مدلهمة تزداد على البحث ظلاما. استعرضت جنود العلماء والفلاسفة وفي أيديهم سيوف وقنابل البراهين، فرأيت تلك منثلمة وهذه محشوة رمادا. رأيتهم نياما في ظلال الشكوك والتهكم يقهقه فوق رءوسهم صائحا بهم: ناموا واستريحوا يا نوابغ الأرض فقد ضللتم الناس وضللتم.
مع عمالقة التاريخ وجبابرة الإنسانية سرت برعدة. خلتهم راكضين وراء السعادة فأسرعت معهم فاختفوا عن نظري في صحراء التيه فدخلت أرض الفراعنة وحدي.
رأيت جلال ملوكها أبناء الشمس. تصفحت أسفارهم في هياكلهم، ومع موسى الذي تدرب على حكمتها أمعنت النظر فيها. رأيت عصي الكهان تنساب حيات تحت أقدام الفراعنة فاتبعتها إلى هيكل إيزيريس. رأيت هناك الإله الثور وعلى ظهره النسر فقلت: هذا هو السعادة. صعق الكهان لأن الثور قد مات واضطرب الوادي حزنا على الإله، فقلت: لا سعادة هنا.
طفت حول الأهرام واستنطقت أبا الهول فأجابتني مومياء من قبور الفراعنة: فتش عن السعادة في غير هذه الأرض فقد حنطنا أجسادنا لتراها صور أرواحنا إن وجدها أحد بعدنا.
سرت على طريق الهند فرأيت رفيقي في هيكل الآلهة - موسى - يلتفت يمينا وشمالا وإذ لم ير أحدا قتل المصري وطمره في الرمل، فسألته عن ضالتي فهز كتفيه مشيرا إلى المصري المقتول.
طويت الصحراء فشاهدت فيها آثار الأنهار فأيقنت أن المدنية رحالة يجوب الأقطار وله في كل منطقة طلول وآثار. ولما وصلت ضفاف الكنج حملت تياراته أثقالا من الآمال وجبالا من التساؤل.
تحت أقدام برهما - ثالوث الهنود - وبين غطرسة كهانه لم أجد أثرا للسعادة. وفي مطاوي (الفيدا) لم أعثر إلا على بعض متحجرات صقلوها ونادوا على الدر والألماس.
اضطرب البراهمة لأن إلها جديدا ولد من خاصرة أمه. يمد يده ليقوض أركان فلسفتهم ويمزق أسفارهم فأسرعت الخطى إليه، أركبني بوذا في مركبته (الإلهية) فجرت بنا نطوي سهول الخيال وتعبر أودية الأشباح، فسرنا نفتش عن السعادة في جيوب الغيوم فكنا كالقابض على الماء. تركته متربعا في ظل شجرته الأزلية يستمد الروح العلوية لتبدد انقباض نفسه، فازداد بركانها ثورانا؛ لأن السعادة طائر لا يستكن في ظل شجرة يستظل بها البشر.
رأيت كنفوشيوس يعلم في الصين، وسمعت تلاميذه يطلبون منه ما أطلب، وهو يعللهم بطبخة الحصى فناموا ولم ينضج الطعام.
عدت إلى أثينا فرأيت في رواق هيكل الحكمة فيلسوفها الخارج على المألوف، المتمرد على التقاليد، نائما في برميله فسألته عن السعادة فدفع إلي مصباحه وقال لي: فتش عنها، فقد فتشت قبلك فلم أجد (الرجل) السعيد.
صعدت إلى قمم الأريمنت فلم أر الطهارة والسعادة كما قال شعراء اليونان فانحدرت إلى الشاطئ وأبحرت إلى بيبلس مدينة الثالوث الأقدس الفينيقي، لأبحث في كتب سنكنتين وطالس فرأيت الشعب يبكي الإله المقتول الذي افترسه الدب في الغينة فغادرت شعبا يفترس إلهه دب، أتعثر بأذيال الخيبة ميمما أرض إسرائيل.
قلت في نفسي: ما لي أفتش عن السعادة ولا أرى إلا بشرية متألمة، ولا أسمع غير النحيب والعويل.
في سفح الطور أعييت فجلست أفكر في تعاسة الباحثين، ضاحكا من المتفلسفين، باكيا على المتمنطقين، فرأيت موسى اتقد غضبا ورمى لوحي الشريعة فكسرهما في أسفل الجبل. فقلت له: ما بالك يا جبار الأنبياء. يا قاتل المصري، يا شاق البحر الأحمر، يا فالق الصخرة بعصاه، أمثلك يغضب؟! فأجابني: من سعى وراء إسعاد البشر ذابت نفسه وأكلته الكآبة.
نمت تحت أقدام الجبل نوم فتية الكهف، واستيقظت عندما سمعت راحيل تبكي على بنيها. فجلت بأقدام اليأس في خيام الأنبياء، وأكواخ شعراء إسرائيل. فرأيت الشاعر أيوب مفترشا الرماد يدعو على نهاره وليله واللعنة ملء فمه. رأيت شاول صريعا على جبل الجلبوع ومجن الجبابرة معفرا بالتراب. رأيت داود يئن على عرشه موقعا بكاءه على العود والقيثارة. رأيت سليمان طائفا في الهيكل تائها في الشوارع متغزلا بنشيده وقد صادفه حارس المدينة. رأيت حول سريره ستين جبارا، وكل منهم سيفه على فخذه لأهوال الليل فقلت: هذا أسعد البشر، فأصغيت إليه فسمعته مرددا: كل شيء باطل.
سمعت أشعيا بن أموص صارخا في مدينة ذلك الزمان: رؤساؤك عصاة وشركاء للسراق. رأيت أرميا باكيا في صهيون، ومر أمامي موكب من الشعراء الأنبياء الصغار وكلهم غائصون في بحور الأحلام ينتظرون فرعا جديدا من جذع يسي فانتظرت ذلك الآتي، عله يرشدني إلى ما أفتش عنه.
جاء فرأيته في بستان الزيتون رافعا يديه إلى السماء صارخا: يا أبتاه اجز عني هذه الكأس، وسمعته يبكت تلاميذه قائلا لهم: ألا تسهرون معي ساعة واحدة. فقلت: ما لي وللسؤال فقد جئته يوم بؤسه. فبارحت أورشليم تاركا خلفي ضوضاء الكتبة وجلبة الفريسيين نافضا ما علق بأذيالي من غبار تلك الدهور. يممت جزيرة العرب لأسأل عباد اللات والعزى عن السعادة فشهدت مقتل كليب، ويوم أوارة، وسوق عكاظ، وسمعت وقع أقدام نبي عربي فأسرعت الخطى إلى المدينة فصادفته هاربا يتسلق الصخور ويتسرب في المغاور والكهوف فلم أستحسن السؤال في ذلك المجال.
فعدت واليأس ملء صدري من رحلة استغرقت سنين فالتقيت في ضواحي دمشق بشيخ جليل ألبسته الأيام جبة لحمتها العصور وسداها الدهور. رأيت بقربه مركبة نارية دونها إتقانا طائرات هذا الزمان. فصحت به: تسم يا شيخ. فأدرك أنني استهنته فجرد سيفا لا أدري من أين جاء به؟ ولا أين كان يخفيه؟ فاتقد شعلة نارية فتذكرت صورة في إحدى الكنائس وقلت في نفسي: هذا إيليا لم تخمد نار حدته الأجيال. وماذا يصنع هزيل الأسفار أمام من يستنزل من السماء النار، ويقتل ثلاثمائة وخمسين من الكهان؟! فسألته الصفح عن غلاظتي فابتسم ابتسامة روعتني - وكم من ابتسامة ترتعد لها الفرائص - وبعد حديث طويل أطلعته على خفايا نفسي وأخبرته أنني طفت في الأرض مفتشا عن السعادة.
فقال لي: إنك تفتش يا ابن اليوم عما يفتش عنه شيخ الأجيال. فإن شئت إزاحة اللثام عن وجه الحقيقة فاصعد إلى الأعالي وقابل رب الأرباب. إنما كن جسورا فهنالك من يقفل الباب بوجهك.
فتنهدت قائلا: قبل الدخول عقبات يا شيخ. يا أيها النبي الحي المخلد على رغم الموت، مهد لي الطريق حتى أتعلق بأذيال الباب، لأسمعك صراخا تردد صداه الأرض.
فأركبني مركبته النارية التي أقلته مرة إلى السماء، فاخترقت الأعالي فأفزعت ضوضاؤها سكان المريخ، وأطل علينا من سكان الكواكب أشكال وألوان.
وقفت المركبة على باب السماوات فرأيته مفتوحا ولا حاجب هناك ولا بواب. يلجه جميع أبناء البشر ولا يسأل أحد هناك إلا عن حسناته. فسمعت صوتا يناديني: من أين القادم؟
حدقت النظر إلى المكان الخارج منه الصوت، ولما لم أر أحدا؟ قلت بعد هنيهة: من الأرض.
فأجابني: ولماذا جئت إلى هنا؟
فقلت: أفتش عن السعادة.
فقال: ألم تجدها؟
فقلت: كلا.
فأجابني: ولن تجدها فمطامع المادة لا تحد. إن السعادة روح وهيهات أن تستولي الهيولي على الأرواح. لقد أقلقتم مسامعي يا أبناء التراب، فكدت أصير مثلكم لا سعادة لي. فارجع من حيث أتيت، واسأل سفرائي في أرضكم عنها.
فأجبت: لقد طفت في مشارق الأرض ومغاربها، رأيت الرسل والأنبياء والفلاسفة فلم أجد أحدا منهم سعيدا، أما سفراؤك فما رأيتهم ولا أعرف قصورهم.
فقال: نحن الأرواح لا نستسفر غير الأرواح، فسفيري هو ما تسمونه (الوجدان والضمير) في لغتكم.
وابتسم البرق وقهقه الرعد فاضطربت . وبعد هنيهة وجدتني في برية مقفرة عاينت على صخورها آثار دم هابيل، فاستيقظت من حلمي الرهيب على قرع ناقوس الواجب.
تأملت في ما رأيت وأخذت أندب حظ إنسانية تحمل على رأسها دم أبنائها الذين ضحتهم المطامع على مذابح آلهة كذبة. آلهة السعادة والأمل.
قلت في نفسي: ما تفاحة حواء وحكايتها إلا رمز السعادة المفقودة. إن ترنيمة (ملتون) الخالدة لهي رمز السعادة وهيهات أن يلتقي (الفردوس الضائع). إن ذلك الطائر الجميل الذي صورته قرائح الشعراء، لقد أفلت من قفصه وهيهات أن يعود.
فيا أيتها السعادة.
أنت سر من الأسرار، عظمته في اختفائه، وإن أدركه البشر يئسوا وملوا الوجود، وما أشقى حياة يملها الناس.
أنت خيال النفس المستقرة في الجسد كالخيال في المرآة. تدركه العين ولا تقبض عليه اليد. وما الفلاسفة غير أطفال يحاولون القبض على خيالاتهم في المرايا.
السعادة تحقيق الأمل، والأمل ابن الطمع، والطمع بحر أزلي لا ينضب ولا يتبخر.
السعادة شبع النفوس الجائعة والنفوس لا تشبع. تجري المادة وراء السعادة، وراء ذلك الخيال، فلا تجده إلا بموت الآمال. ولا تموت الآمال إلا بالموت. وهل من سعادة في ظلال الموت.
العين والسعادة فرسا رهان. من رأى تمنى. ومن تمنى قد ينال، ومن نال ما ينال تمنى ما لا ينال. فلا سعادة لذي عينين.
وبعد تفكر قليل نهضت إلى عملي ولم أعد أسمع إلا عويل المادة بين مخالب العدم، فما أمر اليقظة وأقسى جبار الأبدية والأزل.
قصصي وأخباري
عين كفاع
القرية هي عين كفاع، وحديثها حديث كل قرية في الأرض والمريخ، فالناس ناس في كل مكان وزمان، ولا يعقد الحياة إلا المدنية.
عين كفاع لفظة سريانية مركبة، تعريبها: العين المخفية. ووافق الاسم المسمى، فخفيت على الحكومة فكانت كأبي نواس حين قال:
تحجبت عن دهري بظل جناحه
فصرت أرى دهري وليس يراني
ولو كانت تحت الجناح لانتظرت النقف، ولكنها بعيدة عن الحضانة، فلا فرخا أنتجت، ولا بيضة صلحت.
كانت على عهد لبنان معبر القوافل القادمة من جبيل، وجونيه، وبيروت، وصيدا، ودمشق مثقلة بالبضائع إلى بنادر الشمال: دوما، وبشري، وأهدن، وغيرها، من دساكر لبنان، فكانت الطريق ثرثارة أبدا، لا تخلو من الرجل والحافر. أجراس بغال وجمال تدق، وجلاجل حمير تهمهم، ومكارون يغنون مع الفجر العتابا، والميجانا، والمواليا، والمعنى، والقرادي، وأحيانا أناشيد كنسية مثل: إن قلبي في هوى مريم، وصلاتك معنا، واطلبي عنا، فتظن أن بيعة سيارة فيها أجواق مرتلين لولا سب الدين إذا تعس الحمار أو كبا البغل. أما اليوم فالطريق خرساء طرشاء كمسامع الحكومة عن ندائنا.
نعم خفيت عين كفاع على الحكومة اللبنانية فمهد الأحدب - مهما يكن من شيء فللأحدب الشكر - طرق الدواليب إلى القرى المحيطة بها من الجهات الأربع فزمرت السيارات حولنا في كل فج وعلى الذرى، ورقصنا نحن رقصة الطير، وهكذا ظلت هذه القرية وحدها بلا طريق. لو مهدت الأميال الخمسة الباقية لاختزلت طريق الأرز، وأمن المسافرون حر الصيف وبرد الشتاء.
عاتبنا الدباس عندما مهد طريق مار يوسف جربتا، ولم يبال ببعد الشقة، ودير مار يوسف هذا في وحدة الرهبان فيه بضع راهبات متعبدات فاضلات. وعاتبنا الحكومة فقالوا لنا (غدا) ولولاكم ما مهدناها. لقد صدقوا، استعاروا اسمنا كي يحققوا قول المثل اللبناني: النذر للدير ... إلخ.
وصبرنا حتى ضاق صدرنا فكتبنا إلى الدباس يوم كان دكتاتورا نذكره بوعده فتناساه ولم يجب. وقيل لنا: إنه يطرب للشعر، ورأينا شاعرا يمدحه فيستحق شكر لبنان، فكتبنا إليه شعرا معاتبين لا مادحين، ومما قلناه له: إننا على دين بشار لا نمدح ريحانة قبل شم. أما تلك القصيدة فهذا مطلعها، والكتاب يعرف من عنوانه:
قل للرئيس عداك حظ أنكد
أقرى معذبة ودير يسعد
فما نفعنا الشعر، ولا أجدى النثر، ولم يعد الدباس ذلك الحظ الأنكد.
قال العرب: الحديث شجون. ألا ترى كيف ينجر الحديث، فلنعد إلى عين كفاع. أما موقعها الطبيعي فدونك وصفه الوجيز: «جزيرة برية» على رابية مخروطية مفرطحة قليلا، تعلو مائتين وخمسين مترا عن الأودية التي تطوقها. خطط الجدود قريتنا الصغيرة في عين حكومتنا، فإذا نظرت إليها من جبل معاد تخالها حلزونا، يحدها شمالا نهر شتوي يسميه الجغرافيون نهر المدفون، وغربا واد شتوي أيضا يصب في النهر، وقبلة وشرقا سهل مقعر قليلا، مساحته بضعة أميال مربعة (تمت حدود بطريركية فارناي
Ferny ) إن صح ما قاله فينا الأب ل. خليل (بشير 4 تموز 1935).
في هذا السهل غرسوا وغرسنا الزيتون، والحكومة من الملاكين أيضا في هذا السهل الخصيب، وكم زجت - على عهد السلاطين - في السجون من أبرياء اتهموا بعقر زيتونها، وما كان الجاني غير العاصفة، أما في صدور الجبال المتكئة حول عين كفاع، كثبير امرئ القيس في عرانين وبله، فأغراس عنب وتين وكل ما عرف الفلاح اللبناني من أشجار مثمرة، فصار يحق لنا أن نرتل:
والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين . حقا إنها بلد أمين ممن يدخلون القرى فيفسدونها.
إذا تأملت ترى الحيطان منظمة كسطور ابن مقلة فتحسبك في مدرج روماني والعرائش كالعرائس تجلل قلالها كأنها عذارى دوار في ملاء مذيل.
والقمم وما أجمل تلك القمم تختبئ خلف بعضها كعذارى لبنان في محفل، عنيت القرويات لا المتسابقات إلى عروش الجمال.
الوادي الشمالي رهيب جدا، وضيق جدا كصدور اللاهوتيين المتحرجين، تتناوح فوقه الجبال حتى تتصافح، يمتد من ميفوق إلى سيف البحر حيث بني على قدميه جسر المدفون. مسافته عشرون ميلا أو تزيد، وتعاريجه أوضح ما تكون في عين كفاع، فكأنك أمام فسطان الملكة فكتوريا المثنى والمطوى بشكل ملوكي. ولو كان هذا الوادي الذي تطل منه القرية على البحر عريضا تجري فيه المياه لقلت لك الدردنيل أو البسفور. ولكنه يضيق فيصير قيد باع فقط. وفي هذا كان يربض الناس لتحية بعضهم في الليالي السوداء، وكل ليالي (الزرادات) سوداء، وأنى لضوء القمر أن يبدد ظلمة لا تكاد تنيرها أمه.
في القرية وحولها هوى عديدة، فقرب بيتنا هوة سدها جدودنا فصرنا نقصد هوة (المساسير) حيث ندهور الحجارة ونصغي إلى صوتها وصداها، فتتساقط من درجة إلى درجة فنعد السبعين والثمانين ولا نزال نسمع التدهدي، حتى اعتقدنا صغارا أن هناك باب جهنم، وكانوا يخوفونا بخروج الجن والشياطين والعفاريت والرصد من فم تلك الهوة الرهيبة ليصدونا عنها، وللرصد حديث مثير لا نضن به عليك.
حول القرية كهوف تعد بالعشرات، مهرتة فوه ككواسر لامية العرب، فكأنها فم الدهر يحدثنا بما مر أمامها من مشاهد وعبر ولا نفهم ولا نعي شيئا.
أما غابات القرية، وجل أشجارها سنديان، فمربعات ومثلثات وموشورات على جوانب كرومها، وفي الجهة الغربية غابة تكسو الجبل من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، وفي الجهة الشمالية بقعة كبيرة كلها من الآس.
القرية نصرانية مارونية وقديسها مار روحانا يعيدون له في 29 أيلول كأنه عيد القطاف والعصير، أو مناحة أمنا على فتى فصولها. إن عجائب القديس روحانا كثيرة، أكثر من عجائب يسوع، وحياته غرائب سأحدثك عنها يوم عيده، أما الآن فإليك أنموذجا منها: نجى القديس صبيين من أسد (رديء) كاد يفترسهما، وإن سألت كيف ذلك؟! قيل لك (عجائب الله في قديسيه).
أما صورة القديس فتنبئك أنه أجرى نهرا حال دون الأسد وفريسته، فأقعى يعوي كالكلب بالمقلوب. وعندما شككت صبيا سألت جدي الخوري: ماذا صار بالنهر بعد نجاة الولدين، وأي أصعب أقتل أسد أم إجراء نهر؟ فانتهرني قائلا: سد بوزك آمن يا صبي ولا تسأل. وسكتنا.
ومن عجائب قديس ضيعتنا أيضا أنه (استنبع) عين ماء لقرية ظمأى استغاثت به، ولم يذكر السنكسار أنه استعان بالعصا كموسى، ليته يرق للقرية المتعبدة له. فهي ظمأى تفتش منذ أجيال عن العين المخفية (عين الوطأ) ولا تجدها، فالأسطورة القروية تقول: إنها مغطاة بسبع لحف!
سألت القديس روحانا ليلة عيده عام أول، بعدما أعيتني الحيلة وبقيت الضيعة بلا درب أن يعمل عجيبة واحدة، فأجابني: إن الله لا يأذن بعمل العجائب اليوم.
فقلت له: ما أقل حظنا! فأجاب: نعم. ألم تقف الحكومة عن تمهيد الطرق حين جاءت نوبتكم!
قلت: ولكن الحكومة تعمل متى شاءت، وتنفق عشرات ألوف الليرات على توسيع طريق وتعبيدها، وتعتذر بالمراسيم إذا أبت.
قال: ونحن أيضا نحتج بقلة إيمانكم.
قلت: لو لم تبق شماسا لظل الرب يستجيب لك ويرخص بالعجائب متى طلبت.
قال: وحكومتكم كذلك لا تسمع إلا للمتقدمين في الأخوة.
قلت: هذا تعبير عتيق، فالذين تعنيهم يحملون اليوم ألقابا فخمة، وإذا لم نقبل أيديهم راكعين حاسرين يحردون.
قال ...
قلت ...
أما بيت هذا القديس (كنيسة الخورنية) فبنيانه فخم متين مشيد على بقايا برج قديم لا تزال آثاره ماثلة، فزاويته القبلية الغربية راسخة على حجارة ضخمة كأنها من قلعة بعلبك، وإن كانت دون الكبرى ضخامة، فكأن حجارة الهيكلين من مقلع واحد. أما درج الكنيسة فداخلي وهي أشبه بحصار منها بهيكل، وفي خاصرة حنية الكنيسة حجرة مخفية أعدها القدماء مدفنا لكنوزهم، إذا اجتاح الغاشمون قريتهم وأخذوها عنوة. وسنديانة الكنيسة الضخمة الهرمة التي أكلت الأيام جذعها، كقلوب الفريسيين، فتحدثك بعمر الهيكل. فعين كفاع - كما ترى - حصار طبيعي لا يدخلها الجباة ومبلغو أوامر الحكومة إلا من بابها الشرقي، ولولا هؤلاء ما عرفت القرية أن في الدنيا حكومة. فعين كفاع - قبل الطائرات - كانت قرية محسدة في ليالي الأهوال لا يلجها أحد بلا تعب وعناء، ومن يضل الطريق لا يستطيع الخروج منها إلا إذا عاد من حيث أتى.
حدثني جدي عن الأمراء الشهابيين يوسف وبشير ورجال حكومتهم كيف كانوا يأتونها لصيد الحجلان والقطا (الحمام البري) بحاشيتهم وبئزانهم، ودلني على مقعد الأمير في الوادي الرهيب - القطين. في هذا الوادي الجبار المقطب الجبين كان لرهبان ذلك الزمان المتقشفين دير عظيم جدا لا تزال آثاره ماثلة
1
ولخراب الدير أسطورة نذكرها في حينها.
وعلى الجبال عدة هياكل يتهددها الدمار: مار عبدا، ومار سمعان، ومار سركيس. في دير مار عبدا تخفى المطران يوسف اسطفان حين أهدر الأمير بشير دمه بعد (عامية أنطلياس ولحفد) وفي الذروة الغربية تجثم كنيسة معاد القديمة
2
كأنها إحدى قلاع دردنيليا البري.
وعلى جبالنا وفي أوديتنا كان يلهو مواطننا الإله أدونيس، وكانت نمورتنا أشد احتراما للمعبود فلم تفترسه كخنزير الغينة البري.
هذه هي عين كفاع المسكينة، ومن محاسنها اليوم بعدها عن الضوضاء، فكأن الحكومة الجليلة أرادت أن تبقي في بلادها المحروسة نموذجا للقديم فما وجدت أصلح من عين كفاع في بلاد جبيل، مهد الديانة والحضارة الأول، فسدت أذانها عن نداء أهلها. تعتمد القرية على الحرير وقد مات، وعلى الزيتون وهو يحتضر، وعلى الكرمة والتين وقد هرما، وعلى التبغ، ويد شركة الحصر آخذة بخناقه، وعلى السفرجل والآجاص وغيرهما فلا تبيع ثمرة لتعذر النقل، فتسقط الثمار تحت أماتها وتغني المزارعين عن الأسمدة.
سماء عين كفاع صافية كقلوب القرويين فلا ضباب ولا رطوبة. أفق كعين الديك لا يتعقد فيه سحاب إذا أصفنا، ثمار استبدت باللذاذة، وخمرة دونها خمرة شمبانيا وبوردو، ذاقها أجانب كثيرون فأعرضوا عن خمرتهم واحتسوها متمطقين.
عين كفاع مجرى هواء وللريح فيها هينمة أزلية، ولولا أن عين كفاع على قمة لقلت لك إنها ومحيطها كصحن مثروم. يمر الصيف ولا يلزم واحد فراشه. الجميع في عرازيلهم وعلى مصاطبهم. عرب متحضرون ينامون على ابتسامة القمر، ويستيقظون على غمز النجوم. لا يعرفون البق والبرغش، الجداجد تزمزم في أوديتهم كابن المقفع ليلة إسلامه. والحجلان نقوقي مترحمة على المعري، والثعالب تعوي مسبحة خالق الدجاج والعنب والقثاء، فتجيبها الكلاب فتسد بوزها.
في عين كفاع تنتهي حدود الزمن، ومقاييس الناس، وعرف البشر وتقاليدهم، فناموسيتي فيها مزرقة مدبجة بالماس غماز، ومناطها الجاذبية كما يزعم أحفاد نيوتن، وكرسي رفرف أو أفريز أو صفة. المحصول مشترك، لا بيع ولا شراء إلا إذا ضخمت الكمية. على الغريب ابن السبيل أن ينادي الناطور ثلاثا فإذا لم يجبه حل له دخول الكروم والأكل من ثمارها، الأكل مباح أما الأخذ فسرقة وتعد، تلك هي الاشتراكية المعتدلة.
كثيرا ما كان يزورنا مجهولون ويصرفون في وادينا أياما وأسابيع وشهورا فنقريهم مما ملكت أيماننا، حتى يستسلموا إلى الشريعة التي تطاردهم، أو يعفى عنهم.
إن يد الشرطة والجند قصيرة عن مطاردة الأشقياء في وادينا الرهيب. سنقص عليك أيها القارئ أحاديثنا، وهي شتى الأنواع والألوان فإن شاقتك فحسبنا، وإلا فنحن في حديثنا ماضون، ففي النفس أشياء لا بد من البوح بها وتسجيلها عملا بمثلنا القائل: «بحنا واسترحنا».
عيد الصليب من عين كفاع
جبل جاج أقرع، قاعد بوجهنا ككبير أناس امرئ القيس. بجاده رمادي مجعد، وفي وجهه نكت كأنها البثور التي تأتي الوجوه على الهرم. تلك فضلة أرز تشهد لنا عند الدهر على (أصدقائنا) الذين يأخذون منا جزية المحبة. بل بقية كأس شربناه منذ كانت الألوهة فينا والمعبود منا. وإلينا ابن التي كانت لأورويا فكان أطمع من أبيه. حلق الرءوس ونعم، وصار الحالق عريسا والهيكل مضجعا لحبيبته الجميلة بالحذاء، إن (يهوه) كان في كل عهد حجل صيد، وبيته ستارة.
سامحك الله يا حيرام.
يظهر جبل جاج من عين كفاع كحنية مذبح سقط عقدها فعوضها الله منه قبته الزرقاء. تتدرج إليه الذرى كالكاهن إلى مذبح ربه، فما أجمله والغروب يلفه بعباءته كما اشتهى الزاجل اللبناني أن تفعل به حبيبته.
تلوح في الأمد الأبعد قرنة جفرون فتخالها منبر واعظ بليغ لا يفلق الناس كلامه المعاد، ولا تمل العين حديثه الصامت، وإذا لاحت عليها نار الرعاة حسبته منارة بحر الظلمات.
يؤثر بي جدا منظر الغروب ولا سيما بعد ما مال النهار. وها أنا أرسمه لك من خلف تاركا لغيري وصفه من قدام، فإذا احتضرت الشمس خلت جبل جاج جمرا مكسورة حدته، حتى إذا فارقت الشمس المريضة رمد رويدا رويدا، وازرق من خلفه الأفق الأغبر، ثم تشتد الزرقة وتسود إذا طالت غيبة القمر. فلو شهد فولتير غروبنا العجيب لنساه ذاك الشروق الذي انخلع عقله حين شاهده.
ولجبل جاج منظر نهاري أريد أن تعرفه. إن اتزرت سماؤنا حلقت الشمس فوق الغيم وضربته فيلوح كسبيكة فضة خارجة من تحت يد الصائغ، فالشمس عندنا تفضض لا تذهب.
وإذا استقبلت عند الدغيشة ملعب أدونيس ومرتع الزهرة - جبل الفتوح - تراءت لك سنديانة أغبة الوحيدة، الواقفة في الرقيع بين عاليه وعين الكفاع، كأنها شبح أحد الأجداد الذين عمروا هذا الجبل، وإذا أشملت نظرك رأيت البحر كشقة كرمسوت تلبق بعشاق البرفير والأرجوان.
