فقد بان أن الغرض الذي قصدت به الأوائل الكلام على طبائع الأغذية، هو ان يكون الخلف المتولد عنها نظير ما يتحلل من جواهر الأبدان المغتذية بها. ولذلك وجب ألا نقتصر في معرفة ما يجلب الصحة ويديمها، بالوقوف على طبائع الأغذية فقط دون الوقوف على معرفة طبائع الأبدان المغتذية بها، لان من وقف على معرفة طبائع الأغذية، ولو بلغ (1) في معرفته بها الغاية القصوى، ولم يقف مع ذلك على طبائع الأبدان المغتذية بها، لم تتم له المعرفة بما يحفظ الصحة على الأصحاء، ولا بما يكسبها المرضى، من قبل ان الأبدان تختلف كثيرا في مزاجاتها وتركيبها، وبحسب اختلافها يجب اختلاف أغذيتها. ولذلك لزمتنا الحاجة إلى الوقوف على اختلاف الأبدان والاشراف على ما كان منها متخلخلا واسع المسام، أو متكاثفا ضيق المسام، والنظر في مزاج البدن كله، وحال كل واحد من أعضائه هل هو على مزاجه الذي يجب ان يكون عليه أم لا، لأنا نجد كثيرا من الناس مزاج بدنه أسخن من المقدار الذي يجب، ومزاج معدته أبرد.
وربما كان الامر بخلاف ذلك وضده، حتى يكون البدن أبرد والمعدة أسخن. وكذلك الحال في سائر الأعضاء. وقصد الأوائل في جميع الطرق التي يحفظون بها الصحة على الأصحاء ويكسبونها المرضى قصدا سواء خلا استعمال الأغذية فان قصدهم فيها خلاف قصدهم في غيرها من قبل ان قصدهم في جلب الصحة بالأدوية وغيرها هو مقابلة بالضد بالضد من اسخان أو تبريد أو استفراغ أو احتقان. وأما الأغذية فليس كذلك لان قصدهم فيها بدءا ان يكون الغذاء ملائما ومشاكلا لمن كان مزاجه معتدلا، أو مخالفا ومضادا لمن كان مزاجه حائدا عن الاعتدال.
ثم يقصدون، بعد ذلك، إلى أن يبلغ الطعام من الهضم والاستمراء (2) في المعدة والكبد جميعا أفضل مراتبه. ثم يكون ما ينفذ منه إلى جميع البدن سهل النفوذ والجولان، موافقا لمزاج الأعضاء، سريع الانقلاب إليها، قريب الشبه بها مشاكلا (3) في طبيعتها ومزاجها، من قبل ان كل موافق وملائم يغذو وينمي وكل مخالف ومنافر مفسد مؤذ. ولذلك صار كل غذاء مخالف لطبيعة بدن أي حيوان كان، فأما أن لا يأكله أصلا، وأما ان يأكله عند الفقر إليه من غير استلذاذ منه له. ولهذه الجهة اختص أكثر الحيوان بغذاء دون غذاء غيره من الحيوان على قدر طبيعته ومزاجه.
ولجالينوس (4) في هذا فصل قال فيه:
ان كل غذاء من الأغذية لأي حيوان كان، أو نبات كان، فبينه وبين ذلك الحيوان أو النبات الذي يغتذي به في خاصة طبيعته وملاءمة ومشاكلة. مثل الماء العذب المشاكل لطبيعة الأشجار والنبات وألقت (5)
Page 14