Paroles de Mazini
أحاديث المازني
Genres
فليس الإيجاز إلا صب المعنى في لفظه المعبر عنه والاكتفاء به دون الاستطراد إلى غيره، أما الإطناب فليس إلا استطرادا إلى معاني «أخرى» غير الذي إليه القصد وعليه القول. فإن المعنى لا يؤدي إلا بلفظه، فإذا تغير اللفظ تغير المعنى لا محالة.
ومن هنا كان الترادف في اللغة الواحدة خرافة، إلا إذا كان المراد أن قوما اتخذوا لفظا لمعنى، وقوما آخرين اتخذوا غيره، ومؤدى هذا أن هناك لغتين لا لغة مفردة، وإن كانتا من أصل واحد.
وقد قيل ما قيل في الشبه بين الإنسان والحيوان، وفي النشوء والتحول وما إلى ذلك أو ما ليس إليه، وذهب بعضهم إلى أن الخط الفاصل بين الإنسان والحيوان يبدو أنه رهن بطية واحدة في حشو الدماغ، ولكن بينهما فاصلا واحدا لم يستطع أن يزيله أو يستهين به حتى أولئك الذين يردون الفكر إلى الإحساس، ويقولون أن الحيواني يشارك الإنسان في الملكات التي هي الأسباب المنتجة للتفكير. وهذا الفاصل هو اللغة فما استطاع الحيوان - إلى الآن - أن يتخذ لغة مثل لغة الإنسان.
وفي هذا يقول «لوك» ومن الممكن أن يعد من الفلاسفة الماديين: «وأنا على يقين جازم من أن القدرة على التفكير لم يعطها الحيوان، وأن استنباط الآراء العامة وتصفحها يميز الإنسان تميزا تاما من الحيوان.
ومن الجلي أننا لا نسير على آثار غيرنا في استخدام رموز عامة لآراء عامة. ولنا أن نقول إن الحيوان تعوزه ملكة التفكير والارتياء لأنه لا يستعمل «ألفاظا» أو رموزا أخرى عامة».
ومؤدى هذا أن اللغة أكثر من وعاء، أو ظرف، أو ثوب، أو جسد، وأن هذه ليست إلا ألفاظا يراد بها تقريب وظيفة اللغة من الإفهام، وأن اللغة آلة يعمل بها العقل ولا يستطيع بغيرها أن يعمل، وينظر، ويتدبر، ويستنبط، ويستبين، ويستشف إلى آخر ذلك. فليست وظيفتها بمقصورة على العبارة عما يدور برأس الإنسان أو يضطرب به صدره، أي أنها ليست أداة للبيان فحسب، وإنما هي أيضا أداة للتفكير نفسه وآلة كما أسلفنا، لحركة العقل.
ولست تجد لغة حيث لا تجد إنسان، ولا نعرف إنسانا ليست له لغة ما، فهي من عمله، بمعنى أنها نشأت معه، ونمت واتسعت، تبعا لاتساع حياته.
ومع قدم اللغة - كل لغة - لم يستطع الإنسان على كر الدهر أن يضيف جديدا على أصولها أو يغير مناهج تأليفها وتركيبها، أو يبدل أوضاعها ومقاييسها، أو يعدل بها عن طرائقها في المجاز والاستعارة إلى آخر ذلك، وكل ما استحدثته الأجيال المتعاقبة لا يعدو الكل إلى الجوهر، ولا يمتد من الفرع إلى الأصل، حتى ليمكن أن نقول إننا مازلنا نستعمل الألفاظ نفسها التي دار بها لسان الإنسان حتى سمى الأشياء أسماءها.
ولا شك أن اللغة تتطور ولكن أصولها ومناهجها وطرائقها لا يلحقها تغيير، والقانون الذي يجري حكمه على اللغة هو قانون الطبيعة نفسها، ولا دخل فيه لإرادة الإنسان الحرة، أو اختياره، فهو لا يستطيع أن يستحدث فيها ويغير، ويزيد وينقص، على هواه، كما لا يستطيع أن يغير قانون الدورة الدموية في بدنه، أو أن يضيف إصبعا بله شبرا إلى قامته.
وكما أن الإنسان لا يتسنى له أن يقبض على زمام الطبيعة إلا إذا عرف قانونها وتوخاه، كذلك لا يستطيع الكاتب أو الشاعر أن يقبض على ناصية اللغة ويتصرف فيها ويبلغ بها حيث يريد إلا بعد أن يحيط بقانونها وينزل على حكمها.
Page inconnue