كثيرا ما يصعد الدخان عند أقدام السيد المتكئ فنحسب الناس يبخرون ضيفهم الدائم، ويستنير الأفق قبل وصول راعي النجوم فتخال نارا توقد خلف جبل (القرين) وتوشك أن تحرق شعور بنيات الجبل، ثم تتسع قنطرة النور وتبدو صلعة ملك الليل كرقيب يتسرق من وراء جدار، حتى إذا قارب قرصه الثلثين خلته قاووق جدي الخوري لو كان طوبه البابا وصوره داود القرن.
وإذا علا القمر ذراعا تأخذ الظلال في الهرب من وجهه واحدا خلف واحد، كعذارى لبنان القرويات من وجوه الزائرين. ظلال تمثل للشاعر دنيا لا يحلم بها إلا من كان كشاعر بنت الرقمتين يرى بعينيها وترى بعينه، وإذا علا القمر قامتين اشتد البهق وتوارت الأشباح في الكهوف، واختفت في الأودية هاربة من وجه الفاتح، وتجلت كنيسة بجه تحت برقع النور كأنها قلعة فقرا.
أما وادينا الرهيب فيظل متمردا ولو استوى الملك على العرش، فهو خارجي كابن الزبير لا يبايع ولو صلبوه. ضيقت جباله علينا، ولكنها أرتنا الشمس على ضربة حجر منا، فظننا يوم كنا نحلم أن ملكوت الله لنا وحدنا، إننا ندركها بيدنا إذا استوينا على قمة (الشباع).
وإذا ترطب الهواء الغربي ظهر جبل معاد قرب الفجر الكاذب ككاهن مربوع عريض الكفل يلبس درعا من القطن المندوف مشرشر الأطراف.
هذا مشهد أراه كلما اكتمل القمر. أما المشهد الذي أراه في العام مرة فهو ليلة عيد الصليب.
أقف ليلة العيد قرب الغروب فيطير عقلي من رنين الأجراس المتجاوبة حولي في أودية ومغاور وهوى وآبار عين كفاع. وأسمع ما لو سمعه بولس حين رجع غانما من السماء، لما قال: لم تسمع به أذن ولم تره عين. فهذا يتحقق عندنا ليلة 14 أيلول.
التفت صوب الشرق فرأيت نور الشمس يزنر الجبل، كأنه يشد حقويه كبطرس، وإن لم يذهب به حيث يشاء كما أنذره معلمه، وصعدت نظري إلى قرنة حفرون الناتئة كعرف الديك، فخلت يسوع والشيطان واقفين عليها يتعاتبان. يذكره إبليس بفرصة ضيعها، ويعرض عليه الدنيا مرة أخرى، فعجبت واعجب معي أنت لشيطان يعرضها على ربه! وإن قلت لكاهن هذا يدور بك حول (الطبيعة الإنسانية) حتى تدوخ، وإذا قلت شيئا آخر قال لك (بحسبما هو إله) وهكذا تكون دائما بين نارين مع (المحامين) عن الله، وهم كالهر لا يقع إلا واقفا، فارمه كيف شئت .
وكأنني رأيت الجدال انتهى بقول عدو البشر للمخلص: هذه شواربي احشها إن ظهرت لهم ولم تأكلها، ولكن السيد تغلب أيضا على جبل جاج ولم يدخل في التجارب، وإن لم يتجرأ على الظهور فهو يعرف ما عنده ويحب السترة.
أخذتني هذه الأفكار حتى بدت أنوار العيد، فصعدت إلى (قبة الوادي) ودقت أجراس الجوار، فحسبت داود قام وهو يرقص ويرتل للتواب الرحيم، وعينه على أوريا أخرى، لا تستبعد حديثي، فمن عين كفاع أسمع ثلاثين جرسا وأكثر تدق كلها في تلك الساعة، فتصور كيف تكون؟ ثم علت التهاليل على القمم، فخلت كهان الكنائس المتهدمة نفضوا غبار القبر وتجمعوا على الذرى يصرخون مع الصارخين: محبة بالمسيح كيرياليسون.
وبين تهاليل الفتيان وهتاف الصبيان وتسبيح الكهول والشيوخ، تندلق ألسنة النيران من رءوس وأحشاء الجبال، كأنها ألسنة أفاعي الشك، ثم يتعالى الدخان كسلم يعقوب المشهور فتقول: هذه ساعة القيامة والدنيا تحترق، كما زعموا، وتحسد المستعدين، وهكذا تستحيل بقعتنا معبدا منيرا، فتغبر الفقاقيع الغائمة على كأس الفضاء الذي يشكل عندنا كأس شمبانيا. وإذا جاز القاطع والمانع في التشبيه كما يحلو في المنطق قلت: محيطنا كقشرة بيضة - كبر ما شئت - نصفها من الغبراء، والنصف الآخر من السماء.
تخيل أنت ما تشاء، أما أنا فأصف ما أرى، وإذا لم تصدقني فشرفنا بزيارة.
لاحت لي طغمات الوقيد على رأس جبل (بوشال) كصفوف عسكر في الجبهة؛ لا تضمحل فرقة حتى تتقدم أخرى، والدخان ينعقد فوقها كليل بشار، ولكنها حرب بلا رماح ولا سيوف. فالكواكب لا تتهاوى.
تحلق الأنوار على الجبال، كأنها جراحات السيد تفتحت على التلال لتغرق الكتبة والفريسيين بطوفان أحمر، أو كأن للجبال عيونا محمرة تتفتح على الأمة الجريحة، ثم تنطبق خوفا من جلال المشهد. وتسمع خشخشة الهشيم المحترق، كأنها فحيح الثلابين، وكل هذه الأصوات تتحد لتصير صوتا واحدا يهتف مع المعيدين: محبة بالمسيح كيرياليسون.
إنهم يكرمون المسيح باللهيب ويسوع كان لهيبا حقا، كما قال الشاعر السرياني في بيلاطس ومحكمته: قامت القشة على الكرسي حتى تدين اللهيب.
إن نار تلك الخشبة ستظل متقدة ما دامت الإنسانية في حاجة إلى نار ونور، فمن للمقهورين غير الناصري الشهيد، فهو إمام المجاهدين، ومن يقتد به لا ييأس. فسلام عليك يوم ولدت، ويوم تموت، ويوم تبعث حيا.
أهلا بك يا سيد، ولكنك طولت الغيبة. عجل عجل.
لو ترى محبة بالمسيح كيرياليسون تطير عن رءوس الجبال كالعقبان وتتصاعد من الأودية كاليمام، لهتفت معهم: هاللويا كيرياليسون. فما أعظم هذا الضعيف وما أسعده، ولئن طرد من القصور فهو سيد الأكواخ ولا يذهب من مخيلة الشعراء.
عظيم هو هذا المصلوب. يدفئ أنفاسنا ميلاده، وتفرح معنا الأرض بقيامته، ونودع الصيف بمهرجان صليبه.
إن جبال بلادي أبهج منظرا، وأعطر روائح من جبال الأرز كما قلت يا رينان. فلو تراها ليلة هذه المحرقة البريئة لقلت أكثر، ولو رأيت محبة الناس ليسوع ليلتها لتيمك حبه.
يخزي الله من يكفرك، ولكن الذي كان في أورشليم كالدجاجة الغريبة صار عندنا أغرب.
حللت يا يسوع محل ابن عمنا العاشق، وإلهنا الولهان الطماح، فأهلا وسهلا ومرحبا.
علمتنا: أعطنا خبزنا كفاف يومنا فهات خبزا.
إننا ننسى ليلة عيد صليبك أوجاعنا، ونصدق من خبروا أنك حملتها عنا، ولكن صباحنا أسود. إن خيراتنا بين أيدي هؤلاء المهللين ليلة عيدك، والمتوجين في صباحه، والمعجن عدو الرغيف.
أعطينا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فأصبحنا على الأرض البيضاء، فهل عندك تعليم جديد تبلونا به لنؤجر؟
البشرية كلها علينا، والدينار الذي رأيته في القدس نام مثلك في الحبس. قلت: لا تعبدوا الربين فتركناه وتبعناك، فانظر ماذا تعمل لنا، هات ما عندك يا يسوع فالاتكال عليك.
هل من هرقل يخلصك من أكاسرة اليوم؛ لنعيد لك عيدا جديدا؟ هل من هيلانة تنجيك من الرطوبة التي ألبستك قميصا من الزنجار، أنا والله خائف عليك من الاستسقاء.
سلام أيها القروي، والمجد لك يا ابن الضيعة. (نوروا) يا مساكين، نور الله عقول رعاتكم، إن بساط الصيف واسع، أما الشتاء فطوبى لمن يقطعه. إنه يعيش عمرا جديدا. تعللوا بقول معلمكم: من يصبر إلى المنتهى يخلص.
عظموا الخشبة بعد ثلاثة عشر قرنا، واسألوا الله أن لا تسوس.
وقرب نصف الليل انتهى الفيلم، فقعدت منهوكا كمن قطع عشرين واديا، وهبط ربعي عن التلال، وجرى حديث عن الرب يسوع سأنقله إليك فلا تلج بحياة ربك، وإذا عذرتني كما عذر جارته بنت المجدل فربحت سعادة الدارين، نعمت وإياك هناك بجيرة ذات النورين، ليت لي ولك ربع حظها.
مجلس القرية يلوم الحكومة
لا نعني بمجلس القرية المختار والعضوين المعينين من الحكومة. فمجلسنا هذا لا ينتخب ولا يعين، ولا يتقيد بعدد، وليس له نصاب قانوني؛ قبته سنديانة الكنيسة ودورته دائمة، قبل القداس أو الزياح. نعقده حيث نجتمع؛ في السهرات، في عيادة المرضى، أو السلام على الغائب، فالسلام عندنا يحل على من يغيب عن الضيعة ولو يومين.
من حضر باع واشترى فالأمر شورى بيننا، ولا خلاف على الرئاسة، فما أحد خير من أحد إلا بالصحة والعافية والرأي السديد. فإذا دارت الغربلة والبخل حسبتك في طاحون أنطلياس، لا محاباة ولا شفقة. المجلس دينونة رهيبة، ومن يشهده خال أنه في وادي يوشافاط، والويل لمن ساءت سمعته وقلت هيبته، فالمجلس يشجبه ولو كان رأسه ينطح السحاب.
أما الاجتماع الذي أحدثك عنه، فكان مساء الاثنين 16 أيلول، فأكثر القرية ينتظرون صاحب البريد عصر الإثنين أو الجمعة، وهو لا يخرم ولا يخلف الميعاد. استبطأه الناس ذاك النهار فتفرقوا ليتعشوا، وعشاء القروي مع غياب الشمس، فكأنه صائم رمضان أبدا.
نهق حمار صاحب البريد في سفح القرية عند الدغشة فرددوا: جاء، جاء. وازدردوا لقمتهم ملهوفين، وعادوا إلى الاجتماع على سطح البئر، وإن شئت تعبيرا جديدا قلنا لك (الفيرندا) لا السطح والمسطبة.
كانوا فيما مضى يسألون بطرس - البوسطجي - عن المكاتيب المضمونة الحاملة بشائر الفلاح، لأهل الكادحين عبر البحار، ولكنهم صاروا غير مرغوب فيهم حتى في السنغال، أما اليوم فكل بضاعة البريد وطنية؛ بلاغات محاكم، وإنذارات، رسوم مسقفات ومسكرات، وغرامات يجود بها بعض الجنود الخيرين على من يفتح باب بئره، أو لا يعمل السدادة باطونا أو حديدا. فباتوا في هذه الأيام الرحراحة يتهافتون على الجرائد. كل يتناول واحدة من الصحف والمجلات التي ترد علي. الجميع يعنون بأخبار الحرب؛ فالملسوع يخاف من جرة الحبل، فحرب الأمس أهلكت نصف سكان القرية، وسكرت حارة برمتها. أستغفر القلم والذاكرة بل فتحت أبوابها وسقوفها، أما اليوم فعادت الضيعة كما كانت من قبل نقدا وعددا.
كانوا يتوقعون أن تعلق الحرب بأوروبا فابتدروا سلاحهم؛ من خروب ما كانوا يبالون به، فصح قول المثل المحلي: جاء من يعرفك يا خروب، وثمار لم يكونوا يحرصون عليها لو لم يتذكروا كيف كبرت قيمة التين وابيض وجه الخروب، فصار دبسه سيد المائدة زمنا، ككافور في مصر.
بشرتهم الصحف بالسلام العالمي، فدعوا للآفال ولجنة الخمسة، وحيوا الأساطيل الإنكليزية الساهرة على السلام بأعين لا تنام، وانصرفوا إلى الأخبار المحلية، فلفتت نظرهم الموازنة فتداولوا حديثها. أما ساعي البريد بطرس فما وعى شيئا من هذا، انبطح يشخر، وكيف يسهر من يطوف زهاء ثلاثين قرية في الأسبوع مرتين، وفي خرجه مئات الرسائل المضمونة التي تفتقد بها الحكومة رعيتها، وتحصل الغرامات.
وخف عدد الناس فصعدنا إلى (قبة الوادي) لأن الليلة كانت حرة، فقعدنا حلقة على الحصير كأننا في حلقة النظام، أو أحد المحدثين. بضعة عشر شخصا كل وجريدته، وبينا أنا أفتش في صحف فرنسا عن نبأ الكاتب الشهير هنري بربوس إذا بواحد يشق الحديث قائلا: هه، صدقوا الميزانية.
فاشرأبت الأعناق وقال واحد: أية جريدة معك. - صوت الأحرار.
وقال آخر: كم مليونا.
فأجاب: أربعة ملايين و... و... وكسور.
وسأل أكثرهم: والطريق ...
وكان سكوت وتغامز، أما أنا فنمت عن هذا الحديث وتشاغلت بصحيفتي. إن قصتي مع قومي، وكلهم خير مني، كقصة الأرملة وطبختها لبنيها. وهل وعود حكومتنا غير هذا! أما تلك فجاءها عمر وكيس الطحين على ظهره، أما نحن فقدرنا لا تزال منصوبة على الموقدة والطعام لما ينضج، غير أننا ما نمنا ولن ننام؛ فالجوع فضاح.
فنهرني شيخ مجلسنا ونهزني قائلا: أيش بك، احك. اكتب للدباس.
فضحك فتى منا خفيف، فخفت أن يغضب الشيخ لأنه شواط، فتواضعت له وقلت: يا خال، الدباس مات، وموعد وصول جثته من فرنسا يوم عيد مار روحانا (29 أيلول).
فهمد كالمخجول وقال: أنا ما عرفت! الله يرحمه، عمله مليح مع جيرتنا، من الريس اليوم؟
قلت: حبيب باشا السعد.
فقال: عال عال. إذن اكتب للباشا.
فأجبت: عرضنا له عام أول.
فابتدرني قائلا: أنت ومن؟
فضحكت، لأن ضمير الجمع معدوم عندنا، وقلت: أنا وأنتم.
فقال: وأيش صار.
قلت: ...
فهز رأسه وقال: هيهيء، وأطرق طويلا.
واستلم الحديث شاب فقال: الطرق تعني مدير النافعة، لماذا لا تحكي معه؟!
فقلت: حكيت. ويشهد لي الصديق كرم ملحم كرم.
فقاطعني قائلا: صاحب ألف ليلة وليلة.
فقلت: نعم هو بعينه.
فاعترض آخر وقال: عليك بمدير الداخلية.
فقلت: كلمته في بيت صديقي نسيت عازار، في غرزوز. ورأى أحدهم أن المحافظ يقدم ويؤخر، فأجبت: كذلك فعلت في غرزوز، ثم ذكرته في عاليه.
وقال أحدهم: والقائمقام.
فقلت: آخر حديث كان بيننا يوم عيد مار يوحنا (24 حزيران). سألني إذا كان عندنا مشاع فقلت له: الضيعة كلها مشاع. ووعدني بزيارة، وأظنه فزع من الطريق فتأخر.
فقال أحدنا: يا هو، نسيتم النواب.
فأجابوه: النواب يسألون عنا ويعرفوننا قبل الانتخاب، النواب مساكين ما بيدهم شيء.
أما شيخنا فاحتد وانتخى - هو خائف أن يموت ولا يصلي عليه المطران - وأخذ يشيخ علي: يظهر يا خالي أنك تعرف تخربش على الورق، وتطقطق على الآلة (الآلة الكاتبة) ليل نهار. خبرهم عن طريقنا أنها أهم درب في جبل لبنان، (قادومية) تربط الدنيا ببعضها. ما سمعت حكي الجرائد عن سيدنا البطرك؟ لا تتعجبوا، البطرك ملزوم يمشي! المجمع اللبناني يأمره بزيارة أبرشيته، هكذا قل لهم حتى يعرفوا حالهم.
فعلت ضحكة أحس بها الشيخ - مع أن الفتى أكل ثلاثة أرباعها - فعقد حاجبيه ودار ثم قال لي مشيرا إلى الشباب: أولاد! الحكي معهم ضائع. يا مارون، ما قلت للحكام إننا دفعنا ربع المجيدي، ونصف المجيدي، والليرة، والربع. منذ سنة الستين إلى اليوم، والحكومة ما صرفت بارة واحدة على دربنا، لو ردوا لنا مالنا بلا فائض عملنا أحسن درب في لبنان كله بلا جميل مخلوق خلقه الله.
فقلت له: قلت لهم كل هذا، وقلت لهم أيضا: إن الحكومة اعتبرت دربنا فعدتها من (المنافع العامة) بقرار سجل في النافعة تحت رقم 2116 بتاريخ 22 آيار سنة 1932 وقلت لهم: إن شق الباقي - 6 كيلومترات - يربط الشمال بالجنوب وتنفتح أقرب درب إلى الأرز وقلت ...
فكأنه رثى لي فقال: طيب، طيب، يظهر أنك قلت كثيرا. لماذا ما سمعوا لك؟
فأجبته: لا أعرف! فهز رأسه واحتبى. فقال واحد: كل هذا تعب باطل، ما لها إلا الفرنجي.
وبهتنا محيرين فضحك شاب من عادته قراءة الجريدة من العنوان إلى الإعلان وقال: خبر كويس.
فأصغينا إليه، فقرأ علينا خبرا أذاعته جريدة الراصد، وهو أن مدير الداخلية طلب من القائمقامين تقديم تقرير عام عن حالة كل قرية ودسكرة، ومبلغ حاجتها إلى الإصلاح من ينابيع شحيحة وملوثة وأمراض.
فهتفوا جميعا: نشكر الله، لا ينابيع ولا أمراض.
فقال: اسمعوا. وأتم: والطرقات اللازم فتحها وإصلاحها، فصاحوا جميعا فرحين: جاءت وجاء بها الله.
وخفتت أصواتنا فقال واحد مشئوم: اقرأ تفرح، جرب تحزن.
وقال آخر لعين جدا: إذا وعدتكم الحكومة بضريبة صدقوا، أما إذا قالت لكم أعمل الطريق فيا طولها غربة.
فهز الخال رأسه وقال: إذا بقينا على ما نحن كيف يزورنا سيدنا البطرك، أظن الحكومة مهتمة بالطرق لهذا السبب.
فتبسم الكثيرون، فعدا الشيخ طوره، وكاد يخرج من جلده، وصاح بنا: عيب علينا أن يجيئنا البطرك ماشيا. ثم هدأ لحظة، فصمتنا نكظم الضحك، فقال لنا: بدا لي فكر.
فقالوا جميعا: هاته يا بو يوسف، فأجابهم: غدا متى جاء سيدنا احملوه من أول (خراجنا) إلى آخره؛ لئلا تصيبه مصيبة عندنا تصيرنا مثلا بين الناس. استرنا يا رب.
وتحرك للذهاب، فنهضوا جميعا كأنهم معلقون بخيط واحد.
أما ما أقره (برلماننا) قبل الانصراف فهو أن نقطع الصفحة السادسة من عدد الأحرار (20 تموز و24 آب) ونرفعها إلى حضرة مدير الداخلية، مع العريضة التي نصوها هم، وإليكها بعد الترجمة:
تطلبون إفادة القائمقام عن قريتنا، فلكي تعجلوا في شق طريقنا - وزاد الشيخ: قبل حضور غبطته - وتحسبوا حسابنا في الميزانية الجديدة ، أرسلنا ما كتبه أحدنا مارون عبود عن قريتنا وطرقها، فإذا لذلكم (النحو) قرأتم ما كتب، وإن أعجبتكم البساطة قرأتم عريضتنا هذه، ثم سردوا موقع الطريق وعلاقتها القديمة والجديدة بالجمهور. وغب الفحص والتحقيق إذا لم تصدقونا تتضح لكم حالنا وحاجتنا إلى الطريق، وأننا بقينا وحدنا بلا درب، فإن كنا محسوبين من رعيتكم تشقوها لنا، وإن تتعذروا عن شقها كلها أوصلوها إلى أول خراجنا، ونحن نتكفل لكم بإيصالها إلى ضيعتنا، وتسليمها لجيراننا أهالي صغار، وجربتا، وتولا، والبقيعة، وضهر أبي ياغي، وشويت، وهكذا نربط البلادين: جبيل والبترون، والمحافظتين: الشمال وجبل لبنان، ويصير عندنا طريق تمكننا من بيع العنب والتين والزيتون والإجاص والسفرجل، وإيصال دخاننا إلى مستودع الشركة بالوقت، فلا تغرمنا وتخرب بيوتنا، وحينئذ نقدر على الدفع للجباة ولا نردهم فارغين. كثيرون منا يا أفندي يموتون ولا يلحقهم طبيب ولا دوا، فأطباء البلاد نزحوا، والفرمشيات سكرها أصحابها، فأملنا أن تلبوا طلبنا الزهيد الذي لا يكلفكم إلا خمسمائة ستمائة ورقة، أنتم من خير المولى تنفقون بكرم وجود ألوف ليرات على تقويم حيط، وتصرفون ألوف الليرات تعويضا لواحد من المأمورين ما خسر شيئا في حياته بل ربح كثيرا وضب، فاحسبوا - لا سمح الله بذلك - أنه كان منا موظف وصرفتم له تعويضا، فاصرفوا لنا مثل هذا المبلغ وسموه مثلما تريدون: قرضا، تعويضا، حسنة لوجه الله، نحن قابلون بذلك وإن كان لا يساوي قيراطا من أربعة وعشرين مما دفعناه وندفعه إلى الصندوق منذ سنة الستين إلى اليوم، إن الذي يأكل ولا يطعم تذمه الناس، ونحن نعرف الحكومة كالأب، والأب لا يفرق بين أولاده حتى المعاتيه منهم، وفي الختام نشكر مساعيكم المشكورة ودمتم بخير سالمين.
حاشية:
إلى مدير الداخلية السيد صبحي بك أبو النصر.
هذه صورة محضر مجلس القرية نقلتها بحروفها، وسأنقل أيضا شيئا كثيرا بكل صراحة، ولولا تعميمكم ما وجهوا خطابكم إليكم، فعسى أن تحيط بها المراجع علما فقد أغلينا الورق وما من مجيب.
وأزيد حضرتكم علما أن متمشرقا كبيرا شاء زيارتي في لبنان فأجبته: إذا جئتنا في عيد الفصح تجدني في عين كفاع، فإذا كنت رياضيا كجماعتك الإنكليز، فاستعد للسير على قدميك في طريق قلقة المجاز، تتعثر فيها المعزى. فتعجب الأستاذ كيف يكون هذا في جمهوريتنا السعيدة بطرقها الرئيسية المزفتة العريضة كشوارع لندرة، حتى تنازل وقال: يظهر أنكم توجهون بضاعتكم.
إن هذه الصراحة التي أخاطبكم بها قد خسرتني الكثيرين من أصحابي، عوضني الله من هؤلاء جميعا بصداقتكم التي أخطبها وأتمنى أن تكون كشهر الصوم في الطول.
رسالة إلى الرياس
إليك يا سيدي الرئيس، أوجه - بعد السلام - أول كلمة تصدر عن عاليه. لا تتعجب أن أسلم عليك بالرئاسة، وقد سقطت من يدك، فنحن الجبليين نقول مع تلميذ لأمنه: من صار كاهنا مرة كان كاهنا إلى الأبد. فالخال بو يوسف ظل يحسبك رئيسا حتى 16 أيلول.
أكتب إليك لأبلغك عرفان جميل قرية مهملة تحترم الأموات أحسنوا إليها أم أساءوا. أنت لم تحسن إلينا بيد أنك ما أسأت قط، فلا أدري كيف أصحح فيك قول المتنبي:
أنا لفي زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان وإجمال
فشقكم الطرقات محتجين بإيصالها إلينا، ثم وقفها على أبواب الأديار أفسد معنى البيت، فلا أدري كيف جوزت هذا وأنت وعيت في صدرك قوانين الدول كما قال الدكتور فياض في تأبينك.
سيدي:
ما مشينا في ركابك، ولم نمر أمام نعشك، إلا أننا - علم الله - أسفنا جدا على شبابك المتقد، وثقافتك الواسعة العميقة، عذرنا واضح يا سيدي، حاولنا تأليف (وفد) لنظهر بين الناس، وإن كان الظهور يقطع الظهور، فحالت دون رغبتنا وعورة الدرب، لا تظنني مبالغا، فبالكد كنا ننقل الذين يمضون لسبيلهم من مستشفيات بيروت، نقع ونقوم مرات تحت النعش. يؤيد ما أزعم بيروتيون كرام شيعوا معنا جثمان نسيبتهم، أدال كيرللس عبود، منذ سنة ونصف، ففاضت ألسنتهم بالأدعية الخيرية للحكومة الساهرة على راحتنا!
ستأسفون يوم يبلغكم تأخرنا، عفوا، بل فقدان بضع حلقات من سلسلة الموكب، وستندمون حين تعلمون ما فعلت القرية الصغيرة التي لم تخطر على بالكم واستهنتم بها.
اجتمعنا - مجلس القرية - بعد 16 أيلول مرة واحدة ، واتفقت كلمتنا على تعطيل العيد الكبير(عيد مار روحانا 29 أيلول) حدادا
1
عليكم واحتراما لوصولكم ميناء العاصمة، فلم ندق الجرس إلا بضع ضربات حزن؛ إيذانا بحلول الصلاة مساء والقداس صباحا، ولم نحرق القندول والبلان والكاز على سطح الكنيسة، ولم نشعل القناديل، فكانت الضيعة خرساء سوداء، لا دق جرس ولا تنوير، ولا مجال (قول) ولا رقص، ولا زمر، ولا (دبك) حتى القداس كان صغيرا.
اسأل القرية فأنا (واقعي) في أحاديثها، كل هذا فعلناه بلا دعوة، ومن يدعونا ونحن ما زلنا منسيين كما كنا في عهدك، فعسى أن يفيد هذا الدرس، فلا نهمل ولا ننسى غدا.
الكلام بيني وبينكم، الظاهر أن الحكومة ما دعت إلى مأتمكم إلا من (قيدت) أسماؤهم في دفتر (القروض) التي ابتدعتموها، فحققتم أحلام كل قرية ودسكرة كما قال صديقي صاحب البيرق، ولكن أظنه يذكر جيدا أن أحلامنا نحن ظلت أضغاثا، ما أقرضتمونا؛ لأنه لم يتوسط بيننا وبينكم غير (حقنا). خطيئتي عظيمة يا مولاي، ليتني تركت قومي يتوسلون إليك ببطاقات من يمنحون البركة الرسولية والدعاء الأبوي.
لا أدري إذا كان بلغك أن كثيرين لم يلبوا الدعوة هون عليك لا تتعب يا أستاذ، هذا حالنا. نحن مع الواقف، والمولي ما له صاحب. لقد علمناهم درسا عميقا من دروس المروءة والوفاء، فلعلنا لم ننفخ في رماد.
كأنني أراك تحك رأسك وتقول: عين كفاع، عين كفاع تذكر جيدا، تفطن مليا، تذكر كتابي الأخير المسجل في بريد جبيل المذيل بكلمة شخصي، ففيه (مصور) الطريق، وفيه وعد صريح بتخليد اسمك في صدر جبل (القطين) الجبار، كالفاتحين المرقومة أسماؤهم عندنا على صخور وادي حربا.
2
وبعد، فالماضي مضى، عسى أن يكون الحق حبيب الله في (العالم) الذي صرت إليه، وليس في عالم (الآخرة) قرية مهملة مظلومة كعين كفاع ننقل إليها ونعلق بها إلى الأبد. يعد (المجلس السماوي) طريقها من المنافع العامة لتصل إلى قصر مار بطرس وبولس، وتقف على باب كرسي مار يوحنا فم الذهب، ونبقى نحن بلا درب، حتى في الملكوت، إلى دهر الداهرين.
أنا خائف كثيرا من هذا، بحياتك تطمئنني والسلام عليك.
وداع الرئيس حبيب باشا
اليوم سلم شيخ لبنان مقاليد الحكم إلى فتاه، ونعم الأب والابن.
أبى القلم إلا أن يودع فارسا جالد عشرات السنين، وشيخا مفردا حمل على منكبيه أثقال جبل وأهوال دهر.
ففي كل طية من جبينه تستريح أمنية متعبة، وتحت كل شعرة من مفرقه يرقد أمل منهوك.
ما كان قط إلا قائدا، شابا وكهلا شيخا، فكأنما ولد للعظائم.
ما عجن لبنان وخبزه رجل مثله، ولا رأى أحد منا ما رأى ابن هذا البيت.
فمن عهد الإقطاعات، إلى زمن المتصرفية، إلى يوم الانتداب، والحكومة قائمة قاعدة في بيت سعد الخوري.
لست أؤرخ الآن، فادرس تاريخ سعد فهو تاريخ لبنان الحديث.
فيا ابن البيت الذي (ذاب) في حب لبنان، إننا نحييك.
إننا نودع رئاستك شاكرين حامدين، فما أبقيت من جهدك شيئا.
لئن غاب شخصك عن الديوان، فرأيك ماثل في كل مكان.
يا أبا اللبنانيين.
يا ابن بيت الجبل.
أيها الوجه اللبناني المجيد.
يذكرنا محياك سيماء لبنان المحضة.
السيماء التي يبتلعها الأفق رويدا رويدا.
سيذكرك لبنان بالتعظيم، ويعلم أنك كنت حاكما له وأبا.
تهش للقمر وترحب بالمثقف، وتداور العنيد الوقح.
خدمت بلادك حتى أعييت، فأنت بالراحة الجليلة جدير.
فاجلس على عتبة بيتك، وانظر إلى البستان الذي حرثت حتى المساء.
لقد سقيته عرق جبينك، ودفنت مع كل حبة ذرة من حياتك.
لقد ألقيت منجلك التي فضضها الحصاد، فبارك الآتين بعدك.
هنيئا لمن تحل عليه بركة اليد النظيفة.
الرءوس تنحني باحترام أمام اليد العليا.
أما اليد السفلى فتزدرى.
سنذكر ولايتك مرددين قول أبي الجهم في معاوية:
نميل على جوانبه كأنا
إذا ملنا نميل على أبينا
نقبله لنخبر حالتيه
فنخبر منهما كرما ولينا
عمرك الله ما لبقت بك الحياة.
فبقاؤك أمل أشهى من العنقود.
ورجاء أخصب من الحبة.
بمناسبة الدستور والاستقلال
كسائي كسائي إنه الدرب بيننا
فلا تدع النغر المخوف بلا درب
هذا ما قاله ابن الرومي في الدرب، والدرب حديث ابن عين كفاع فهو يتوجع ، وإن لم يبك كصاحب امرئ القيس لما رأى الدرب دونه، قالوا للجوعان ثلاثة وأربعة فقال: سبعة أرغفة. وأهالي عين كفاع المحرومون من حق المرور إذا وعظهم الخوري قائلا لهم بلسان المخلص: أنا هو الطريق، والحق، والحياة، جدفوا في قلوبهم حانقين على من هضموا حقهم في الطريق التي هي الحياة.
طريق عين كفاع مشكلة دولية قد لا تفضها جامعة الأمم، فكلما داويت جرحا سال جرح، جعلت في ظل جمهورية الإخوان وأبناء الأعمام غاية مبررة لوسائط ساداتنا الأحبار المحترمين، فتمسحوا بنا كتيس الخطيئة، ولما تراءت ظلامتنا بعد حين لفخامة الرئيس السابق «حبيب باشا السعد» أدرك أن الطريق هي العلاج الشافي لجراح القرى والمزارع السبع فأمر بشقها، ولكن مبضع حضرة مدير النافعة تحول عنها، إما لأنه كان يداوي الجرح الأقوى، وإما لأن قلبه رقيق لا يحتمل فظاظة الشق، كان موعدها شهر آذار فنسيها كما قال، وهكذا انقض علينا آذار الهدار أبو الصواعق والأمطار، فترك الدار تنعى من بناها، وعدنا نبني من جديد فتصدى لنا (العجز) وصح بنا قول المثل: لسوء حظ الحزينة سكروا المدينة. أما اليوم فالقرية سكرى بالآمال تحلم بالحياة والمساواة، وإن شاء الله يشرب الكمون. •••
الليلة مساء الجمعة، واليوم عيد رهبان مار مارون، وهؤلاء قديسون طاروا إلى السماء رفا واحدا، 350 شهيدا، فأحدث وصولهم لبكة في الملكوت، كما يحصل في الفنادق الكبرى عند وصول أفواج السياح، أما مانحهم إكليل الشهادة، أي قاتلهم، فهو أخوهم بالرب الأسقف ساويروس من أتباع أوطاخي وديوسقوروس، قتلهم لتمسكهم بإيمان المجمع الخلكيدوني، وكم قتلت رؤساء المذاهب من أبرياء وأبادت من شعوب وأمم.
لهؤلاء الشهداء إخوة عندنا - الضمير يعود إلى عين كفاع - فالأسطورة تروي أن دير القطين العظيم - راجع آثار لبنان للامنس - كان مأوى رهبان أتقياء قتلوا كإخوتهم رهبان مار مارون، ولم يعصمهم سور الدير الحصين القائم صامتا كئيبا في وادينا الرهيب كجبار مقهور. لهذا تغالي عين كفاع في احترام هذا العيد المثنى، ويذكر أهلها بحسرة الرهبان الشهداء كلما أطلوا من أبوابهم الشمالية، ووقعت عيونهم على هذا الدير الخرب ، الذي لا يشبهه في لبنان غير دير قزحيا، مخرج الشيطان من الممسوسين بعد أن يشبعه الراهب قتلا بمداسه، أما ديرنا فأروع وأقدم منه، وفي الخراب روعة وعبرة لا تقرؤها في سطور البنى العامرة. أما ماذا ينفع ديرنا المؤمنين، فصاحبته (سيدة البزاز) تغزر حليب الأمهات فيهر من ثديهن هرا، أو يجري مثل النهر كما روت لي إحدى العجائز.
إذن علمت - لا شك - أن سماع القداس في هذا النهار لازم، والبطالة عن جميع الأشغال العالمية واجبة، ومن يخالف يأثم، والأفصح - كما يعبر اللاهوتيون - يخطئ خطيئة مميتة تنزل إلى جهنم، ولا يحل منها إلا يمين الخوري الطاهرة، فننجو من الهلاك الأبدي، فالعيد - علم الله - فضيل كما قال محمد محسن عضو مجلس إدارة متصرفية لبنان في عيد مار ساسين الواقع يوم السبت فاقترح تعطيله وقبل اقتراحه بالإجماع، فشم المجلس الهواء ثلاثة أيام، ذكر فيها بالخير إبراهيم صادر صاحب المفكرة التي هدت محمد محسن إلى قديس اسمه ساسين نفزع به الأولاد كيلا يتشيطنوا.
وكانت للعيد أروع بهجة هذه السنة؛ لأن المهندس وديع بعقليني أنهى ليلته تخطيط الطريق، فكان القداس وصلواته وتضرعاته وابتهالاته من نصيب فخامة الرئيس، أما فخامة الباشا الحبيب فأخذ نصيبه في حينه، ولا يزال الدعاء له ملء الأفواه.
وليوم الجمعة عندنا ميزة أخرى لا تفارقه، فهو موعد وصول صاحب البريد. فلو مات - مثلا - عزيز علينا يوم السبت مساء لا يجيئنا نعيه قبل مساء الجمعة أي بعد أسبوع، فيصح بنا قول المثل: يا معزيا بعد حين يا مجدد الأحزان. يقول المثل اللبناني: إذا كذبت بعد شهودك، أما أنا فشاهدي في يدي وهو ختم البريد وخبري فرح - يقطع الموت من الدنيا.
دعتني لجنة دار الأيتام الإسلامية لحضور الاحتفال بالأستاذين أحمد أمين، وعبد الرحمن عزام المصريين، وسماع محاضرة أحدهما أحمد أمين، وأنا ممن يحترمون اجتهاد أحمد الأدبي، فأرسلت كتابها إلي يوم السبت 25 تموز فوصلني الجمعة مساء، بعد الحفلة بيومين. •••
قد أدركت بعد ما قدمت لك أن سهراتنا ستكون حافلة. نعم يا سيدي، وإنها من ليالي الدهر ، بحث فيها (مجلس القرية) شئونا هامة. وقبل تسجيل وقائع جلسته الخطيرة لا بد لي من أن أعرفك تواريخنا، وحدودنا، ومواقيتنا. الحدود والتخوم في عين كفاع كهوف ومغاور، فلو سئل أبو يوسف أين حصدت اليوم؟ أجاب: عند مغارة القطين. ولو سألت المعاز أين سرحت المعزى الليلة؟ قال لك: عند مغارة البابين. ولو سألت الصبيان من أين أكلتم عنبا وتينا؟ أجابوك: من عند مغارة الفتاح. ولو قلت للصبايا الحاملات العنب المتلالئ كثغورهن، من أين هذا؟ قلن لك: من عند مغارة طنوس فرنسيس. ولو سألت الناطور: أين رأيت أثر ديك فلان، ودجاجة فليتان؟ قال: عند مغارة القس مرقص أو مغارة القرقفة، ولو قلت لناظر يحملق: ماذا ترى؟ قال لك: رجلا فوق مغارة شير بنور لعله فلان. ولو خبرك الشيخ عن بطولته في أيام عزه قال لك: كنت معهم عندما كبسنا اللصوص في المغارة السودا، يوم عيد مار إلياس، وسلمناهم لطالب بك - مدير جبيل قبل ولده الشيخ وديع، حاكم بيبلوس.
أما مواقيتنا فصلوات، فهم يقولون جانا الجابي صلاة الظهر، وجا عداد المعزى عند صلاة الرهبان، ووصل المهندس بعقليني عند دقة الصلاة، وكبس مفتش المونوبول الضيعة والناس في الزياح، ورجع المرسال قبل القداس.
أما التواريخ فأعياد، يقولون: ولد حنا يوم عيد مار بطرس، وتزوجت صابات يوم عيد ماريحنا - يوحنا - ووقع البطرك إلياس عن البغلة قبالة عين كفاع يوم عيد جميع القديسين - وعيد جميع القديسين في الكنيسة كالجندي المجهول في الدولة - ووصل جرجس من أميركا ليلة عيد مار روحانا - قديس الضيعة - ومات صباح الميلاد، وكانت زلزلة (سنة 1918) ثاني عيد مار روحانا، وانتهت الحرب يوم عيد مار شليطا، وماتت بقرة فلان ليلة الغطاس، وهكذا.
والقرويون يعتقدون باختصاص القديسين، فكل قديس مختص بمرض، يشفي منه أو يبلي فيه. فهو يفعل الأمرين، كما يقول الشاعر: إذا أنت لم تنفع فضر ... إلخ، وبعض القديسين يخنق أيضا، ولذلك ينذرون لهم عند وقوع أقل عارض لهم. فسبحان مقسم الرزق على عبيده الصالحين في الحياة والممات. فالقرويون يتوقعون الري يوم عيد مار شليطا (20 تشرين الأول) شفيع البقر والحمير، وينتظرون نزول السماء يوم عيد مار جرجس البطل الصنديد الذي كان شفيع بني تغلب قبل الإنكليز وموعده 23 نيسان، ورية نيسان تسوي السكة والفدان، والخضر أو مار جريس أبو الحربة يخضخض البحر في هذا اليوم مفتشا عن أولاد التنين الذي قتله وخلص بنت الملك من شره. •••
أقبل الليل وأقبلوا، وسلموا وسلم عليهم بطرس - موزع البريد - اللطيف الأمين، وجلسوا كل على هواه، وتناول من يقرءون منهم الجرائد بلا إذن ولا دستور. وتحدث الآخرون عن أعمالهم اليومية، عن بيادرهم، عن مصيبة أحدهم بموت بقرته على البيدر وانكسار فدانه، وعن مؤاساة الضيعة له، والمؤاساة أحسن مزايا القرى، وخير ما فيها سلامتها من المن، وكان حديث العنب فأثنوا على كرم (الكساير وشحواتا) لأن عنبهما يحلو قبل الكروم كلها، وكانت المفاضلة بينهما، كما يفاضل بعضهم بين الشاعرين شبلي الملاط وبشارة الخوري، وتحدثوا عن السفرجل، والأجاص، والزيتون، والتين، وعللوا النفس باليسر في العام القادم؛ لأن غلتهم تنفق، فدعوا للأستاذ أده بطول العمر من صميم القلب ثم جاءوا على ذكر الدستور والاستقلال، فقال واحد: نحن على ما نحن، بدستور وبلا دستور.
وقال ثان: خلوا الدستور لطلاب الوظائف الكبيرة، نحن على هذه الحصيرة.
فهز ثالث رأسه وقال: هذا كلام، الدستور مليح، كيفما دارت الحال.
فأجاب رابع: عرفناهم فوق وعرفناهم تحت، العلة من الرجال، هم نوموا الدستور في القبور، وصيروا الاستقلال للاستغلال. الدستور منفعة لناس معلومين، أيش نفعنا الاستقلال وأيش عمل لنا الدستور؟ أين الضيعة مسكين ما له حظ من الحكومة إلا إذا كان له فيها ظهر قوي.
فقال واحد: إذن نحن حظنا أكبر من جبل جاج، أده ابن بلادنا.
فقال واحد بكل هدوء: هيء، أده لكل الناس.
فأجابه ذلك بلهجة القاطعة حجته: عال يا سيدي، رضينا، نحن نطلب أن يساوينا بأقل الناس، بالأرمن يا سيدي.
فأمن جاره على كلامه بقوله: وكثر الله خيره، فأعادها ذاك وقال قارئ الجريدة: كتب أده للبطرك - فتغامز الشيوخ لأنه لم يقل سيدنا - والمطارين والمفتي ومشاريخ العقل وأصحاب الجرائد وأعضاء المجلس ورؤساء الجمعيات يسألهم رأيهم في الدستور والاستقلال.
فقال بو يوسف: غنمت لحاكم. وجر (كم) حتى بلغت قانون المونوبول طولا، وضحك كالساخر، ثم عبس وقال بحدة ونزق: أيش هم الروسا والحكام، البطرك والمطارين يطلبون العشور ويأكلون غلة المفلوح والبور. والحكومة تطلب الضرائب. يا بحر الله خذ عبد الله، كل هذا ما يرد علينا شيئا.
فقال شاب متعلم: الحق مع الخال، صار أده ريس جمهورية وأخذت الجرايد تطلب وتتمنى، قولوا لي أية جريدة طلبت لنا شيئا، هل طلبت جريدة شق طريق؟ هذا لا يهمهم؛ لأن الطرقات حولهم وحواليهم، كل هذا باطل، ما يعرف المرض إلا الواقع فيه.
فقال قارئ الجريدة كالمستغرب: اسمعوا يا بشر، البطرك طلب أن يكون للأفوكاتو - المحامي - ثلاثة أصوات، وللطبيب مثله، ولل ... فأتمها واحد: وللخوري؟ فضحكنا، وأومأ ذاك برأسه أن لا. فقال كثيرون: خسر سيدنا البطرك وما درى بتقليله من قيمتنا، فقال واحد: نعم غلط سيدنا البطرك. فسمعها أبو يوسف فازور ورفع يده قائلا: يا صبي سد بوزك، فضحك ذاك، وشاءوا أن يتنادروا على إلياس فخبروه أن ليس له في الانتخاب القادم إلا ربع صوت لأنه أمي. فحمي إلياس علينا وعلى أولياء الأوقاف الذين يأكلون أموالها ويتركون الضيع بلا مدارس كما جرى في أيامه. وهوسوه فتهوس كعادته، فشهر الحرب على رجال الدنيا والدين، وسأل إذا كان القاصد الجديد وصل، فعلمنا أن المسألة ستتطور.
أما أبو يوسف فسكت عن حديثنا كأن لم يسمعه. ثم قال: في الزمان الماضي كان أعضاء المجلس من الضياع. الله، الله يا دنيا كيف تقلبت الأحوال، كيف راحت أيام فارس أفندي، وأسعد بك، والزغزغي. أعضا اليوم مساكين ما ينفعونا شيئا.
كلهم أولاد مدن، وابن المدينة ما عنده شيء من أخبار الضياع. فقال واحد: ما كلفت الحكومة نفسها وسألت أحدا من الضياع، ضاع حقنا يا ترى من سؤال بسيط.
فجاوبه أبو قصحيا: على حد سوا، سألت أو لم تسأل، الرأي الأخير لمن؟ للفرنجي.
وكانت كلمته فصل الخطاب فعادوا يستعرضون الماضي السعيد فقال كهل: العم أبو يوسف كان يقبض من موسم الشرانق وحده خمسين عسملية، أي عثمانية. من عند المغارة وحدها كان يستغل بأكثر من عشر ليرات، أتتذكر يا خال قبضة عيد ماريحنا (24 حزيران) عدوها لك قدامي على الحصيرة، كانت فوق الستين ليرة وأكثر. فابتسم أبو يوسف لذكراها الحلوة. وأشار المتكلم إلى الجمهور بلباقة: تفضلوا، اسألوه كم قبض السنة.
فتنهد أبو يوسف وأجاب: سبع ليرات، فقال أحدنا متجاهلا: ذهب أم ورق؟ فصاح أبو يوسف: ذهب يا مجنون! وأين الذهب! ورق ورق، دفعتها مال طريق عني وعن الأولاد، ويا ليتها كانت كافية.
فتنهد أكثرهم عند ذكر الطريق وقال الكهل: وكان أبو يوسف يقبض نحو أربعين ليرة ثمن دخان، كم قبضت يا خال عام أول.
فأجاب ثلاثين ورقة قبض الجابي عني منها 17 ليرة، وأعطاني وصلا بالميرة. فهمس أحدهم في أذن أبي يوسف: يسلم البيدر يا خال، فضحك أبو يوسف وقال: آيه، الحمد لله، السنة طيب، البيدر مليح ولو محل، الجابي لا يجيء صوبه.
فقال واحد: ولكنه يحجز اللحاف والطنجرة. فقال آخر: أيوة، الجابي وقح لا يذكر الخبز والملح. تعشى ونام عند سركيس، وترك له الإنذار تحت المخدة.
فقال أبو يوسف: كله هين متى وجد الخبز (اطلبوا دستور يحمي التنور).
فأعجبتهم كلمته هذه فضحكوا جميعا، وأبو يوسف كالمرحوم والده الخوري موسى يحب السجع. وهكذا عادوا إلى السياسة من حيث لا يدرون، فقال قارئ الجريدة: يطلب البعض جعل النواب خمسة وأربعين، فقال واحد: إذن زادوا واحدا على أم أربع وأربعين، وقال آخر: ما الفائدة لو صاروا مائة وخمسة وأربعين، نحن على ما نحن لا نخطر على بال أحد منهم. كل نائب يفتكر بصحابه، ونحن قش رز، أحسن رأي أن تعتمد الضيع على جريدة تطالب بحقوقها.
فقال ناقم: عجيب، كيف تغيرت الأحكام كلها بعد الحرب.
فقال آخر: عندي شرح المجلة، ولكنهم قالوا لي: إنه صار ملغى. فضحك واحد مشهور بالتنكيت فعلمنا أنها جاءت، فسكتنا ننتظرها فتنحنح وقال: أخذت أم سمعان لابنها كتاب لاهوت عتيق من عند خوري الضيعة، فلما رآه معلمه قال لها : رديه معك يا ستي، هذا بطل، فقالت له أم سمعان: يا ترى المسيح العتيق مات.
فقال لبيب: كما في السما كذلك على الأرض. فكمل واحد ضعيف العقل وهو يظننا نصلي: أعطنا خبزنا كفاف يومنا، فجاءت في موضعها وصح فيه قول المثل اللبناني.
وقال مترصن: وزاد الطين بلة قانون المونوبول، من يخرم منه حرفا خرب بيته، فالسيف مسحوب فوق رءوسنا ويقولون لنا: الاستقلال الاستقلال. وأين الاستقلال لمن لا يزرع حقله بعقله؟ وأين الاستقلال للذي لا يسحب كيسه على عيني وعينك يا تاجر؟ وأين استقلال ابن الضيعة والمزرعة ما دام تحت رحمة المفتش والورديان وبيته معرض للنبش كل ساعة، وغلته في خطر الحرق إذا أرادت الشركة. مصيبة الضياع كبيرة جدا جدا وخصوصا ضيعتنا عين كفاع.
فقال أبو ميشال: هذا الصحيح، ثم هز رأسه وصاح: والله والله، وحق جسد الرب، وحياة الله.
فسد أبو يوسف أذنيه كيلا يسمع الحلف بالله بالباطل، أما أبو ميشال فما بالى بل انتخى ووقف وقال: وحقك يا مار روحانا، فشخه - أي خطوة - ثنتين ثلاثة، لو ما كان ديب ناضر مثل السبع وركض إلى عمشيت في الليل وعملوا له تسع حقن كان مات وبليت عظامه، يا هو. لو كانت عقصت الحية عمي مارون من كان حمله إلى عمشيت! كان مات معنا على الدرب، اشكروا الله يا ناس.
فأخذ يشكر الله وأبو يوسف يدق بيده على ظهره استحسانا لما قال كأنني كنت أنا الملدوغ، مع أنني كنت في عاليه ليلة عضت الأفعى أخانا ديب ناضر. واسترسل أبو ميشال في حديث مؤلم عن الذين ماتوا ولم يسعفهم طبيب، فتنهد الناس جميعا ودعوا للرئيس بالخير لأنه أمر بشق الطريق، وهندسها البعقليني.
ثم آل الحديث إلى فتى حامل شهادة فقال بلهجة خطابية إنما بدون سيداتي سادتي: لا بطرك ولا حاخام ولا مفتي ولا مطران، ما حك جلدك مثل ظفرك، يجب أن نهتم بأمورنا، كلنا نعرف أن القرى حياة الحكومة والمدن فلماذا تهملها الحكومة؟ قولوا لي. هذا ناتج عن خمولنا نحن أهل القرى ، الحكومة لا تعرفنا إلا يوم الانتخاب، وحين تحتاج إلى إمضاءاتنا للشكر والتأييد، فلو كنا رجالا ما انتخبنا ولا أيدنا إلا من يؤيد مطالبنا العادلة. يا ذوات.
فهز أبو يوسف رأسه وتبسم لكلمة (ذوات)؛ ولكنه التفت صوبه، فقال الفتى: تذكرنا الحكومة في أيام المواسم فترسل الجباة لسؤال خاطرنا، فتهلل أبو يوسف لها وقال: صحيح.
وقال الفتى: تأخذ منا لتعطي غيرنا. فضحك أبو يوسف وقال آية الإنجيل: من له يعطى ويزاد. فقال الفتى المتحمس تتذكرنا الحكومة كما يتذكر المعلم، أي: الملاك، شريكه يوم العيد إذا تأخرت العيدية، أي: الهدية، أما في أيام البيدر فيحاسبه على الحبة.
وتوقف قليلا فخفنا أن يرتج عليه، ولكنه استأنف كلامه قائلا: البطوا الذين ركبوا على ظهورنا حتى وصلوا إلى الكراسي، ولما صاروا في السرج ما عادوا ذكرونا ولا عرفونا. فلتعلفنا الحكومة حتى نسمن، الحمار يعلق له صاحبه أقة شعير ليركبه طول النهار.
فصاح أبو طنوس: عشت يا بطل، وتحمس الجمهور فقال واحد: ربما كان بين الذين سألهم الريس من يعرف أحوالنا، فقال الشاب: لا تعيشوا على: ربما ولعله، ارفعوا أصواتكم والرئيس يسمع، أنا أعرف الأستاذ أده.
فناست الرءوس تعجبا، وتناظروا هامسين: هو، هو، يعرف أده! أما الفتى فلم يبال وأتم حديثه قائلا: فهموه أنكم تدفعون ولا تقبضون، يأخذون منكم ليعطوا غيركم، خبروه أن الموظف إذا كان بخير قال البلاد بألف خير، والعكس بالعكس. فهموه أنكم تموتون ولا يعلم بكم أحد، لا أطباء ولا صيدليات ولا طرقات ولا مدارس، ولا ماء ولا كهرباء. خبروه أنكم منذ سبعين سنة ما صرف لكم غرش واحد من صندوق الحكومة لإصلاح طرقات القدم والحافر، خبروه كل شيء، دقوا الباب تسمعوا الجواب.
فقال كبير المجلس: لا تخافوا يا ناس، الأرض تنهز ولا تقع، شدوا لحمكم، ثم التفت إلى الفتى وقال له: سماع يا ابني، كن مطمئن البال، ربنا قدير وهو يعرف كل شيء، ثم لا تنس أن الدول تروح والفلاح باقي، راحت تركيا ونحن بقينا، واليوم كلنا نترحم على المير يوسف؛ لأنه كان يحب الفلاحين.
وفتح الفتى فمه ليرد عليه، فسمعنا صراخا وعويلا غريبين، فركضنا حفاة ومنتعلين فإذا امرأة تصرخ فوق رأس ابنها الوحيد وهو مصروع أمامها يقاسي غمرات الموت. بلع عجوة مشمش فسدت زلعومة، فركض أبوه إلى شبطين، وعمه إلى جبيل وخاله لا أعلم إلى أين. وأخيرا تركته أمه بين أيدينا وأسرعت إلى مار روحانا لتضع على مذبحه فسطان العرس وسوارها الذهبي، وحملت عمته إبريق الزيت لتضيء السيدة، وهي كنيسة قديمة خربة لم يبق منها إلا آثار دارسة ليس لها امرؤ قيس يبكي عليها، أما نحن فالتففنا حول الصبي ننتظر الأطباء ولا ندري ماذا نصنع له.
الشقة بعيدة، والطريق عكشة، والقمر غاب، ومن يعلم إذا كان يأتي الترياق من العراق قبل أن يكون العليل فارق، ولكن الله ستر وعمل مار روحانا عجيبة - ومنهم من يقول السيدة عليها أشرف السلام - فبق الولد العجوة.
عن المونوبول والغلاء
بلغت بي السيارة كوع غلبون، فطرحت الصوت على الضيعة، والصوت تلفون القرى، فجاءني المكاري بدابة آية في الدواب، وما ركبتها حتى أخذت في التحويل الصاعد والنازل فخلت جزيرة تزحل. بانت أذناها على الضهر، وظل ذنبها في النهر. ولم أعد أدري إلى أي القطبين أنا أقرب.
اعلم علم اليقين أن من ذم زاملة المكاري، فكأنه قدح في عرضه، ومع ذلك لم أحتشم منه فقلت: يا سبحان الخالق، من أين لك هذه العروس، ومن هداك إليها!
فضحك وقال: الغلا جلاب. قلت: حقا إنها عجيبة. فامتعض وقال: البرهان أنها شغلتك عنا فما قلت كيف حالكم. قلت: خف ربك يا رجل، وهلتني دابتك، كيف حالكم جميعا، كيف الضيعة من كعبها إلى رأسها؟ فقال: بخير تسأل خاطرك. قلت: والأحوال؟ قال: لا تسأل، الأحوال أوحال. سنة ضيقة.
قلت: لا خوف عليكم، الزيت غال جدا، فقال: وأين الزيت! بعناه في المعصرة، بأربعين وخمسة وأربعين، ورأس السعر كان خمسين. قلت: الدخان يسد العوز، اضحكوا في عبكم.
فملأ الوادي دعاء للشركة، وإذ لم يجد من يستبد به ضرب الدابة بعصا لسعني رأسها فخلتها عصا موسى تستحيل ثعبانا عند ذكر فرعون، وأثنيت من أجلها على طول الأتان الذي استبشعته. واشتد إيماني بلا تكرهوا شيئا.
ودخلنا الضيعة مع الدغيشة، فجاءت الوفود للسلام، وطالت سهرتنا كليالي كانون. كنا فرحين (بالطريق) لو لم يأتنا من جبيل نبأ غلاء الطحين، فاسودت الوجوه وقال شيخ المتكئين: لولا غلاء الحبة كنا بألف خير، يظهر أن ربنا لا يكملها.
كان عهدي بالضيعة فرحة مرحة، إنجيلية لا تهتم للغد فإذا بوجوه الناس كابية، وابتساماتهم مغبرة؛ وقلوبهم بلا رجاء. كلهم متشائمون خائفون، لا نكت ولا نوادر. ذهبت ليالينا الكشكشية، ننتظر نكتة فنسمع آهة. وبعد صمت غير قليل قال أحدهم: كيف نعيش السنة، ما بقي غير الدخان ويا ليته لنا، تسلفنا عليه من هذا وهذاك، ومن يعلم متى تستلمه الشركة منا، وكيف تسعره؟
فأجاب آخر: استلمت عام أول في تشرين وتستلم السنة في شباط، والسنة القادمة في نوار، وبعد ثلاث أربع سنين تتركه في ذقوننا إن لم توقفها الحكومة عند حدها.
فقلت له: وكيف الأسعار؟ فأجاب: كيف يعيش الفلاح مع غلاء الطحين وسقوط الليرة والدخان!
قلت: سمعت أنهم زادوا السعر 25 بالمائة، فقال: عندهم ألف باب يخلصهم من الزيادة، وما عندنا باب واحد يخلصنا من شرهم. ما نظرت بعينك حرق الدخان في الصيف؟
فتأفف أحد المؤمنين بالقيامة العتيدة وقال: هذا آخر زمان. فاحتد آخر وقال: كيف العمل يا بشر، أيش ينفعنا الكلام في القرنة؟ فأجاب أبو طنوس، العمل عند الله، والأمل بسعي سيدنا البطرك.
فأحب أن يداعبه شاب قاعد لصقه فقال له: خبرونا أن البطرك لان، وسكت.
فلكزه أبو طنوس وقال له: اخرس يا صبي، قل سيدنا واحن رأسك. من خبرك أنه سكت، هذا كلام ناس كذابين غشاشين، سيدنا البطرك أنطون صخر أصم. فقال الشاب: والصخر لا يصعب على (النقاش).
1
وأعجبت الصبي فصاحته، وذبل أبو طنوس، فجبر أحدهم خاطره بقوله: عمي أبو طنوس أخبر منا كلنا. الجمعية
2
قابلت سيدنا البطرك، وخبرت أنه مثل الحديد.
فتعالى أبو طنوس إذ ذاك ولكش الشاب لكشة أزخم من الأولى وقال له: سمعت بأذنك يا ذكي. ثم هز برأسه والتفت إلينا قائلا كأنه يوبخنا جميعا: العوذ بالله، يجينا كل قبز لسانه يلحس قفاه، ويتطاول على الأوادم في بيوت الناس ولا نقول له كلمة. وتقلقل كمن يريد الخروج فاسترضيناه، ولا تسألني كيف، فللرضا عندنا تقاليد كثيرا ما تغسل الدم.
ثم عدنا إلى حديثنا فسألتهم عن جمعية مزارعي الدخان، فأثنوا عليها جدا، وخبروني أنها قابلت الرئيس ووعدها خيرا، فقال متشائم: الحكومة ملتهية بالاستقلال، والترتيب الجديد. فرد عليه أحدهم: أنت لا يعجبك شيء، النقلة من البيدر إلى البيت تكلفك جمعة، ومع هذا تلوم الحكومة إذا تأخرت ساعة.
فانتفض كهل عتل - نسيب أبي طنوس - وقال: يا الله، الليلة قصتكم عجيبة يا جماعة، هذا يقول: البطرك لان، وهذاك الحكومة ملتهية بالاستقلال. صح فينا قول المثل: القلة تورث النقار. نعم الاستقلال قبل الخبز، غيرنا خسر المال والرجال، ونحن أخذناه على الهينة. من من لبنان يقف وقفة أده، الله يعطيه ستين ألف عافية، ويطول عمره ما دامت الدنيا دنيا.
فأعجبت نخوة كهلنا الجمهور، فاهتز بعد خمول، ونسي الغلاء ورعبه، وصفق بعض التلاميذ لكلامه كأنهم في المدرسة. فالتفت أبو يوسف يمينا وشمالا مستغربا وقال للأولاد: عندنا عرس! استحوا، أمس مات الشيخ، كفنه ما تلوث بعد.
وانثنى يسأل جاره عن التصفيق فخبره، فسر، وحاول أن يتكلم فسبقه أحدهم وقال: اصبروا يا ناس، الله يساعد الريس عنده ألف مسألة أهم من مسألتكم. وأيده جاره بقوله: أي نعم مص القصب عقدة عقدة.
وتركوا الكلام لأبي يوسف فقال: سمعت من كثيرين أن ريسنا ممتاز، يحب الفلاح، لا بد من الفرج في أيامه، اصبروا لا تكونوا لجوجين. ثم نظر إلي وقال: خبره يا خال عن الحالة كما هي، ولا تنس غلاء الطحين، لو بعنا أقة الدخان بورقتين - ليرتين - وبقي سعر الطحين على حاله ما ترقينا شيئا. الفلاح تهمه الحبة، ومتى وجدها وجد كل شيء، وإذا بقي الغلاء اشتهينا العضة بالرغيف.
فقال له أحد المعلمين وهو يومئ إلي: ما باله فينا يا خال، باله بأحمد فارس.
فحرك أبو يوسف يده في وجه جاره وسأله: منو أحمد فارس؟ فما فاز بجواب. وأخذ الأستاذ يخبر عن تصريحات الرئيس وما ينوي عمله من مشاريع عمرانية حتى كان الكلام عن الري وجر المياه، فقال أبو طنوس: نحن لا نحتاج جر نهور، نحتاج جرة قلم تقصف عمر الغول؛ يعني الاحتكار.
فقال آخر: حسب الرئيس كل بلادنا مثل جبيل والبترون، فلو زارنا ووقعت عينه علينا رق قلبه لنا وكش الشركة من لبنان كله.
ودخل في تلك الساعة نسيبنا يوسف مراسل الشركة، فتصافحنا وقعد، وكأنه لم يعجبه (كش الشركة من لبنان كله)، فأخذ يبين منافعها للزراع، ويقابل بين أمس واليوم بإيمان وطيد. وأفاض في تمجيد أعمال الشركة ونفعها كأنه خوري عتيق يعدد عجائب العذراء في الشهر المريمي. ثم وجه كلامه إلى أبي يوسف وقال له: يا خال، بذمتك بدينك بحياة أولادك، قل لي: أي أحسن، احتكار غالان، أم احتكار الحواط وملكان؟
فأطرق أبو يوسف وانتظرنا الجواب، فإذا به يقول: الفلاح في الحالتين مقهور، ولكن الحرية حلوة، وحرق الرزق قبالة العين من يطيقه.
فقال كهلنا: سمعتم يا ذوات، عرفتم قيمة الاستقلال.
وخفت أن يتطور الحديث فقطعته مسائلا عن الجمعية، فقال واحد: الجمعية لسان حالنا كلنا، تقضي وتمضي عنا، ونحن نؤيدها بكل قدرتنا. قلت: من منكم موظف فيها، فقال: طلبوا المختار فما رضي.
فالتفت بأحدهم، فأجابني: لا تتعجب، مأمور يخاف على الوظيفة، ومثله ابن عمنا عضو الاختيارية. ولكن هذا لا يهمنا، المهم العمل، قريبا تقدم الجمعية بيانا طويلا عريضا، للحكومة والأمل بالله.
وانتقلنا إلى شئون أخرى، وبت أترقب الساعة التي تجمعني برئيس الجمعية أو نائب رئيسها، لعلي أصور الزراع للرئيس كما هم، فهم يرون فيه (المسيح الآتي ولا ينتظرون آخر) وحسبنا الآن أن نحددهم له تحديدا قاطعا مانعا كما يقول المناطقة: الزراع أو القرويون، أو الفلاحون، هم وحدهم الذين يخاطبون ربهم بإيمان وطيد: أعطنا خبزنا كفاف يومنا، أحلال أن يؤخذ الرغيف من أيديهم؟
رسالة شقت طريقا وبنت جسرا
كنت في دار المكشوف أمعن مع الشيخ فؤاد حبيش في الأحماض، يوم تلفنت للمغفور له السيد عبد الحميد كرامي في سوق الغرب، أسأله إذا كانت زيارته ممكنة. فأجاب - رحمة الله عليه: أهلا وسهلا إذا كانت زيارة غير أشغال. أما إذا كانت من أجل الطريق - طريق عين كفاع دير مار يوسف - فنصيحتي لك أن تبقي (العرايض) معك يومين ثلاثة، وبعدها نرى.
وفي اليوم الثالث استقال، وساعتئذ أدركت معنى ذاك التأجيل.
وألف الوزارة سامي بك، فقلت في نفسي: ما الحيلة وأنا لا أعرفه إلا معرفة وجه. لا دالة لي عليه، فإلى من نلتجي؟
وبعد تفكير غير طويل قلت في نفسي: التجي يا صبي إلى نفسك، ما حك جلدك مثل ظفرك. أما دلتك سيماء سامي بك على طواياه؟ ألا يقرأ المكتوب من عنوانه؟ أما عرفت أن روح هذا الرجل في كفه؟ وهو مستعد - في كل ساعة - أن يهبها لاثنين: الأفضال والنضال.
وإذا لم يكن لديك شفيع غير قلمك وحق القرى في الحياة فهذا يكفيك. أما سمعت أن سامي بك هو أبو المشاريع العمرانية، وأنه إذا بان له حق لا ينام حتى يقره. أنسيت قول الشاعر: إن تطلبوا الحق نعطي الحق صاحبه. هذا لسان حال كل رجل دولة نزيه كسامي بك.
ورحت إذ ذاك أفكر كيف أداور أمري، فقالت لي النفس: الحقيقة وحدها يجب أن تقال لرجل كهذا لا يحب إلا الصراحة. في يدك ثلاثون عريضة من ثلاثين قرية أهلها يستصرخون الحكومة طالبين شق طريق فيها لهم ولغيرهم حياة، فأقدم ولا تردد. وأخيرا أقدمت مستعينا بالحبر والورق الذي خذلني في مواقف عديدة حتى اتخذته - مؤخرا - عنوانا عاما لما أكتب.
وقعدت أكتب رسالة لسامي بك مستلهما وجهه المنير وابتسامته التي تضيء وجهه ووجوه من في حضرته، وبدأت أبجل وأعظم.
وبعد هنيهة قرأت ما كتبت فإذا به مبتذل، حبر على ورق. فقلت: أبهذه الثرثرة يواجه الرجل الحر؟ أهذا كلام يدر؟ هذا كلام يسمعه أولياء الأمور كل يوم متأففين متضجرين، وحبر على ورق لا يخرج من الظرف إلا لينام في سلة المهملات، فإن كان ما لا بد منه، فغيره.
وأخذت تلك الورقة ومزقتها نتفا نتفا، ورحت أكتب على خيرة الله:
سيدي صاحب الدولة الأفخم
العصر - يا مولاي - عصر هرولة واستعجال، فاسمح لي أن أهنئك بسرعة وأخاطبك بسرعة.
يعتقد غيري بخيرات المقابلات الجزيلة، أما أنا فبالعكس، فإذا أردت أن تصغي، فالمكتوب خير من المسموع وأبقى. وإلا فإني أضن بوقتك ووقتي. أضن بوقتك الثمين وتضييعه في الإصغاء إلى وكيل مسخر عن منطقة منسية لا يعرفها إلا الجباة، ولا يرتادها إلا المرشحون، قبل ساعة الانتخاب بأيام، وهب أن المقابلة كانت فعم تنجلي تلك الغمرة؟ نفتش كلانا عن عبارة يجمل بها الحديث، أبخرك وتشكرني، وأنصرف من عندك لكي أتبجح في كل محضر: قابلت دولة سامي بك، ما شالله، رجل لطيف جدا، متواضع كأنه ليس رئيس دولة.
عفوا. والوعود يا مولاي، كيف ننساها وهي بيت القصيد؟ تعدني أنت وعدا أجعله أنا حكما مبرما، فيتصاعد الدعاء من أفواه الآملين. إن الثناء حاصل في كل حال يا سيدي، فنحن قوم تعودنا أن نكون دائما مع (الواقف) أما من يقعد، فيقعد وحده، إننا نقوم مع القائمين، ولا نركع مع الراكعين.
إن الثناء على السلف واجب، فكل من استوزر - وأنت منهم - لم يترك شيئا من جهده. وأنا من المؤمنين بقول المثل: الحرب بالنظارات هينة. لذلك أراني أوسع على أولياء الأمور وأعذرهم؛ لأن أعباء السياسة تنوء بها الجبال - وخصوصا في عهد القنابل - فكيف بأكتاف الرجال.
فلهذا، إننا نطلب لك من الله المعونة لترضي، (أولا وآخرا) أربعة وخمسين رجلا، فتبقى في كرسي الحكم زمنا تستطيع به القيام بعمل جليل.
الورق قليل جدا، ولا فسحة للكلام والإكثار منه، فلنوجز: ليس لنا في هيكل الحكومة شفيع، فنفوز بشيء عند (التوزيع) ومال الدولة كمال الصدقات يؤتى على حبه، ذوي القربى واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والقرويون عموما، ونحن خصوصا - يا سيد - أبناء سبيل بكل ما في الكلمة من معنى. إن القرية متروكة على الله، ومشاغل الله جل جلاله أكثر من مشاغل النواب الكرام.
إن كل وكد من يقتسمون أموال الطرقات ، في طرق بيوتهم وبيوت أنصارهم، وما بقي فلطرق مناطق الاصطياف. ونحن لو يعلمون (مصيفون) في قرانا، ولسنا نبلغها إلا بشق النفس، وعلى ظهور الحمير، والحمير مهدودة القوى في أيامنا هذه.
وإذا ركبنا سيارة دفعنا (أم الخمسين) فدى لعيني الأربعة والخمسين، عن بضعة عشر كيلومترا، وهيهات أن نبلغ بيوتنا سالمين من العطب.
هذه حال طرقاتنا حيث توجد، أما ما نشرب فمن مياه الشتاء المجموع في الآبار والصهاريج، وأغلبه ملوث، فتفشو بيننا (الدورية) في أيلول وتشرين، والكينا عزيزة نادرة.
أما العلم فأخو الطرقات والمياه. مدارس - إذا وجدت - خير من تعليمها الجهل المطبق. كان أحد العلماء نوى أن يزورني لغرض أدبي، فلما درى بما دون بيتي من أهوال، تغلبت مخاوف الطريق على لذته الأدبية والعلمية، فنسي ما حلم برؤيته من آثار.
قرأت تصريحا لك قلت فيه: إن الله خلق الكون في ستة أيام، فما قولك في أرض تكون كما تركها الله في اليوم السادس، لولا بقية آثار فيها؟ فقرى بلاد جبيل أصلح مكان لاختبار علماء الجيولوجيا؛ لأن طبقات الأرض فيها كما كانت بعد الطوفان.
صرحت أنك ستعتني بالقرية، فحسنا تصنع. وسمعت أنك ستزورها فأحسن وأحسن تصنع. فما راء كمن سمعا.
فحال دولتنا كسيدة تلبس (روبا) مزركشا، فوق ثياب ممزقة بالية، أو أننا كبائعي البندورة، خير بضاعتنا على وجه (السحارة) أما ما تحت ذلك فخبص في خبص.
الخلاصة أننا نستغيث بك، نريد طرقات، ومياها، ومدارس لمنطقتنا المحرومة، وهذا آخر حجر نضربه في (الجوزة).
إننا نرجو من نوابنا الكرام أن يمهلوا الحكومات، رحمة بنا نحن الذين انتخبناهم، ريثما تسخن الكرسي تحتهم، فلا نكاد نخابر حكومة حتى تنقلب، فنعيد الأمر كما بدأناه.
وفي الختام تفضلوا - يا صاحب الدولة - بقبول احترام المعجب بمواهبكم والمقدر علمكم وعبقريتكم، وإننا نشكركم سلفا وإن قال المثل: ما شكر السوق إلا من ربح.
الداعي لدولتكم
مارون عبود
عين كفاع 3 / 9 / 1945
وحرصا على بقاء هذه الرسالة سالمة من كل مبتذل، أتبعتها بقصاصة كتبت فيها:
أضم إلى رسالتي هذه ثلاثين عريضة موقعة من ثلاثين قرية ، وهؤلاء جميعا يلتمسون شق طريق عين كفاع-دير مار يوسف، فهذه العقبة إذا ذللت، لا يضطرون إلى اللف والدوران وإضاعة وقتهم، وإن كان من حطب لا من ذهب.
ونظمت تلك الأوراق وأدرجتها في ظرف يسعها وأرسلتها مضمونة. قال الكثيرون: ما أقل عقلك، الغرض على قد المرسال. رح أنت.
وبعد أيام رحت أنا، وكان مدير النافعة محمد بك رعد، فتأهل وقال: سيدنا سامي بك قال لي: أسرع، عجل، ضع 50 ألف ليرة لطريق عين كفاع-دير مار يوسف. نحن في عصر السرعة كما قال، فلا يكون هو أسرع منا. اقرأ هذا المكتوب وأعده إلي، مكتوب ظريف نازك، يستأهل أكثر من خمسين ألف ليرة تدفع لإغاثة بلاد.
وهكذا عدت مظفرا من السراي أردد قول أبي فراس:
إذا ما أرسل الأمراء جيشا
إلى الأعداء أرسلنا كتابا
وهذه المرة كان الحبر والورق أغلى من الألماس مئات المرات، صادف أرضا طيبة فأغل أيما غلة.
أما الطريق فشقت الخمسون ألف ليرة قسما منها، وبنت جسرا حال دون النهر وأرواح العباد، ولكنها لا تزال حيث تركها سامي بك. لست أذكره بها لأن الكريم لا يهز، والفاروق عمر بن الخطاب لم يذكره أحد بتلك الأرملة.
كم كنت أسمع الناس يقولون حين تقف بهم السيارة عند منتهى الطريق ويشمرون للمشي: الله يرد أيامك يا سامي بك. وأنا أقول معهم: الله يطول عمر هذا الصاروخ الذي يحق له كلما ولي الأحكام، أن يردد قول الحجاج بن يوسف: لا أهم إلا أمضيت، ولا أخلق إلا فريت، ولا أعد إلا وفيت.
صباحية
استقل عيد الميلاد بكل ما يتعلل به القلب الإنساني من رموز سامية وأمل بعالم أصلح وحسبك هذه الكلمة: المجد لله في العلاء، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر. لم يدع لعيد رأس السنة شيئا من المعاني الإلهية، فكان عيد السماء وظل عيد رأس السنة عيد الأرض؛ ولذلك خلا هذا العيد من المعاني التي تربط الأرض بالسماء.
لقد أمسى من تقويم الدهر، كهنيهة يتنفس فيها المسافر الصعداء، ثم يستأنف الخبط في بيداء الأمل. يلتفت المرء في هذه الوقفة، إلى الوراء فيمتلئ قلبه مرارة إن كان خاب، ويزود سنته بالكلمة المشهورة: تذكر ولا تعاد. وإن كانت سنة خير وبركة تلهف على واحدة مثلها تقبر الفقر.
الخائب في هذا اليوم يرجو ظفرا عتيدا، والمفلح يتمنى مزيدا، ولولا هذا الرجاء لخلا هذا العيد من كل معنى.
إني أرى الناس فيه سواسية، فالشيوخ المطلون على هاوية الأبدية، وأصحاب الرؤى والأحلام من الفتيان والفتيات يلتقيان جميعا عند عتبة رأس السنة. كلهم يتقبلون التهنئات بحرارة وابتسام. لا شك في أن ابتسامة الشيخ رخوة، ولكنها ابتسامة في كل حال.
وعلى ماذا يهنأ الشيخ؟ ألأنه ماض لسبيله غدا أو بعد غد؟ ولكن لا. الشيخ يرجو عمر لبيد، وعلى الأقل عمر لبيد الذي سئم الحياة وطولها وسؤال الناس كيف لبيد؟ فليأمل. ليس عند الله أمر عسير.
هذا سر الحياة، وهذا لغزها المعقد المقعد، وكلما طول الحبل طاب للجواد المرعى.
أصبح هذا اليوم محطة لإذاعة التمنيات، فلا تسل عما يتبادله فيه الناس من هدايا طريفة، وما تهدر فيه من ثروات على الموائد الخضراء، أما الفقير فحصته ألم وحنق وسب الدهر. كشف البخت في كل مكان، في كل بيت، يستخبرون الورق، فيضيعون ما عندهم في سبيل استكشاف ما تضمره لهم الأيام، ومتى كانت الأيام تكشف ضميرها للناس، إن كان لها ضمير.
هذا حديث رأس السنة العام، أما الخاص فهو ذكريات عن شيخي. كان لجدي في ليلة هذا العيد رأي غير رأي الناس. كان يجلس متربصا عن يمين الموقد، كعادته كل ليلة وعصاه حده، فيذكرني قول زهير: وألقوا عصي الحاضر المتخيم. أجل لقد ألقى جدي عصاه، وقعد في قاعة الانتظار، يقضي السهرة وشفتاه ترقصان الهوينا، قد تفلت من بينهما ألفاظ ولكنها لا تفهم، يولي ظهره السامرين كأنه لا يعرف أحدا منهم، وكلهم أولاده وأحفاده وأنسباؤه.
القيامة قائمة حواليه، لعب ورق يتفاءل به الغالب، ويتشاءم المغلوب. كلاهما يخال أن هذا اللعب جد، وعليه يتوقف نحس عامه وسعده، فكأنما سر الغيب يكمن في نقاط الورق وتزاويقه . يحتال كل منهم على الفوز، ويتوسل له بالحيلة والغش، زاعما أنه إذا غلب استولى على أمد الحظ، وواكبه التوفيق والإقبال في سنته الجديدة.
وتدار على الناس أكلة ليلة العيد التقليدية: القمح المسلوق، المخلوط بالجوز واللوز، وما يتبعه من نقل فلا يأكل جدي إلا نقرة، فأخاله من تلك الطيور القواطع التي طالما شبه لي بها الناس في طريقهم إلى دنيا الأبدية.
وينام جدي، وأنام أنا، والجمهور لا يزال في صخبه، لا أعرف ماذا كان يحلم ابن تسع وثمانين بمناسبة هذه الذكرى. أما أنا فمهما نسيت فلا أنسى أنني كنت أحلم بالصباحيات: بالسكربينة الجديدة، بالقنباز المقلم، بالزنار الحريري، بالطربوش الأحمر العزيزي، بمجاني الأدب الذي وعدني به ابن عمتي الخوري، بالساعة التي قال خالي الخوري أنه يرسلها من القدس.
إن هذه الصباحيات تافهة بالنسبة لصباحية جدي. كانت (صباحيتي) أولا، ريالا مجيديا ثم أخذت تكبر معي حتى جعلها أخيرا ليرة ذهبية.
كنت ووالدي مع هذا الدينار على طرفي نقيض، تعجبني أنا طلعته ورنته، وتعجبه هو قيمته. أما ضمن حق قنطار طحين. فيظل الدينار في حوزتي حتى الظهر، ثم يزج في سجنه الموقت. أما لداتي فكانوا يتسابقون على (تصبيح) ذويهم، والضربة في (الصباحية) لمن سبق. ولكن من أين لهم جد كجدي تسخى نفسه عن أصفر رنان. كانوا يخوضون الضيعة خوضا من كعبها إلى رأسها وما يجمعون إلا متاليك وبشالك، أما الليرة الذهبية وعليها صورة خيال - مار جرجس - فكان لا يظفر برؤيتها أحد غير مارون.
أذكر أننا تجمعنا مرة وقصدنا قرابة لنا اشتهر بالشح، لنصبحه بالخير. وعند انشقاق الفجر شققنا بابه واستولينا على المبادرة هاتفين بصوت واحد: صبحك بالخير.
فهالته كثرة عددنا وأوجعه صباحنا، ولكنه تجلد وقال: الله يصبحكم بألف خير.
وسكت وسكتنا، فقال أحدنا: هات صباحيتنا. فأجاب: ألا يرضيكم أن يكون الواحد بألف. قال هذا وأيقظ زوجته، وهي عجوز مثله، فقابلتنا بوجه كالنعل. ولما قال: أعطيهم صباحيتهم استبشرنا وظننا أننا فتحنا القلعة. وما خاب الأمل إلا حين قامت إلى قدر هرمة جاءت معها في جهاز عرسها وقعدت تصب القمح البائت بكرم حاتمي، فقلنا لها: هذي أكلة السهرة، والصباحية تكون من الكيس.
فتنطح العم للجواب وقال: ما سمعتم قول الإنجيل: لا تعبدوا ربين الله والمال.
وقالت هي: أولاد وقاح بلا مربي.
ومرة حاول أخ لي أن يوقظني ليصبحني في رأس السنة، ولكنني سبقته فخاب فراح وهو يبربر: الله لا يسعد صباحك.
وفي آخر عمر جدي وكنت صرت أفهم الخمس من الطمس، والكوع من البوع، تجرأت عليه وقلت له: أنت تعبس وحدك يا جدي في هذه الليلة.
وكأنه قد أعجبه مني أني فطنت لبعض سره فانبسط وجهه وقال لي: هذي ليلة محبة ذات عندنا نحن البشر. نودع السنة الرائحة بالطمع، ونستقبل الغادية بفم مثل فم الحوت، قلما تجد رجلا يحاسب نفسه حسابا صارما. أما جدك يا مارون فموقفه في هذه الليلة من نفسه موقف الديان الرهيب، يستعرض كل أعماله في بحر السنة.
أتذكر حسناتي وسيئاتي، أكلف نفسي التكفير عن إساءاتي في عامي الجديد بما أزيده من حسنات. فلو كان كل رجل، بل كل صاحب سلطان يحاسب نفسه حسابا عسيرا في رأس كل سنة، لما بقي في الأرض مظلوم، ولملأ السلام الأرض وعاشت البشر بسلام. ولكن المادة سدت الأبواب على المحبة فنامت خارج البيوت.
صدقني يا ولدي إذا قلت لك: ما وقعت عيني في هذا اليوم إلا على ناس يتمنون زيادة المال، ولا فرق عندهم بين حرام وحلال. فما داموا لا يفكرون إلا بالمادة، ولا يعنيهم غير زيادتها في العام الجديد، فمن أين تدخل الرحمة إلى القلوب؟!
أبواب القلوب مغلقة، الإحسان يقرع ولا يفتح له. فرأس السنة عندنا عيد ابتهاج وطمع ومنافسة: ابتهاج بما كنزنا. وطمع بجذب المادة صوبنا، لينتفخ كيسنا، ويكبر صندوقنا، ومنافسة على ادخار ما تيسر لنا من حطام الدنيا.
فإذا ظل الناس لا يحاسبون أنفسهم كل عام إن لم أقل كل ليلة، ماتت ضمائرهم، وموت الضمير موت السلام، ولا سلام ما دام المال معبودا.
ثم حملق بوجهي وقال: أتفحص ضميرك كل ليلة كما علمتك ؟
فترددت في الجواب، فقال: أيش بك؟ رد.
فقلت: نعم.
فقال: (نعمك) ضعيفة. افحص ضميرك ونم. وما صبح إلا فتح.
وفي الغد فتح مصره، ونزل (الخيال) إلى الساحة. وكان مارون بطل الصباحيين - لا السباهيين - في الجيرة.
استسقاء
لو رجعت اليوم يا سيد، لاشتهينا أكل التين. •••
كان الخوري يوحنا عبود جدي ومعلمي، وهو أول شخص لزمته في فجر الحياة، فما أحسنت قراءة السريانية حتى حملني على الصلاة معه، فكنا نقيمها أينما اتفق، في البيت، قدام الباب، على البيدر، في الحقل، في الكنيسة. كلانا يحمل (شحيمة) فكنا (خورسا) متنقلا نقيم الصلاة حيث تدركنا، وكانت صبوتي صلوات متتابعة، فكأنني كنت كاهنا (بالمقلوب).
كررت تلك الصلوات مئات المرات، وما هي إلا ترانيم وأناشيد صوفية رائعة، حتى حفظتها عن ظهر لساني، ولا يزال جلها عالقا بذهني على بعد عهدي بها، وأشهد أنني ما برحت أهتز لسماعها، كما كان يرتاح الخليفة المنصور إلى الحداء أكثر من الرصد والبايات.
وفي 8 شباط سنة 1899 فرغنا من صلاة (النهار) وجلسنا على المصطبة الشرقية، فقص علي جدي نبأ مار مارون وتلاميذه الثلاثمائة والخمسين شهيدا، وكانت تنهداته متتابعة، حتى أجهش بالبكاء فخفت عليه، ثم ذكر رهبان دير (القطين) وهو كهف عظيم قبالة قريتنا عين كفاع، لا تزال آثاره ماثلة وإن أقوت وطال عليها سالف الأمد.
وبعدما حشا ذاكرتي بقصص أولئك النساك الحبساء نهض قائلا: الحقني يا صبي.
ومشى ومشيت وراءه وانقطع الكلام، وشرع يصلي في طريقه إلى الهيكل، تارة يهمس، وحينا يهمر، وإن حياه أحد رد التحية بإيماءة كالومضة، زاويا ما بين عينيه كخلقته، وما بلغ الكنيسة حتى رأى أخاه بالرب الخوري يوحنا الحداد في ساحتها فسلما (بالمجد لله)، تحية القدماء، وجلسنا على مقعد حجري، ودار حديث قصير، فاستكبرا أمر القيظ نذير المحل والقحط والجراد، وعزا الكاهنان انحباس المطر إلى خطايا البشر الكثيرة، ورأيا أن هذا (الغضب) لا يرفعه عن الأرض إلا الصلاة والزياحات، فعزما على إقامة زياح حافل لصورة مار مارون استسقاء للمطر.
ثم قرأ جدي فصلا من (مرشد الكاهن)، وقرأت لهما فصلا من كتاب الاقتداء بالمسيح، ثم استأنفا الحديث، فذكرا ثالثهما الخوري موسى - جدي لأمي - الذي مات منذ أشهر، فقص جدي على الخوري حنا حلما أذكر منه أنه رأى أخاه الخوري موسى يقيم قداسا (كبيرا) في برية واسعة، وحوله جمع غفير من أحياء وأموات يعرفهم جدي. وبعد التأويل والتعبير ربح الميت قداسا وجنازا أقاماه له في الغد.
وانفض مجلسهما ودخلا الهيكل، فقرعا الجرس، وزينا البيعة، وأسرجا قناديلها، ثم تحولا إلى (القراية) فنبشا الصلوات الخاصة بمار مارون في الشحيم والسنكسنار والريش قريان، وأعلما عليها جميعا.
وقرع الجرس ثانية، وما أمسينا حتى دق به ثالثة، فأقبل كل جمهور الضيعة وقامت الصلاة، وامتلأت الكنيسة رنينا وهزيزا، ثم تليت على الملأ سيرة أبيهم القديس مارون، وما قاسى من الشياطين التي كانت تجربه، فانفجرت الصدور تنهدا، ولما نال إكليل السعادة الأبدية فارقتهم النوبة وابتهجوا.
وكان الكاهنان يرصدان القارئين حتى إذا بدرت من أحدهم غلطة أخذوه بها وصلحوا خطأه بنبرة عنيفة، وكان جدي أكثر تحديا للشمامسة، وكثيرا ما كانوا يكرهون معاونته ويهربون منها. ولكنه لم يلن لهم ومات لا يعرف الهوادة، كأنما كان يعتقد أن الغلطة تفسد الصلاة، فما كان يحابي أحدا حتى الكهنة.
ولما انحلت الصلاة قال للشعب قبل منحهم البركة: غدا نقيم قداسا وزياحا كبيرين، فعلى الجميع أن يعترفوا ويتناولوا ليربحوا الغفران الكامل الممنوح من سيدنا البابا لعيد مار مارون بشرط زيارة الكنيسة الخورنية والصلاة لأجل ارتفاع شأن الكنيسة البطرسية. •••
ومع الصبح سمعت جدي يقول لأبي: ما أفاق مارون.
فقال أبي: أنا أروح معك خل الصبي ينام.
فنفر جدي وقال: صح فيكم قول الإنجيل يا حنا، أنتم ما دخلتم ومنعتم الذين يدخلون. يا ضيعان تعبي، هيهات أن يكون خوري بعدي في هذا البيت.
فرفعت رأسي إذ ذاك وصبحته ونهضت وقبلت يده، فباركني وضحك لي ضحكة مليئة ما رأيتها منه من قبل، وانفتل يصلي حتى لبست ثياب الأحد والعيد، وسار وتبعته، وظل يردد حتى دخل الكنيسة قطعة سريانية هذه ترجمتها: إن كان العبد بلا خطيئة من أين تعرف رحمة السيد؟ ارحمني يا الله كعظيم رحمتك. وسجد وزميله الخوري يوحنا سجدة الصبح، فقاما وركعا مائة مرة وأكثر. ولما أقبل الناس تحولا إلى كرسي الاعتراف، وظلا يعرفان حتى الضحى، ثم أقاما الذبيحة الإلهية، وبعد الإنجيل ألقى جدي هذه الخطبة:
يا إخوتي المباركين
اجتمعنا اليوم لنعيد عيد أبينا العظيم، فمار مارون هو التاجر الذي حكى عنه الإنجيل أنه وجد درة ثمينة فمضى وباع ماله واشتراها. نعم يا أولادي، إن مار مارون هو العبد الصالح الذي ربح بالخمس وزنات خمسا أخر، وفلح كرم الرب من الصبح حتى المساء، كما سمعتم أمس، وتسمعون الآن من مديحه، فالذي انقطع عن الدنيا كلها وقعد في مغارة يصوم ويصلي ليلا ونهارا، ويدافع عن الإيمان بتقوى وحرارة يستأهل أكثر من هذا المدح. صح فيه قول مار أفرام ملفان البيعة: ويكون لهم بعد موتهم أعظم إكرام. وأي إكرام أعظم من العبادة.
ما كان أبونا ما مارون يعيش كما نعيش نحن، وما كان يفتكر بما نفتكر به نحن، كان يطلب ملكوت الله وبره. ومار مارون ما كان يلبس كما يلبس إكليروس اليوم الغنابيز المزررة، ولم يكن يحمل عصا مذهبة ومفضضة. كان لباسه الشعر ليقهر النفس المتكبرة، وعصاه من الزعرور ليرد بها عنه الكلاب، وصليبه كان في عبه ليخزي به إبليس اللعين، لا للزينة والبهرجة، وهذا التاج الذي على رأسه، والعصا التي بيده نحن الذين يغرنا المجد العالمي حملناه إياهما، ولو كان أبونا غير هكذا ما طلب يوحنا فم الذهب صلاته ودعاه. فمار مارون قس، والقديس يوحنا فم الذهب مطران عظيم ومن ملافنة البيعة.
إن مار مارون غلب الشيطان كما خبرنا السنكسار، ونحن أولاده يغلبنا الشيطان كل ساعة. مار مارون شفى مرضى كثيرين، ونحن المرضى في قلوبنا وليس من يشفينا، نحن كما قال مار أفرام كنار الروح: دبت الآكلة في الجسم وسرت.
يا حسرتي علينا يا أولادي، إذا حجب الرب عنا رحمته؛ فلأننا ما عدنا نفتكر به. تركناه فتركنا، ما عدنا نفتكر إلا بالدنيا، من كبيرنا إلى صغيرنا ، أبونا مار مارون أسس ونحن ما وضعنا حجرا على الحيط، خراب عمومي في الدنيا والدين، الروح الطيبة راحت مع القدماء، وخطايانا الكثيرة ورثت كل هذه الضربات والبلايا والضيق، متى كان ينقطع المطر في كانون وشباط، ومتى كان يخاف الناس من الجوع والعطش في جبل لبنان.
كيف نخاف نحن المسيحيين من الجوع، وإنجيلنا يقول: أبوكم السماوي يقيتكم، ولا تهتموا بما للغد. كيف نخاف الغضب الرباني وعندنا التوبة والاعتراف، والمناولة والصلاة. فإذا كنا نحن البشر يرق قلبنا على من يصرخ حول بيوتنا، وعلى بقرة تعج في القبو، فماذا تراه يفعل ربنا الذي قال: من منكم إذا طلب منه ابنه سمكة يعطيه حية. أما هو الذي جرأنا على الطلب منه بإلحاح، أما هو قال لنا: اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم. قووا قلبكم واقرعوا بابه ولا تخافوا.
صلوا يا أولادي ولا تملوا، لا تتكلوا علينا وحدنا، فنحن فقراء بالروح. عندما كانت الكاسات والصلبان من خشب، كانت القلوب من ذهب، واليوم بالعكس كاسات وصلبان من ذهب، وقلوب من خشب، ويا ليت، خشب منخور. الويل لنا من تلك الساعة التي يقيم فيها ربنا الخراف من عن يمينه والجداء من عن شماله.
كلكم تعرفون مثل التينة، فربنا يسوع المسيح لا يقصد بالتينة إلا نحن الرعاة. فلو رجع المخلص اليوم يا أولادي ماذا كان يعمل؟ الله يعلم.
وضاق به الكلام وخانه اللسان وتغرغرت عيناه بالدموع، فالتفت صوب المذبح ليمسحهما، فوقعت عينه على الصليب فقال بصوت أعجز عن وصفه هذه الكلمة العظيمة على سذاجتها: لو عدت اليوم يا سيد لاشتهينا أكل التين.
وكان سكوت عميق، وأجهشت العجائز، وقرعت الصدور. وعاد جدي إلى الكلام فقال: فلنصل يا أولادي، فلنتشبه بأبينا مار مارون، فبصلواته عمل العجائب الكثيرة. ما هي الصلاة، الصلاة حكي الإنسان مع ربه، فإذا كان حكي الناس مع بعضهم يولد المحبة والألفة، وإذا كان انقطاع الجيران عن الكلام يقوي العداوة حتى نعجز عن حلها، فأيش قولكم بمن لا يحاكي ربه؟ إذا كان أهل البيت لا يكلمون بعضهم فماذا يكون البيت ؟ طبعا كلكم تقولون: جهنم الحمرا.
صلوا إذن فكل ما تطلبونه تنالونه كما يعلمنا الإنجيل الطاهر، اطلبوا من ربنا أن يتحنن علينا ويرحمنا. أن يروي قلوبنا العطشانة إلى النعمة الإلهية، ويسقي زروعنا، ويبارك علينا، ويحمينا من الجراد.
صلوا عن نية بطركنا الجديد مار إلياس بطرس الحويك حتى يساعده الله على تجديد البيعة وصيانة عزها الروحي، ويسير على درب بطاركتنا القديسين. وصلوا له حتى يقوم بوظيفته، فحملته ثقيلة. ولكنه يقوم بها بمعونة الله الذي لا يخيب المتكلين عليه كما قال داود. البطرك إلياس كلكم تعرفونه رجل مجرد عن الدنيا، وفيه روح آبائنا الأقدمين، وقد حكينا عنه منذ شهر من على هذا المذبح المقدس.
أما أنا وأخي الخوري حنا فعبدان حقيران خاطئان، نقع ونقوم تحت نير الرب سبعين مرة لا سبع مرات، كما قال النبي داود. فصلوا لأجلنا كما نصلي لأجلكم، ولنتضرع جميعنا إلى أبينا مار مارون ليسمع صلواتنا ويساعدنا ويسهر على كنيسته، ولا يهملها لأجل خطايانا الكثيرة. رزقنا الله شفاعته، آمين.
ولما انتهى القداس سار الجمهور بصورة أبيهم مار مارون يحملها الخوري حنا الحداد، وجدي يبخرها، والشمامسة يرتلون ويترنمون؛ والشباب يقرعون الجرس قرعا عنيفا، فالفرصة سانحة، وقرع الجرس أحب شيء إلى قلوبهم، ولا سيما أن قرعه في غير وقته كان فلتة في تلك الأيام.
لا أزال أتذكر جدي كيف كان يبخر دائما بحماسة، وهو ابن ثمان وثمانين، ويرتل بصوته الجهوري الجميل، الذي لم أرث منه شيئا. يبخر وهو يعود القهقرى، وأنا خائف إن تعثر بحجر رجله فيقع. كان جدي ينظر أحيانا إلى السماء، وما دريت لماذا حتى كان المساء وتلبدت الغيوم وسقط المطر. وقال لكنته أمي: هاتي عشيني، الرب قبل صيامي وصلاتي. كثر خيره.
مار عبدا والمطران
كان شهر آب عام 1900 يلفظ آخر نفس لما دعاني فلبيت، وتماشينا، هو شيخ يحمل على منكبيه أثقال قرن، وأنا غلام ظهره خفيف. وما جاز بيت أخيه الخوري موسى - جدي لأمي - حتى رأيته يكتم دمعة ويسترها ويقول: هم السابقون ونحن اللاحقون، رافقني عام أول لزيارة مار عبدا ليلة عيده، فأين هو اليوم؟
وكأنه ذكر قول رسول الأمم: «إن الذين يموتون بالرب لا ينبغي أن تحزنوا عليهم كالناس الذين لا رجاء لهم.» فصلب ومشى يصلي. ولما توسطنا القرية نتر يده من يدي، وما دريت لماذا حتى مال نظره إلى ردم فيه بهيمة ترعى، فغضب ونادى صاحبها، فأقبل هذا يصفق على فخذيه، وساقها بعد اعتذار طويل، فاغتفر له جدي زلة لم يتعمدها،
ثم أخذ بيدي قائلا: أتعرف اسم قديس هذا الهيكل؟ فقلت: لا. قال: اسمه برصوما، وهذه الخربة أقدم كنائس البلاد، كانت للروم والموارنة والفاصل بينهما حائط.
قلت: مثل بيتنا وبيت عمي. فابتسم للتشبيه وقال: تماما.
قلت: واليوم لماذا لا تكون الكنائس هكذا؟ قال: ما كان الإخوة يتفرقون في الزمان الماضي ما زال البيت واسعا، واليوم يتفرقون عند (البلوغ) راحت الألفة وكثر البغض.
وسألت أيضا كعادتي، فقال: لا تكثر من السؤالات، أنا تعبان والشمس على الغياب.
ومشينا فأسرع نازلا تسوقه الشيخوخة بعصاها، فكان يجاهد نفسه فيبدو نشيطا رغم التسعين. ولما بلغنا (الوطا) انسابت حية فصرخت: حية حية! فوقف مضطربا يهز عصاه، ولما رآها هاربة تبسم ابتسامة غير مشرقة وقال لي: خفت يا صبي. نسيت قول إنجيل اليوم: «ها هو ذا أنا أعطيكم سلطانا أن تدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو، فلا يضر بكم شيء».
وطوينا السهل فواجهنا رجل في يده ورقة سوداء الحواشي، فوقف جدي وقال: الله يعطينا خيره. فدنا منه الرجل وقبل يده، ودفع إليه الرسالة، فقرأها وقال: الله يرحمها، كانت امرأة فاضلة، ماتت ليلة عيد شفيعها ودفنها يوم عيده. وأعاد الورقة إلى الرسول فأخذها بعد تقبيل يد الخوري ثانية وراح في طريقه. وأخذنا في العقبة فانقطع الحديث. وبلغنا دير مار عبدا فما رأينا هناك غير خمسة أنفار: جزارين أمامهما الضحايا، ومكارين يحملون الشراب والنقل للعيد.
ودخلنا الكنيسة المهجورة فصلى وصليت وراءه راكعين على الحصى والتراب أكثر من نصف ساعة. قد يكون الوقت أقل وأنا توهمت كذلك؛ لأن زيارة الكنائس والصلوات كانت أتخمتني. وخرجنا فجلسنا في الدهليز على صفة، فتنحنح وقال: ستسمع مني الآن قصتين: قصة الدير وقديسه، وقصة مطران تخفى فيه. فتحركت يمينا وشمالا وأحكمت قعدتي فقال: ما ترك الزمان من هذا الدير الكبير إلا هذا القبو والدهليز والقبو الذي يلاصقه. كان ذلك القبو مقام مار سمعان العامودي عليه السلام، وهذا المكان كان ديرا للراهبات، وبقايا المعاصر والآبار تدل على أنه كان مسكونا، لا مزارا على تلة. كنا نعمل فيه رياضتنا الروحية قبلما فتح لنا الرهبان أبواب الديورة. أما قديس هذا الدير - مار عبدا - ففارسي الأصل من تلامذة يهوذا.
فخفقت برأسي، فاستدرك قائلا: يهوذا الرسول لا يوضاس اللعين. سام الحبر يهوذا مار عبدا أسقفا على مدينة خشكار في بابل. فضحكت لها فقال: ما لك؟! أعجبتك كلمة خشكار؟ قلت: وضحكتني.
فتابع حديثه: وكان مار عبدا كثير الصلاة يشتهي إكليل الشهادة جدا. فقلت: مطران يشتهي إكليل الشهادة يا جدي! أما كان عنده تاج مثل مطاريننا اليوم! فتغاضى عن كلمتي هذه وقال: فسار إلى مدينة (نوا) في تخوم الهند. فهززت رأسي ونفخت فتعبس وزأرني سائلا: ما بك؟ قلت: كيف يذهب مطران ماشيا، ما رأيت مطرانا يمشي، فالمطران ل. جاءنا على حصان أحمر والمط ... فزجرني قائلا: هس يا صبي، سماع. أما عجائب مار عبدا فكثيرة جدا، مر بمدينة ما كان سكانها كفارا فطردوا القديس بالضرب والإهانة.
فقلت: وكيف يضربون المطران وأنا رأيت المطران بعيني يضرب بالعصا، فتمتم: يا ويلاه يا حالاه! ولما رأى كثرة الاعتراضات أسرع يعدد عجائب القديس، فقال: شفى جملا كان (يسكنه) شيطان، فقلت: ولماذا يسكن الشيطان جملا، أما علمتني أن أقول وقت التجربة: يخزيك يا عدو البشر، إذن الشيطان عدو الجمال أيضا.
فتململ وقال: وقتل تنينا، وشفى مرضى كثيرين. قلت: واليوم ألا يشفي. قال: بلى. يشفي من البردية (حمى النفض) من يستشفعون به وينذرون له. وحاول أن يواصل كلامه فقاطعته: وإذا كانوا فقراء ولم ينذروا له شيئا ألا يشفيهم؟ قال: بلى، إذا صلوا بحرارة. قلت: وهل النذر يغني عن الصلاة، فأجاب: لا.
وكأنه ضاق بي فحتم علي ألا أقاطعه وقال: فآمن أربعة آلاف فعمدهم وسام لهم كهنة وشمامسة. فقلت: وبرادطة وخوارنة أسقفيين أما رسم؟ فأمرني بالصمت وقال: لا تقاطعني ومضى يقول: وخرج من القرية فطلع عليه ثعبان في الطريق، فرسمه بالصليب فمات، فقلت: أنت خلصت منه بلا رسم صليب، فأزهى وما أبدى، وقال: وعاد القديس إلى مدينة (نوا) فرآهم مالوا إلى الكفر وهدموا الكنائس وطردوا المسيحيين، وتنهد، فتمثلت: طوبى لكم إذا عيروكم واضطهدوكم، فقال: عافاك - وجرها جدا - ولكن اسكت لا تقاطعني: ولما علم أسقف البلد بعود مار عبدا جاءه يخبره بقتل الكهنة وهد الكنائس فعزاه القديس. ودخلوا المدينة فهاجمهم أهلها فصلى مار عبدا فحدثت زلزلة زعزعت المدينة، وتراءت ظلمة ونار في السماء فخضعوا جميعا قائلين: ارحمنا يا قديس الله، فأسكت الرجفات بصلاته، وشفى رجلا مخلعا.
قلت مبتسما: مثل سيدنا يسوع المسيح، فقال بنفرة: نعم، ما قلت لك: لا تقاطعني. فأمررت يدي على فمي، وتابع حديثه: ورجع الأسقف إلى خشكار. فعاودني الضحك، فاغتفرها لي ولكنه صبر علي لحظات وقال: فوجدهم رجعوا إلى عبادة الأوثان فوعظهم فاضطهدوه وسجنوه. وفي السجن عمل عجائب كثيرة، وجاءه ملاك الرب في السجن وقعد يشدده ويعزيه.
قلت: الملاك الذي بشر مريم؟ قال: عند ربنا ملائكة كثير، وفي الغد جلدوه حتى انتثر لحمه، وبانت عظامه فدهنوه عسلا ووضعوه في الشمس لتلذعه الزنابير، وأخيرا قطع الملك رأسه وقتل معه كهنة وشمامسة وبتولات. صلاته تحفظنا. فقلت كالمعتاد: آمين.
وتحرك للنهوض قائلا: يا مار عبدا. فحزنت وتمنيت لو يتمهل قليلا لأشهد العيد، وخرجنا. فردد الناس فيما بينهم لما رأوه: خوري حنا عين كفاع، ودنوا منهم فباركهم واحدا واحدا، وكان يقبض على يد من لا يعرفه ويسأله، ابن من أنت ولو كان ابن ستين؟ وانصرف وهو يقول لهم: توقوا السكر يا أولادي.
فوقفته لأطيل بقاءه ريثما أملأ عيني من مشاهدة العيد فقلت له: وقصة المطران. فأجاب امش. تسمعها في الطريق. ومشى وهو يبربر: كانت الأعياد للصلاة والعبادة، فصارت لشرب العرق والنبيذ، وأكل اللحم يوم الجمعة، وما بلغنا الوطا حتى دخلنا في العتمة. وأضرم الشباب النار في الهشيم - زينة الأعياد في القرى - فمشينا، على ضوء نارهم حتى البيت.
وحدثني في الطريق عن فرار المطران يوسف اسطفان من وجه المير بشير بعد عامية لحفد، واختفائه مدة في هذا الدير؛ لأنه اتهم بكتابة صك الاتحاد بين الدروز والنصارى على أن لا يدفعوا للأمير إلا المال المعين.
وأقام المطران في الدير منتظرا صفح المير بشير، ولما بلغه أن التوسط له لم يجد، عزم على الرحيل إلى أضاليا مسقط رأس المردة، فلحق به الشيخ يعقوب سمعان البيطار، فأدركه عند النهر البارد، وأبلغه صفو خاطر الأمير، وأرجعه. ومثل بين يدي أبي سعدى فسقاه القهوة القاضية.
ولما أنهى جدي قصة المطران - كما لخصتها - أخذني من كتفي وهزني بعنف قائلا: كيف يا مارون، أما رأيت مطرانا يمشي!
قلت: ولكن يا جدي هذا مطران، فقاطعني بنبرة قائلا: ما هذا مطران، هذا يا جدي، شهيد مثل مار عبدا.
قلت: ولماذا خاصم المطران المير حتى أصابه هكذا، فالمطارين اليوم بألف خير.
فقال بعد ما حملق بي: هذه إرادة الله وستنا مريم العضرا، ومتى اتفقنا نحن والحكام يا ويل الشعب في لبنان. فمرقصنا - مرقص الكفاعي - الله يرحمه نهى مير جبيل كثيرا عن ظلم الشعب فما سمع له. ولما حبسه باشا صيدا في البير. قلت: في البير! قال: نعم في البير. طلب الأب مرقص فذهب إلى صيدا فقال له: صل لأجلي يا محترم، بلغ صراخ الشعب مسامع الرب الصباووت، كما قلت لي مرات. ومتى رجعت خذ من زيتون الحكومة في وطا عين كفاع، ما يعجبك؛ ملكا لديرك - دير معاد - وهكذا صار. وغدا في ذهابنا إلى (النعوة) أدلك على الصلبان التي رسمها الأب مرقص في بدن الزيتون الذي تملكه.
قلت: وماذا أصاب المير؟ فأجاب خلصته صلاة القس مرقص، ووقف فجأة وقال: مارون أتعرف تعمل (مرثاية)؟ المرأة التي جاءنا خبرها من أقاربنا، هذه امرأة فاضلة، وحدق إلي كمن يترقب الجواب. ولما ابطأت عليه قال لي: أحب أن أسمعك قبل أن أموت.
فقلت: العمر الطويل يا جدي، فأجابني بفرح كالبكاء: ولك يا عيوني.
أولى معاركي الأدبية
كان جدي لوالدي - رحمهما الله - من علماء زمانه. وكان يخشى أن يرفع العلم من بيته حين يخفض أو يرفع هو من هذه الدنيا، ولما رأى في قبسا من ذكاء توهم أنه سيصير نارا آكلة، فجعل وكده في بعد خيبته في بنيه. وأخذ يناقشني في أمور فوق عقلي فكنت أجاريه في شوطه فيتفاءل ويتشاءم مع رياح الأجوبة والأسئلة التي تهب عليه من ناحيتي. فالكلام بيننا أخذ ورد، وكما يكون الحوار بين رجل خنق التسعين وابن أربعة عشر.
كدت أصير ظلا لشيخي الزهيري الذي لم يسأم الحياة، فهو يجري معها في المضمار وإن قطع الجري أنفاسه، وأسطع صورة له وأوضحها في ذهني هي لحيته المندلقة على صدره. وكنت إذا أبديت إعجابي بها، وقايست بينها وبين لحى زملائه الآخرين همهم أبي وقال لي: هذا ربعها يا صبي! يا ليتك نظرتها في عزها. حظك قليل، يا سلام، يا سلام عليها.
وقال جدي لوالدي في إحدى ليالي الصيف: أفتكر بمدرسة كبيرة. هذه المديرسات صارت صغيرة على الصبي، ربما طلع منه شيء، من يعلم.
ثم عقدت جلسات عديدة شاركت فيها الوالدة، وأخيرا أقروا بالإجماع أن يدخلوني أكبر مدرسة في المقاطعة. وكان العهد بالعلم في ذلك الزمان غير العهد به اليوم. ندخل المدرسة في أول تشرين الأول، ثم لا نرى وجه الضيعة قبل منتصف تموز. لا أعياد، ولا مرافع، ولا فرص، ولا ولا. كنا نودع أهلنا جادين غير هازلين، في غيبة لا هوادة فيها.
وإذا عدت صيفا فلأكون في كنف شيخي أي من مدرسة ثابتة عنيفة، إلى مدرسة متنقلة أعنف. كان - رحمه الله - يذاكرني في كل فن ومطلب. في الإعراب والتصريف، ورواية الشعر والنثر.
وعدت من المدرسة في صيف سنة 1900 فرأيت شيخي مهدودا. ولكن نفسه ما زالت كما كانت ظل يذاكر في كل ما يعلم؛ ويبدي آراء أعجب بها، وأستغرب صدورها من مثله.
ونعيت إلينا في منتصف آب امرأة صاهرنا أحد أبنائها، فقال لي جدي : شكر لي ريس مدرستك جراءتك ووقفتك على المنبر، وأنا أحب أن أسمعك قبل غياب شمسي. هيء مرثاة تقولها غدا في المحفل، وأحب أن أسمعها لأعطيك رأيي فيها.
وكانت علامة انصرافي من حضرته فتحه كتاب صلواته الخمس - الشحيمة - فدخلت البيت، وأنا أفكر إلى أي كتاب ألتجئ. إلى مجاني الأدب، إلى مجالي الغرر، أم إلى الدرر لأديب إسحق. تلك كانت كتب مطالعتنا في ذلك الزمان، فتأبطتها مع كف ورق وقلم رصاص وقصدت موضع خلوتي وانفرادي. صخرة عالية في القرقفة، تحتها واد عميق استحليتها مقاما للدينونة، حواليها منطقة تكسوها خضرة السنديان والآس وأشجار برية مختلفة. هناك جلست على مقعدي الذي تعودت أن أقرأ - وأنا عليه - الكتب التي أحبها. قرأت عدة تآبين لأديب إسحق وفيه.
كنت سمعت أن تغاريد الطيور تهيج القريحة فتمنيت لو يجيء الحسون ويغرد بالقرب مني، ولكني ما سمعت إلا زقزقة عصافير غير ملهمة، ثم أخذت الحجال تتكلم في الأحراج المناوحة فما نفعتني ولا هاجت قريحتي. فصرت أقول: آه على الحسون، أين الحسون الآن؟ الحسون وحده يوقظ هذه القريحة النائمة. وا خيبتي عندك يا جدي. ها قد مضت ساعة وساعتان ولم أكتب شيئا. فلأكتب، وكتبت: كذا فليجل الخطب، وقبل أن أتم البيت، قلت: لا. غدا عيد السيدة، وهذا عيد عظيم في البلاد كلها، وخصوصا في ضيعة المرحومة، فكنيستهم على اسم السيدة. إذن الأفضل أن أبدأ هكذا:
لبس الرجال جديدهم في عيدهم
ولبست حزن الأمهات جديدا
الآن جرى القلم فلنكتب على خيرة الله، فكتبت: إنني في موقع حرج بين الموت والحياة، تخنقني الزفرات، وتغرقني أمواج البليات، قلبي مصاب بسهام الأحزان، وصرت هدفا لنوب الزمان. - غاق، غاق، غاق. هذا غراب ينعق، لعن الله الغربان! وزاد في الطين بلة أنه فرد غراب، وهكذا قطع الغراب مجرى الوحي والإلهام، فطويت ورقتي ودفنتها في عبي. وعدت إلى البيت، فوجدت جدي قاعدا ينتظر، فحكيت له ما جرى فضحك ضحكة مرة وقال: قريحة تهيجها دقات حجل ويهمدها نقيق غراب ما هي قريحة.
فقلت له: شر الصباح ولا خير المساء . غدا تسمع ما يعجبك.
فقال: اتكلنا على الله.
فقلت: وربما الليلة.
فقال: إذا فاض النهر، وما طار غراب.
وكانت الوالدة تسمع هذا الحديث وكأنها مرتبكة في حل رموزه، فأشارت بمدراها كصاحبة ابن أبي ربيعة، وقالت: أيش؟ فقلت: ماش، بحياتك يا أمي أجلي زجاجة القنديل. وقصي فتيلته. بالك مشغول بحديثي مع جدي. غدا تسمعين ما يرضيك. فانكبت على إصلاح هندام المصباح وهي تردد ضاحكة: ما صبح إلا فتح. •••
وقعدنا على المصطبة قدام الباب وأصغى جدي ليسمع تأبيني لأم أنطون، فما أسمعته قولي: إنني في موقف حرج بين الموت والحياة، تغرقني أمواج البليات، حتى ضحك وقال: لأ، لأ، كثرتها يا ابني. طيب قل، فأتممت: يحق لي ذرف الدموع، وندب هاتيك الربوع، ولعن الدهر الخئون، لأجل ما يبقره مخلب المنون.
والتفت بجدي فرأيته يهز برأسه، فقلت: ما بك، إن كانت لا تعجبك أمزقها.
قال: كمل - عافاك - ولكنك زدت العيار. بعدئذ أعطيك رأيي.
فقلت:
والدهر نقاد على كفه
جواهر يختار منها الجياد
فقال: يختار منها؟ قلت: الجياد.
قال: مليح.
ومضيت في قراءتي: هي الدنيا غرور، وما بها من سرور، ولكن تعزوا بالمقول، واذكروا كلام الرسول، حين يقول: إن الذين يموتون بالرب لا ينبغي أن تحزنوا عليهم كسائر الناس الذين لا رجاء لهم.
فاهتز جدي وبان الرضا في وجهه وقال: عال، عال.
وكانت الوالدة كامنة وراء الزاوية تتنصت، ولما رأت براعتي وضعت أصبعها في أذنها، وأسرعت إلى جارتنا تبشر بفصاحة ابنها، فطار الخبر في الضيعة أن مارون عامل خطبة متينة لأم أنطون.
قال جدي: كمل. فقلت: إن المرحومة كانت شجرة مثمرة بحقول الصلاح، تصطاد السانح والبراح.
قال جدي: ما قالوا البراح، قالوا البارح.
فقلت: والسجعة. فقال: أهي فرض؟ طيب، اعملها هكذا: حط محل بحقول الصلاح بالحقل الصالح فتستقيم لك السجعة.
فأعجبني منه ذلك، ودونت ما قال. ومضيت حتى قلت: كانت المرحومة درة نفيسة وعلطميسا كليسة.
فاستغرب ما قلت وصاح: آخ، آخ، آخ، ما معنى علطميس؟ لفظة ثقيلة ما شاء الله! أكثر من رطل.
قلت : قال معلمنا: إن معناها العفيفة الحسنة القوام.
فقال: ومن يفهمها من الناس؟ إذا سمعوا كلمة علطميس حسبوا أنك تسبها. اضرب عليها. ثم ما معنى كنيسة؟
قلت: المرأة الحسناء المستورة قال: بعيد الشبه ألف مرة، المرأة كنيسة؟ ثم ما دخل الحسن في التأبين؟ هل أنت تتغزل؟ وهذي احذفها.
فحذفتها وأنا أقول: بقي لفظة صار من الواجب حذفها. قال وما هي؟ قلت: كانت المرحومة عجنجرة.
قال: وماذا قال معلمك التيس عن عجنجرة؟
قلت: قال المكتلة، الخفيفة الروح.
قال: يا ابني أم أنطون مكتلة؟ يا جدي، أعمى أنت؟ أم أنطون جلد على عظم.
قلت: إذن أشطب على هذا، وجررت القلم فوقها. ورحت أقرأ حتى بلغت قولي:
ولو كان النساء كمن فقدنا
لفضلت النساء على الرجال
قال: وهذا كذب، لا تفضل امرأة على الرجال مهما كانت.
فقلت: ومريم العذراء؟
فارتبك جدي وكز على أسنانه، وقال: اقرأ قدامك، كمل. احذف البيت. هذا كثير على واحدة مثل أم أنطون.
فقلت: ولا شك أنها ذهبت من دار الأتراح، لتحل في الضراح.
فصرخ: أيش هو الضراح؟ ما كفاك أنك قتلتنا بالسجع حتى تهلكنا بهذه الألفاظ الوحشية.
فقلت: الضراح هو البيت المعمور في السماء الرابعة. فصرخ: وهذا أيضا من فضل معلمك؟ ليتني أعرفه لأحش لحيته ولو وقعت في (الحرم) من ذات الفعل. لا يا جدي. اكتب اكتب: ولا شك أنها ذهبت من دار الفناء لتلقى ربها في دار البقاء.
فكتبت ما أملاه وقرأت: إن فقيدتنا الجليلة أم صالحة قديسة، وستحل - ولا شك - بالمكان المعد لها من قديم الأجيال.
فرقصت لحية جدي الدبكة، ودفعني بيديه الثنتين فاستلقيت على ظهري، وصرخ: قم عني يا بغل، أنت بابا حتى تثبت قديسين؟ القداسة! قضينا تسعين سنة بالصلاة والصوم وخوف الله، وقلبنا يدق خوفا من تلك الساعة. وأنت تثبت أم أنطون قديسة بشطحة قلم! هذا رثاء؟! هذا طق حنك. سجع ومزع. كلام فارغ مثل رأس الذين علموك.
فلملمت قوامي المسفوح، ونهضت متأثرا من تلك الخيبة المرة ومن هاتيك الساعة طلقت الغريب والسجع، وهجرت الغلو ، واعتصمت بالواقع.
كيف تعلمنا
أظن أن للأبجدية التي أبصرت النور على شاطئنا عملا عظيما في العقلية اللبنانية. لقد فصلنا الدهر المستهزئ ببنيه عن ذلك الزمن الحافل بالأمجاد، ولكننا مشينا في ظهور جدودنا نحلم في كل عصر بالقراءة والكتابة. فمنذ قرن وأكثر كان شعار اللبناني المثقف دواة يشكها في زناره، سيان في ذلك من يلبس غنبازا يجرر أذياله، وهي الصورة الغالبة على هؤلاء كالشيخ ناصيف اليازجي، أو من يلبس سروالا كالمعلم بطرس البستاني.
كان الكاتب اللبناني يتباهى بتلك الأداة النحاسية؛ ذات الباقول المنقش، والقصبة التي تنام فيها أقلام (الغزار) مطمئنة. فإذا دخلت قصر الأمير اللبناني رأيت فيه رجلين: رجل السيف يزين صدره خنجر ذهبي الغمد، ورجل القلم وحليته الدواة التي جود صنعها آل نفاع في بيت شباب فأصبحت تحفة طريفة بل وساما لبنانيا بكل ما تتحمل لفظة الوسام من شرف ومجد.
وكانت الكتابة منذ قرن تقريبا مفخرة يتباهى بها من يحسنها فيمشي الشدياق كابن الرومي مشية يغربل فيها. وقد سمعت في عرس منذ نصف قرن وأكثر واحدة غنت لي (زلغوطة). تلك أول مرة سمعت فيها اسمي يطير في الهواء. ويذكر في محفل.
من عادات اللبنانيين في أعراسهم أن يغنوا، رجالا ونساء، في تمجيد بعضهم أولا، وقد لا يحرم من له بعض الشأن من (ترويدة) رجل أو زلغوطة امرأة، وهذا ما ظفرت به أنا في ذلك العرس. غنت لي السيدة ياقوت فقالت:
آووها - أنا ما بغني عالهوا
وبغني لهالجمع كلو سوا
وبخص من بينهن شدياق مارون
ملفان وبيلبقلو شك الدوا
كانت تلك الأغنية كنفخة في فقاعة صابون فهرعت إلى دواة مهجورة كانت عند جدي فجلوتها وشككتها في زناري، ولم أدع زقاقا من الضيعة إلا عرضت فيه دواتي على الأنظار، فكنت شدياقا صغيرا يشك دواة لا يقل وزنها عن نصف أقة.
اللبناني لا يتمنى ثروة وافرة فحسبه القوت. نشأ وهو يردد: هنيئا لنفس ما عليها ولا لها. إنه خشن كصخوره، إذا حصل على البرغلات والزيتات والتينات عاش عيشة راضية، أما ما يشغل باله هو تعليم ابنه ولو القراءة البسيطة، وتعليق الحرف وكتابة الهندي. أي الأرقام الحسابية.
وإذا قلت لواحد منهم كيف الحال، فلا يشتكي الفقر ولا يتذمر من خشونة العيش. الهم الأكبر هو خوفه من أن يفوته تعليم أولاده.
وإذا عرفنا تاريخ الوقف اللبناني في كل قرية عرفنا أن غاية الواقف، منذ مئات السنين، كانت تعليم الأولاد. ففي ظل الكنيسة تنشأ المدرسة. وإذا تهاون وكيل الوقف قامت قيامة القرية، وكذلك قل عن ديورة الرهبان. فعلى الدير أن يخص راهبا بتعليم الصغار القراءة والكتابة مجانا.
أما كيف كانوا يعلمون ويتعلمون فإليك الخبر: يكتب المعلم الألف باء على ورقة يشكلها الولد بخشبة مفروضة لها متكأ، ويأخذ مدلا وهو عود رفيع يدل به على كل حرف تعلمه. ومتى عرف الألف باء طردا وعكسا وانتقاء، كتب له القسيس الأبجد، ثم ينقله إلى (القدوس) وغاية الغايات كان مزامير داود. يقرءونه ولا يفهمونه.
هذه المرحلة هي المرحلة الأولى التي يقف عندها الأكثرون وهي تضاهي الشهادة الابتدائية اليوم، وإذا كان الولد ابن بيت ميسور أدخله أبوه مدرسة أعلى. وهذه المدارس الصغيرة كانت منتشرة في لبنان، يقدم على فتحها الكهنة المتبتلون فيعلمون بها أبناء القرى المجاورة. ومن يقدر أبوه على تعليمه فهناك مدارس عالية للتعمق في درس النحو واللغة.
وكانوا في ذلك الزمان يعتمدون على الذاكرة يحشون عقل الطالب محفوظات لا أول لها ولا آخر. شعر ونثر من كل عصر، والويل لمن يلحن أو يخرم حرفا أو يخطئ في حركة عين المضارع فتقلع عينه وتصلم أذنه. المتقدم من الطلاب يعلم النحو في ابن مالك. شعر منظوم يحفظه التلميذ كالماء الجاري. أما شرح المعلم فهكذا. يقول أولا بيت ابن مالك بكامله:
كلامنا لفظ مفيد كاستقم
واسم وفعل ثم حرف الكلم
ثم يشرح قائلا: يعني كلامنا لفظ مفيد مثل استقم. وينتقل إلى الشطر الثاني فيقول: معنى هذا الشطر الكلم اسم وفعل وحرف. فهمتم يا أولادي؟ فنجيب بصوت واحد: نعم يا معلمي. - طيب، عافاكم، عافاكم.
وينتقل إلى درس آخر فيقول مثلا:
والاسم منه معرب ومبني
لشبه من الحروف مدني
ويسير في شرحه الدرب الدرب فيقول: يعني الاسم منه معرب ومبني لشبه من الحروف مدني. فهمتم؟ فقلنا: نعم إلا واحدا اجترأ وقال: لا. ما فهمت يا معلمي.
فرد المعلم ذيل كوفيته الأيمن على كتفه اليسرى وقال: شربل جحش، مهما شرحنا له لا يفهم. فضحكنا وبكى شربل. ومضى المعلم يشرح بتلك البراعة، يقول لنا أشياء وأشياء وقل منا من فهم عنه شيئا.
ومضت السنة على ذلك النوال، يلقي علينا ألفاظا يضل في واديها الشنفرى، ويتيه امرؤ القيس.
وفي ذات يوم جاء والد يحمل الزاد لابنه، فقعد يستريح قرب شباك غرفة درسنا، فسمع معلمنا الخوري يترنم بهذا البيت مستشهدا به على مضارع كان وحذف نونه:
صاح شمر ولا تك ذاكر الموت
فنسيانه ضلال مبين
فصاح ذلك الوالد من الخارج وهو يصفق على فخذه: يه يه يه. استح يا خوري يوسف! لا تعلم أولادنا قلة الهيبة.
ويجي رأس السنة فيفرض علينا أن نكتب إلى آبائنا مكتوب معايدة فنحك رءوسنا فلا يخرج منها شي، فنهرع إلى الكتب المختصة بالمراسلات كالشهاب الثاقب وغيره، حتى إذا وقعنا على المكتوب المطلوب نقلناه بكل أمانة وبعثنا به إلى أهلنا. وإليك واحدة من هذه الرسائل الطريفة التي نقلها رفيق لي عن تلك الكتب، ووجهها إلى والده:
والدي العزيز
بعد لثم يديكم وطلب رضاكم الأبوي على الدوام. أحاول أن أكتب إليكم فيفت في عضدي لأن باعي قصير، ولكن شوقي إلى محياكم يجري قلمي في هذا المضمار.
إلى أن يقول - طبعا نقلا عن الكتاب: (نحن متوجهون نهار الخميس القادم إلى طرابلس الفيحاء).
ثم نقل خاتمة المكتوب بشحمها ولحمها، وبعث برسالته إلى والده فوصلته مساء الأربعاء.
فما قرأه الوالد حتى اضطرب. شغلت باله عبارة: فت في عضدي، وباعي قصير. فخشي أن يكون قد أصاب ولده مكروه فت عضده، وقصر باعه! وازداد اضطرابا حين علم أن ولده متوجه إلى طرابلس. وقعد الرجل يفكر ولكنه لم يتوصل إلى حل ألغاز مكتوب ابنه، وأخيرا قال للمكاري: عش البغلة، وبات على سفر . فما انشق فجر الغد حتى كان في البحصاص.
وقضى ذلك النهار يفتش عن المحروس في شوارع طرابلس وأزقتها، ولما أعيا قصد المدرسة فوجد ابنه فيها سالما، لا باعه قصر ولا عضده مفتوت، فحمد الله وسأل ابنه: متى رجعت من طرابلس؟ فهز الفتى كتفيه وقال: أية طرابلس؟ - طرابلس. أنت كتبت لي أنكم متوجهون إلى طرابلس، فشغلت بالي ولاقيتك.
فقال الطالب النجيب: هكذا مكتوب في الكتاب.
وكانت دقيقة صمت جزم الوالد فيها أن تعبه غير ضائع، وأن المحروس سيكون من النوابغ إذا عاش.
وحكى لي مرة البطرك إلياس قال: دخلنا مدرسة غزير وكتبنا لوالدنا نذكره بالنجاصة التي حد بيتنا، فأرسلوا لي سلة فأكلت وأطعمت.
وفي العام الثاني تعمقت في اللغة، وأخذت عن معلمي أن الجيم والصاد لا يجتمعان في كلمة، فدققت ورميت والدي بمكتوب الكلمة الصغيرة فيه رطل. ولما بلغت ذكر النجاص استعنت بفصاحة معلمي؛ فأرشدني إلى الكلمة الفصيحة. فكتبت: يا والدنا، لا تأكلوا الكمثرى وحدكم: ولا يغرب عن نيرتكم تذكر ولدكم الذي يحب ذلك الجني.
فحرمت تلك السنة أكل النجاص؛ لأن والدي لم يفهم ما قصدت.
هكذا كانوا يعلمون في ذلك الزمان، ومع عقم هذا التعليم فقد أنبتت البلاد رجالا كان لهم شأن مذكور في تاريخنا، استفادوا وأفادوا لأنهم أرادوا، والإرادة أم الإبداع.
سنتان في مدرسة الحكمة
1905-1906
رأى عيني شاردة، وهو يربأ بالكهنوت أن يهان في الدهر العتيد، فغضب غضبة بينها وبين حسان بن ثابت أقرب النسب. سب - رحمه الله - دين لحيتي سلفا، فعلق على صدري وساما مرصعا يوم كانت تحلم العائلة بالطيب النازل على لحية هارون، وبعودة المجد إلى بيت لاوي، فالكاهن لا يقل شرفا عن الملائكة، أولئك يسبحون الحمل المقتول، وهذا يولم عليه بكرة، ويسبحه عشيا.
أغضبناه - دفأ الله ضريحه - ولم نكن عند ظنه فسب تلك العوسجة قبل أن تنبت. أنذرنا - عظم الله أجره - بالخطر الأشمط، فأدركنا في تلك اللحظة من العمر أننا سننصب هدفا سيارا على صدرنا ترميه ألسنة الغاضبين، وأولهم والدنا الفاضل، كلما أحوجت الضرورة.
إذا كنت ممن سمعوا بخبر التينة التي يبست لساعتها؛ لأن المسيح لعنها، فلا تتعجب. هكذا أصاب لحيتي قبل أن يحبل بها في البطن. والمسيح - لاسمه السجود - وأبي - سامحه الله - استعجلا الشيء قبل أوانه. طلب مني أبي تعفف الكاهن البتول وأنا شرخ كقوم الجنة لم أذق بعد طعم الدنيا وحلاوتها. والسيد - له المجد - عن له التين في غير أبانه فعوقب بحرمانه، وماتت التينة شهيدة مظلومة كما قضى كهنوتي مأسوفا على شبابه الروحي. ما تقول إني فعلت إذ هبت على غابتي هذه العاصفة الهوجاء؟ لا شيء. مر في خاطري أن أرجعها أدراجها فلاحت لعيني الوصية الرابعة، كما ظهرت إشارة الصليب لذلك الملك فانتصر بها، وخفت أن يقصر عمري إذا قلت له: أف، فأحجمت. وكان سكوت عميق شوشه ضحك إخوتي الصغار فهرولت إلى فراشي أبل مخدتي بدموعي حتى تعكرت من الغيظ عيناي كما قال داود. ولو فعلت مثله لقلت هذا جزائي، ولكني لم أزن ولم أقتل. أغضبت والدي نظرة فابتسامة ذقت غبهما شتيمة مبتكرة فعملت بالمثل القائل: نصف الدرب ولا كلها.
يا لك ليلة لم أنم فيها، ومن أين يجيئني النوم بعد تلك الإهانة العبقرية التي تضحكني كلما تذكرتها؟ ولكنني لا أجحد يدها البيضاء عندي، وحسبي أنها فتحت لي باب الحبس المؤبد.
وكيف يغفى فتى في عنفوانه وقد أوتر أبوه قوسه ورماه في صميم أمله. وفيما أنا ألتمس فرجا لهذه الأزمة إذا بيد تمتد إلى جبيني فعرفت أنها يد أمي، فتأففت وقلت لها: ما لك وما لي، اتركيني في مصيبتي.
فما نبست - رحمها الله - وسكتنا بضع دقائق كنت أحس فيها أنها تبكي فقلت لها: وأين راح؟
فأجابت كمن تخنقه العبرة: عند بيت عمك.
فارتفع صوتي وقلت بحزم: بشريه، الرجعة لمار يوحنا مارون مستحيلة.
فأجابت كمن يضحك ويبكي: يا تقبرها بشارة. والخورنة يا ابني؟
قلت: نفكر فيها.
فقالت كمن يشجعني، ويفتح لي باب الصيرة التي رفع سياجها الشائك حولي: افحص ضميرك، ورز حملتك، إن قدرت كان به. فهمت، لا تعلق ولا تعلقنا. - ما فهمت. - افهم على مهلك. - يعني؟ - يعني: إما الخوري مليح وإما لا. البيت متعود على خوارنة أوادم. إن سب أبوك لحيتك يسب الغريب لحيتك وإكليلك. مارون يا مارون، اصح يا ابني. علماني خائف الله أحسن من مطران بلا شئمة.
قلت: وقضية المدرسة؟ هو لا يرضى إلا مار يوحنا مارون. - ومار يوحنا مارون مليحة يا ابني، أين تعلم ابن عمتك وخالك.
قلت: ولكني ختمت دروسها.
فسكتت هنيهة ثم قالت: لعله يقنع، أبوك يحمى ويهب، ولكن قلبه طيب. أية مدرسة تريد. - ما كنت سامعة أمس؟ نسيت الحكي عن مدرسة الدبس. - لا، ما نسيت، ولكن أبوك يخاف من بيروت. قال: إذا علمناه ببيروت خسرنا الخورنة للأبد. - ولكن، أنا أربح.
فضحكت وقالت: من يكره الربح، هات خبرني عن ربحك.
قلت: علم وخبرة. خوري متفتح أحسن من خوري أعمى.
فقهقهت وقالت: متفتح أم مفلقح.
فتبالهت كمن لم يسمع وقلت بهوس: تلميذ مدرسة الدبس غير تلميذ مار يوحنا مارون، وتلميذ بيروت غير تلميذ كفرحي. - يا ما أحلى كفرحي، لا دبس ولا عسل، كل المدارس تعلم. المليح مليح أينما كان. جدك تعلم تحت السنديانة وكان أحسن خوري. صل ونم على خيرة الله. شر الصباح ولا خير المساء.
ثم قامت ترسم إشارة الصليب في الهواء فوق رأسي. وصليت كما شاءت، فنمت نوما لذيذا ورأيت أحلاما أقاحية كنت أتلفت فيها عن يمين وعن شمال لأرى إذا كان أبي ينظرني ويسب دين لحيتي مرة ثانية.
وكان في الضيعة رجل داهية من أقاربنا. فقير الحال ولكنه ابن جلا، نبيه كلمته مسموعة. جاء يسهر عندنا مع الساهرين. وذكروا المدارس فامتدح مدرسة الدبس جدا، ثم وجه الكلام إلى والدي قائلا: إذا كنا نريد أن يقوم منا خوري مثل البشر ابعث مارون إلى مدرس الدبس.
وأمن ابن عمي على كلام خاله هذا وقال: عمي حنا رجل مكفي ومارون مليح. من يعلم ربما صار مطرانا.
وما زالا بأبي حتى انتخى وتبسم، والتفت بي وبوالدتي كأنه تذكر تلك الآية التي هبطت عليه أول أمس وقال: طيب، مدرسة الدبس مدرسة الدبس . أبشري يا أم مارون. جهزي حوائج ابنك.
فتهلل وجه الأم لهذا الفوز العاجل، وبعد أسبوع كنت في مدرسة الحكمة بين تلاميذ من كل البلاد حتى قبرس، كدت أنكر نفسي بعد ما خلعت غنبازي الجوخ الأسود وشروا لي الكتان وصدرية المخمل المزررة وزناري المقلم، ولبست ثوبا إفرنجيا أنيقا. راح الشدياق وجاء الأفندي. وكان الطوق المكوي يشد الزيار على رقبتي الغليظة، فأخال الياقة كأنها الخناق وأبدو لعيني كأنني الهر المشنوق. بعد ذلك الشروال الرحراح وحريته الواسعة النطاق لبست الثوب المزمك، فشعرت كأن كلا مني في حبس، وصرت أسيرا مكبلا كحرباء الأخطل. ولكني فرحت بخلاصي ونجاتي من الفخ الذي نصبوه لي.
وشاع في المدرسة أنني أنظم الكلام الموزون المقفى الذي كانوا لا يزالون يسمونه شعرا، فتجمعوا علي كأنهم حول دب يرقص، وكان منهم رشيد، وأحمد تقي الدين، ومرشد خاطر، وحبيب جرجس - الدكتور حبيب اسطفان - وسعيد عقل الشهيد، وأمين رزق ابن صفي، وغيرهم ممن نسيت أسماءهم. استنشدوني فأنشدتهم بعض فرائدي الدرية في العذراء مريم وابنها يسوع، والقلبين الأقدسين، ويوبيل الحبل بلا دنس، ثم تشطير: لو كان للأفلاك نطق أو فم لترنمت بمديحك يا مريم، وتخميس، عجيب أنك العذراء حبلى برب قد تعالى في العجائب. هذه كنا نرتلها كل أحد في صلاة (الأخوية)، ثم باقة أزهار لملكة آيار، فضحك رشيد تقي الدين ضحكته الصارخة كنكتته وحزبيته، وقال لعصابته الطاهرة: الشب مليح، ولكن ينقصه علم، دربوه يا شباب.
فتعلمت منهم ما ينقصني، فطرت معهم في أفقهم وعرفوا بعدئذ أني أستاذ كبير، ولكنني كتمت علمي تواضعا، وصرنا عصبة تهتز الأرض تحت أرجلنا، والويل لمن يعلق بلساننا. كانوا يلهجون كثيرا ب (خدعوها بقولهم حسناء)، فوجدتني في نعيم وشكرت ربي على حرية اضطهدت لأجلها، وتذكرت القصاص الذي أنزله بي رئيس مدرستي السابقة - المنسنيور أرسانيوس - لأجل قصيدة غزلية شطرتها ونشرتها في جريدة الروضة تحت عنوان: قتيل الغرام.
وفي ذلك الزمان كان سيد الموقف الأستاذ شبلي الملاط، فبيروت كلها تنوه به، وموشحة (الجمال والكبرياء) ملء الأفواه، وعلى كل لسان:
طفلة فوق سرير من خشب
في زوايا بيت صياد قديم
بخل الدهر عليها بالحسب
والغنى والجاه والبيت الكريم
هذه القصيدة القصصية كانت آية زمانها، بل الزاوية الأولى في تطور الشعر الحديث، وكان صاحبها الملاط مثل الشعراء الأعلى، ولأجلها لقبوه الشاعر العصري لخروجه على القديم وافتتانهم بجديده الرائع. وكان شبلي يمر في أروقة الحكمة كأنه أحد أعمدتها في شموخه، وليس بين الأستاذ الجليل والسماء أكثر من شبر.
كانت السنة الأولى ثقيلة علي، وما قولك بمن ينتقل من مدرسة تكتنفها غابة في برية إلى معهد يشرف على بيروت وما فيها. بيد أنني ألفت محيطي بعد عناء ولابسته بعد ضيق شديد بالزي الفرنجي. لم تعد تدهشني قصور بيت سرسق وبسترس وتويني، ولا مقبرة الأشرفية وتماثيلها النافخة في الأبواق مشيرة إلى فوق. ولا البنايات الضخمة، ولا النسر اللازق بجبين بيت تابت، ولا البواخر والبوارج والأساطيل. لم أعد أستغرب شيئا حتى الصدور العارية ولا الجمال المعروض على الناس في الطرقات. ولا القطط والكلاب المضطجعة في أحضان السيدات المترفات، في عجلاتهن ذات النوافذ البلورية.
صرت جبلا لا يهزني ريح بعدما كنت أخف من الريشة، فأمسيت أمر بهذه الغرائب مر النسر في الجو، لا أسأل عن شيء؛ لأنني عرفت كل شيء فاسترحت وأرحت أعز أصحابي المرحوم الدكتور مسعد كرم من سؤالاتي الكثيرة.
بعدما كنت أحسب الدرزي غولا يأكل الأولاد أصبح أكثر أصحابي دروزا. فهذا الشيخ سليم حمادة من غريفة القصير القامة يمشي بيني وبين مارون نطين الدرعوني فتخالنا صورة العائلة المقدسة تمشي على أرض مدرسة الحكمة، وسليم يصرخ في ذلك الملعب: ما حال درزي بين مارونيين.
بعدما كنت أفزع من الدرزي مثل مار ساسين صرت والأمير رفيق أرسلان على مركع واحد في بيعة الله تجمعنا وليمة القداس كل صباح، عدا ما هنالك من (هوردفر) زياحات وصلوات وزيارة قربان بعد الغداء. كان سعادة المير كالزئبق الرجراج لا يستقر ولا يستكين، وكثيرا ما كان نصيبي النقط السوداء والقصاص وينجو هو؛ لأني وعر والأمير أليق مني وأكيس يعرف كيف يداري جناحه . وقد كان يسبق النصارى إلى جائزة التعليم المسيحي.
وبالاختصار لم يحتضر العام المدرسي حتى صارت الدجاجة الغريبة ديكا ينقر ويناقر، يهجو وتهجى ذقنه السوداء الكثة الكالحة، كما يذكر كل الرفاق أخص منهم الصديقين الأديبين القاضي مراد أبي نادر والتاجر إلياس غانم.
فما أعظم أجرك يا والدي، وأجزل إحسانك. أنت الذي أرحتني منها.
كنت أهجو بلا رحمة ولا شفقة. الخوارنة والعوام، التلاميذ والأساتذة. أكتب هنا وهناك في الروضة والنصير والمنار والحقيقة والمشرق ولم أعف المقتطف من هجوم. الخلاصة كنت معمل نثر وشعر. كنت لو قال لي واحد: كيف حال الجناب، أجبته نظما: بخير نحن يا شيخ الشباب. كنت غرا أحمق أحسب كل ما يكتب أدبا فأخرجت كتبا لعنة الله عليها، وقصائد أتمنى لأكثرها ما نزل على سدوم وعمورة، وليس الحق علي فهذا جو مدرسة الحكمة، موئل لغة الضاد، ومحيط الأدب والشعر فكأنها البصرة والكوفة معا.
وكانت المدرسة تعلم اللغة الإنكليزية والتركية مع العربية والفرنسية والسريانية، وكانت تدرس الحقوق لمن يحب من العلمانيين، واللاهوت للإكليريكيين، فتعلمت شهرا واحدا لغة إنكليزية فحفظت الوقتين الأولين من الفعل المساعد وما زلت أذكر: أي هاف نت هبي. وقد لا تكون صحيحة. ما ندمت على شيء مثل تركي اللغة الإنكليزية، وسبب ذلك معلم هذه اللغة الخوري يوسف الخوري الذي أحفظ له ذكرى مرة. كان هذا الخوري خفيفا، وقد أضحك التلاميذ مني يوم وصف لي ذرورا يذهب الشعر من وجنتي الفاتنتين فأستغني عن المقاريض والملاقط. كان دواؤه هذا من الذي يستعمل في الحمامات، فأثر ببشرتي الناعمة، فسخطت على ذلك الأستاذ الكريم.
أما أستاذنا في اللغة الإفرنسية المير يوسف شهاب فإكليركي أيضا، ولكنه شدياق لا خوري. بصير جدا بأصول هذه اللغة، كنا نداعبه بسماجة وكان يحتملنا. دخل يوما الصف فرأى مكتوبا على اللوح بالقلم العريض: حمار. فتوجه إليه على البديهة وجعل شدة فوق الميم وقعد. فبلعنا بريقنا وتغامزنا، وهكذا كان يرد كيدنا في نحرنا. ما كنا نسره - يرحمه الله - إلا ساعة يعرض ذكر الأعمار؛ لأنه بقي في الخامسة والأربعين ربع قرن. وأخيرا قفز قفزة واحدة إلى الثمانين. وآخر مرة التقيت به في أحد مطاعم بيروت قال لي: صرت في التسعين، والمعلم عبد الله - البستاني - باق في الستين لا يتحلحل.
فرض علينا هذا الأستاذ نظم الشعر الإفرنسي ففاتت أبيات أحدنا العشرين مقطعا، وأخطأ رفيقنا هذا تهجئة العنوان فجعله
ver
أي دودة بدلا من
vers
شعر. فما وقعت عين الأستاذ على العنوان حتى غطى شاربيه بيسراه كعادته حين تحضره النكتة، فأعرناه انتباهنا، فقال: يا لياس، يا حبيبي، هذي دودة؟ هذي أم أربع وأربعين. فعج الصف عجيجا وضحك حتى انبج. وجاء المدير - الخوري بطرس مبارك - على ضوضائنا فشاركنا بابتسامته الهادئة الساحرة الحائرة - أعجز عن وصفها - وانصرف.
وكان الخوري فرنسيس الشمالي يعلمنا التعليم المسيحي، وكان لنا رفيق إكليريكي كلع، يقعد حدي وكنت أتندر عليه. شرح لنا الخوري لماذا اختتن المسيح فقلت له: أنطون، صحيح أن المسيح اختتن؟
فأجاب: ما سمعت الخوري!
قلت: وأيش عملوا بالقلفة.
فقال: رموها. ونظر ليرى كيف كان وقع جوابه، فرأى أني غير مطمئن فقال: حقيقة يا مارون، المسألة فيها نظر.
فقلت: اسأل المعلم.
فانتصب أنطون كالمارد ودق على الطاولة، فاستعاذ الخوري بالله واضطرب على كرسيه؛ لأن أسئلة أنطون الغريبة كانت تضعضعه. وطرح أنطون سؤاله فعلا الضحك والضجيج وأخذ الخوري يضرب المنبر ويصيح: كلب تيس، يقصف عمرك. اقعد مطرحك يا بغل.
وأراد الشماس أن يدافع عن قضيته فلم يمهله المعلم الألثغ بل صرخ به: هث، هث، ثد بوزك. وبعد التحقيق الإداري كانت لي الحصة الكبيرة من القصاص وشتمني المدير بيني وبينه وقال لي: حتى على المسيح يا مارون، وقدام تلاميذ من كل الملل والشعوب! هذا المنتظر من تلميذ مار يوحنا مارون؟ هتيكة، عيب. زين اسمك، لئلا يصح فينا وفيك: يا ذلكم يا موارنة إن كان هذا مارونكم.
وخرجت من عنده خزيان، خجلان أدعو على خصلة البدن التي لا يغيرها إلا الكفن.
أما أستاذنا الشيخ سعيد الشرتوني فلم يكن صاحب نكتة، وإن حاولها جاءت باردة. كانت السذاجة تكسو وجه ذلك العملاق، والوقار يسود مجلسه . أحببته كثيرا وأحبني حتى صرنا صديقين لا كلفة بيننا. أسمعته يوما بيتين في هجو لحية معلم لي ختمتها بهذا الشطر: فخري بلحيته فخري بلحيته، فقال: تفخر بلحيته مرتين؟ هذا كثير. أرني كيف كتبتها. فتبسم وقال: التورية مليحة ولكن أيصح فيك: وكم علمته نظم القوافي. لا تغط قلمك في هذه الدواة، وقد فعلت كما قال.
كان أستاذنا عالما كاتبا، اجتهاده يفوق ذكاءه. يريد أن يقول الشعر فيخرجه كالنثر أو أرذل.
كان الشعر فاكهة كل حضرة، وكانت المدرسة تعول على الملاط فيما يلم بها من مناسبات فجائية. فيهدر ذلك الفحل كالبحر الزاخر ويبيض الوجه. وكان زعيم المجددين كما قلنا وأثره واضح في توجيه الأدب لا يجحده إلا كافر. وإن انتقدناه فنقدنا لا يضره، شيئا فالكمال للأب الأزلي شيخ المشايخ.
وكانت المدرسة على عهدنا حزبين: حزب الرئيس الخوربسكبوس بولس الدبس، وحزب المدير الخوري بطرس مبارك - الشماليون حزب الرئيس، والجنوبيون حزب المدير، والحد الفاصل جسر المعاملتين. وانتهت المعركة في آخر السنة الأولى بقصائد هجاء طبعت، أما أنا فما كنت لبولس ولا لافلو بل لله الذي أنبت.
وعدت إلى البيت أطأ الثرى كأسد المتنبي، أمتن على الأرض إن مشيت عليها. أنا تلميذ مدرسة الدبس. يا أرض اشتدي ما أحد قدي.
وجس الوالد نبضي ليعلم أين تكمن الفكرة الكهنوتية وأين غورت؟ فرأى مني رجلا رصينا متكتما، بعيد القعر، كأني أحد دهاة الإنكليز. وأخيرا قلت له: قبل ست سنين لا أستطيع الصعود إلى هذه الدرجة المقدسة، وفي ست سنين يموت ألف ويعيش ألف. فلنصبر.
ففتل وجهه عني وقال: على مهل. لا تستعجل. إياك لئلا تقع وتفك رقبتك. السلم عال.
ولا أدري كيف غلطت وتمثلت بهذا البيت:
ما مضى فات والمؤمل غيب
ولك الساعة التي أنت فيها
فصفق كفا على كف واستضحك وقال: اكتمل النقل بالزعرور. ثم طفق يصيح: يا أم مارون، اسمعي ابنك البيروتي صار مثل الخوري نعمة الله حنون. كنا بمصيبة صرنا بثنتين. هاتي من يترجم بيننا وبين الأفندي البري.
وفي ذات ليلة خبرته أني ذاهب إلى بيروت لأحرر جريدة، وأعلم في اليسوعية والفرير، فوضع طوقه في كفه وقال: أنا لا يعنيني، شاور الست كاترينا، صار الحكم للنسوان، هذي طبخة أمك.
قال هذا بغضب وسط، وتركني وهو يردد: كلي واشبعي يا أم مارون. عمر بيتك.
وبعد أسبوع كنت محرر جريدة الروضة مع ذلك الرجل التقي النقي المرحوم خليل طنوس باخوس. وبعد عام مات الدبس فقمنا بما يقضي به الوفاء نحو الفقيد العظيم. وخلفه المطران بطرس شبلي، فهبت الطائفة بزعامة يوسف الهاني تطلب أن يكون لها مجلس ملي كغيرها من الطوائف الشرقية. وكان يومئذ قد انتدبني الصديق عبود بك أبي راشد لتحرير جريدة النصير لسان حال المطالبين بالمجلس، فأخرجت من كلية القديس يوسف، والفرير، وهكذا انقطع الحبل بيني وبين مدرستي.
وظللت أحن إلى آمالي التي ماتت في زواياها وذكرياتي المدفونة بين جدرانها. بعدت الشقة بيني وبينها، وأنكرتني لتطرفي. أما أنا فبقيت أذكر أيامها بالخير مع أنني ركعت في قاعة الدرس قبل انتهاء دراستي بأسبوعين وكان شاربي فترا وأكثر.
أصبح من فضول الكلام أن نذكر إحسان مدرسة الحكمة إلى لغة العرب والأدب الحديث، وأبناؤها ملء الدنيا يعلمونها الناس. أحدقت بالمدرسة أحوال وظروف فهمدت كما تخمد وظلت تصارع في سبيل البقاء. ودارت الأيام دورتها وتداولتها الأيدي، فكانت تعلو وتهبط حتى جاء هذا الرئيس النحيل الذي لو رآه المتنبي لقال:
ودهر ناسه ناس كبار
وإن كانت لهم جثث نحيلة
حرث هذا الأب كرم سيده ولا تزال يده على المحراث يخرج الجفنة حبلى بالعناقيد. أعاد إلى المدرسة عزها الأول ولا يزال يمشي بها بأقدام الجبابرة. فما أجمل خطواتك بالحذاء يا بنت الأمير. كلك جميلة يا خليلتي ولا عيب فيك.
لا خوف على كرم سليمان ما زال الناطور الأكبر يقنص الثعالب الصغار التي تتلف الكروم، كانت الرئاسة أمثولة، فصيرها هذا الخوري بطولة، كان يوحنا مارون الأول بطريركا يناضل في سبيل عقيدة دينية، وهذا يوحنا مارون الكاهن يكافح في سبيل العلم والتربية والوطنية. ولولا المربي ما عرفت ربي.
عشت يا أبت، حقق الله حلمك الأغر.
مدارس الأمس ومدارس اليوم
أليس من حق الطالب أن نعرض عليه شريط ذكريات مدرسية قديمة وحديثة؟ أليس هو اليوم منصبا على دروسه حالما بشهادته عروس آماله التي يرى السعادة كلها في تزاويقها وحروفها؟
يقول الناس عموما وذوو التلاميذ خصوصا: أين مدارس هذا العصر من مدارس ذلك الزمان؟ وأين تلاميذنا من أولئك التلاميذ؟
إنهم طبعا يضعون الحق على المدارس: ويبرئون أنفسهم حين يقولون هذا. ولهذا أنا أروي ما مر على رأسي من شئون المدارس وشجونها، فيقابل القارئ بين مربي ذلك الزمان، ومربي اليوم.
دق قلبي دقات عنيفة عندما قال أبي لأمي: دبرنا له مدرسة. والتفت إلي وهو يجر كلماته: غدا تصير الشدياق مارون، فلم أبد ما كان ينتظره من الارتياح فأعرض عني.
ودخلت المدرسة مع من دخلوا فكانت الفاتحة أن أكلت قضيبين سخنين على سفح ظهري، فأرخيت لرجلي العنان فاستقبلني والدي العملاق بأحد قضبانه.
كان غفر الله يعمل بنصيحة ابن سيراخ القائل: إذا أحببت ولدك فهيئ له القضبان حزما حزما. ثم قادني بأذني كالعنزة الشاردة، وهناك على أعين التلاميذ قال الكلمة المأثورة للمعلم: اللحم لك والجلد والعظم لي. ثم التفت بي وقال: فهمت يا كلب. ومنذ ذلك الحين صرت أطوع من الخاتم في الخنصر، وأنعم من المخمل.
ويوم أحد الوردية الكبيرة خرجنا من الزياح، فإذا بزمارين معهم دب يغنون له ويرقص على وقع الدف والقصب، فعجبت من طواعية الدب واستوائه كالبشر، يعرض العصا بين كتفيه كالناطور، ويمشي مشية الصبايا والعجائز، ينام ويقوم كما يكلفه صاحبه. حتى إنه يدخن بالغليون.
قلت لوالدي: الدب كيف تعلم كل هذا؟! فضحك وقال لي المثل المعروف: العصا تعلم الدب الرقص.
ففهمت تعريضه بي وقلت في نفسي: إذا كانت كقضبانك تعلم أكثر من دب.
هذي واحدة من ذكريات مدرستي الأولى، مدرسة تحت السنديانة، حيث كنا نصطف خطا طويلا حد حيط الكنيسة، الأعلى فالأعلى علما. وفي تلك المدارس كانت تسوسنا العصا أستاذة الدب. أما عقاب الجرائم الكبرى فكان (الفلق) ليتك تذوق طعمه. الفلق خشبة تكمش الساقين كالعض، لتعرض القدمين إلى قضيب المعلم فينصب بلا شفقة. إنني لم أذق هذا العلاج، والفضل لحزمة قضبان الوالد التي إذا مات منها سيد قام سيد.
وواحدة ثانية من ذكريات أول مدرسة داخلية، أذكر ولا أنسى أبدا أنني بكيت أول ليلة بكاء مرا حتى بللت دموعي مخدتي وتعكرت من الغيظ عيناي، كما قال داود بعد فعلته تلك، كنت كالغريب في تلك المدرسة فاستوحشت جدا، وعللت النفس بالسلو، فإذا بي في الغد ألتفت صوب بيتنا فأبكي. سخر مني رفاقي وسموني البكاء. ولكني فقتهم درسا حين نسيت ملاعب صبوتي فراح ذلك الاسم.
ومرت الأيام فجاء أحد المرفع فتذكرت الخروف الذي ذبحناه عام أول، وارتمينا بشحمه ولحمه كعذارى امرئ القيس. تذكرت الكبة النية، والهريسة، والكروش المحشوة، وجميع أصناف المآكل اللبنانية، فبكيت حتى درى أحد رفاقي فقال لي: تبكي يا مارون؟ فأجبته: لا. باصر بنومي. فضحك وضحكت.
وسمع حديثنا الراعي أي الناظر العام، فلم يزد على قوله: شر الصباح ولا خير المسا. ناموا.
ما غمضت لي عين تلك الليلة. أحاول النوم ولا قرار على زأر من الأسد. إن شبح القصاص رهيب، أخاف على جلدي، فكل شيء إلا العصا. ولكنها مضت على خير. هاودنا المدير بمناسبة (أوكازيون) المرفع.
ويوم عيد البشارة 25 آذار ساقنا (الراعي) إلى نزهة في وطا عين كفاع، فسرحنا في تلك البطحاء المقفرة نتنافس في جمع الأزهار لدفن الصليب، فكنت كلما قطفت زهرة ألتفت صوب العقبة، ولكنني لا أرى أمي مهرولة فأعود إلى انتقاء زهراتي، ثم أتلفت فلا أراها.
ودق جرس الضيعة معلنا الظهر فانسلخ قلبي. وقفنا جميعا لصلاة التبشير ثم قعدنا نتغدى على مرجة عين الوطا. إنها عين بلا ماء، كما يقول المثل: اسمك عروس فلا تحزني. ولما يئست من مجيء الوالدة همست في آذان أصحابي من التلامذة: اطلبوا من الراعي أن يفرجكم على كنيسة ضيعتنا. فصاح بهم: يا قليلي الأدب، قولوا زيارة مار روحانا عليه السلام، وأخذ يسرد لهم عجائبه عن ظهر قلب. كأنه يتلو السنكسار.
فصاحوا: لا تواخذنا يا معلمي . غلطنا ، زيارة مار روحانا عليه ألف سلام، فصاح إذ ذاك: اصطفوا. وإياكم أن تتلفتوا في الضيعة يمينا وشمالا. لا تردوا على من يسلم عليكم قبل الصلاة، وإعطاء الديو كراسياس.
ودخلنا الضيعة أصناما أو كالأصنام، وصلينا في كنيسة مار روحانا صلاة طويلة. ولما خرجنا عرضنا في الساحة، وصلينا أيضا السلام الملائكي وأعطانا الديو كراسياس.
ورحنا نلعب بالطابة في تلك الساحة وجيران الكنيسة يتفرجون علينا من بعيد، لا يسمح الراعي لأحد أن يخالطنا.
وبينا أنا أغمز ابن عم لي ليذهب ويخبر أمي فإذا بها مقبلة، تحمل على صينية، الفول الأخضر، واللوز الفريك، والتبولة مع ورق العنب. وبعد ألف رجاء سمح الراعي لرفاقي بأكل ذلك.
وطلبت والدتي من حضرته أن يأذنني ربع ساعة لأرى إخوتي الصغار فامتنع، وقال للوالدة: القانون مقدس يا أم مارون.
فأجابت الوالدة: القانون على رأسنا يا محترم، ولكن هذا ولد، وإخوته صغار، والبيت على رمية حجر، فما عليه لو رأى إخوته ربع ساعة؟
فأجابها: هذا لا ينفعه، اتركيه، قسي قلبك يا أم مارون.
فأجابت: أهو قلب الأم حديد حتى تقسيه؟
فأجاب وهو يشد على كل كلمة: العلم لا يسع معه شيئا. رؤية إخوته ربع ساعة تشغل باله جمعة. الله يجبرك يا أم مارون، اتركي ابنك يتعلم، الصبي شاطر، لا تشغلي باله. قال هذا ودق الجرس وعج: أنافان.
لم يعز والدتي إلا بهذه الكلمة، قالها وهو مشمر: تموز قريب، ما بقي إلا ثلاثة أشهر ونصف. وأدارت أمي ظهرها وأظنها بكت، أما أنا فالتفت صوبها، فزجرني الراعي كما يزجر المعاز عنزة خرجت من الصف، فلعنت لحيته في قلبي.
قلت: تموز. تموز، نعم، يا قارئي العزيز، كنا ندخل المدارس في أول تشرين الأول، ثم لا نخرج منها إلا في منتصف تموز، لا فرص ولا أعياد. لا مرفع ولا من يحزنون. قلت هذا لأذكر أنظمة مدارس ذلك الزمان.
أما اليوم فتموز محذوف من تاريخ السنة المدرسية، وتشرين الأول أكلوا ثلثه، والفرص أكثر من الهم على القلب. في كل أسبوع يصبح التلميذ أهله ويمسيهم ، ناهيك بمخالطته الناس في المدن، فمن قهوة إلى سينما، ومن مرقص إلى سباق خيل، إلى جهنم الحمرا.
إذا وبخ الأستاذ تلميذا وقعت السماء على الأرض. وإذا فرك المعلم أذن صبي أقعد والده شاربيه وكشر عن نابيه وشمر عن ساعديه، وجاء المدرسة للمصارعة.
ولا تنس الإضرابات والتظاهرات فهي تذهب بقسم كبير من أوقات الطالب، خصوصا إذا كان الموسم مقبلا، وهناك بلية هي شر تلك البلايا؛ إنها بلية الإذن، وقد سهلها التلفون، ففي كل يوم يزعجنا الطلاب وذووهم. وإليك نموذجا.
دق جرس التلفون. - نعم هنا المدرسة، من تريد الست؟ - من فضلك مدير المدرسة. - نعم، أنا المدير، وحضرتك؟ - أنا أم فؤاد يا أستاذ. - أي فؤاد منهم؟ عندي أكثر من فؤاد يا ست. - فؤاد، فؤاد عيطو. أرجوك أن تسمح له يوم السبت. - لا إذن في التلفون. - كيف؟ - نعم، هذا ممنوع. - والسبب؟ - السبب بسيط، أنا لا أعرف صوتك. وأحيانا تكون الأم غير أم. - شو عمبتقول، بارول دونر أنا أمه. - أمس كان عندكم يا ست، والإذن بالشهر مرة.
ولما عرفت أن حيلتها لم تجز علي راحت تقهقه وتغني بلا حياء: زروني بالسني مرة.
هذه واحدة وواحدة أخرى أتت من واحد لم تعجبني سيماه. أقبل علي يستأذن لطالب زاعما أنه جاء من عند أبيه الذي ينتظره ببيروت.
فبغته بالسؤال: حضرتك أخوه؟
فأجاب: ابن عمه.
قلت: مؤكد؟
فانتفخ وتعالى وقال: نحن لا نكذب يا أستاذ.
قلت: بما أنك لا تحمل رسالة من والده، تفضل وأرني بطاقة هويتك.
فاصفر واحمر واخضر، وذهب متعثرا، فكلت له التوبيخ بالمد، ولكنه ولى صابرا عليه صبرا جميلا.
إن أحوالا كهذه تقلقل معاهد العلم وتقف حجر عثرة في سبيل إعداد جيل صالح، ولهذا لا أرى مستقبلا باسما لثقافتنا.
إذا لم يحتل العلم - وحده - ساحة شعور الطالب فهيهات أن يفلح.
حقا قام ولكن بلا صيام
خسرت القرى كثيرا من ورعها وتقواها، فأمست أيام الصيام فيها كغيرها من الأيام. قلما تجد واحدا من بنيها صائما أو ممتنعا عن (الزفر)، أي عن أكل اللحوم والألبان والبيض.
ففي هاتيك الأيام، أيام السلف الصالح كنا نرى اللبن والبيض بأعيننا ولا نذوقهما، ولو بكينا حتى تبيض عيوننا. - عيب يا ابني، الصوم كله سبع جمع!
كنت في السابعة أو الثامنة من عمري، وكان والدي يقول لي: أنت شب طويل عريض، وكيف لا تصوم. أترضى أن تكون مثل الأولاد الصغار. عيب عليك، ما سمعت قول المثل: الصلاة عادة والصوم جلادة.
وأنظر أنا إلى عرضي وطولي فأجدني بين بين، فلا أنا شب ولا أنا طفل، فأخضع للأمر الواقع. وأخيرا تعودت فصرت صائم الدهر لا تطلب نفسي (الترويقة) أبدا. وإذا فككت ريقي ذهب نشاطي، و(رواقي)، فأنعس ويمتنع علي العمل في ذلك النهار.
كنا ننتظر جرس الظهر، حتى إذا ما دق، سكتت الضيعة وحسر الجميع عن رءوسهم. الصمت في كل مكان، الراعي يسكت مزماره، والفلاح يقف فدانه، فلا تسمع في الحقول صوت نابس. ومدرسة الضيعة تصلي صلاة التبشير بصوت جهوري وتفك أولادها وجميعهم صائمون، إلا من هم دون السابعة من العمر. كنت أطرب لسماع أجراس الظهر تقرع في الصوم، أما اليوم فلا أسمع إلا جرس دير معاد. فالناس كلهم مفطرون ولماذا تقرع الأجراس، ولمن؟
صوموا تصحوا هكذا قيل، ومع ذلك ترك الصوم، وكذلك صار حظ الصلاة ضئيلا جدا، فأولئك المشايخ الذين كانوا يقيمون الصلاة خلت الكنائس منهم، فلا قارئ ولا مرتل، حتى ولا كاهن. فأكثر قرى بلاد جبيل لا خوري فيها، مع أنها أبرشية البطريرك.
الكل متراخون متهاونون. ارتفعت الكلفة بينهم وبين ربهم فصاروا لا يهابونه ولا يصلون له مبتهلين. والكهنة الموارنة (تليتنوا) أي صار صيام الشباب منهم لاتينيا. وجبة خفيفة صباحا، وغداء يملأ الكرش ظهرا، وعشاء بين البينين مساء. وهذا صيام له أجره عند ربك الغفور الرحيم.
جاء الضيعة كاهن يعرفني يوم خميس الأسرار، وشرفني بزيارة فدعوته إلى الترويقة، مجاملة، حين ودع لينتقل إلى قرية تبعد عنا نصف ساعة ركوبا، فلبى الدعوة.
وكان والدي جالسا معنا فعبس وتولى حين قام الكاهن إلى المائدة. وقال والدي: يا الله. وغادر البيت.
ولما ذهب الخوري عاد الوالد وقد وقفت شعرات جفونه كريش القنفذ. وقال: راح المحترم؟ إلى أين مسافر حضرته؟ إلى بجه! جدك وأنا كنا نمشي خمس ساعات على رجلينا ولا نفطر في يوم عادي من أيام الصوم، فكيف يوم خميس الأسرار في جمعة الآلام. يا حسرتي على الرز ضاعت ملاعقه. هذا البيت ما أفطر فيه أحد في الجمعة الحزينة يا مارون، تكارم ما شئت واعزم على الناس، ولكن بعد العيد. لا تزعج عظام جدك.
وأذكر أن رجلا ماتت عنده غنمة في الصوم فقعد (يقورمها) على مرآى من أولاده، ولم يذقها هو ولا أحد من أهل بيته. وكان ابن البقرة السعيد الحظ هو الذي يولد في الصوم فيبقى له لبن أمه. وإذا حلبت فيما بعد فلكي يصنع حليبها جبنا أو لبنة لفرحة العيد.
وكثيرا ما كان جدي في جمعة الآلام يفطر على ورق البصل ولا يذوق طعاما إدامه الزيت. ويتعشى رأس ثوم بعد أن يشويه، ويتحلى بالتين المطبوخ بالدبس، بعد أن يعود من صلاة الحاش «الآلام» ويكون قد شبع من سب اليهود الذي لم يبطل ولا يزال، ولكن المصلين بتلك الحرارة قد فقدوا.
كان رحمه الله يقول: قال الله لعبده: كن حارا أو باردا، ولا تكن فاترا، ولذلك كان هو حارا وخصوصا حين كان يضربنا بعكازه إذا قصرنا في واجباتنا الدينية.
وكانت والدتي أشد حرارة من جدي - وهو عمها في جهتين - لأنها بنت خوري وكنة خوري وكلاهما زميتان محافظان على الصلوات الخمس يقيمانها في أوقاتها ومواعيدها.
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوده أبوه
تعودت المرحومة أن تضع الشمعة وعلبة النار حد فرشة أبيها الخوري وعند رأسه، حتى إذا ما نهض ليصلي صلاة الليل، والكل نائمون، أضاء هو الشمعة وقام بصلاته على موسيقى شخير أولاده. ولما انتقلت بنته إلى بيتنا، بيت أخيه، ظلت تعامل عمها الخوري معاملتها والدها، ثم ظلت على تلك العادة، فكانت إذا ما أمسى عندنا خوري تضع له الشمعة وعلبة النار حد رأسه.
وجاءنا أحد هؤلاء الكهنة الذين لا يصلون فاختارت له الوالدة شمعة جديدة وكم كانت خيبتها مرة حين لاح لها النهار ورأت أن بكارة الشمعة لم تفض، فنادت والدي وهي تولول فهرول ظانا أن في الفراش حية لدغتها، وما دنا منها حتى صاحت متعجبة: تفرج يا حنا، الشمعة بقيت كما هي! يه يه يه. - بلا يه وبلا بلوط، اليوم صار البيع بالجملة. أيام أبيك وعمك راحت يا كاترينا. كان الناس يودعون المرفع ويستقبلون الصوم بهذه العبارة: كما رفعتم بخير تصوموا وتعيدوا بخير. واليوم إذا أردنا أن نكون صادقين فماذا نقول؟
وكان الناس يعيد بعضهم بعضا بقولهم: المسيح حقا قام، وكان الجواب: حقا قام، واليوم يصح أن يقال: المسيح حقا قام، ولكن بدون صيام.
جينا للضيعة جينا
إلى الدكتور سليم حيدر
إذا كان أعجبهم فيما مضى أن يسموا ابن العميد والطغرائي ذا الوزارتين فكم تراه تعجبني، وأنت أديب وشاعر، مثلهما، أن تكون ذا وزارات: تلفون وبرق وبريد وزراعة. وليس من الغريب أن تفلح حيث تكون، فالذي رآك مثلي هلالا لا ينكرك بدرا كاملا.
وبعد فلا أسمع إلا تقرير اعتمادات بالملايين للتلفون الأوتوماتيكي، فهل فاتك أن القرية التي يتغنى بها شعراء العامية والفصحى فيها بشر ذوو أرواح!
إذا تحدثت يا معالي الوزير، عن الخبز والطعام أمام جوعان أخذ يبلع ريقه، وطفقت شفتاه تنطق بغير الكلام، فمشروع القانون المعجل لإنشاء 25 ألف خط تلفوني إلى الملحقات هو الذي اقتضى أن نوجه إليك الخطاب.
ونحن ماذا؟ أمن الملحقات أم من الذيول؟ راجع الملفات في مديرية الهاتف تعلم أنه قرر لنا إنشاء خط منذ سنوات، فإذا كان كل وزير لا يعمل إلا المهم (في نظره) فنحن لن نسمع صوت (هاتف) إلا في القبور يوم ينفخ في الصور؛ لأنني لن أصير وزيرا لأعمل لضيعتي ومنطقتي.
لقد أرتني الأيام، أن كل من يحل في الدست يحسب أنه ما جاء إلا ليركب (الدست) ويطبخ أطيب ما عنده لمن عنده أما نحن فبين حانا ومانا ضاعت لحانا، وعشنا ونعيش منتوفين.
لنا سنوات واقفون عند الحوض، والناس يردون ويصدرون ولا نفوز بنقطة ماء. كل وزير يقدم الأهم على المهم، ومن يكون الدفتر معه لا يقيد نفسه من الأشقياء.
إذا كان الاصطياف يا صاحب المعالي، هو المهم في نظر الدولة وهي لا تبالي إلا بالرجل الغريبة، فنحن نربع ونصيف في قرانا، ويشرفنا بزياراتهم أناس يهم الدولة أن يذكروها بالخير ويثنوا على تقدمها وعمرانها. فما لكم لا تذكرون إلا الاصطياف! ألا فاذكروا النفوس ولو مرة. أتهمل ثلاثة أرباع الدولة وأكثر لنري السياح أننا إلى الأمام سائرون.
إن حياتنا أعز من قروش تمهدون سبل اكتسابها لأناس على حساب آخرين. فلو أعطيتمونا نقطة ماء، وشرارة كهرباء وتلفونا لا يلبي إلا بعد ساعات لصارت ضياعنا مصيفا ومشتى ومربعا.
حقا لقد صرت أخاف الإقامة في بيتي، وهذا أقصى الذعر وأسوأ حالة يبلغها الإنسان. إن هذا القلب الذي كان يمشي بنظام أوتوماتيكي قد صار يحرن قليلا، وإني لأخشى أن يتعس وليس له من يشد به، فأقرب طبيب إليه يبعد عنه ثلاث ساعات. أعرفتم الآن لماذا نلج ونلح؟
أنا رايح بعد أسبوع إلى عين كفاع، وإذا كان ما أخشى أن يكون، فماذا تنفعني أو تنفعكم: إنا إلى الله وإنا إليه راجعون.
يعز علينا أن نشكو، ولكن طفح الكيل، والوعاء الذي لا يمتلئ يكون معيوبا. اذبحوا (للابن الشاطر) ألف عجل مسمن، ولكن لا تبخلوا علينا بشاة بشارية نعلق في جيدها جلجلا.
فمتى هذا الوعد، ومن ينتظر سنوات غير الذي يحلم بالوزارة.
في حزيران 1951 قيل لي: في آخر تموز تتصل بالعالم تلفونيا فشكرت وخرجت.
وما انقضى تموز حتى راجعت، فأجبت في آخر آب. وذكرت في أوائل أيلول فما نفعت الذكرى، وصح بتلك المواعد قول النابغة: تمر بها رياح الصيف دوني.
ولكن الغريق يتعلق بحبال الهوا. فراجعت أيضا فقيل لي: في آخر شباط ينتهي كل شيء. ولكن شباط شبط ولبط، وآذار شخر وهدر، ثم هب هواء نيسان السخن وما تفتح في أرضنا برعم من براعم التلفون، وها قد مرت أربع سنوات ولا رجاء ولا حياة. ألسنا كلنا أبناء دولة واحدة؟ أما لنا ما للعاصمة والملحقات؟ إننا راضون أن يكون لنا من الجمل شعرات من ذنبه، لا من أذنه كما يقولون.
أنشكو نزوح أهالي القرى إلى العاصمة ثم لا نعمل للقرية شيئا؟
أرى مثل الحكومة معنا كمثل أب يلبس زوجته وبنته الكبرى أحدث الثياب وأغلاها، وأنفس الحلي وأبدعها؛ للصباح حلي وثياب، وللعصر حلي وثياب، وللمساء حلي وثياب. أما أولاده وبناته الآخرون، فليس لهم فسطان شيت ولا طقم كاكي، عوراتهم مكشوفة يمشون بالزلط يا واو.
أمن العدل أن لا يتصل ابن القرية بطبيب حتى يدركه قبل أن يفطس؟ وهل من العدل أن نشقى ساعات مشيا على الأقدام لندعو الطبيب ونجلب الدواء؟
يقولون: إننا في عصر السرعة، ثم لا نشعر بالسرعة إلا في الوعود. فقبل أن نسأل نجاب: نعم نعم. ولكنها نعم بلا نعيم.
24 مليون ليرة وثلاثة أرباع المليون للتلفون الأوتوماتيكي، ونحن لا نرى ولو خازوقا في أراضينا، يعللنا بالآمال، أنعيش على أغاني الإذاعات، جينا عالضيعا جينا. ضيعتنا غامرها النور. يا ضيعا ما بنساك. غنوا للضيعة حتى تنام. بنجوها لتنسى أوجاعها وآلامها.
يقولون: إن الإيحاء بتكرار الكلام يشفي من المرض، ولعل هذه الأغاني تجعل الضيعة تصدق أن السعادة فيها وما في الحواضر إلا الشقاء. فليت هؤلاء الذين ينادون: ترمس أحلى من اللوز ينامون في القرية ليلة لنرى كم يرون بها من نعمة.
القرية تسعد في مخيلة الشعراء ولا تقصد إلا في موسم الانتخابات، فإذ ذاك تصير يد الفلاح المبردية ناعمة كالحرير، وعباءته أجمل من الفراك، وعصاه المعقدة قضيب ماريشال، ومنجله وشاح الأرز.
مسكينة الضيعة، ومساكين فلاحوها فما خلقوا إلا للتطبيل والتزمير واستقبال الزعماء والزحف إلى المدن للمظاهرات، حين يصفرون لهم.
يا معالي الوزير، إذا كان القصد من تركنا والاهتمام بغيرنا هو أن نري الغرباء ما أحرزه لبنان من تقدم، فنحن مستعدون أن نريهم أن لبنان سحارة بندورة خير ما فيها على وجهها.
ما أسمع إلا من يحسدون القرية على فرنها وتنورها، وكوخها وعرزالها، ومعازها وكرازها، وعنبها وتينها، ناسين نفوس أهلها المتألمة وشقاءهم في سبيل العيش . فهل أقل من أن نسقيهم إذا عطشوا، وإذا مرضوا أن نمكنهم من الحصول على الطبيب في الوقت المناسب؟
وكيف يقدرون على ذلك وليس لهم بريد ولا برق، ولا سيارات غب الطلب. إذا كان المكتوب يصل إلى أقصى عواصم الدنيا قبل أن تصل رسالة إلى القرية فكيف نستغيث؟! ومع ذلك تشكو المدينة من تهافت الناس عليها. أليس كل فتى قروي ذاق حلاوة حياة المدينة أسابيع يطلق قريته البتات؟ فإذا شئتم أن تظل القرى عامرة فرفهوا - ولو قليلا - عن سكانها المساكين، فلا يكون عليهم الغرم، ولغيرهم الغنم.
إنها لقسمة ضئزى.
حكاية الماء
ما شققنا الطريق ووصلنا إلى بيوتنا بالسلامة حتى أعلنت الحرب الهتلرية، وما انتهينا من قرع الجرس ابتهاجا حتى حملت إلينا أول سيارة نبأ إعلان تلك الحرب المشئومة فوجم الناس، ولكن (الطريق) نفعتهم جدا فصاروا يبيعون محصولاتهم، وسهل عليهم الأخذ والعطاء.
وبعد شق الطريق رادوتنا فكرة جر مياه الشرب إلى القرى العطشى، وكان النبع المسمى (نبع قطرة) هو أملنا الوحيد فراجعنا الحكومة بشأنه فوعدتنا خيرا، وفي ساعة سوداء حمل إلي أحد الأصدقاء جريدة لبنان الرسمية لأقرأ فيها مرسوما يجيز للرهبانية اللبنانية البلدية جر مياه ذلك النبع إلى دير كفيفان في بلاد البترون.
فعقدنا الاجتماعات وطيرنا برقيات الاحتجاج، فلجأ الرهبان إلى تهدئة الخواطر، وعللوا أهالي القرى باقتسام المياه، ورأى الجميع: الصلح سيد الأحكام. وعندما كان فريق من وجهاء قرى ساحل بلاد جبيل يشدون العزائم إلى دير ميفوق ليقتسموا والرهبان ثياب العوام ويقترعوا على لباسهم، وعندما كان رهبان ميفوق يشربون والمدعوين على جلد الدب كنت أنا في طريقي إلى بيروت فبتدين.
لم يكن بقي إلا بضعة أيام حتى يمسي المرسوم نافذا، فأقمت الدعوى في مجلس شورى الدولة وهرولت إلى بتدين، فسبقتني إليها الصحف التي نشرت خبر الدعوى المقامة مني على رئيس الرهبانية العام والحكومة اللبنانية.
وعلى الغداء قال لي فخامة الشيخ بشارة الخوري: تقيم الدعوى علينا ونغديك عندنا!
فأجبته بما لي عليه من دالة: عندك عندي، وما أقمت الدعوى بدون إخبار إلا لأن (الدق محاشر)، وإذا لم أفعل ذلك أخاف أن (تروح علينا) ويعدي السبت، فأولاد الحلال كثار. قد فعلت لأقطع الطريق عليهم وأترك لفخامتك مجال إعادة النظر، فالرهبان يعملون بقول المثل اللبناني: من بعد حماري لا ينبت العشب، وقصتهم مشهورة.
فقال: وما هي.
قلت: في التقليد عندنا يروون حكاية هي أن راهبا انقطعت تكة سرواله، فالتفت في ذلك الليل البهيم فوقعت عينه على خيط يربط الأرض بالسماء فتناول السكين وقطعه ليربط به سرواله، فابتسم الشيخ، جزاه الله عنا خيرا وأرسل نكتته الناعمة، ومن طبعه أن يرسلها ولا يجعلك تحس أنها داوية: اشكر ربك. هذا ما نتمناه.
وهكذا خنق الشيخ ذلك المرسوم في المهد، وأعطي الشعب حقه، ولكن جرة الرهبان لم تطلع من البير فاضية، قبضوا ثمن المياه خمسين ألف ليرة.
وخططت السبل بعد خمس سنوات، فأعدت الكرة إلى بتدين وقلت لفخامة الشيخ: يقولون عندنا: إن تخطيط السبل دعاية انتخابية.
فقال: لا. لقد أرصدنا مبلغ ثلاثماية ألف ليرة. وستشربون إن شاء الله.
قلت: وندعو لفخامتكم بطول العمر.
ثم كان ما كان، وجاء الأستاذ ريمون أده نائبا عن بلاد جبيل، وها هو قد نفذ ووسع دائرة البيكار فشرب ساحل بلاد جبيل كله أو كاد، ولم يبق غير التلفون والكهرباء.
فإلى الشيخ الرئيس الذي سمع صوتنا وحفظ لنا هذا الحق الحيوي أحر الدعاء، وإلى الأستاذ ريمون أده الذي جاهد ولا يزال يجاهد في سبيل المنطقة التي ينوب عنها أجزل الشكر، وهنيئا لمن شرب، هكذا نقول. نحن زائلون جميعا، أما المشروع فباق إلى ما شاء الله.
وفيما يلي فقرات من عرض القضية الذي رفعناه إلى مقام محكمة شورى الدولة الموقرة ننشره هنا ليذكرنا الناس ويترحموا على من أحسنوا إليهم. بعد الوفاة طبعا عملا بسنة منح النياشين عندنا.
عفوا، نسينا أن نشكر الصحافة التي ناصرتنا وحملت إلى السلطات الثلاث صوتنا، وأخص منها بالذكر جريدة التلغراف والطيار ولسان الحال والأحرار والأخبار، وصوت الشعب التي نشرت عرض القضية ملخصا في عددها 1252 بتاريخ 25 آب سنة 1946 وهذا هو كما ورد فيها :
قرى بلاد جبيل العطشى
الأستاذ مارون عبود يقيم الدعوى على الحكومة، وعلى رئيس الرهبانية البلدية بعد صدور مرسوم بالترخيص للرهبان بأخذ مياه ميفوق إلى دير كفيفان!
في خراج قرية ميفوق من بلاد جبيل نبع اسمه (نبع قطرة) وفي هذه المنطقة 26 قرية محرومة من المياه، ولا سبيل لسقيها إلا من هذا النبع. وقد طالب أهاليها الحكومات السابقة كلها بجر مياه النبع إليها دون جدوى. وظلت هذه القرى لا تجد ماء للشرب إلا المياه المجموعة من الأمطار. وبينما كان الأهلون يأملون أن تلبي الحكومة طلبهم، فتقوم بواجبها في جر مياه نبع قطرة إلى قراهم، فوجئوا بمرسوم يقضي بالترخيص لرهبان دير كفيفان (منطقة البترون) بجر مياه النبع إلى ديرهم، وحرمان أهالي بلاد جبيل من نبع ينبع ويجري في أرضهم، أي حرمانهم من مياه الشرب إلى الأبد، فأقام الأديب الكبير الأستاذ مارون عبود لذلك الدعوى على الحكومة وعلى رئيس الرهبانية البلدية الأباتي يوحنا العنداري، لدى مجلس الشورى. والأستاذ عبود من سكان (عين كفاع) إحدى القرى صاحبة الحق في نبع قطرة والدعوى التي أقامها الأستاذ مارون عبود، عدا عن حججها الحقوقية البالغة. طرفة أدبية، نقتطف منها بعض الفقرات قال: «هذه القضية تشبه الأمراض المزمنة، لقد طالبنا الحكومات السابقة كلها بجر هذه المياه إلى قرانا؛ لأنها حقنا الشرعي، أما هذه القرى فهي: بجه، عين كفاع، غبالين، غلبون، بيت الأشقر، الصليب، معاد، دير معاد، غرزوز، بخعاز، شيخان الرومية، جدايل، الريحانة، المنصف، البربارة، الحلوة، بعشتا، عمشيت، غرفين، العفص، حبالين، شامات، حصارات كورا الهوا، حصرايل.
إن هذه القرى جميعها محرومة من مياه الشفة، وهي تشرب من الآبار المجموعة مياهها من أمطار الشتاء، ولا أمل لها إلا بنبع قطرة الذي يحاول آباؤنا الرهبان المحترمون اختلاسه بمرسوم ...!»
وبعد أن يعدد الأستاذ مارون عبود محاولات الرهبان لإتمام المشروع قبل صدور المرسوم، واحتجاجات الأهلين، يشرح الحق الشرعي لسكان بلاد جبيل، دون الرهبان، في هذا النبع فيقول: «إن هذا النبع ليس في خراج دير ميفوق كما ورد في المرسوم؛ إذ ليس لدير ميفوق خراج ، وإنما هناك قرية اسمها ميفوق والدير فيها. أما هذا النبع، نبع قطرة، فيصب فوق قرانا التي تطالب بالشرب منه، بينما آباؤنا الرهبان، زادهم الله رشدا، يكلفون المياه ضد طباعها، يكلفونها أن تتحدى ناموسها الطبيعي ليرضوا عنادهم المشهور، يريدون أن تمشي المياه مشية السرطان (السلطعون)، وتسير طلوعا، ومن طبيعتها أن تشق طريقها نزولا، فالمياه لا تعرف إلا التحويل النازل. أما التحويل الصاعد فليس في حسابها، وإن حاول الرهبان تعليمها حسابا جديدا، فهيهات أن تتعلم وسنخرجها من مدرستهم تلك. (إنه لا يجوز) أخذ ماء من منطقة لا تستغني عن ذاك الماء لتسقي منطقة أخرى في استطاعتها أن تشرب من نبع آخر أغزر وأكمل منفعة وأعم فائدة وأقل تكاليف. إن المثل اللبناني يقول: الماء لا يمر على عطشان. فكيف تجهل هذا الرهبانية، وهي لبنانية بلدية؟! فهل وصلنا إلى زمان تحرف فيه الأمثال، كما تحرف القوانين، مدنية ودينية؟»
إذا ادعى الرهبان أنهم يريدون سقيا دير لهم، وعملوا بالمثل اللبناني القائل: بقر الدير ورزق الدير، أجبناهم: ونحن عندنا دير هو دير معاد.
كيف يسوغ الرهبان أن يأخذوا المياه من ميفوق في بلاد جبيل إلى دير كفيفان في بلاد البترون؟ إن دير كفيفان يستطيع الشرب، كما قلنا، من ينابيع عديدة، أما دير معاد فإذا سمح الله، ولن يسمح بذلك جل جلاله، وقدر الرهبان أن يغتصبوا حقا بمرسوم، عطش هذا الدير وعطشنا معه إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين، بلا آمين.
وفي الختام يطلب: (1)
إلغاء أحكام المرسوم. (2)
تصفية حساب مياه ميفوق كلها ما عدا النبع الفوقاني. (3)
جر مياه ميفوق الزائدة إلى جميع قرى بلاد جبيل العطشى؛ لأنه حقها الشرعي.
ونحن نؤيد هذه المطالب المحقة الشرعية، من جميع النواحي الحقوقية والعرفية، ومن الناحية الواقعية أيضا؛ إذ إن قرى بلاد جبيل المذكورة ليس لها أمل بغير نبع قطرة، ولا يجوز أن تحرم منه، هذا فضلا عن أنه ينبع من أراضيها.
ونحن نأمل من مجلس الشورى أن ينظر في القضية على هذا الضوء، كما نلفت نظر المسئولين إلى ضرورة إرواء عطش أبناء قرى بلاد جبيل الذين لم يتنازلوا عن حقهم في مياه قطرة.
روداج
كنا أعضاء عاملين في مأدبة آل خير الله بمحطة بحمدون، أعدوا تلك المأدبة على شرف عريسين حبيبين، الدكتور إسكندر حتي وأخيه كمال. في تلك الهنيهة نظر إلي عمهما الطبيب الأعظم الدكتور يوسف حتي نظرة خبير، وقال لي: رح صوبنا حتى نعمل لك روداج، فرحت أسأل وما الروداج؟! وأخيرا فهمت فقلت لنفسي: إن سيارتي موديل سنة 1886، أما كان الأحرى بالدكتور أن يقول: تصليح.
كان ذلك في حزيران سنة 1955، وكان مساء وكان صباح فنسيت حالي وذهبت إلى عين كفاع غير ذاكر ما قاله لي الطبيب الذي أنقذ حياتي أول مرة، عام 1926، تداركني حين أصبت ببنت الحمرا وقطع الطريق على عزرائيل الذي كان قابعا في وصيد بابي ينتظر الفرصة الملائمة، فانتهره الدكتور يوسف حتى لف ذنبه وراح مهرولا يفتش عن غيري.
وما تذكرت روداج الدكتور حتي إلا عندما قمت من صرعتي المشئومة صباح يوم 23 تموز، وكان يوم سبت، كأن الله الذي استراح من جميع أعماله أراد أيضا أن يستريح مني، ولكن شيئا من ذلك لم يكن فأسرعت إلى بيروت، بل أسرع بي أولادي إلى الدكتور حتي فاستقبلني تلميذي الطاهر الدكتور حتي الثاني، وأحلت إلى الاستيداع في مستشفى سان شارل. وبعد هنيهة دخل علي الدكتور حتي وقال: ما جئت إلا بعد أن عملت أكسيدان؟! ثم راح يفتش عن الموتور. وما كان أشد تعجبي حين قال: إنه ما زال صالحا. الموتور بضاعة قديمة، وكذلك المراوح والمصافي إذن لا يزال في اليد حيلة. وأخذ الأطباء معاونو الدكتور يروحون ويجيئون، يفحصون ويدققون ومشت أسراب الراهبات والممرضات فتخيلتهن كما قال شوقي في وصف سقف كنيسة آجيا صوفيا في عهدها البيزنطي:
فمن ملاك في الدجى رائح
إلى ملاك في الدجى مغتد
هذه تحمل علاجا يبلع، وتلك في يدها إبرة تزج، وهاتيك تجيء بميزان الحرارة، وغيرها تحصي أنفاسي ونبضي. قيامة قائمة.
وإذا سألتني رأيي فيهن أجبتك بالمثل العربي القديم: لا رأي لحاقن كنت مشغولا في جسدي لا أرى الوجوه إلا صفراء. وإخال الابتسامات جهشة المتباكي.
دعاني الدكتور حتي بالأمس إلى الروداج، فإذا بسيارتي أمست اليوم بحاجة إلى نفض. قالوا: إن هارون الرشيد احتبس ليلة ما، فتمنى لو يعطي نصف ملكه بتلك الليلة ويستريح من تلك الملعونة، أما أنا فماذا أقول؟ بل ماذا أعطي؟ بل هل أنتظر شيئا مما ينتظر الرشيد من جوار، سبعة عشر يوما قضيتها بلا نوم، لم تغمض لي عين ولا هدأ لأولادي قلب، سيارتي في الكاراج والله أعلم متى تخرج، وكيف تخرج؟
كان امرؤ القيس ينتظر نجوم الليل ويراقبها. أما أنا فكنت أراقب من باب غرفتي الخلفي مصابيح السان جورج ولافتة بالم بيتش، وهيهات أن تخبو تلك الأنوار، وكثيرا ما حدثتني نفسي عند اشتداد الأزمة أن أتدهور من البلكون وأستريح من تلك الآلام التي لا تطاق.
كانت ابتسامة الدكتور إسكندر والدكتور كنعان تشجعني على الطمع بالنجاة، وبقيت كذلك حتى جاء خبر العملية. كانوا فيما مضى يقولون: آخر الدواء الكي، أما في هذا العصر فآخره شق البطن، ومن ينتظر العملية كمن يلقي بنفسه في أشداق حوت يونان، ثم ينتظر أن يبصقه، وهل من حوت أوسع شدقا وأحد أنيابا من الموت؟!
وأخيرا جاء الجراح النطاسي الدكتور بولس يقول: إننا نسن السياخ. فهززت برأسي وقلت له:
إذا لم يكن غير الأسنة مركبا
فليس على المضطر إلا ركوبها
يا مرحبا بالعملية وبك يا دكتور. وبعدما تحدثنا مليا خرج من عندي ليقول لابني الكبير: أبوك معنوياته قوية جدا وهذا ما يساعدنا على نجاح العملية.
ثم دخل المبنج الدكتور أبو حيدر بعد حين. وفي موعده جاء الدكتور حتي فسألته، فقال: قررنا أن نفتح لك البوتنير! فقلت: وأي وسام نعد لها؟ فقال: وسام العمر الطويل.
ولما كان صباح الإثنين لم أرض أن أحمل على المحفة كالمعتاد، بل مشيت إلى غرفة الحياة، حتى بلا عصا، مشيت بخطوات ثابتة مشية جندي إلى ساحة القتال. وتذكرت (الإرادة) في تلك الدقيقة الفاصلة بين الحياة والموت فتشددت، وقلت: لن أموت، سوف أستريح من أوجاعي وآلامي وأحيا .
وقبل أن أستلقي على الوضم قلت للمبنج الدكتور أبو حيدر، وأنا أقلب عيني في زوايا الغرفة: وأين هو؟ فخالني أهذي، فأفهمته أنني أسأل عن الموت أين يتخبأ، وقلت للموت وقد تمثلته أمامي: إياك والغدر، لا تكن كالسارق كما قال المسيح؛ فإن كنت بطلا فهذه الساحة لي ولك، فهلم.
وأخيرا غبت لأعود بعد ساعات أحمل في بطني نبريشا ظللت منه في جهد جهيد مدة خمسة أشهر، كانت تعزيني على آلامها المزعجة أنها مكنتني من نكتة لا بأس بها. كانوا يتحدثون أمامي عن الاختصاص في هذه الأيام، فقلت لهم: أنا تخصصت مؤخرا في المستشفى، ولكن اختصاصي تحتاني، فصار عندي لكل عمل آلة.
وهناك نكات أخرى كانت ترفه عني وتنسيني قلق الليل، منها هاتان النكتتان: فواحدة جاءت من صوبنا، دخل علي واحد، ولما كان لا بد من الحكي في مثل هذه الأحوال قال: الحمد لله على السلامة.
فقلت لا تتسرع يا عمي الخطر قدامنا.
فأجاب: الله يبعده. ما على قلبك شر، ولكن الذي حيرني وحير أهل الجيرة كلها هو أنه كيف وصل إليك مرض البروستنت وبلادنا نظيفة منه.
وكان الدكتور أشقر حاضرا فمات من الضحك. فقلت له: إنها رمية من غير رام.
وواحدة ثانية أتت من امرأة نصف. دخلت فرأت النبريش في الزجاجة المعهودة. وأنا ممدد على كرسي، فقالت مستغربة: يه! خبرونا أن مرضك ثقيل، وهذا أنت تشرب أركيلة. على كل هي أحسن من العطوس، وخصوصا إذا كانت مثل هذي. لا جمر، ولا دخان.
ورأت ماء أركيلتي أصفر فتحلحلت لتكب الماء وتنظف الزجاجة وهي تثرثر: معرفة الراهبات قليلة بمعاملة الأركيلة، ولا يشد بالبقرة غير صاحبها.
فقلت لها: نسيت أني ذكر! قولي المثل كما هو ولا تستحي: لا يشد بالفدان إلا صاحبه.
ودخلت الممرضة وأخذت الزجاجة التي كادت تمتلئ، ففهمت أم حنا أنها أركيلة مستشفى، هكذا سمتها: وهكذا كنا نسميها، عند حاجتنا إليها في البيت.
قالت العرب: على الرائد أن يصدق أهله، وأنا قد استسفرني القدر إلى الأبدية، ولكنني كنت سفيرا غير مرغوب فيه فأرجعت عن الحدود. وقفت على أبوابها ولما أدخلها. وعدت على أعقابي أشكر من يشكر على المكروه، وأبي وجدي اللذين أورثاني هذا الموتور، أي القلب الذي لم يحتج إلى خرط ولا ولا.
وما استرحت من آلام الاحتقان الطبيعي الحادة، حتى بقيت ستة أشهر كاملة أعاني ألم الاحتقان الفكري، مرت أحداث خطيرة لم أعلق عليها، ولكن الغد لنا فسوف نعلق إن شاء الله. إذا قلت لك: إنني منذ بلوغي رشدي لم أنقطع عن الكتابة يوما واحدا فصدقني، أما إذا كنت مثل توما لا تصدق ما لم تضع أصبعك فتعال لأريك دفترا من دفاتري يرجع تاريخه إلى أكثر من نصف قرن، فترى آثاري الأولى وتضحك من مارون عبود الماضي؛ إذ لا ترى فيه إلا شيئا لا يكاد يدرك من ملامح مارون عبود الحاضر. فأنا يا أخي عملت نفسي على ذوقي، فإن كان أعجبك شيء في فالفضل فيه لي؛ لأني ماشيت الزمن فلم أتخلف عن ركبه ساعة، وإني أعاهد الشباب على هذا وأرجو أن يعملوا دائما وأبدا وهم واصلون إلى ما يبغون.
عفوا، قد قطعنا حديث العمليات فهناك عملية أخرى تنتظر أن أتحدث عنها. ها قد رجعنا إلى بيت خالتنا، أليس المستشفى كالسجن؟ كنت هذه المرة أشد خوفا مني في المرة الأولى. ولكني بقيت أشجع نفسي وأقول لها: العملية ناجحة بدون ريب، وظللت أكرر ذلك حتى تمكن هذا الاعتقاد في نفسي. وبعد فأنا لم أخدعها ما زال يسعف الجراح قلب كالمهدة، ورئتان كجناحي العقاب، وكليتان كنبع أفقا، يحنو على هذه كلها صدر كالكير عامر بالاستهزاء بالموت والاستخفاف به.
كان قبالتي في غرفتي مصلوب - لا تظن أنه ظهر لي كما ظهر للبابا - ولكني ذكرته لأروي لك ما حدثته به.
قلت له: هبني يا سيد، شيئا من شجاعتك لأستقبل الموت، فالعملية ليست لعبة في كل حال. أنت طلبت من أبيك أن يجيز عنك الكأس، ولكنك شربتها ولم تجزع ولم ترع. شربتها ليكسب الناس الحياة الأبدية فغلبت الموت بالموت، وأنا سأشربها لأغلب الموت بالحياة وأكتب بعد. وعزائي على عيشتي أرمل دهر هو أن أبنائي لم يكونوا كتلاميذك الذين لم يسهروا معك ليلة واحدة. إنهم لم يناموا قط.
وأخيرا كما مشيت أول مرة إلى غرفة العملية بخطوات ثابتة، مشيت إليها ثاني مرة، وقد سمعني تلميذي الأستاذ رشاد بيبي أقول لأولادي: أنا راجع بعد قليل.
وقلت للجراح النطاسي الدكتور حسيب بولس: لا تربط لساني كما تفعل بغيري. لا تخف أن أبلعه فهو الحيلة والفتيلة.
فاتني أن أذكر لك حادثة طريفة: قبل العملية الأولى جاءني كاهن وهو صديق ونسيب، يريد أن يمهد لي الدرب إلى الأبدية، فقلت له: ثق يا ابن عمي أنني لا أحتاج إلى من يدلني على درب بيت أبي، وأنني في غنى عن وسيط يفتح لي الباب. وأنا والرسل جميعا أصحاب فلا بد من أن يفتح لي واحد منهم. ناهيك أن معي جواز سفر من الأب الأقدس، باص ديبلوماسي يساعدني على الدخول، تكفي معه كلمة واحدة لأطهر من آثامي وأدخل الجنة بثيابي، كما يقولون. وقبل وبعد (بعد بكير) يا محترم، فأنا لا أموت في هذه النقلة، وإذا عشت وعشنا وعزناك لا نخبيك.
ومضت المعركة الثانية بسلام، وكان جنودها أطباء وعلماء نطاسيون، وجراح شاب واثق من علمه ومن نفسه، وراهبات ساهرات، وممرضات كأنهن راهبات. فإذا قلت لك: إنني شعرت أثناء إقامتي في المستشفى أن كل من فيه من كبير وصغير، كان يسهر علي ويهمه أن تنجح عمليتي، فصدقني.
أما أريحية الأستاذ سعيد فريحة فإنها كانت فوق وصف الدكتور يوسف حتي لها. جاءني قبل العملية الأخيرة الخطيرة يقول: تقدر أن تأخذ من صندوق الصياد ما تشاء. اطلب ولا تستح. كبر حجرك واضرب.
وأخيرا إني أشكر من عادوني وآسوني في بلواي، وأنا هنا في مقام الشكر. أما العتب فله مكان آخر وسيكون حسابه عسيرا.
Page inconnue